أحيانا يعطي، وبكل بساطة، للاقتصاد السياسي، التعريف التالي: إنه «علم العلاقات الاقتصادية بين البشر». والواقع أن أولئك الذين يستخدمون مثل هذه المعادلة، يعتقدون أنهم بهذا إنما يتفادون عقبات إدراج «الاقتصاد القومي» داخل الاقتصاد العالمي، وذلك عبر تعميم المشكلة بشكل مبهم، وعبر التحدث عن اقتصاد «البشر». والحقيقة أن الضياع في لج الأمواج على هذا النحو، لا يساعد أبدا على توضيح الأمور، بل يجعلها أكثر تشوشا، هذا إذا كان ممكنا، وذلك لأن السؤال الذي يطرح عند ذاك سيكون التالي: هل ثمة حاجة، ولماذا حاجة، إلى علم للعلاقات الاقتصادية «بين البشر» أي بين كافة البشر، في كل الأزمان، وفي كافة الظروف؟
فلنأخذ أي نموذج للعلاقات الاقتصادية البشرية، يكون بسيطا وواضحا قدر الامكان. ولننتقل بأنفسنا إلى الفترة التي لم يكن الاقتصاد العالمي الراهن قد وجد فيها بعد، حيث لم تكن التجارة السلعية مزدهرة إلا في المدن، فيما كان الاقتصاد الطبيعي، في الأرياف، أي الإنتاج لمجرد سد الحاجات المباشرة، يهيمن سواء في الإقطاعيات العقارية الكبيرة، أو في الاستغلاليات الفلاحية الصغيرة. ولنأخذ مثلا، وضع ايكوسيا العليا (اسكتلندا) خلال خمسينات القرن الماضي (التاسع عشر) كما يصفه دوغالد ستيوارت حيث يقول:
«جاء في «ستاتيستكال آكاونت»، أن المرء كان يشاهد في الماضي، في بعض أنحاء ايكوسيا العليا، عددا كبيرا من الرعاة والفلاحين يأتون مع النساء والأطفال. وهم منتعلون صنادل صنعوها بأنفسهم بواسطة جلود جففوها بأنفسهم أيضا، ومرتدون ثيابا لم تمسها أيد غير أيديهم، أتى بموادها الأولية من الصوف الذي غزلوه بأنفسهم بعد أن جزوه من أجسام ماشيتهم، أو من الكتان الذي زرعوه بأنفسهم. وفي مجال صناعة هذه الثياب، بالكاد يلمح المرء أثرا لمادة مشتراة من الخارج، باستثناء الأزرار والإبر وغيرها من المواد الحديدية التي تستخدم في عملية الحياكة نفسها. أما الألوان فالنساء هن اللواتي يستخرجنها من عصارة بعض الحشائش والمواد المحلية... الخ». [1]
أو لنأخذ نموذجا آخر من روسيا، حيث كان يهيمن، منذ بعض الوقت، أي في نهاية سبعينات القرن التاسع عشر، اقتصاد فلاحي على نفس النمط، وعن هذا يقول البروفسور نيكولاي سيبر:
«إن الأرض التي يزرعها فلاح مقاطعة فيازما في إقليم سمولنسك، توفر له الغذاء والملبس وتقريبا كل ما هو ضروري لمعيشته: الخبز، البطاطا، الحليب، اللحوم، البيض، القماش المصنوع من الكتان، الأغطية، جلود الماشية والصوف الذي تصنع منه ثياب الشتاء... وهذا الفلاح لا يشتري مقابل النقود سوى الأحذية وبعض المواد الثانوية مثل الأحزمة والقبعات والقفازات، بالإضافة إلى بعض الأدوات المنزلية التي لا غنى عنها مثل: آنية المائدة المصنوعة من الصلصال أو الخشب، والمسطام (آلة تحرك بها النار) والقدر... وغيرها من الأدوات المشابهة». [2]
وحتى الآن ما تزال ثمة كذلك، اقتصادات من هذا الطراز الفلاحي في بوسنيا وهرزغوفيا وصربيا ودالماسيا. فإذا ما رغبنا في أن نطرح على فلاح من ايكوسيا العليا أو روسيا، من بوسنيا أو صربيا، تلك المسائل الأستاذية المعتادة بالاقتصاد السياسي، وبـ«هدف الاقتصاد» و«خلق وتوزيع الثروات»، لا شك سيفتح شدقيه على أوسعهما مذهولا... لماذا، ولأي هدف، أعمل وتعمل عائلتي، أو بكلمات أكثر علمية، ما هي «الدوافع» التي تحثنا على الاهتمام بـ«الاقتصاد»؟ سوف يصرخ فلاحنا بنا متسائلا. حسنا! حسنا! ينبغي علينا أن نعيش، وصحيح أن الفراريج لا تهبط علينا مشوية من علياء السماء. فإذا لم نعمل، سنموت جوعا. إننا نعمل إذن لكي ننجح في إعالة أنفسنا، ولكي نأكل ونطرد جوعنا. ولكي نلبس ثيابا نظيفة، ونحصل على سقف يظلل رؤوسنا. ولكن ماذا عن الشيء الذي ننتجه. ما هو «الاتجاه» الذي نوجه ضمنه عملنا؟ سؤال ساذج آخر! إننا ننتج ما نحن بحاجة إليه، وما تحتاجه أسرتنا الفلاحية لكي تعيش، إننا نزرع القمح والسّلت، نزرع الشوفان والشعير، نزرع البطاطا. ونقوم بتربية الأبقار والخراف والدجاج والعصافير. في الشتاء نحيك الصوف، وهو عمل النساء، أما نحن معشر الرجال فنرتب الأمور بواسطة المنشار والمطرقة، ونصلح من شأن البيت وأدواته. سم الأمر، إذا شئت، «اقتصادا زراعيا» أو «حرفيا»، لا يهم... المهم أنه ينبغي علينا أن نشتغل كل شيء، ونصنع كل ما نحتاجه في المنزل وفي الحقل. كيف «نقسم» هذه الأعمال؟ ذلكم سؤال غريب آخر! الرجال يشتغلون، بالطبع، في كل ما يحتاج منهم إلى قوة عضلية رجالية، أما النساء فيعملن لإنجاز شؤون المنزل والأبقار وقن الدجاج... حيث يقدم الصغار المساعدة هنا وهناك. أو هل تعتقدون بأن على أن أرسل زوجتي لتقطع الحطب، بينما أتولى بنفسي سوق البقرة؟ (إن هذا الرجل الحاذق لا يعرف –وهذا شيء نضيقه من عندنا- بأن المرأة هي التي، عند كثير من الشعوب البدائية، ومثلا عند هنود البرازيل، تذهب إلى الغابة لجمع الحطب، وهي التي تغرز الجذور. وتلتقط الثمار، بينما لا يكتفي الرجال، في مجتمعات الرعاة في أفريقيا وآسيا، بحراسة الماشية، بل ويحلبونها أيضا، وبوسعنا حتى اليوم أن نشاهد المرأة في دالماسيا تحمل أثقل الأحمال على ظهرها، بينما يرافقها الرجل باختيال راكبا فوق حماره، وهو يدخن غليونه بكل برودة وهدوء. إن «تقسيم العمل» هذا يبدو طبيعيا هنا، تماما مثلما يبدو طبيعيا بالنسبة إلى الفلاح عندنا، انصرافه إلى قطع الحطب، فيما تتولى زوجته حلب الأبقار) بعد هذا يتساءل الفلاح: ما هو الشيء الذي اسميه ثروتي؟ إن أي طفل في القرية يعرف هذا الأمر: فالفلاح الغني هو الفلاح الذي يتمكن من ملئ مخازنه، وإسطبله، وتكون ماشيته على أحسن حال، وقن دجاجاته كبير الحجم، أما الفلاح الفقير فهو ذاك الذي يفتقر إلى الطحين في أعياد المرفع، وتتسرب المياه من سقف بيته حين تمطر السماء. بماذا ترتبط «زيادة ثروتي»؟ لم هذا السؤال؟ لو كانت لدي قطعة أرض أكبر، كنت أضحيت أكثر ثراء، أما إذا شاء الله إسقاط ثلوجه الكثيفة فوق رؤوسنا في عز الصيف، سنصبح كلنا فقراء بين ليلة وضحاها.
لقد عرضنا أعلاه ما من شأن فلاح أن يجيب به، وبكل صبر وأناة، على أسئلة الاقتصاد السياسي الحاذقة، غير أننا واثقون من أن الأستاذ الذي يأتي إلى مزرعة في ايكوسيا العليا أو بوسينا، حاملا ورقه وقلمه، سيضطر إلى أن يولي الأدبار، قبل أن يصل إلى نصف أسئلته المتعلقة بعملية البحث العلمي. فالحقيقة أن كافة شروط مثل هذا الاقتصاد الفلاحي بسيطة هنا وواضحة، بحيث أن تحليلها تبعا لمخططات الاقتصاد السياسي، سيكون أشبه بممارسة لعبة عقيمة لا جدوى منها.
قد يكون بالامكان معارضتنا هنا، والقول بأننا اخترنا نموذجا سيئا، حين اتجهنا شطر اقتصاد فلاحي صغير يكفي نفسه بنفسه، وتنتج ببساطته المتناهية عن فقر وسائله وحجمه الصغير. إذن، لنأخذ مثلا آخر: فلنترك المزرعة الصغيرة القابعة في زاوية منسية من العالم، ولنتجه بأنظارنا نحو قمم إمبراطورية هائلة هي إمبراطورية شارلمان. هذا الإمبراطور الذي جعل من الإمبراطورية الألمانية، في بداية القرن التاسع، أقوى إمبراطورية في أوربا، والذي، لكي يوسع إمبراطوريته ويعززها، لم يرسل أقل من ثلاثة وخمسين حملة عسكرية، أدت به إلى أن يضم إلى تاجه، عدا عن ألمانيا الراهنة، كلا من فرنسا وايطاليا وسويسرا وشمالي اسبانيا وهولندا وبلجيكا. لقد عني هذا الإمبراطور عناية فائقة بالوضع الاقتصادي في أملاكه ومزارعه. بحيث أنه كتب، بخط يده، نص قانون يتألف من سبعين فقرة تتحدث عن القواعد الاقتصادية المتعلقة بمزارعه، هذا القانون هو «قانون المزارع»capitular de Villis الشهير، المتضمن في وثيقة حفظت حتى أيامنا كحلية نادرة، ونقلها إلينا التاريخ عبر غبار وتفتت الأرشيفات. إن هذه الوثيقة جديرة باهتمامنا لسببين: أولا، لأن معظم مزارع شارلمان سرعان ما تحولت إلى مدن إمبراطورية قوية... مثل إيكس، وكولونيا وميونيخ وبال وستراسبورغ وغيرها من المدن الكبرى التي كانت أصلا، مزارع تخص الإمبراطور شارل. وثانيا، لأن مؤسسات شارلمان ودساتيره الاقتصادية استخدمت كنموذج صيغت بناء عليه كل المؤسسات والدساتير العلمانية والدينية الكبرى، في بداية العصر الوسيط، والواقع أن مزارع شارلمان كانت تستعيد تقاليد روما القديمة، وتقاليد الحياة الرفيعة التي كان يعيشها نبلاؤها، ناقلة إياها إلى البيئة الخشنة التي كانت الوسط الطبيعي للنبالة الألمانية الفتية المحاربة. وعلينا أن نلاحظ أن منصوصات هذا القانون حول زراعة العنب والثمار والخضار، والبستنة، وتربية المواشي... الخ. كانت عبارة عن انعطافة تاريخية للحضارة.
والآن، لننظر إلى هذه الوثيقة عن كثب. قبل كل شيء يصر الإمبراطور على ضرورة خدمته بشكل نزيه، وعلى ضرورة العناية برعاياه لكي يتجنب هؤلاء مكاره البؤس والفاقة، فيجب عدم إرهاقهم بعمل يفوق قدرتهم، فإذا اضطروا للعمل ليلا، ينبغي التعويض عليهم. بيد أن على الرعايا، من جهتهم، أن يعنوا، بإخلاص وولاء، بالعنب، وبوضع النبيذ المضغوط في الزجاجات لكيلا يفسد. فإذا ما أخلوا بالوفاء بواجباتهم، ينبغي معاقبتهم بضربهم «على ظهورهم أو على أجزاء أخرى من أجسادهم». وينص الإمبراطور أيضا في قانونه على ضرورة تربية النحل والأرز في أملاكه، وعلى ضرورة إبقاء الماشية في أحسن حال لتتمكن من الإنجاب، وكذلك يجب أن توجه عناية فائقة لزيادة عدد الأبقار، والخراف، والأفراس وغيرها من الحيوانات الأليفة.
ويضيف الإمبراطور: أننا نود أن نستغل غاباتنا بشكل معقول، وألا يكون هناك جث وإتلاف للحراج، وأن لا يعمد أحد إلى قتل الصقور والباز. ويجب أن تربى الإوزات السمينة والدجاجات وتكون تحت تصرفنا، ويجب أن يباع في الأسواق بيض غير مستهلك بعد. وفي كل واحدة من مزارعنا ينبغي أن يكون ثمة احتياطي من الأغطية والمرتبات والأدوات، لكيلا يضطر أحد إلى الاقتراض من الآخر. ويطلب الإمبراطور أيضا مده بالحسابات الصحيحة حول عائدات أملاكه، وحول كمية ما ينتج من كل مادة، وسمى تلك المواد على النحو التالي: خضار، زبدة، جبنة، عسل، زيت، خل، لفت (وغيرها من الأشياء الصغيرة). عدا هذا ينص الإمبراطور على أن يكون ثمة في كل مزرعة عدد كاف من مختلف الحرفيين المتخصصين في كافة الأمور الفنية، ويعدد بعد هذا، بالتفصيل، مختلف أنواع الحرف. ثم يحدد يوم «الميلاد» بأنه آخر موعد ينبغي أن تقدم له قبله، بشكل سنوي، حسابات ثروته (بشكل يبدو معه أن كل فلاح ولو كان فقيرا، عليه أن يكون عارفا ومدركا للعدد الصحيح لما عنده من ماشية وبيض، وكذلك حال الإمبراطور). وتؤكد المادة الثانية والستين من الوثيقة على أنه «ينبغي علينا أن نعرف ما، وكم لدينا من كل مادة» ويعدد الإمبراطور من جديد: بيض، طواحين، أخشاب، مراكب، غرسات عنب، خضار، صوف، كتان، قنب، فواكه، نحل، أسماك، جلود، شمع وعسل، وخمور عتيقة وجديدة... وكافة أصناف المواد الأخرى. ثم يضيف، على سبيل مسايرة أتباعه ورعاياه الأعزاء الذين يتوجب عليهم تزويده بكل هذه المواد: «أننا نأمل ألا يبدو لكم كل هذا قاسيا، إذ أن بامكان كل واحد منكم أن يصر على الحصول عليه بوصفه سيدا داخل أملاكه.» وكذلك نجد في الوثيقة وصفا دقيقا لكيفية جمع ونقل الخمور التي تشكل، كما يبدو، مركزا لاهتمام حكومي خاص، إذ يقول الإمبراطور «يجب أن تنقل الخمور في براميل محاطة بحزامات حديدية. لا في قرب أو مطرات. وبالنسبة إلى الطحين، ينبغي نقله في عربات مزدوجة ومغطاة بالجلد، بشكل يمكنها معه أن تعبر الأنهار دون أن تفسد الطحين. وأود كذلك لو يقدم لي حساب كامل عن عدد قرون التيوس والماعز التي أملكها، وكذلك عن عدد ما يتم الحصول عليه من جلد الذئاب التي يتم قتلها سنويا. ويجب ألا ننسى ضرورة شن حرب لا رحمة فيها، خلال شهر أيار كل عام، ضد الذئاب الصغيرة». وأخيرا في الفقرة الأخيرة. يعدد شارلمان كافة الأزهار وكافة الأشجار والأعشاب التي ينبغي أن تزرع في أملاكه، كالورود والليلك، والبصل والخيار...الخ... وتنتهي الوثيقة الشهيرة بتعداد مختلف أنواع التفاح.
تلكم هي صورة الاقتصاد الإمبراطوري في القرن التاسع، التي، بالرغم من أنها تتعلق باقتصاد دولة من أغنى وأقوى إمبراطوريات القرون الوسطى، علينا أن نقر بأنها إنما تذكرنا، باقتصادها ومبادئه، بتلك الاستغلالية الزراعية التي تحدثنا عنها أعلاه. هنا أيضا، إذا شئنا أن نطرح على الإمبراطور أسئلة تتعلق بالاقتصاد السياسي، وبجوهر الثروة، وبهدف الإنتاج، وبتقسيم العمل... الخ. وسوف يحيلنا بإشارة من يده إلى جبال الحبوب والصوف والقنب، وأطنان الخمر والزيت والخل، والإسطبلات المليئة بالأبقار والعجول والخراف. بحيث أننا لكي نعرف المزيد المتعلق بأية «قوانين» سرية لعلم الاقتصاد السياسي، علينا أن ندرس ونحلل ضمن الاقتصاد حيث كل الروابط، كل الأسباب والنتائج، وحيث العمل ونتائجه أمور كلها واضحة أمام أعيننا وضوح الشمس.
هنا قد يقول القارئ بأننا أسأنا، من جدي، اختيار المثال الذي نطرح. على أي حال، يمكننا أن نستخلص من وثيقة شارلمان أن المسألة لا تتعلق هنا بالاقتصاد السياسي للإمبراطورية الألمانية، بل بالاقتصاد الإمبراطوري الخاص. بيد أننا حين نقيم تعارضنا بين هذين المفهومين، نرتكب خطأ تاريخيا بالنسبة إلى القرون الوسطى. صحيح أن شرائع الإمبراطور المذكورة تتعلق باقتصاد مزارع وأملاك الإمبراطور نفسه، غير أن الإمبراطور كان يمتلك هذه المزارع والأملاك بوصفه إمبراطورا، وليس بوصفه فردا من البشر، لقد كان الإمبراطور مالكا عقاريا لأراضيه، غير أن كل مالك كبير نبيل للأرض في القرون الوسطى، وخاصة أيام شرلمان، إنما كان إمبراطورا صغيرا، أي كان من حقه، بفضل ملكيته الحرة والنبيلة (من نبالة وليس من نبل) للأرض، أن يضع الشرائع، ويفرض الأتاوات ويقيم العدالة والقضاء بين كل القاطنين في أملاكه. إن النصوص الاقتصادية التي يذكرها شارلمان، كانت عمليا، مراسيم حكومية، كما تؤكد على هذا قوتها الذاتية: فهي تشكل واحدة من أصل 65 «مادة» وضعها الإمبراطور نفسه، وكان ينشرها بمناسبة الاجتماعات السنوية التي كان يحضرها كبار أعيان الإمبراطورية. والواقع أن النصوص المتعلقة بالفجل وبالبراميل المحاطة بالأحزمة الحديدية، إنما كانت تقوم بناء على نفس السلطة، ومكتوبة بنفس الأسلوب الذي كانت به تكتب «الشريعة الكنسية» Capitual Espiscoprum، حيث كان يحق لشرلمان أن يشد أذن عبيده طالبا منهم ألا يقسموا وألا يثملوا وألا يرتادوا أمكنة السوء، وألا يعاشروا النسوة، وألا يبيعوا القرابين المقدسة بأسعار غالية. إن بامكاننا أن نبحث أنى شئنا في زحمة القرون الوسطى، ولكن عبثا، لأننا لن نلمح أثرا لمؤسسة اقتصادية لا تكون مؤسسة شارلمان هي قدوتها ونموذجها، سواء أفي أملاك النبلاء، أم في الاستغلاليات الفلاحية الصغيرة، كتلك التي وصفناها أعلاه، والتي تعيش فيها أسر فلاحية معزولة، تعمل لنفسها بنفسها، أو جماعات تعاونية.
المدهش في النموذجين الواردين أعلاه، هو أن حاجات الوجود البشري هي التي تقود وتملي، بشكل مباشر، نمط العمل، بحيث أن النتيجة تتلاءم تماما مع النوايا والاحتياجات، وتجري الأمور ضمن شروط ذات بساطة ووضوح مذهلين. فالفلاح الصغير في مزرعته، تماما مثل العاهل الكبير في أملاكه، يعملان تماما ما يودان الحصول عليه عن طريق الإنتاج. غير أنه ليس في الأمر من سحر: فالاثنان إنما يريدان سد حاجات الإنسان الطبيعية من الغذاء والشراب والثياب، وبعض شؤون الحياة الأخرى. أما الفارق الوحيد فهو أن الفلاح ينام، دون أي ريب، على القش، بينما الملاك العقاري الكبير فوق فراش من ريش النعام، والفلاح يشرب إلى المائدة بيرة أو شيئا يشبهها، بينما يشرب الملاك الكبير، خمورا ثمينة. إن الفارق الوحيد يكمن في كمية ونوعية المواد المنتجة. بيد أن أساس الاقتصاد وغرضه الذي هو سد الحاجات البشرية، يظلان أنفسهما. مقابل العمل، الذي ينطلق من هذا الهدف الطبيعي، هناك نتيجته الواضحة. وهنا، مجددا، في عملية العمل نفسها، ثمة فوارق عديدة: فالفلاح يشتغل بنفسه. برفقة أفراد أسرته، ولا يحصل من ثمار العمل إلا على ما توفره له قطعة الأرض التي يملكها. أو حصته من الأرض المشاعية، أو بالاحرى –وبما أننا نتحدث عن فلاح القرون الوسطى المعرض لعمل السخرة والاستغلال- ما يتركه له السيد والكنيسة بعد حسم الضرائب والأتاوات والعمل المجاني. ولكن سواء أعمل كل فلاح لنفسه برفقة عائلته، أم عمل الجميع معا لحساب السيد الإقطاعي بقيادة العمدة أو المشرف الملكي، ليست نتيجة هذا العمل سوى كمية معينة من وسائل العيش بالمعنى الواسع للكلمة، أي بالضبط ما يحتاجه الفلاح للعيش، أو تقريبا، بمقدار ما يحتاج لهذا العيش.
بامكاننا، طبعا، أن ندير مثل هذا الاقتصاد في كل الاتجاهات، وأن ننظر إليه من كل جانب، وسنجد أن لا سر فيه، ولفهمه، نحن لا نحتاج لأي علم خاص، ولا لأبحاث عميقة. فالفلاح الأكثر بلادة، كان يعرف في العصر الوسيط، بم يتعلق ثراؤه، أو فقره إن كان فقيرا، وذلك خارج الكوارث الطبيعية التي كانت بين وقت وآخر، تضرب أرضه تماما كما تضرب أراضي السادة. وكان يعرف تمام المعرفة أن لبؤسه سببا بسيطا ومباشرا: فأولا، هناك ما يمتصه منه، وبدون حدود، السادة الإقطاعيون على شكل أتاوات وضرائب، وهناك ثانيا، سرقة نفس هؤلاء السادة للأراضي المشاعية والغابات والمراعي والمياه. وهذا الشيء الذي كان الفلاح يعرفه، سبق له أن قاله بصوت عال، عبر العالم بأسره، وذلك من خلال الحروب الفلاحية، كما عن طريق إشعاله للهب القاتل فوق سقوف بيوت الذين كانوا يمتصون دماءه. إن ما تكشف عنه الدراسة العلمية في هذا المجال، إن هو إلا الأصل التاريخي لهذا الوضع وسيرورة تطوره، أي أن هذه الدراسة العلمية ما هي سوى عملية البحث عن الأسباب التي أدت إلى تحول الملكيات الريفية الفلاحية الحرة القديمة، في أوربا كلها، إلى ملكيات تخص السادة النبلاء، الذين يحصلون بفضل ملكيتهم لها على الأرباح والضرائب، كما أدت إلى تحول الفلاحين القدماء، إلى جمهرة من الأتباع دافعي الضرائب، ثم بعد ذلك إلى أقنان.
غير أن الأمور تبدو مختلفة تمام الاختلاف إن نحن أمعنا النظر في أية ظاهرة من ظواهر الحياة المعاصرة. ولنأخذ، على سبيل المثال، واحدة من الظواهر الأكثر إثارة للاهتمام والدهشة، أعني الأزمة التجارية. لقد سبق لنا جميعا أن عايشنا أزمات تجارية وصناعية كبيرة، بحيث بتنا نعرف، عن طريق التجربة، وتيرة تلاحقها، التي وصفها فرديرك انجلز، وصفا كلاسيكيا. إذ قال:
«تتوقف التجارة، وتزدحم الأسواق، وتتراكم البضائع بكميات هائلة لا طريق لبيعها، ويختفي النقد السائل، كما يختفي التسليف، ثم تتوقف المصانع، وتفقد جماهير العمال وسائل عيشها. لمجرد أنها كانت قد أنتجت الكثير من هذه الوسائل، بعد هذا تتالى التفليسات اثر التفلسيات، كما تتالى عمليات البيع القسري. ويستمر هذا الانسداد القاسي سنوات طويلة، حيث تتدمر القوى المنتجة والمنتجات بشكل إجمالي، حتى الوقت الذي تمتص فيه السوق فائض البضائع المتراكمة، أي حتى الوقت الذي يستعيد فيه الإنتاج والتبادل مسيرتهما، قليلا فقليلا. وبالتدريج، تتسارع الوتيرة، تصبح خببا، والخبب الصناعي يتحول إلى قفز، وهذا القفز يتزايد بدوره ليتحول إلى طراد بين الصناعة والتجارة والتسليف والمضاربة، لينتهي بعد قفزات خطيرة للغاية... ومن جديد في حفرة يكبو فيها». [3]
نحن نعلم جميعا أن مثل هذه الأزمة هي الرعب الذي يستشعره كل بلد حديث، والواقع أن للطريقة التي بها تعلن الأزمة عن قدومها، معنى ودلالة. إن بعد عدة أعوام من الازدهار والصفقات الجيدة، تبدأ الهمسات هنا وهناك: في الصحف والبورصة، حيث تسري بعض إشاعات الإفلاس المقلقة، إثر هذا يصبح لإشارات الصحف معنى واضح ومحدد، وتضحي البورصة أكثر قلقا، فيما يزيد مصرف الدولة نسبة الحسم، أي أنه يجعل من التسليف أمرا أكثر صعوبة ويحدده حتى الوقت الذي تبدأ فيه أخبار الإفلاس تهطل كالمطر الغزير. ثم ما أن تندلع الأزمة حتى يبدأ النقاش والنزاع لمعرفة المسؤول عنها. فرجال الأعمال يقولون أن المصارف هي المسؤولة بسبب رفضها القاطع لتقديم القروض، ويشاركها في المسؤولية رجال البورصة بسبب تكالبهم على المضاربة، أما رجال البورصة فيحملون المسؤولية للصناعيين، وهؤلاء بدورهم يرجعون السبب إلى شح النقد المتداول في البلد.. وهكذا دواليك.
أخيرا، تستعيد الأعمال أنفاسها، وتهرع البورصة والصحف لتسجل، بارتياح، أولى إشارات التحسن الطارئ، ويستعيد الأمل رونقه، كما يهيمن الهدوء والأمان، من جديد لفترة قادمة من الزمن. إن الملفت للنظر حقا في هذا كله هو أن كافة المعنيين، والمجتمع بأسره، ينظرون إلى الأزمة ويعالجونها بوصفها شيئا يخرج عن إرادة البشر، والحسابات البشرية، أي بوصفها ضربة قدر توجهها إلينا قوة غير مرئية، كامتحان تجريه لنا السماء، تماما مثل العواصف وهزات الأرض والأعاصير. والواقع أن نفس التعابير التي تستخدمها الصحف الاقتصادية للتحدث عن أزمة ما، تكون عادة مستعارة من هذا المجال، إذ تقول: «إن السماء التي كانت حتى الآن رحومة مع عالم الأعمال، بدأت تلبد أفقه بأسود الغيوم» أو تقول، حين يتعلق الأمر بالإعلان عن ارتفاع مفاجئ في نسبة الحسم: «أنها إشارات تنذر بهبوب العاصفة»، وبعد هذا يمكننا، حين تنجلي الأمور أن نقرأ في هذه الصحف أن «العاصفة ولت» وأن «الأفق قد أضحى وضاء». والحقيقة أن أسلوب التعبير هذا، إنما يعكس شيئا آخر عدا الافتقار إلى المخيلة لدى كتاب عالم الأعمال، بل هو نموذجي في التعبير عن الأثر الغريب، أو الطبيعي، الذي تسفر عنه الأزمة. فالمجتمع الحديث ينظر برعب إلى دنو الأزمة، وهو يحني الجباه مرتجفا تحت لسع ضرباتها، ثم ينتظر انتهاء التجربة، ليرفع بعدها رأسه، أولا بتردد وشك، ومن ثم بيقين ليعود إليه هدوؤه.
لقد كان موقف الشعب، هو نفسه ودون أي ريب، في العصر الوسيط تجاه المجاعة أو الطاعون، ونفس هذا الموقف كذلك هو الذي يقفه الفلاح، اليوم، تجاه العاصفة أو هطول الثلوج في غير أوانها: إنه يشعر بنفس الارتباك، وبنفس العجز في مواجهة التجربة القاسية. ولكن، وبالرغم من أن المجاعة والطاعون يعتبران، في التحليل الأخير، ظاهرتين اجتماعيتين، هما أولا، وبشكل مباشر، نتيجتان لظواهر طبيعية معينة: محصول سيء، انتشار الميكروبات المعدية... الخ. إن العاصفة حدث بديهي تنتجه الطبيعة، بحيث لا يمكن لأحد أن يثير عاصفة أو يمنعها، وعلى الأقل ضمن الوضع الراهن لعلوم الطبيعة والتقنيات. ولكن، في المقابل، ما هي الأزمة الحديثة؟ تتقوم الأزمة الحديثة كما نعرف، في أن بضائع كثيرة تنتج دون أن تجد لها أسواقا، مما يؤدي إلى انسداد التجارة ومن ثم الصناعة. غير أن إنتاج البضائع وبيعها، التجارة والصناعة.. كلها علاقات بشرية صرفة. فالبشر أنفسهم هم الذين ينتجون، وهم أنفسهم الذين يشترون، أي أن التجارة تمارس بين إنسان وآخر، بحيث أننا لا نجد، ضمن الظروف التي تؤدي إلى الأزمة الحديثة، أي عنصر يكون خارج نطاق النشاط البشري. إذن، فإن العامل الذي يؤدي إلى حدوث الأزمات بشكل دوري. ما هو سوى المجتمع البشري.
ومع هذا، نحن نعلم في الوقت نفسه بأن الأزمة تعتبر آفة حقيقية بالنسبة إلى المجتمع الحديث، ينتظرها ذوو العلاقة برعب، ويتحملونها بيأس، بحيث أن ما من شخص يردها أو يتمنى حصولها. فالأزمة تشكل خطرا وإرباكا للعالم بأسره بحيث لا يستفيد منها أحد، اللهم إلا بعض مضاربي البورصة الذين يحاولون الاستفادة من الأزمات لكي يثروا سريعا على حساب الآخرين، لكنهم غالبا ما يقعون في الفخ الذي ينصبونه.
إذن، لا أحد يريد الأزمة... لكنها تحدث مع هذا.
الناس هم الذين يخلقونها بأنفسهم، لكنهم مع هذا لا يريدونها على الإطلاق.
ها نحن إذن أمام لغز حقيقي من ألغاز الحياة الاقتصادية، لا يمكن لأي واحد من المعنيين بالأمر أن يفسره لنا. ففلاح العصر الوسيط، في قطعة أرضه الصغيرة، كان ينتج، من جهة، ما كان يبتغيه وما كان يحتاج إليه سيده الإقطاعي، من جهة أخرى ما كان يبتغيه وما كان يحتاج إليه هو نفسه: من الحبوب ومن لماشية، ومن المؤن له ولعائلته. والملاك الكبير في العصر الوسيط كان يرغم الفلاحين على أن ينتجوا له ما يريده وما يحتاج إليه من الحبوب ومن الماشية، ومن أفضل الخمور والألبسة، ومن المؤن والكماليات له ولقصره. أما المجتمع الحديث فهو ينتج ما لا يحتاجه وما لا يريده: إنه ينتج الأزمات، وهو ينتج، بين وقت وآخر، وسائل عيش لا يستخدمها، في نفس الوقت الذي يقاسي فيه من مجاعات دورية، وفي نفس الوقت الذي تكون ثمة فيه مخازين هائلة من المنتجات غير المباعة. إن الحاجة وسد الحاجة، هدف العمل ونتيجته، لم يعودا واردان هنا على هذا النحو، إذ بات ثمة بينهما شيء ما غامض، سري.
فلنأخذ مثالا آخر معروفا عالميا، بل ومعروفا كثيرا من قبل عمال كافة البلدان: البطالة.
لم تعد البطالة، كالأزمة، إعصارا يهبط من وقت لآخر فوق هامة المجتمع: لقد أضحت اليوم، كثيرا أو قليلا، ظاهرة دائمة من ظواهر الحياة الاقتصادية. ففئات العمال الأفضل تنظيما والأحسن أجرا، والتي تحتفظ على الدوام بلوائح تضم أسماء وأعدادا العاطلين عن العمل، تلاحظ حلقة لا تنتهي من الأرقام السنوية والشهرية بل الأسبوعية، صحيح أن هذه الأرقام كثيرة التنوع، غير أنها لا تختفي أبدا اختفاء تاما. فالواقع أن عجز المجتمع الحديث أمام البطالة، هذه الآفة الهائلة التي تصيب الطبقة العاملة، يظهر كل مرة كيف أن حجم هذا الشر يصل إلى أبعاد تضطر معها الأجهزة والهيئات التشريعية إلى الاهتمام الجدي بالمسألة. غير أن هذا ينتهي –على الدوام- بعد مناقشات طويلة، إلى اتخاذ قرار يقضي بالقيام ببحث حول عدد العاطلين عن العمل. أي أنه يكتفي، جوهريا، بقياس المستوى الذي بلغه هذا الشر –تماما كما يقاس مستوى منسوب المياه أثناء حدوث العصارات!-، وفي أفضل الحالات يصار على التخفيف من آثار هذا الشر، بعض الشيء، عن طريق بعض المساعدات الخاصة التي تقدمها الدولة للعمال العاطلين –وغالبا ما تكون على حساب العمال غير العاطلين عن العمل-، دون أن تجري أية محاولة لإزالة الشر نفسه.
في بداية القرن التاسع عشر، كان الراهب الانغليكاني «مالتوس»، نبي البرجوازية الإنكليزية الكبير، قد أعلن بقسوة أن «أي شخص يولد في مجتمع يعرف فائضا في السكان، لا يحق له الحصول على أي مقدار من الغذاء، إذا لم تكن أسرته قادرة على تزويده بوسائل العيش التي يطلبها منها، وفي حال كون المجتمع بغير ما حاجة إلى عمله، بحيث لا يكون له –في النهاية- أي شأن مع هذا العالم. فعلى مائدة الطبيعة، لا مكان له خاليا ليجلس فيه. بحيث أن الطبيعة نفسها تشير عليه بضرورة... الانسحاب، وبل وتعمل على تنفيذ حكم الضرورة هذا». إن المجتمع الرسمي الراهن، بنفاقه الساعي وراء «الإصلاحات الاجتماعية»، يرفض الآن مثل هذه الصراحة، غير أنه، في الواقع، يرغم البروليتاري العاطل عن العمل، أخيرا على «الانسحاب» من هذا العالم، إذا لم يكن –أي المجتمع- بحاجة «إلى عمله»، وهذا الانسحاب يكون بطريقة أو بأخرى، بشكل سريع أو بطيء، وهذا ما تشهد عليه، إبان الأزمات الكبيرة، الأرقام المتحدثة عن زيادة عدد المرضى، وارتفاع معدل الوفيات بين الأطفال، والجرائم التي تقترف ضد الملكيات الخاصة.
ترينا المقارنة التي لجأنا إليها أعلاه، بين البطالة والإعصار، أننا أقل عجزا في مواجهة أحداث الطبيعة العضوية، منا في مواجهة قضايانا الاجتماعية... البشرية! فالواقع أن الاعصارات الدورية التي تصيب، في فصل الربيع، شرق ألمانيا، ليست –في التحليل الأخير- سوى نتيجة حتمية لقصورنا وعجزنا في مجال «الهيدروغرافيا» -علم المياه-. والتقنية الحديثة، باتت تعطينا من الوسائل ما يكفي لحماية زراعتنا من جبروت المياه المتدفقة، بل ما يمكننا من الاستفادة من هذا الجبروت، كل ما في الأمر أن هذه الوسائل لا يمكن تطبيقها إلا على مستوى عريض، عن طريق تنظيم عقلاني ومتماسك ينبغي عليه أن يبدل حال المنطقة المصابة بأسرها، وأن يعدل –بالنتيجة- من توزيع الأراضي المشجرة والمراعي، وأن يبني السدود والهويسات والأقنية، وأن يعمد أخيرا إلى تعديل مجرى الأنهار. غير أنه من الواضح أن مثل هذا الإصلاح الهائل لن يتم، جزئيا لان الرأسماليين والدولة غير راغبين في توفير ما يلزم لمثل هذا المشروع، وجزئيا لأنه يصطدم بأكثر حقوق ملكية الأرض الخاصة تنوعا وتضاربا. غير أن لدى المجتمع الحديث من الوسائل ما يمكنه من مواجهة أخطار المياه وتدجينها، حتى ولو كان في وضع لا يؤهله لتطبيق هذه الوسائل. في المقابل، نجد أن هذا المجتمع الحديث نفسه، لم يبتكر بعد من الوسائل ما يمكنه من النضال ضد البطالة. ومع هذا ليست البطالة عنصرا، وليست ظاهرة طبيعية وليست قوة فوق-بشرية، بل هي مجرد إنتاج بشري خاضع لتقلبات الشروط الاقتصادية. وها نحن الآن، مجددا، في مواجهة لغز اقتصادي، في مواجهة ظاهرة لا يعيرها أحد اهتماما جديا، ولا يسعى أحد لاستثارتها، بوعي، ومع هذا نراها تتكرر بانتظام تكرار الظواهر الطبيعية، أي بالرغم عن كافة البشر؟
بيد أننا لسنا بحاجة إلى البحث عن ظواهر مدهشة في الحياة الحديثة، كالأزمات والبطالة، أي عن آفات أو حالات طبيعية استثنائية تشكل، كما هو الرأي السائد، استثناءات في المجرى الاعتيادي للأمور. لذا، ينبغي لنا أن نأخذ مثلا عاديا يتعلق بالحياة اليومية التي تتجدد ألوف المرات في كافة البلدان هذا المثل يتعلق بتقلبات أسعار السلع. إن أي طفل يعلم بأن أسعار كافة السلع ليست محددة وجامدة، بل هي تصعد وتهبط بين يوم ويوم، بل بين ساعة وساعة. فلنأخذ أي جريدة، ونفتحها على الصفحة التي ترد فيها أسعار المنتجات وتحركات هذه الأسعار خلال اليوم السابق، تقول الجريدة: تقلب سعر القمح عند الصباح، الحماس لشرائه ضعيف، نحو الظهر تحسن وضعه بعض الشيء، ثم عند الإقفال ارتفعت الأسعار... أو انخفضت. والشيء نفسه يقال بالنسبة إلى النحاس والحديد والسكر والزيت. كما يقال عن أسهم مختلف الشركات الصناعية، وعن سندات الدولة الخاصة، في بورصة السندات. إن تقلبات الأسعار ظاهرة متواصلة الحدوث، يومية، عادية، من ظواهر الحياة الاقتصادية المعاصرة. غير أن هذه التقلبات تؤدي يوميا، وفي كل ساعة، إلى تعديلات في وضع ثروات مالكي كل هذه المنتجات وتلك الأسهم. فليرتفع سعر القطن: على الفور ستزداد ثروة كافة تجار القطن وصانعيه الذين يحتفظون بمخزونات منه في مستودعاتهم. ولتخفض أسعاره: على الفور تخفض ثروات هؤلاء بنسبة مقابلة. أسعار النحاس ترتفع، بسرعة يزداد ثراء مالكي أسهم مناجم النحاس، تهبط أسعاره، فتهبط ثرواتهم...الخ.
وهكذا، كنتيجة لتقلبات بسيطة في الأسعار، وعلى أساس برقيات تصل إلى البورصة، يمكن لبعض الناس، أن يتحولوا إلى أثرياء كبار، خلال ساعات، أو أن يصبحوا متسولين، خلال ساعات كذلك، وفي هذه النقطة بالذات تكمن آلية المضاربة في البورصة، كما تكمن كافة الاحتيالات التي تصحبها. لقد كان بوسع مالك الأرض في العصر الوسيط أن يغتني أو يفقر، تبعا لموسم حصاد جيد أو سيء، وكذلك كان يثري، إذا كان فارسا جيدا، إن هو قطع الطريق على التجار المارين، وسلبهم ما يحملون، أو أيضا كان يثري إذا ما تمكن من أن ينهب رعاياه أكثر من المعتاد، عبر زيادة الأتاوات والضرائب... وكانت هذه الطريقة هي التي تلاقي أفضل الترحيب. اليوم، صار بوسع شخص ما أن يغتني أو يفقر دون أن يحرك اصبعا، ودون حدوث أي حادث طبيعي، ودون أن يهبه أي إنسان آخر شيئا، أو يسرق منه أي شيء. أن تقلبات الأسعار، أشبه بحركة غامضة تهيمن عليه، من وراء ظهور البشر، قوة خفية، تؤدي إلى حدوث تبدل مستمر وسريع في تقسيم الثروة الاجتماعية. وبامكاننا أن نلاحظ وتيرة هذه الحركة، تماما مثلما نلاحظ تقلبات الحرارة في ميزان الحرارة، أو حجم ضغط الهواء عن طريق البارومتر. ومع هذا نجد أن أسعار السلع وحركتها، قضية بشرية صرف، ولا تنتمي إلى السحر بأي حال من الأحوال. فما من كائن آخر غير البشر ينتج السلع بيده ويحدد لها سعرها، كل ما في الأمر أن هذه الحركة البشرية نفسهاـ تؤدي إلى ما ليس بحسبان احد، ولا يهدف إليه أحد. وكل ما يحدث أن الحاجات، هدف نشاط البشر الاقتصادي ونتيجته، لا يكونان متوافقين أحدهما مع الآخر.
مم يتأتى هذا؟ :
وما هي تلك القوانين الغامضة التي تتشابك من وراء ظهر البشر، بحيث تؤدي إلى نتائج غريبة تتمخض عنها حياة هؤلاء حياة البشر الاقتصادية؟
ليس بالوسع توضيح هذا كله، إلا عن طريق البحث العلمي. فنحن بحاجة، لكي نفك كل هذه الألغاز، ولكي نسبر غور العلاقات المخبوءة التي تجعل نتائج النشاط الاقتصادي للبشر لا تتطابق مع نواياهم ومع إرادتهم، أي مع وعيهم، بحاجة إلى بحث صارم وإلى أعمال الفكر، وخوض تحليلات ومقارنات معمقة. وتكمن مهمة البحث العلمي، في الكشف عن نقصان الوعي الذي يعاني اقتصاد المجتمع منه، ولسوف نحاول فيما يلي، أن نتلمس، بشكل مباشر، جذور الاقتصاد السياسي.
في رحلة حول العالم، حكى داروين عن عادات سكان «أرض النار» ما يلي:
«إنهم غالبا ما يقاسون المجاعات، ولقد سمعت قبطان السفينة التي تصطاد الفقم، المستر لوي، الذي يعرف الكثير عن سكان تلك المناطق، يعطي الوصف الرائع التالي عن أوضاع 150 واحدا من السكان المحليين، يعيشون عند الشاطئ الغربي، وهم كلهم ذوو أجسام هزيلة، وذوو عيون تنطق بالبؤس. لقد حالت سلسلة من العواصف بين نسائهم، والخروج لجمع الصدف عند الصخور، وكذلك لم يتمكنوا، رجالا ونساء من اعتلاء قواربهم للامساك بالفقم. ذات صباح اتجهت مجموعة منهم إلى حيث يبحثون عن الغذاء، خلال رحلة تستغرق أربعة أيام. لدى عودتهم. شاهدهم القبطان لوي، وكانوا منهمكين ومثخنين بالجراح، يحمل كل منهم قطعة كبيرة من لحم الحوت المقدد، أدخل في وسطها رأسه وحملها مثلما يحمل المكسيكي وشاحه حول رقبته. وما أن كومت القطع فوق بعضها حتى جاء كبير الفريق وقطعها إلى شرائح صغيرة ثم صلى عليها، وشواها خلال دقيقة، ثم وزعها على الجميع، الذين كانوا طوال هذا الوقت قد حافظوا على صمت غريب». [4]
تلكم هي حياة واحد من الشعوب الأكثر بؤسا في العالم، حيث نجد أن الحدود التي يمكن أن تمارس بينها لعبة الموازاة بين الإرادة، وبين التقسيم الواعي للاقتصاد، ضيقة للغاية. فهنا ما يزال البشر خاضعين تماما لهيمنة الطبيعة الخارجية، التي ترتبط بؤسهم أو حبورهم بها. ولكن، داخل هذه الحدود الضيقة، نجد أن التنظيم الإجمالي قائم لدى هذا المجتمع الصغير الذي لا يزيد تعداد أفراده عن 150 شخصا. فالتحسب للمستقبل وارد أولا، على شكل تقديد للحوم. وهذا القديد الممون سلفا يوزع بين الجميع حسب طقوس احتفالية معينة، حيث ينال كل واحد جزءا من عمل البحث عن الغذاء، تبعا لتخطيط معين.
والآن لنتجه شطر «الاويكوس» اليوناني، وهو نمط من الاقتصاد المنزلي العتيق، الذي يعتمد على عمل العبيد، ويشكل «عالما صغيرا» قائما بذاته. هنا في هذا المجتمع يهيمن أكبر تفاوت اجتماعي. فالشح البدائي أخلى مكانه لوفرة مربحة، ما هي سوى نتيجة للعمل البشري. غير أن العمل اليدوي، في هذا المجتمع، أضحى لعنة بالنسبة إلى البعض، بينما أضحى اللهو، امتيازا مقتصرا على البعض الآخر، والعمل نفسه تحول ليصبح ملكا للشخص الذي لا يعمل. ومع هذا، فإن علاقات السيطرة هذه، أدت بدورها إلى أكثر أنواع تخطيط وتنظيم الاقتصاد دقة وصرامة، شملت عملية العمل نفسها ومسألة توزيع المواد المنتجة. رغبة السيد هنا، هي القانون، وسوط مراقب العبيد، هو وسيلة العقاب.
في بلاط السيد الإقطاعي، في العصر الوسيط، اتخذ التنظيم الاستبدادي للاقتصاد، باكرا، سمة شريعة مفصلة وموضوعة سلفا، تحدد بوضوح وحزم، خطة العمل، وتقسيم العمل، ووظيفة وحقوق كل فرد في ذلك المجتمع. وعند عتبة تلك المرحلة التاريخية، هناك تلك الوثيقة الرائعة التي ذكرناها أعلاه (وثيقة شارلمان) والتي يهيمن عليها وضع وفرة الحاجات المادية، باعتبارها الهدف الوحيد للاقتصاد. وعند نهاية تلك المرحلة نفسها، هناك قانون الضرائب والأتاوات المظلم، الذي أملاه جشع السادة الإقطاعيين، هذا الجشع الذي أدى في القرن الخامس عشر إلى حرب الفلاحين الألمانية، والذي حول الفلاح الفرنسي، بعد ذلك بعدة قرون، إلى كائن بائس يعيش عيشة تقرب من عيشة الحيوان، لم تسحقها سوى «الثورة الكبرى» التي دعت هذا الفلاح إلى النضال في سبيل حقوقه كإنسان وكمواطن. ولكن بما أن الثورة لم تلغ البلاط الإقطاعي، كانت علاقة السيطرة المباشرة هي التي حددت بوضوح وبحزم، مجمل الاقتصاد الإقطاعي، كقدر لا يتبدل.
اليوم لا نعرف لا سادة ولا عبيدا، لا نعرف لا أسياد إقطاعيين ولا خدم. إذ أن الحرية والمساواة أمام القانون، ألغيا –شكليا- كافة العلاقات الاستبدادية، وعلى الأقل في الدول البرجوازية العتيقة، ومن المعروف أن هذه الدول هي غالبا أول من أدخل، إلى المستعمرات، نظام العبودية والرق. ولكن هنا، عندنا، حيث تعيش البرجوازية في موطنها، نجد أن القانون الوحيد المهيمن على العلاقات الاقتصادية، هو قانون التنافس الحر. ومن هنا، اختفى من حلقة الاقتصاد، كل تخطيط وتنظيم. يقينا، أننا إذا نظرنا إلى شركة خاصة منعزلة، إلى مصنع حديث أو إلى مجموعة من المصانع (مثل مجموعة كروب)، أو إلى منشأة زراعية كمنشآت أمريكا الشمالية، سنعثر على تنظيم صارم للغاية، وعلى تقسيم واضح للعمل، وعلى تخطيط مدروس قائم على الأسس والمعارف العلمية. إن كل شيء يسير هنا على ما يرام، تحت إدارة رغبة معينة، وتبعا لوعي معين. ولكن ما أن نجتاز أبواب المصنع أو المزرعة، حتى نجد أنفسنا غارقين في زحام الفوضى. فبينما نجد أن القطع العديدة المتفرقة –وكل شركة حديثة خاصة. حتى الأكثر ضخامة، ما هي سوى جزء من كل اقتصادي كبير يمتد في طول الأرض وعرضها –منظمة بشكل صارم، من المدهش أن ما يسمى بـ«الاقتصاد السياسي». أي الاقتصاد الرأسمالي العالمي، غير خاضع لأي تنظيم. ففي الكل الذي يغطي القارات والمحيطات، ليس ثمة أثر لتخطيط أو لوعي أو لتنظيم، فهنا تلعب قوى عمياء، مجهولة، متغطرسة، بمقدرات البشر الاقتصادية. إن في العالم اليوم سيدا واحدا يحكم البشرية العاملة، إنه الرأسمال. غير أن حكمه ليس أسلوب استبداد. بل أسلوب فوضى.
كان هذا هو الذي جعل الاقتصاد الاجتماعي يؤدي إلى نتائج غير متوقعة ومليئة بالألغاز في نظر المعنيين بالأمر أنفسهم، وهو الذي جعل الاقتصاد الاجتماعي يتحول، في نظرنا، إلى ظاهرة غريبة، بعيدة، مستقلة عنا، ينبغي علينا البحث عن قوانينها تماما مثلما ندرس ظواهر الطبيعة الخارجية، وتماما مثلما نبحث عن القوانين التي تحرك الحياة في المملكة النباتية وفي المملكة الحيوانية، وتؤدي إلى التغيرات التي تحصل في قشرة الأرض أو في حركة الأجسام الفضائية. إن على المعرفة العلمية أن تكشف الآن عن معنى وقواعد الاقتصاد الاجتماعي الذي لم تمل فيه سلفا أية مخططات واعية.
يمكننا أن نفهم الآن لم كان من غير الممكن، بالنسبة إلى الاقتصاديين البرجوازيين، أن يستخلصوا بشكل واضح ماهية علمهم، وأن يضعوا الاصبع على جوهر النظام الاجتماعي، نظامهم الاجتماعي، محددين انتهاءه وشيخوخته. إن إقرارهم بأن الفوضى هي العنصر الحيوي الكامن وراء هيمنة الرأسمال، معناه الإعلان القاطع عن توقف هذه الهيمنة وفنائها، ولو كان فناء مع وقف التنفيذ!
ويمكننا أن نفهم الآن لم يحاول المدافعون العلميون الرسميون عن الرأسمالية، إخفاء الحقيقية عن طريق سلسلة من الحذلقات اللفظية، عن طريق تحويل الأبصار عن لب المشكلة إلى قشرتها الخارجية، أي تحويل الأنظار من الاقتصاد العالمي إلى «الاقتصاد القومي». إن دروب المعرفة البرجوازية ودروب المعرفة البروليتارية، تختلف عن بعضها البعض منذ أول خطوة تخطى بعد عتبة المعرفة في مجال الاقتصاد السياسي، ومنذ أول سؤال جذري يطرح حول ماهية الاقتصاد السياسي، وماهية مشكلته الجذرية. وثمة علاقة خاصة تقوم بين الاقتصاد السياسي كعلم، والبروليتاريا الحديثة كطبقة ثورية، منذ أن يطرح السؤال الأول، بكل ما فيه من تجريد ولا مبالاة، حتى تخاض النضالات والصراعات الاجتماعية في عصرنا الحاضر.
[1].
واردة لدى كارل ماركس، في "رأس المال" الكتاب الثاني ص 163 ـ 164، المطبوعات الاجتماعية بالفرنسية، باريس 1948.
[2].
من كتاب: Prof .N. sieber: "D. Ricardo. K. Marx" موسكو، 1879
[3].
أنجلز، أنتي دوهرنغ، بالفرنسية، المطبوعات الاجتماعية، 1950، ص 315.
[4]. Darwin: Voyage Of Anaturalist Around The World