ستتضح أمامنا، إذا انطلقنا من وجهة النظر التي توصلنا إليها، هذه، جملة من الأمور التي كانت تبدو إشكالية، وأول الأمور التي ستتضح تتعلق بعمر الاقتصاد السياسي، إذ يكف عن كونه مشكلة. وذلك لأن علما مهمته اكتشاف قوانين عالم الإنتاج الرأسمالي الفوضوي، لم يكن بوسعه أن ينشأ قبل ولادة نمط الإنتاج المذكور، أي قبل أن تجتمع الشروط التاريخية التي تؤدي إلى سيطرة الطبقة البرجوازية الحديثة، بشكل تدريجي وذلك عن طريق عملية تغيرات سياسية واقتصادية، تمتد على مد قرون طويلة.
من الواضح أن الأستاذ بوخر ينظر إلى ولادة النظام الاجتماعي الراهن بوصفها مسألة في منتهى البساطة، ومنفصلة عن التطور الاقتصادي السابق إلى حد بعيد. فهذه الولادة ليست، بنظر الأستاذ المذكور، سوى نتيجة لرغبة الملوك المستبدين، المنبثقة عن حكمتهم السامية، وعن هذا يقول بوخر «ليس تكون الاقتصاد السياسي، من الناحية الأساسية سوى ثمرة المركزية السياسية التي بدأت مع نهاية العصر الوسيط، مع ولادة البنى الدولتية الإقليمية، لتجد ذروتها في زمننا الراهن عبر قيام الدولة القومية الموحدة. والحقيقة أن التوحيد الاقتصادي يسير جنبا إلى جنب مع عملية إخضاع المصالح السياسية الخاصة لأهداف الجماعة. ولنلاحظ بأن الأمراء الإقليميين الأكثر قوة، هم الذين يسعون إلى التعبير عن فكرة الدولة الحديثة، بوقوفهم ضد نبلاء الريف والمدن». (وعلينا أن نلاحظ أولا أن مفهوم «الاقتصاد السياسي» حين يستعمل من قبل أستاذ برجوازي، يتحول إلى مجرد تضليل همه تغطية الإنتاج الرأسمالي-روزا لوكسمبورغ).
ويتابع الأستاذ قائلا بأن سلطة الأمراء هي التي حققت نفس الانتصارات المذكورة في بقية أنحاء أوربا كذلك، في اسبانيا والبرتغال وإنكلترا وفرنسا وهولندا... «ويدور في كل هذه البلاد، وإن بشكل متفاوت الحجم والقوة، نفس النضال ضد قوى القرون الوسطى، ضد النبلاء الكبار في المدن والأرياف، وضد المؤسسات الدينية والعلمانية المنغلقة، إذ أن الأمر يتقوم أولا في العمل على تصفية الدوائر المستقلة التي تحول دون التوحيد السياسي. ولكن، في عمق أعماق هذه الحركة التي تؤدي إلى تشكل الحكم الأميري المطلق. يرقد المبدأ التاريخي الكوني القائل بأن ضخامة المهام التمدينية الجديدة المطروحة أمام الإنسانية، تتطلب تنظيما موحدا لكافة الشعوب، أي تتطلب جماعية للمصالح، حيوية وكبيرة، ولا يمكن لمثل هذه الجماعية أن تتطور وتنمو، إلا عبر قيام اقتصاد جماعي».
إن لدينا هنا أزهى مثال لتلك العبودية الفكر، التي تصادفها لدى أساتذة الاقتصاد السياسي الألمان. فالأستاذ شمولر ينبئنا بأن علم الاقتصاد السياسي، إنما ولد على يد الحكم المستبد الذي أصيب بغتة بمرض التنور. والأستاذ بوخر يقول بأن نمط الإنتاج الرأسمالي، كله، ليس سوى النتاج المباشر للرغبات الملكية، وللخطط الأميرية الطموحة. غير أنه من المبالغة في إسباغ الشرف على المستبدين الفرنسيين والاسبان الكبار. وعلى المستبدين الألمان الصغار، أن يخامرنا الاعتقاد للحظة، بأنهم إنما كانوا يوجهون اهتمامهم شطر «المبادئ التاريخية الكونية» التي لها علاقة بـ«مهام تمدينية للبشرية». سواء أكان ذلك في صراعهم ضد السادة الإقطاعيين عند نهاية القرون الوسطى، أم في حملاتهم الدامية المسعورة التي شنوها ضد البلاد الواطئة مثلا.
إن هذا معناه قلب الحقيقة التاريخية رأسا على عقب.
صحيح أن قيام الدول البيروقراطية المركزية الكبيرة، كان شرطا لا بد منه لقيام الإنتاج الرأسمالي، غير أن قيام هذه الدول نفسها لم يكن سوى النتيجة الحتمية لسلسلة من الحاجات الاقتصادية الجديدة، بحيث أننا لن نقترب من الحقيقة، في هذا الصدد، إلا إذا قلبنا جملة بوخر، وأوقفناها على قدميها، لنقول بأن المركزية السياسية هي، من الناحية الجوهرية، ثمرة نضوج «الاقتصاد السياسي» أي نمط الإنتاج الرأسمالي.
بالنظر إلى أن الاستبداد قد لعب دورا لا ينكر في سيرورة النضوج التاريخية تلك، لا مفر من القول بأنه إنما لعب هذا الدور، بوصفه أداة عمياء بيد الاتجاهات التاريخية، حين كان ثمة غياب شامل للأفكار التي دفعته إلى الوقف ضد هذه الاتجاهات، حين لاحت الفرصة. وكذلك مثلا حين كان المستبدون القروسطيون (نسبة إلى القرون الوسطى) يعاملون المدن، المتحالفة معهم ضد السادة الإقطاعيين، باعتبارها مجرد أدوات ضغط، سرعان ما يغدرون بها من جديد، عند أول فرصة، لما فيه فائدة الإقطاعيين. وكذلك أيضا حين كانوا يعتبرون القارة المكتشفة حديثا، بكل من وما عليها من شر وحضارات، مجرد ارض يمارسون عليها أقسى أنواع النهب والاستغلال، وذلك لهدف واحد وحيد يتقوم في ملء «خزائنهم الأميرية» بأسرع وقت ممكن. وكذلك أيضا وأيضا حين وقفوا بعد ذلك، وبشراسة، ضد وضع القانون البرلماني البرجوازي، الذي ينظم العلاقات بين السلطة «النابعة من الحق الإلهي»، وبين «الرعايا الأوفياء». بالرغم من أن هذا القانون كان لا بد منه لنمو السيطرة الرأسمالية، وضروريا ضرورة الوحدة السياسية والدول المركزية الكبيرة نفسها.
الحقيقة أن قوى أخرى، وانقلابات كبرى كانت تتحرك عند نهاية العصر الوسيط، في الحياة الاقتصادية للشعوب الأوربية، نازعة باتجاه إقامة نمط جديد للإنتاج. ولقد أدى اكتشاف أمريكا، والطرق البحرية التي توصل إلى الهند عبر جنوب أفريقيا، على اندفاعة لا شك فيها، وإلى تحول للتجارة عجلا من تحلل الإقطاع ونظام المنغلقات الحرفية في المدن. ولقد ولدت الغزوات والاستيلاء على الأراضي ونهب المناطق المكتشفة حديثا، والتدفق الفجائي للمعادن الثمينة القادمة من القارة الجديدة، وتجارة التوابل مع الهند، واسترقاق الزنوج الذين كانوا يرسلون للعمل في المزارع الأمريكية، ولد كل هذا، في أوربا وخلال وقت قصير، ثروات وحاجات جديدة. إذ سرعان ما تبدى أن المحترف الصغير (المشغل)، العضو في المنغلق الحرفي، عقبة في وجه التوسيع الضروري للإنتاج، وتطوره السريع. لذا وجد كبار التجار الحل في تجميع الحرفيين في مصانع كبيرة تقام خارج المدن، جاعلينهم بهذا ينتجون بشكل أسرع وأفضل، تبعا لأوامرهم، دون أي اهتمام بالنظم التي كان معمولا بها في المنغلقات الحرفية.
في إنكلترا، تسرب نمط الإنتاج الجديد، عن طريق ثورة في عالم الزراعة. كما أن انطلاقة صناعة الصوف في الفلاندر، أدت إلى تزاحم الطلب على الصوف، وحثت النبلاء الإنكليز الإقطاعيين على تحويل جزء كبير من أراضيهم المشجرة إلى مزارع للخراف، مما أدى بهم إلى طرد الفلاحين من مزارعهم ومن أراضيهم. وهكذا انوجدت جمهرة من العمال لا تملك شيئا، جمهرة من البروليتاريين، وضعت نفسها بتصرف الصناعة الرأسمالية في بدايتها. ولقد نحت الثورة الإصلاحية في نفس هذا المنحى، اذ صادرت ممتلكات الكنيسة التي أعطى جزء منها، وبيع جزء آخر، للنبلاء وللمضاربين، بحيث وجد فلاحوها أنفسهم كذلك مطرودين منها بأعداد كبيرة. وبهذا وجد الصناع (أصحاب المصانع) ومالكو الأرض الرأسماليون سكانا فقراء، مبلترين prolétarisés، عانوا الكثير من الاضطهاد والتشرد والسجن والتسول والسرقة والمطاردة البوليسية، قبل أن يجدوا ملجأ أمانهم كعبيد مأجورين في خدمة طبقة المستغِلين الجديدة. ثم إثر هذا، حلت في المانيفاكتورات (المصانع المعتمدة على العمل اليدوي) الثورات التقنية الكبرى، التي أتاحت استخدام المزيد والمزيد من البروليتاريين المأجورين، غير المهرة والأخصائيين، إلى جانب أو بدلا عن، الحرفيين الماهرين.
لقد اصطدم ترسخ كل هذه الأوضاع الجديدة، ومن كل الجوانب، بالحواجز الإقطاعية، وبمجتمع يعيش بعض أكثر لحظاته تشوشا، وتمزقا. فالاقتصاد الطبيعي، المرتبط أساسا بالقطاع، وإفقار الجماهير الشعبية الخاضعة لاستغلال لا حدود له، قلصت السوق الداخلية في وجه البضائع الخارجة من المانيفاكتورات، فيما كانت المنغلقات الحرفية في المدن مستمرة في الإمساك بالعامل الأكثر أهمية للإنتاج: قوة العمل. أما جهاز الدولة فكان يلجم ويعيق كل خطوة من خطوات التجارة والإنتاج الجديدين.
بداهة، كان ينبغي على برجوازية أوربا الغربية الصاعدة، الناطق الرسمي باسم التجارة العالمية الحرة وباسم الصناعة، أن تتخلص، بطريقة أو بأخرى، من كل تلك العقبات، وإلا توجب عليها التخلي نهائيا عن مهمتها التاريخية. هذه البرجوازية، قبل أن تمزق الإقطاع خلال الثورة الفرنسية الكبرى، تعرضت له بالنقد، وانبثق العلم الجديد للاقتصاد السياسي ليصبح واحدا من الأسلحة الإيديولوجية الهامة بيد البرجوازية في نضالها ضد دولة العصور الوسطى الإقطاعية، وفي سبيل إقامة الدولة الرأسمالية الحديثة. أما النظام الاقتصادي الوليد، فلقد انعكس أول الأمر على شكل ثروة جديدة برزت بسرعة، لتغرق المجتمع الأوربي الغربي، قادمة من مختلف المصادر. لقد كانت هذه الثروة تبدو وكأنها لا تنفذ ووفيرة بشكل يفوق مناهج الإقطاع البطريركية التي تعتمد على عصر جهد الفلاحين، وهي على أي حال مناهج قد استنفذت كل مصادرها. والحقيقة أن الأصل الأكثر إدهاشا للثروة الجديدة، لم يكن نمط الإنتاج الجديد نفسه، بل الانطلاقة التجارية التي كانت قد مهدت له السبيل. وهذا ما نلحظه من خلال معرفتنا بأن الجمهوريات الإيطالية الواقعة عند شواطئ المتوسط، واسبانيا، وهي مناطق كانت أهم مراكز للتجارة العالمية عند نهاية العصر الوسيط، هي التي عرفت ظهور أولى المسائل المتعلقة بالاقتصاد السياسي، كما عرفت أولى محاولات الإجابة على هذه المسائل.
ما هي الثروة؟ من أين يتأتى ثراء الدول أو فقرها؟
تلك كانت المشكلة الجديدة، بعد أن فقدت مفاهيم المجتمع الإقطاعي القديمة، كل قيمتها التقليدية في إعصار العلاقات الجديدة. الثروة هي المال الذي به يمكن شراء كل شيء. التجارة هي التي تخلق الثروة. والدول القادرة على استيراد الكثير من الذهب. دون أن تدع شيئا منه يخرج منها، هي الدول التي تصبح أكثر ثراء. إذن على الدولة أن تشجع التجارة العالمية. والغزوات الاستعمارية، المانيفاكتورات التي تنتج المواد المصدرة، في نفس الوقت الذي ينبغي فيه عليها أن تمنع استيراد المواد الأجنبية التي تؤدي إلى خروج الذهب. تلك كانت النظرية الاقتصادية التي ظهرت في ايطاليا منذ نهاية القرن السادس عشر، وفرضت نفسها بشكل واسع في إنكلترا وفرنسا في القرن السابع عشر. ولكن مهما كانت فظة هذه النظرية، ومن الجلي أنها شكلت قطيعة عنيفة مع المفهوم الإقطاعي للاقتصاد الطبيعي، لقد كانت أول نقد جريء له، كما كانت أول محاولة لإضفاء طابع المثل الأعلى على التجارة والإنتاج السلعي والرأسمال –بشكله هذا-. لكنها كانت كذلك، أول برنامج ينظم تدخل الدولة السياسي، وينال رضى البرجوازية الفتية الصاعدة.
عما قريب تصبح الرأسمالية المنتجة للسلع، المركز العصبي والعمود الفقري للاقتصاد، حالة بهذا مكان التاجر، لكنها فعلت هذا بحذر وبطء، مرتدية مسوح المجد الأريب في دواوين السادة الإقطاعيين. لقد أعلن العقلانيون الفرنسيون في القرن الثامن عشر، بأن الذهب ليس هو الثرة، فالذهب ليس أكثر من وسيط في تجارة السلع. فبأي بلاهة وعمى يتحكمان بالناس ويجعلانهم يرون في هذا المعدن البراق أداة لسعادة الشعوب والدول! هل باماكن المعدن أن يشبعني حين أجوع، وهل بامكانه أن يقيني غائلة البرد حين أكون عاريا؟ والملك دارا، بكل خزائنه الذهبية وكنوزه، ألم يعاني يا ترى، خلال حملاته من كل ضائقات الظمأ، أو لم يعرض ذات مرة كل ذهبه، مقابل قطرة ماء واحدة؟ لا، الثروة الحقيقية هي كل حواضر الطبيعة التي تسد حاجات الكل، ملوكا كانوا أم عبيدا. وكلما كانا الشعب نائلا حاجاته، كلما أضحت الدولة أكثر غنى، إذ يكون بمقدورها فرض المزيد من الضرائب. فمن ياترى ينتزع من الطبيعة الحب الذي منه نصنع خبزنا، والخيط الذي به نحيك ثيابنا، والخشب والمعدن الذين بهما نصنع البيوت والأدوات، الزراعة! أجل... الزراعة هي مصدر الثروة الحقيقي، ليس التجارة. لذا يجب إنقاذ السكان المزارعين، الفلاحين الذين تنتج أيديهم ثروة الجميع، من البؤس، وحمايتهم من الاستغلال الإقطاعي، وإعطائهم حياة حقيقية سعيدة! (على أي حال قد يقول الرأسمالي الصناعي نفس هذا الكلام ثم يضيف: خاصة وأنهم هم الذين يشكلون مجموع مستهلكي ومشتري البضائع التي أصنعها!). ولذا يجب أن يكون كبار ملاكي الأراضي، والأسياد الإقطاعيين، هم الذين يدفعون الضرائب ويقيمون أود الدولة، خاصة وأنهم هم الذين يملكون بين أيديهم كل الثروات الزراعية! (وهنا مجددا، يهمس الرأسمالي لنفسه: أما أنا فلست بحاجة إلى دفع أية ضريبة، طالما أنني لا أنتج أية ثروة!)، حسبنا أن نحرر الزراعة، والعمل في حضن الطبيعة، حسبنا أن نزيل العقبات الإقطاعية، وعلى الفور تنبثق منابع الثروة في وفرتها الطبيعية لتكون في خدمة الشعب والدولة، وبهذا تنتشر السعادة من تلقائها في انسجام كوني أخاذ.
في هذه النظريات التي فاه بها عقلانيو القرن الثامن عشر، كان يسمع سلفا، وبكل وضوح، همس الاستيلاء على الباستيلBastille، حيث شعرت البرجوازية الرأسمالية بنفسها ما يكفي من القوة، لإلقاء قناع المسكنة بعيدا، والبروز بعنف وقوة في مقدمة مسرح الأحداث، لتطلب من الدولة، ودون أية مواربة، أن تسير كليا وفقا لمشيئتها –أي مشيئة البرجوازية الرأسمالية-. غير أن آدم سميث، قام في إنكلترا في نهاية القرن الثامن عشر ليؤكد بأن الزراعة ليست المصدر الوحيد للثروة، بأي حال من الأحوال. فكل عمل مأجور، يمارس في إنتاج السلع، سواء في المجال الزراعي أم في المجال الصناعي، يتولى خلق الثروة! (كل عمل، قال آدم سميث في البداية، ولكن، بالنسبة إليه كما بالنسبة إلى خلفائه، الذين تحولوا ليصبحوا مجرد أبواق للبرجوازية الصاعدة، كان الإنسان الذي يعمل، هو الأجير الرأسمالي، بشكل طبيعي!) وذلك لأنه عدا عن الأجر الضروري لإعاشة العامل نفسه، لكل عامل مأجور يخلق ريعا ضروريا لإعاشة مالك الأرض، ولتزويد السيد بالربح، وهذا الربح هو ثروة مالك الرأسمال. والثروة تكون كبيرة كلما تضخمت جمهرة العمال العاملين في مشغل ما، تحت قيادة الرأسمال، والذين يكون تقسيم العمل فيما بينهم أكثر دقة وتحديدا. ذلكم هو التناسق الطبيعي الحقيقي، وتلك هي ثروة الأمم الحقيقية: فكل عمل يوفر، للعاملين، أجرا يعيشهم ويجبرهم على متابعة العمل المأجور، بالنسبة لملاكي الارض، ثمة ريع يسمح لهم بعيش هنيء، وبالنسبة لسيد المؤسسة، ثم ربح يعطيه الرغبة في متابعة مشروعه. وبهذا ينال كل واحد ما يكفيه دون اللجوء إلى الوسائل الإقطاعية القديمة. أما تشجيع «ثروة الأمم»، فيمكن في تشجيع ثروة صاحب المشروع الرأسمالي الذي يبقى كل شيء في حركة، ويستغل لنفسه ذهب الثروة، أو مصدر هذه الثروة الذي هو العمل المأجور. إذن، لتختف العقبات والحواجز البائدة المرتبطة بالأزمان القديمة! ولتقم بدلا منها المناهج السلطوية الجديدة التي تبتكرها الدولة لإسعاد الشعب: مناهج المنافسة الحرة، والنمو الحر للرأسمال الخاص، ووضع كل النظام الضرائبي وجهاز الدولة كله بخدمة المشروع الرأسمالي –عند هذا يكون كل شيء على ما يرام في أفضل العوالم الممكنة!
ذلكم هو انجيل البرجوازية الاقتصادي، بعد أن تخلت هذه البرجوازية عن أقنعتها، وعمد الاقتصاد السياسي نهائيا، بعد أن كشف عن وجهه الحقيقي. صحيح أن مقترحات الإصلاح العملية، والتحذيرات التي وجهتها البرجوازية للدولة الإقطاعية، فشلت تماما مثلما فشلت كافة المحاولات التاريخية التي قامت لسكب نبيذ جديد في قرب قديمة مثقوبة. لكن مطرقة الثروة أنجزت في أربع وعشرين ساعة، ما عجز نصف قرن من الدعوات الإصلاحية عن إنجازه. فالاستيلاء على السلطة السياسية هو الذي وفر للبرجوازية شروط سيطرتها. لقد كان الاقتصاد السياسي، جنبا على جنب مع النظريات الفلسفية والاجتماعية وقوانين الحق الطبيعي التي وضعت في عصر التنوير (الأنوار)، بل وفي الصف الأمامي من هذه النظريات، وسيلة اتخذت عبرها الطبقة البرجوازية وعيها، وكانت بهذا شرطا أساسيا لقيام التحرك الثوري. لقد تغذى الجهد الذي بذلته البرجوازية في سبيل تجديد العالم، حتى في تشعباته الأكثر دقة، عن طريق أفكار الاقتصاد القومي الكلاسيكي في أوربا. ففي إنكلترا عثرت البرجوازية على أسلحتها في ترسانة سميث-ريكاردو، لتخوض بواسطتها النضال في سبيل التبادل-الحر، الذي أعطى إشارة البدء لسيطرتها على السوق العالمية. بل وحتى إصلاحات شتاين، وهاردينرغ وشارنهورست في بروسيا، هذه الإصلاحات التي سعت لجعل الركام الإقطاعي أكثر حداثة وقابلية للبقاء بعد الضربات التي سددت إلى الإقطاعية في يينا، إنما استوحيت من نظريات الاقتصاديين الكلاسيكيين الإنكليز، بحيث كان بوسع الاقتصادي الألماني الشاب ماروتيز أن يكتب عام 1810: آدم سميث هو أقوى عاهل في أوربا، إلى جانب نابليون.
إذا نحن فهمنا الآن لم لم ير الاقتصاد السياسي النور إلا منذ نحو قرن ونصف، يصبح بالامكان الكشف عن مصيره اللاحق، انطلاقا من وجهة النظر نفسها: بما أن الاقتصاد السياسي هو علم القوانين الخاصة لنمط الإنتاج الرأسمالي، من البديهي أن وجوده ووظيفته يرتبطان بنمط الإنتاج هذا، بحيث يفقدان كل أساس لهما، ما أن يكف عن الوجود، أي أن دور الاقتصاد السياسي، بوصفه علما، سوف ينتهي حالما يخلي الاقتصاد الرأسمالي الفوضوي مكانه لنظام اقتصادي مخطط، ومنظم ومدار بشكل واع من قبل مجمل المجتمع العامل. ومن هنا يمكن القول بأن انتصار الطبقة العاملة المعاصرة وتحقيق الاشتراكية يعنيان نهاية الاقتصاد السياسي بوصفه علما. وهنا، في هذه النقطة بالذات، تقوم العلاقة بين الاقتصاد السياسي، والصراع الطبقي الذي تخوضه البروليتاريا الحديثة.
إذا كانت مهمة وغرض الاقتصاد السياسي، تفسير قوانين تكون وتطور وازدهار نمط الإنتاج الرأسمالي، فإن على الاقتصاد السياسي، بالنتيجة الحتمية، أن يسبر غور قوانين انهيار الرأسمالية، لأن هذه الأخيرة، مثلها مثل كافة الأشكال الاقتصادية السابقة عليها، ليست خالدة على الإطلاق، فكل ما في الأمر أنها تشكل مرحلة تاريخية عاربة، درجة واحدة من سلم لا ينتهي، هو سلم التطور الاجتماعي. وهنا من المنطقي أن نظرية صعود الرأسمالية، تتحول إلى نظرية لانهيارها، كما أن علم نمط الإنتاج الرأسمالي يتحول إلى أساس علمي للاشتراكية، بينما تتحول الأداة النظرية لسيطرة البرجوازية إلى سلاح في الصراع الطبقي الثوري الهادف إلى تحرير البروليتاريا.
من الواضح أن لا العلماء الفرنسيين ولا العلماء الألمان المنتمين إلى الطبقات البرجوازية قد حلوا هذا الجزء الثاني من المشكلة العامة للاقتصاد السياسي. غير أن هنالك رجلا واحدا فقط عرف كيف يستخلص النتائج الأخيرة لنظرية نمط الإنتاج الرأسمالي، ومن ثم يحدد موضعها انطلاقا من وجهة نظر البروليتاريا الثورية، وهذا الرجل هو كارل ماركس. فمع هذا المفكر الفذ، أخذت الاشتراكية والحركة العمالية الحديثة، مكانهما للمرة الأولى في ميدان المعرفة العلمية، الراسخ.
تعود الاشتراكية، بوصفها مثلا أعلى لنظام اجتماعي يرتكز على المساواة والأخوة بين البشر، وبوصفها مثلا أعلى لمجتمع شيوعي، تعود إلى ألوف السنين. فالفكرة الاشتراكية لم تكف عن الانبثاق، لدى رسل المسيحية الأوائل، كما لدى مختلف الشيع الدينية في العصر الوسيط، وإبان حرب الفلاحين، بوصفها التعبير الأكثر جذرية عن الانتفاضة ضد النظام القائم. غير أنها –أي الاشتراكية- لم تكن، أكثر من مثل أعلى مطلوب في كافة الأزمان وفي كافة الأمكنة التاريخية، لم تكن سوى حلم جميل يراود أذهان بعض المأخوذين ذوي الحماس، كانت حلما مذهبا لا يمكن الوصول غليه، وكأنها قوس قزح الرائع المتعمشق قبة الغمام.
في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ظهرت الفكرة الاشتراكية، لأول وهلة بقوة وإلحاح، وكانت قد تخلصت من أحلام الشيع الدينية، ظهرت هذه المرة كرد فعل للأهوال وللدمار الذي نتج عن استتباب الأمر للرأسمالية الصاعدة. بل وحتى في هذه اللحظة، لم تكن الاشتراكية بعد سوى حلم، سوى ابتكار أتت به بعض الأدمغة الجسورة. فإذا أصغينا إلى ما قاله أول رائد من رواد الانتفاضات الثورية للبروليتاريا «غراشوس بابوف»، الذي حاول، خلال الثورة الفرنسية الكبرى، أن يوطد المساواة الاجتماعية عن طريق العنف، سنجد أن العامل الوحيد الذي يركز مطامحه الشيوعية عليه، هو الظلم الصارخ الناتج عن النظام الاجتماعي القائم. وبابوف لم يسأم أبدا تصوير هذا المجتمع بأكثر الألوان قتامة، وذلك في المقالات والمنشورات المؤثرة التي كتبها، كما في مرافعته الشهيرة أمام المحكمة التي حكمت عليه بالموت. لقد كان انجيل اشتراكيته تكرارا رتيبا للاتهامات الموجهة ضد الظلم المهيمن، ضد الآلام والأهوال، وضد البؤس والضنى الذين يقاسي منهما العمال الذين تعيش على حسابهم ومن تعبهم حفنة من السادة الأثرياء المهيمنين. ويقول بابوف، أنه يكفي للمجتمع الراهن أن يستحق الضياع ويكون جديرا به، لكي يصبح بالامكان إسقاطه، شرط أن تتوفر مجموعة من الأشخاص الحازمين، الذين يستولون على السلطة ليقيموا نظام العدالة، مثلما فعل اليعاقبة Les Jacobins حين استولوا عام 1873، على السلطة السياسية وأقاموا النظام الجمهوري.
انطلاقا من مناهج أخرى، وبالرغم من أنها ترتكز –أساسا- إلى نفس الأسس، قامت الأفكار الاشتراكية التي دافع عنها بكثير من الذكاء والعبقرية، في ثلاثينات القرن الماضي، ثلاثة من كبار المفكرين: سان سيمون وفورييه، في فرنسا، وأوين في إنكلترا. صحيح أن ما من واحد من الثلاثة فكر بالاستيلاء على السلطة، ثوريا، لتوطيد الاشتراكية، بل العكس، فهم، تماما مثل كل الجيل الذي تلا الثورة الكبرى، ابتعدوا بأفكارهم عن أي انقلاب اجتماعي وعن أي عمل سياسي، وكانوا مجرد أنصار حازمين للدعوة السلمية البحتة. ومع هذا، كان أساس الفكرة الاشتراكية لدى الثلاثة، واحد، مشروع بسيط، يكون من ابتكار دماغ عبقري يطلب من الإنسانية المرعوبة إنجازه، لكي تنقذ من جحيم النظام الاجتماعي البرجوازي.
غير أن هذه النظريات الاشتراكية ظلت، بالرغم من حزم انتقاداتها للنظام القائم، وبالرغم من سحر مثلها العليا، ظلت عمليا دون تأثير على حركة التاريخ وصراعاته الحقيقية: فبابوف، ومجموعة أصدقائه الصغيرة، هلكوا في حمأة الثورة-المضادة، دون أن يتركوا أي أثر عدا بضعة سطور معينة في سجل التاريخ الثوري. وسان سيمون وفورييه لم يتمكنا إلا من جمع شيع من المناصرين المتحمسين المتفانين الذين سرعان ما تفرقوا مشتتين بعد أن زرعوا البذور الغنية والخصبة لأفكارهم وانتقاداتهم وتجاربهم الاجتماعية. صحيح أن أوين كان الأكثر تأثيرا على البروليتاريا، غير أن هذا التأثير سرعان متا اندثر دون أن يترك أي أثر، بعد أن أثار حماس نخبة من العمال الإنكليز في سنوات الثلاثين والأربعين.
في الأربعينات قام جيل جديد من القادة الاشتراكيين: ويتلنغ في ألمانيا، برودون ولوي بلان وبلانكي في فرنسا، وفي تلك الأثناء كانت الطبقة العاملة قد استأنفت، من جهتها، النضال ضد سيطرة الرأسمال. كانت الانتفاضات التي قام بها نساجو «ليون» في فرنسا، والشارتيون في إنكلترا، قد أعطت إشارة البدء للصراع الطبقي. ولكن، مع هذا لم تكن هناك أية علاقة مباشرة بين هذه النضالات التي تقوم بها الطبقة المستغَلة وبين مختلف النظريات الاشتراكية. إذ لم يكن لدى البروليتاريين الثائرين، أي هدف اشتراكي قائم نصب أعينهم، هذا بينما لم يكن المنظرون الاشتراكيون يسعون إلى ترسيخ أفكارهم، عن طريق النضال السياسي الذي تخوضه الطبقة العاملة.. كانوا يعتقدون بأن اشتراكيتهم سوف تتحقق عن طريق بعض المؤسسات الماهرة، مثل مصرف برودون الشعبي الهادف على إحداث تبادل عادل للسلع، ومثل جمعيات المنتجين التي نادى بها لوي بلان. أما الاشتراكي الوحيد الذي اعتمد النضال السياسي، كوسيلة لتحقيق الثروة الاجتماعية، فهو أوغست بلانكي: كان بلانكي المدافع الوحيد الحقيقي عن البروليتاريا ومصالحها الثورية الطبقية في تلك المرحلة. غير أن اشتراكيته لم تكن سوى مشروع لإقامة جمهورية اجتماعية، يمكن تحقيقه في «أية لحظة عن طريق الرغبة الحاسمة لأقلية ثورية».
إن عام 1848 هو الذي سيشهد ذروة، وكذلك أزمة، الاشتراكية القديمة بكافة تنويعاتها. في ذلك العام كانت البروليتاريا الباريسية، بتأثير من تقاليد الصراعات الثورية السابقة، وبدافع من بعض المنظومات الاشتراكية، كانت متعلقة بأفكار مشوشة تحكي عن العدالة الاجتماعية. وهكذا ما أن تم إسقاط الملك البرجوازي لوي فيليب، حتى استغل العمال الباريسيون، موقعهم القوي، ليطالبوا البرجوازية المرعوبة بتحقيق فكرة «الجمهورية الاجتماعية» وإقامة «تنظيم جديد للعمل». ولإنجاز هذا البرنامج، أعطت البروليتاريا الحكومة المؤقتة، مهلة الثلاثة أشهر الشهيرة. التي ذاق خلالها العمال مرارة الجوع في انتظارهم، فيما كانت البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، تنسلخان سرا، وتسعدان لسحق العمال. ولقد انتهت الأشهر الثلاثة بالمعارك الشهيرة التي سميت «معارك حزيران»، وأسفرت عن إغراق المثل العليا المتعلقة بـ«الجمهورية الاجتماعية الممكن في أي وقت تحقيقها»، في بحر تكون من دماء البروليتاريا الباريسية. وهكذا لم تؤد ثورة 1848 إلى توطيد العدالة الاجتماعية، بل أدت إلى سيطرة البرجوازية سياسيا، كما إلى انطلاقة عاشها الاستغلال الرأسمالي أيام الإمبراطورية الثانية، لم يكن التاريخ قد عرف لها مثيلا من قبل.
في نفس اللحظة التي بدأ فيها أن اشتراكية المدارس القديمة قد دفنت على الأبد تحت أنقاض متاريس حزيران، كن ماركس وانجلز يقيمان أساس الفكرة الاشتراكية فوق بنيان جديد كليا. فهما لم يبحثا عن نقاط إسناد للاشتراكية، لا في الإدانة الأخلاقية للنظام الاجتماعي القائم، ولا في اكتشاف مشاريع مبتكرة ومغرية، يهربا من خلالها العدالة الاجتماعية إلى داخل النظام الراهن. لقد يمم ماركس وانجلز أنظارهما شطر دراسة العلاقات الاقتصادية في المجتمع المعاصر. هنا، في قوانين الفوضى الرأسمالية اكتشف ماركس، المنطلق الحقيقي للطموحات الاشتراكية. وكان الكلاسيكيون الفرنسيون والإنكليز، في مجال الاقتصاد السياسي، قد اكتشفوا القوانين التي يحيا عليها الاقتصاد الرأسمالي، وبها يتطور، وبعدهم بنصف قرن، استأنف كارل ماركس أعمالهم، ابتداء من النقطة التي توقفوا عندها. لقد اكتشف بدوره أن قوانين النظام الاقتصادي المعاصر، تعمل باتجاه ضياع هذا النظام، عبر تهديدها المتزايد للمجتمع عن طريق نمو الفوضى، وعن طريق سلسلة مترابطة من الكوارث الاقتصادية والسياسية. إنها، كما يبرهن ماركس، الاتجاهات التطورية لسيطرة الرأسمال، وهي اتجاهات ما أن تصل إلى نقطة نضوج معينة، حتى تجعل من الضروري العبور إلى نمط اقتصاد مخطط بطريقة واعية، ومنظم من قبل مجموع المجتمع العامل، لكي لا يغرق المجتمع، ومعه الحضارة الإنسانية كلها في ترهات الفوضى. إن الرأسمال نفسه هو الذي يعجل من دنو أجله، عبر تجميعه، في تجمعات أكبر وأكبر، دافنيه القادمين: البروليتاريين، وعبر امتداده في كل بلدان الكوكب الأرضي، وعبر إقامة لاقتصاد عالمي تسوده الفوضى، وعبر خلقه –على هذا النحو- لأسس تجمع بروليتاريا كافة البلدان، في قوة ثورية عالمية، تعمل على كنس هيمنة الطبقة الرأسمالية. وبهذا تكف الاشتراكية عن كونها مشروعا، وحلما رائعا، أو تجربة يتم الوصول إلى تحقيقها عن طريق القوة، بواسطة بضع تجمعات عمالية معزولة هنا وهناك. إن الاشتراكية، أي البرنامج المشترك للعمل الثوري للبروليتاريا الأممية، هي ضرورة تاريخية، لأنها ثمرة الاتجاهات التطورية للاقتصاد الرأسمالي.
الآن بامكاننا فهم السبب الذي جعل ماركس يحدد موقع نظريته الاقتصادية، خارج الاقتصاد الرسمي ويطلق عليها اسم «نقد الاقتصاد السياسي». صحيح أن قواعد الفوضى الاقتصادية ودمارها، كما طورها ماركس، ليست سوى استمرار للاقتصاد السياسي الذي أنشأه العلماء البرجوازيون، غير أنها استمرار تتناقض نتائجه النهائية تمام التناقض مع نقاط الانطلاق التي انطلق هؤلاء منها. صحيح أن نظرية ماركس ابنة للنظرية الاقتصادية البرجوازية، غير أنها ابنة أدى مولدها إلى قتل أمها. لقد وجد الاقتصاد السياسي، لدى ماركس، إنجازه ونتيجته. أما التالي فلا يمكنه أن يكون –عدا بعض التطورات التفصيلية التي أحدثت على نظرية ماركس –سوى نقل هذه النظرية إلى مجال العمل، أي إلى ميدان النضال الذي تخوضه البروليتاريا العالمية في سبيل إنجاز النظام الاقتصادي الاشتراكي، إن نهاية الاقتصاد السياسي كعلم، هي عبارة عن عمل تاريخي ذي محمول عالمي: إنه الترجمة العملية، عن طريق الممارسة، لاقتصاد عالمي منظم تبعا لتخطيط معين. أما الفصل الأخير في نظرية الاقتصاد السياسي، فهو عبارة عن الثورة الاجتماعية التي تقوم بها البروليتاريا العالمية.
والعلاقة الخاصة بين الاقتصاد السياسي والطبقة العاملة المعاصرة، علاقة تقوم على التقابل. فإذا كان الاقتصاد السياسي، من جهة، كما طوره ماركس، يعتبر أكثر من أي علم آخر، الأساس الذي لا بديل له للتثقيف البروليتاري، فان البروليتاريا الواعية، تشكل، من جهة أخرى، المستمع الوحيد القادر على فهم النظرية الاقتصادية. كان كبزني وبواغيلير في فرنسا، وآدم سميث وريكاردو في إنكلترا، يتحدثون بفخر وحماس عن البرجوازية الفتية، وهم يراقبون بأعينهم طلل المجتمع الإقطاعي وهو على وشك التهاوي نهائيا، وانطلاقا من إيمانهم الصارم بديمومة هيمنة البرجوازية، وبتناسقها الاجتماعي «الطبيعي»، كانوا يحدقون بأبصارهم النسرية، دون خوف، في عمق أعماق القوانين الرأسمالية.
منذ ذلك الحين، تكثف وتصاعد صراع البروليتاريا الطبقي، أكثر وأكثر، وخاصة خلال انتفاضة حزيران 1848 التي قامت بها البروليتاريا الباريسية، مما أدى إلى انهيار ثقة المجتمع البرجوازي بطابعه الإلهي الخالد. فالمجتمع البرجوازي، منذ تلمس معرفة التناقضات الحديثة بين الطبقات، بات في خشية من العري الكلاسيكي الذي سبق لخالقي اقتصاده السياسي الخاص، إن أظهروه به أمام الكون قاطبة. أو ليس من الواضح اليوم، أن الناطقين الرسميين باسم البروليتاريا الحديثة إنما صاغوا أسلحتهم القاتلة انطلاقا من مكتشفات عليمة، كان دعاة الاقتصاد السياسي البرجوازيون قد توصلوا إليه بأنفسهم؟
ولهذا السبب، نجد اليوم ومنذ عقود من الزمن، أن الاقتصاد السياسي، وليس الاشتراكي فقط بل البرجوازي أيضا (إذا كان هذا الأخير علما... حقا) لا يلقي لدى الطبقات المالكة أية آذان مستعدة لسماع صوته. ودكاترتنا البرجوازيون، بسبب عجزهم عن فهم نظريات أسلافهم الكبار، أو فهم وقبول نظرية ماركس التي انطلقت من تلك النظريات لتقرع ناقوس الموت للمجتمع البرجوازي، يعرضون، تحت اسم الاقتصاد السياسي، خليطا عجيبا عبثيا مؤلفا من بقايا كافة أنواع الأفكار العلمية ملصوقة بها بعض التشويشات المغرضة، ثم لا يسعون أبدا لدراسة الأهداف الحقيقية للرأسمالية بل، بالعكس، يحاولون وضع الأقنعة فوق هذه الأهداف، لكي يدافعوا عن الرأسمالية، معتبرينها أفضل النظم الاجتماعية الممكنة، وأكثرها خلودا...
أما الاقتصاد السياسي العلمي، فلم يعد يسعى، بعد أن نسيه المجتمع البرجوازي وغدر به، للوصول إلى مستمعين آخرين عدا البروليتاريين الواعين، الذين يجد لديهم إنجازه العلمي، وليس فقط فهما نظريا له. وللاسال، أخيرا، عبارة تنطبق تماما على الاقتصاد السياسي إذ يقول:
«عندما يتعانق العلم والعمال، قطبا المجتمع المتعارضان، يتمكنان من تحطيم وتمزيق كافة العقبات الواقفة في وجه الحضارة... بأيديهم...»