في هذا الكتاب، عيّن المؤلف نفسه هدف البحث في مسألة كيفية تكوّن سوق محلية للرأسمالية الروسية. وكما هو معلوم، فالمسألة مثارة منذ زمن طويل من قبل الدعاة الرئيسيين للأفكار الشعبوية (وأبرزهم السيدان فورونتسوف ودانيالسون) [1] . وستكون مهمتنا هنا تعريض هذه الآراء للنقد. ونرى أنه لا يمكن الاكتفاء من هذا النقد بدراسة الاخطاء والأفكار المغلوطة في آراء خصومنا. ففي الاجوبة على السؤال المطروح، يبدو لي أنه لا يكفي اثبات الوقائع التي تشهد على نشوء وتطور سوق داخلية، ذلك أن اعتراضنا قد يثار بأن الوقائع مختارة اعتباطيا وبأنه جرى اغفال الوقائع المعاكسة. لذا بدت لنا ضرورة أن ندرس كامل عملية تطور الرأسمالية في روسيا، في محاولة لتصويرها بشمولها. وغني عن القول أن مثل هذه المهمة الضخمة تفوق قدرات شخص بمفرده، لولا ادخال عدد من التقييدات، أولها، وكما يشير العنوان نفسه، اننا نعالج مسألة تطور روسيا في روسيا من منظار السوق الداخلية وحدها، تاركين جانبا قضية السوق الخارجية والمعطيات المتعلقة بالتجارة الخارجية.
ثانيا، اننا سنقتصر في بحثنا على فترة «ما بعد الإصلاح [2] .
ثالثا، اننا سنعالج أساسا بل حصرا الى حد كبير، المعطيات المتعلقة بالمقاطعات الداخلية، اي المقاطعات الروسية المحض.
رابعا، سوف نقتصر على الأوجه الاقتصادي للعملية حصرا.
ولكن الموضوع المتبقي يظل شاسعا جدا، رغم كل هذه التقييدات. والمؤلف لا يغض الطرف اطلاقا عن صعوبة، بل خطورة، معالجة مثل هذا الموضوع الشاسع. ولكن يخيل له أن توضيح مسألة السوق الداخلية للرأسمالية الروسية يستوجب استظهار التشابك بين مختلف اوجه العملية الجارية في كافة ميادين الاقتصاد الاجتماعي. لهذا سنقتصر على دراسة المميزات الرئيسية للعملية، تاركين الدراسة الاكثر تدقيقا لأبحاث لاحقة.
ان تصميم كتابنا هو على الشكل التالي: سندرس في الفصل الأول بأكبر قدر ممكن من الإيجاز الأطروحات النظرية الاساسية للاقتصاد السياسي المجرد حول مسألة السوق الداخلية للرأسمالية. وستخدم هذه الدراسة كمقدمة لباقي اجزاء الكتاب، للقسم الوقائعي منه، كما أنها سوف تعفينا من الحاجة الى الإشارات المتكررة للنظرية في عرضنا اللاحق. وسنسعى، في الفصول الثلاثة اللاحقة، إلى وصف التطور الرأسمالي للزراعة في روسيا «بعد الإصلاح» ففي الفصل الثاني، تحديدا، نعالج المعطيات الاحصائية للزييمستوفات عن تمايز الفلاحين. وفي الفصل الثالث، المعطيات الاحصائية عن الطابع الانتقالي لاقتصاد ملاّك الأراضي وعن استبدال اقتصاد السخرة بالاقتصاد الرأسمالي. ونعالج، في الفصل الرابع، الأشكال التي يكتسبها تكوّن الزراعة التجارية والرأسمالية. ونخصص الفصول الثلاثة اللاحقة لأشكال ومراحل تطور الرأسمالية في الصناعة الروسية. فالفصل الخامس يعالج الأطوار الاولى للرأسمالية في الصناعة، تحديدا في الصناعة الفلاحية الصغيرة (المعروفة باسم «الصناعية اليدوية»). ويحتوي الفصل السادس معطيات احصائية عن المانيفاتورة الرأسمالية والصناعة الرأسمالية المنزلية، والفصل السابع على معطيات عن تطور الصناعة الآلية الكبيرة. اما الفصل الأخير (الثامن) فانه ينطوي على محاولة لتبيان الرابط بين مختلف أوجه العملية الموصوفة وتقديم صورة اجمالية عنها.
ملحوظة: يؤسفنا جدا اننا لم نستطع ان نستفيد في هذا الكتاب من التحليل الرائع لـ«تطور الزراعة في المجتمع الرأسمالي» الذي قام به كارل كاوتسكي في كتابه المسألة الزراعية Die Agrarfrage (الجزء الأول «تطور الزراعة في المجتمع الرأسمالي»، شتوغرات، دييتز 1899) [3] .
ان هذا الكتاب (الذي تسلمته والقسم الأكبر من كتابي الحالي قيد الطبع) يشكل، بعد الجزء الثالث من رأس
المال، أجدر مساهمة في أدبنا الاقتصادي المعاصر. يدرس كاوتسكي «الاتجاهات الأساسية للتطور الرأسمالي في
الزراعة، وهدفه تفحص الظواهر المختلفة في الزراعة الحديثة بما هي «تجليات مخصوصة لظاهرة شاملة واحدة»
(المقدمة، ص 6). والجدير بالملاحظة هو مدى التطابق في السمات الأساسية لهذه العملية الشاملة بين اوروبا الغربية
وروسيا، على الرغم من الخصوصيات الكبيرة لهذه الاخيرة في المجالين الاقتصادي وغير الاقتصادي. فمثلا، تتميز الزراعة
الرأسمالية الحديثة عموما بالقسمة المتدرجة للعمل وباستخدام الآلة، وهي ظاهرة نلاحظها في روسيا بعد الاصلاح (راجع
الفصل الثالث، القسمان 7و8، والفصل الرابع، وخاصة القسم 9). ان عملية «بلترة الفلاحين»[4]
(عنوان الفصل
الثامن في كتاب كاوتسكي) تتجلى اينما كان في توسع العمل المأجور بكافة اشكاله بين الفلاحين الصغار (كاوتسكي، الفصل
الثامن). ونلقي في روسيا ظاهرة مشابهة تتجلى في تكوّن طبقة كبيرة من العمال المأجورين المحاصصين (انظر الفصل الثامن
من هذا الكتاب). ان وجود الفلاحين الصغار في كل مجتمع رأسمالي لا يعود الى التفوق التقني للإنتاج الصغير في الزراعة،
وإنما الى كون صغار الفلاحين يخفضون من مستوى متطلباتهم لما هو دون مستوى متطلبات العمال المأجورين، ويرهقون انفسهم
بالعمل اكثر منهم (كاوتسكي، الفصل السادس، «العامل الزراعي المأجور صاحب مستوى معاشي افضل من الفلاح
الصغيير»- يقول كاوتسكي تكرارا في الصفحات. 11، 317، 320). واننا نشاهد الظاهرة اياها في روسيا (انظر الفصل
الثاني، القسم 11). فطبيعي والحالة هذه، أن يتفق الماركسيون الروس والأوروبيون في تقديرهم لمثل هذه الظواهر بما هي
«استخدامات زراعية خارجية»، على حد التعبير الروسي، او بما هي «العمل الزراعي المأجور للفلاحين
المهاجرين»، على حد تعبير الالمان (كاوتسكي، ص 192، انظر في هذا الكتاب الفصل الثالث، القسم 10) وأن يقوم
التوافق حول ظاهرة كظاهرة هجرة العمال والفلاحين من القرى إلى المدن والمعامل (كاوتسكي، الفصل التاسع…) وحول
انتقال الصناعة الرأسمالية الكبيرة إلى الأرياف (كاوتسكي، ص 187، وفي هذا الكتاب، الفصل الرابع، القسم 9). ناهيك عن
الاعتراف المشترك بالدلالة التاريخية للرأسمالية الزراعية (كاوتسكي، المصدر ذاته، خاصة ص 289، 292، 298. انظر في هذا
الكتاب الفصل الرابع، القسم 9). وعن الاعتراف المشترك بالطبيعة التقدمية للعلاقات الرأسمالية في الزراعة بالمقارنة
مع العلاقات قبل الرأسمالية (كاوتسكي، ص 382: «ان طرد des Gesrndes العمال الزراعيين والخدم
التابعين شخصيا der Lastleute «الواقعين بين العامل الزراعي وبين المزارع المستأجر»،
الفلاحين الذين يستأجرون الأرض ويدفعون بواسطة العمل-الخدمة، من قبل العمال المياومين الذين هم رجال أحرار
خارج ساعات العمل، يشكل تقدما اجتماعيا عظيما.» وانظر ايضا الفصل الرابع من هذا الكتاب، القسم 9).
ويجزم كاوتسكي بأن تبني المشاعة القروية [5]
للزراعة الحديثة الكبيرة حيث جماعية الانتاج «امرا ليس
واردا على الإطلاق (ص 338) وبأن الاقتصاديين الزراعيين في اوروبا الغربية الذين يطالبون بتدعيم وتطوير
المشاعة القروية ليسوا اشتراكيين على الإطلاق بل هم ممثلو مصالح كبار الملاك العقاريين الذين يريدون تقييد
العمال بتحصيص الاراضي لهم، وهو يسعون الى تكريس هذه الاجراءات في نصوص قانونية (ص 162)، كما يجزم بأن كافة
المحاولات لمساعدة الفلاح الصغير بإدخال الصناعة اليدوية، –ذلك الشكل الأبشع للاستغلال الرأسمالي-
«تنبغي محاربتها بكل قوة» (ص 181). وإذا كنا مضطرين للتأكيد على الاجماع في الآراء بين
الماركسين الاوروبيين الغربيين والروس، فلان آخر محاولات الناطقين باسم الشعبويين تسعى للتمييز الحاد بين
مواقف الطرفين (انظر مداخلة السيد ف. فورنتسوف في 17 شباط/فبراير 1899 امام «جمعية تشجيع الصناعة
والتجارة الروسيتين» نوفويي فريميا [الأزمنة الحديثة]، العدد 8255، 19 شباط/فبراير 1899)
[6]
.
[1]. دانيالسون وفورونتسوف مفكران اقتصاديان يمثلان الشعبوية الليبرالية. وكان دانيالسون أول من ترجم رأس المال لماركس إلى الروسية وأجرى مراسلة مع انغلز الذي لم يكن يخفي اعجابه بنضال الشعبويين الروس ضد القيصرية. وقد سعى، دون طائل، إلى التوفيق بين الشعبويين والماركسيين عام 1892 في لقاء يعقد بحضوره في لندن. أما بصدد السجال النظري بين التيارين الفكريين فقد استعاد انغلز موقف ماركس الذي لم ينكر بالمطلق امكانية انتقال الريف الروسي مباشرة من المشاعة القروية إلى الشيوعية، لكنه رهن هذه الامكانية بقيام الثورة الاشتراكية في اوروبا الرأسمالية. أما بصدد مسألة السوق الداخلية للرأسمالية، فإن انغلز قد أكد –في رسالة إلى دانيالسون عام 1893- ان الرأسمالية تتطور بخطى ثابتة في روسيا، مؤكدا أن البلد يملك ما يكفي من السكان لنشوء سوق داخلية للصناعة الكبيرة، ومتوقعا تفكك المشاعة القروية ونمو التمايز بين الفلاحين (انظر بهذا الصدد ماركس انغلز، حول روسيا، ترجمة جورج طرابشي، دار الطليعة، بيروت 1975، ص 205-211). ان لينين لم يعرف بهذه الرسالة في حينها، والأرجح ان لم يعرف بها اطلاقا. على انه، في عام 1893 نفسه، كان يصوغ دراسته حول «مسألة السوق» ويؤكد فيها توقعات انغلز بواسطة الأرقام –المترجم-.
[2]. الاصلاح الفلاحي للعام 1861 هو التشريع الذي الغى القنانة في روسيا. لكن السلطات القيصرية طبقته لمصلحة ملاك الاراضي الاقطاعيين. صدر الإصلاح بعد تنامي حركة فلاحية ضد الاستغلال الاقطاعي تميزت بعنف كبير. ومع انه كان اقطاعيا في بدايته، إلا أن زخم التطور الرأسمالي في روسيا ما لبث ان اضفى عليه طابعا رأسماليا. وقد شكل هذا الصلاح خطوة نحو تحويل روسيا إلى مملكة برجوازية –المترجم-
[3]. في شباط/فبراير او في مطلع آذار/مار 1899 تسلّم لينين، في المنفى، نسخة عن المسألة الزراعية لكارل كاوتسكي. ولما كان القسم الاكبر من كتابه تطور الرأسمالية قد بات قيد الطبع، قرر اضافة هذه الملحوظة، فوقعت في يد الرقابة القيصرية، فعدّلتها –المترجم-
[4]. أي تحولهم إلى بروليتاريين، باعتمادهم المتزايد على العمل المأجور كمورد رزق رئيسي.
[5].
المشاعة القروية –المير- في روسيا، هي الشكل الجماعي لاستثمار الفلاحين للأرض الذي يتميز
بالمناوبة الالزامية بين المحاصيل (حفاظا على خصوبة التربة) وعدم تقسيم الغابات والمراعي. ومن ابرز سماتها
المسؤولية الجماعية للفلاحين عن دفع استحقاقاتهم كاملة وفي الوقت المناسب، وتقديم جملة من الخدمات للدولة
وللملاك العقاريين، وإعادة توزيع الأرض دوريا دون حق رفض الحصة الممنوحة ومنع التصرف بها (بيعا أو شراء او
تأجيرا).
عرفت المشاعة القروية الروسية منذ الأزمنة القديمة، لكنها مع الوقت تحولت الى ركن اساسي للإقطاعية. وقد
استخدمها الاسياد الاقطاعيون والقياصرة لتكثيف الاستغلال الاقطاعي ولاستجرار اموال الاعتاق والضرائب من الشعب. ولقد
اشار لينين إلى ان المشاعة القروية «ليست تعفي الفلاح من التحول إلى بروليتاري، والواقع أنها تشكل حاجزا قرن
أوسطيا يقسم الفلاحين، المقيدين بروابط و«مراتب» فقدت كل مبررات وجودها».
(المسألة
الزراعية في روسيا في نهاية القرن التاسع عشر، الأعمال الكاملة، الطبعة الانكليزية، المجلد 15).
ولقد اثارت مسألة المشاعة القروية محاججات حامية وكانت موضوع كتابات اقتصادية كثيرة. وقد ابدى الشعبويون
اهتماما استثنائيا بالمشاعة القروية، فرأوا فيها ضمانة تقدم روسيا نحو الاشتراكية عبر طريق مميزة. وبواسطة الانحياز
في جميع المعلومات وتزويرها، وباستخدام ما يسمى «المعدلات الوسطية»، سعى الشعبويون للإثبات بأن الفلاحين
المشاعيين في روسيا يملكون نوعا من «الصمود»، وبأن المشاعة القروية تحمي الفلاحين من تغلغل العلاقات
الرأسمالية إلى داخل القرية، و«تنقذ» الفلاح من الخراب ومن التمايز الطبقي. منذ ثمانيات القرن الماضي،
أوضح بليخانوف مبلغ التهافت في الأوهام الشعبوية عن «الاشتراكية المشاعية». وفي العقد الاخير من القرن،
اسدى لينين الضربة القاسية للنظريات الشعبوية. وقد استشهد لينين بكمية هائلة من المواد الوقائعية والإحصائية ليبين
كيف تنمو العلاقات الرأسمالية في القرية الروسية، وكيف يؤدي رأس المال، المتغلغل لداخل المشاعة القروية البطريركية،
إلى انشطار الفلاحين إلى طبقتين –الكولاكيون والفلاحون الفقراء.
في العام 1906، اصدر الوزير القيصري ستوليبين قانونا لصالح الكولاكيين يجيز للفلاحين مغادرة المشاعة وبيع
حصص الارض خاصتهم. وقد ارسى هذا التشريع الاساس للإلغاء الرسمي لنظام المشاعة القروية كما ادى إلى تفاقم ظاهرة
التمايز بين الفلاحين. وفي غضون السنوات التسع التي اعقبت تنفيذ هذا القانون، أقدم مليونان من الاسر الفلاحية على
الانسحاب من المشاعات –الناشر السوفييتي-
[6]. دار الحوار حول مداخلة بعنوان «هل يمكن التوفيق بين الشعبوية والماركسية؟». ومما قاله السيد فورونتسوف ان الذين يمثلون «التيار الحديث في الماركسية الغربية» هم اقرب إلى الشعبويين الروس منهم إلى الماركسيين الروس –المترجم-.