كتبها:
فلاديمير لينين في المنفى في أعوام 1896-1899
طبعت:
لأول مرة ككتاب في نهاية مارس 1899. ونشر حسب نص الطبعة الثانية 1908.
منشورات:
دار التقدم
ترجمة:فواز طرابلسي عن
النسخة الانكليزية من مؤلفات لينين الكاملة، الجزء الثالث، الطبعة الثانية، دار التقدم بموسكو، 1964.
التحرير الرقمي: علي بطحة (تموز 2024)
" هذه الترجمة ل«تطور الرأسمالية في روسيا» اقتضت بعض التعديل. لعل تردد العديدين في نقل «تطور الرأسمالية…» الى العربية يكمن في هذا التهيّب امام الجفاف العلمي الذي يهيمن عليه، بين تحليل نظري لأصعب المقولات الاقتصادية (كنظرية التحقق مثلا) وتمحيص تفصيلي في جداول احصائية لامتناهية. لذا، فقد اقتضى الأمر اجراء عملية تحرير للنص تضعه في متناول أكبر عدد من القراء، تتلخص في حذف عدد من الأقسام والمقاطع التي تشكل الاستطرادات السجالية والاستشهادات وثبت المراجع التي فقدت معناها الآن، أو هي تعالج احصائيات جزئية (مناطق معينة، زراعات ومحاصيل معينة، حرف وصناعات معينة)، مغلبين الاحصائيات الشاملة لروسيا ككل. وفي كل الأحوال سعيت الى «تخفيف» النص، دون افقاده القدرة على التعبير عن سعة البحث ودقة التشخيص والتحليل."
بين سجنه في سان بطرسبرغ ومنفاه السيبيري، كرّس لينين ثلاث سنوات (1896-1898) لوضع «تطور الرأسمالية في روسيا». أما جهده الدراسة والتنقيب فأقل ما يقال فيه أنه خارق. خلاله اطلع لينين، اطلاع الباحث الناقد، على أكثر من 500 كتاب ومجموعة احصائية ومجلة ومقالة –باختصار، كل من كتب عن الاقتصاد الروسي. وكعادته، لم يترك هذه المناسبة «الأكاديمية» بدون استغلال في عمله النضالي السري. فمراسلاته العديدة في السجن لأسرته ورفاقه طلبا للكتب والمراجع، كانت أيضا واجهة لمراسلات بالحبر السري تتعلق بأوضاع الحلقات الماركسية المبتدئة تحت راية «عصبة النضال من أجل تحرر الطبقة العاملة» التي كان لينين من مؤسسيها، وقد اعتقل بتهمة الانتماء اليها. وحين صدر الكتاب، في مطلع العام 1899، عرف رواجا ملفتا في أوساط المعارضة الروسية.
والحقيقة أن «تطور الرأسمالية في روسيا» يشكل علامة فارقة في الفكر الماركسي عموما، وفي فكر لينين ومسار الثورة الروسية خصوصا. ولسنا نبالغ إذا قلنا انه أهم أثر ماركسي بعد «رأس المال» لماركس. ويعلن صدوره اختتام مرحلة بأكملها من تطور الماركسية في روسيا، يمكن تسميتها المرحلة التأسيسية، كان وجهها الأبرز هو استكمال القطيعة مع العقيدة الشعبوية (النارودنية). على امتداد الثمانينات من القرن الماضي، كان الرعيل الأول من الماركسيين، وفي مقدمتهم غريغوري بليخانوف، يؤكدون تمايزهم المستجد عن الشعبوية بالسجال ضد مفاهيمها الرئيسية: بعث المشاعة القروية الروسية (المير) ونظام التعاونيات المهنية التقليدية (الآرتيل) والانتقال بروسيا، على قاعدتهما، مباشرة للاشتراكية دون المرور بـ«شرور» الرأسمالية، والانطلاق من أن الفلاحين، السواد الأعظم للشعب الروسي، هم محرك الثورة ضد القيصرية ومن أجل الاشتراكية والقوة القائدة لها. في المقابل، كان بليخانوف وزملاؤه في «عصبة تحرر العمل»، يشيرون إلى الوتائر السريعة لنمو الرأسمالية والصناعة الكبيرة في روسيا، والى تفكك المشاعة القروية ونمو التمايز الطبقي بين قلة من الفلاحين الأغنياء وكثرة من الفلاحين المفقرين والأجراء الزراعيين. وكان الماركسيون يؤكدون على أن الطبقة العاملة، السريعة النمو والمتمركزة والبادئة بالتململ والحركة، هي القوة المرشحة للإطاحة بالقيصرية وقيادة عملية بناء الحياة الجديدة.
ولئن اكتفى رجالات الرعيل الماركسي الأول بمناوشة الشعبويين بواسطة المفاهيم الماركسية العامة، فإن الرعيل الثاني، وفي مقدمه لينين، صمم على تسديد الضربة القاضية للأوهام الرومنطيقية للشعبويين. فيأخذ لينين على بليحانوف أنه يبحث «عن أجوبة على الأسئلة المحددة في التجلي المنطقي المبسط للحقيقة العامة»، في حين أن المطلوب هو صوغ الأجوبة المحددة على السؤالين المحددين، بل التحديين المحدَّدين، اللذين تقذف بهما الشعبوية: هل تنطبق الماركسية على الأوضاع الروسية؟ وطالما أن تكوّن سوق داخلية هو مقياس حاسم لسيادة الرأسمالية، فهل تكونت مثل هذه السوق في روسيا؟
على امتداد العقد الأخير من القرن الماضي، كرّس لينين جهده الدراسي والكتابي للإجابة على هذين السؤالين-التحديين في عدد من الدراسات ومراجعات الكتب والأبحاث الاقتصادية والمقالات، ومن أبرزها «ما هم أصدقاء الشعب» (1894) و«في تشخيص الرومانسية الاقتصادية» (1897). وكان «تطور الرأسمالية في روسيا» (وعنوانه الفرعي: «في عملية تكوّن سوق داخلية للصناعة الكبيرة» بمثابة تتويج لهذا الجهد. والواقع أن هذا الأثر النظري يحتوي، بشكل جنيني، على المنهج والمفاهيم الأساسية التي سوف تتميز بها اللينينية، بما هي هذا التطوير الخلاق لنظرية ماركس وانغلز من أجل مواجهة تحديات المجتمعات غير الأوروبية. وهو يقول، في ذلك الوقت تقريبا:
لسنا نعتبر ان نظرية ماركس كاملة وغير قابلة للمس. بل أننا، بالعكس تماما، مقتنعون بأنها اكتفت بإرساء حجر الزاوية لعلم ينبغي على الاشتراكيين تطويره بكافة الاتجاهات اذا هم ارادوا ان يماشوا الحياة. ونعتقد ان البلورة المستقلة لنظرية ماركس أمر جوهري بالنسبة للاشتراكيين الروس بنوع خاص، لأن هذه النظرية تقدّم المبادئ العامة المرشدة فقط، التي تختلف في التطبيق العملي المخصوص في بريطانيا عنها في فرنسا، وفي فرنسا عنها في ألمانيا كما تختلف في ألمانيا عنها في روسيا» «المؤلفات الكاملة، المجلد 4، ص 211-212».
وان تطوير هذا «العلم» يعني الانتقال من المفاهيم (الحقائق) العامة إلى البلورة المستقلة للمفاهيم المحددة، المفاهيم التي تقوم عليها نظرية تطور المجتمع الروسي، نظرية الثورة الروسية. ولذا، فان الوجه الآخر لسجال لينين ضد الأوهام الشعبوية، هو سجاله ضد التيارات الماركسية التي تعرقل عملية البلورة المستقلة هذه. ذلك أن «الماركسية الشرعية» لستروفه وجماعته هي الأب الشرعي للنزعة الاقتصادوية، التي تنطلق من اثبات التطور الرأسمالي إلى تبرير الرأسمالية والتنظير لتبعية البروليتاريا لها. ان «تطور الرأسمالية في روسيا» يرسي هنا أيضا حجر الأساس لأحد ابرز المفاهيم اللينينية: الدور القيادي للطبقة العاملة في الثورة الوطنية الديمقراطية والتواصل بين هذه الثورة والثورة الاشتراكية.
هذا النموذج الفذ «للتحليل المحدد للواقع المحدد» عند لينين، يحتفظ بكل حيويته الآن، رغم مضي أكثر من ثلاثة أرباع القرن عليه. فما أكثر الشعبويين المعاصرين، الذين ينطلقون من رفض مآسي «التحديث الرأسمالي» للامبريالية، لينتهوا الى تمجيد التخلف! وما أكثر المتنورين التحديثيين، ورثة الاقتصادويين الروس الذين ينتهون الى تبرير الرأسمالية من شدة التوكيد، غير الجدلي، على «تقدميتها»، أو الذين ينبهرون أمام ديمقراطية وعقلانية الغرب فيتغافلون عن أن الرأسمالية انما ولدت «وسط الوحل والدم اللذين يرشحان من مسام بدنها، من رأسها حتى أخمص قدميها» (ماركس)، وإنها مستمرة بفعل استغلال الارقاء الجدد، الذين هم بروليتاريا الاقطار الصناعية، وشعوب القارات الخاضعة للامبريالية.
ان لينين يساهم مباشرة في هذا السجال المعاصر!
ويبقى ان نقول ان ترجمة «تطور الرأسمالية في روسيا» اقتضت بعض التعديل. لعل تردد العديدين في نقل «تطور الرأسمالية…» الى العربية يكمن في هذا التهيّب امام الجفاف العلمي الذي يهيمن عليه، بين تحليل نظري لأصعب المقولات الاقتصادية (كنظرية التحقق مثلا) وتمحيص تفصيلي في جداول احصائية لامتناهية. لذا، فقد اقتضى الأمر اجراء عملية تحرير للنص تضعه في متناول أكبر عدد من القراء، تتلخص في حذف عدد من الأقسام والمقاطع التي تشكل الاستطرادات السجالية والاستشهادات وثبت المراجع التي فقدت معناها الآن، أو هي تعالج احصائيات جزئية (مناطق معينة، زراعات ومحاصيل معينة، حرف وصناعات معينة)، مغلبين الاحصائيات الشاملة لروسيا ككل. وفي كل الأحوال سعيت الى «تخفيف» النص، دون افقاده القدرة على التعبير عن سعة البحث ودقة التشخيص والتحليل.
أيار/مايو 1979
فواز طرابلسي