تعود معرفتنا بالأشكال الاقتصادية الأكثر قدما وبدائية، إلى فترة ما تزال يسيرة من الزمن. فحتى عام 1847 كان ماركس وانجلز يكتبان في «البيان الشيوعي»، أول نص كلاسيكي من نصوص الاشتراكية العلمية، بأن «تاريخ كل مجتمع حتى أيامنا هذه هو تاريخ الصراع الطبقي»، ولكن في نفس الوقت الذي كان فيه خالقا الاشتراكية العلمية يعلنان فيه هذا المبدأ، بدأت الاكتشافات الجديدة تكذبه آتية من كل جانب. إذ أن كل عام كان يحمل، أفكارا، حول الوضع الاقتصادي في أقدم المجتمعات البشرية، كانت ما تزال مجهولة حتى وقت قريب، وهذا ما كان يدفع إلى الاستنتاج بأنه كانت ثمة، في الماضي وبدون أدنى ريب، فترات طويلة من الزمن لم تكن قد عرفت الصراع الطبقي، وذلك لسبب بسيط هو انه لم تكن ثمة بعد أية تمايزات بين الطبقات الاجتماعية، أو بين غني وفقير... كما لم تكن هناك أية ملكية خاصة.
بين عامي 1851 و1853، صدر في ايرلانغن، الكتاب الأول من المؤلفات التي وضعها جورج لودفيغ فون مورر بعنوان «مدخل إلى تاريخ تكوّن السوق والمزرعة والقرية والمدينة والسلطات العامة». ولقد كان ظهور هذه المؤلفات حدثا بحد ذاته، إذ أنها ألقت ضوءا جديدا على الماضي الجرماني وعلى البنية الاجتماعية والاقتصادية للعصر الوسيط. وقبل ذاك ببضع عشرات من السنين كان قد تم العثور في بعض الأماكن، في ألمانيا تارة، وفي البلدان الشمالية تارة أخرى، وأحيانا في أيسلندا، على آثار وبقايا غريبة لمنشآت ريفية، تشير إلى أنه قد وجدت، في قديم الزمان في تلك المناطق، حقبة من الزمان كانت فيها ملكية الأرض مشاعية، كما كانت ثمة شيوعية زراعية. في البداية لم يعرف أحد كيف ينبغي تفسير تلك الآثار. إذ تبعا لرأي منتشر جدا، وخاصة منذ كتابات موسر وكيندلنغر، كان ثمة اعتقاد بأن زراعة الأرض في أوربا، كانت تتم عن طريق مزارع معزولة، كل منها محاطة بأرض كانت تعتبر ملكية خاصة لصاحب المزرعة. وكان هذا الرأي يقول بأن السكان، الذين كانوا حتى ذلك الحين مشتتين، بدأوا يتجمعون عند نهاية العصر الوسيط في قرى، وذلك طلبا للأمن والحماية، وعند ذلك امتجزت أراضي المزارع المعزولة لتشكل أرض القرية. والواقع أن هذا الرأي سرعان ما سيبدو خاطئا إذا ما نظرنا إليه عن قرب، وذلك لأنه، لكي يكون صحيحا، يفترض بأن السكان الذين يكونون أحيانا، بعيدين جدا عن بعضهم البعض، كان يجب أن يقوّضوا تماما لكي يعودوا إلى التشكل في مكان آخر، كما يفترض أن يكونوا، قبل هذا، قد تخلوا طوعا عن امتلاكهم المربح لحقولهم المحيطة بالمزارع، وعن حرية يتمتعون بها في تسيير شؤون أراضيهم، وذلك مقابل العيش في قطع ضيقة من الأرض، في وضع يربطهم بالقرويين الآخرين. غير أن هذه النظرية، بالرغم من خطئها الواضح، كانت تهيمن تماما، حتى أواسط القرن الماضي.
أما فون مورر، فقد جمع –للمرة الأولى- كافة الاكتشافات المعزولة عن بعضها البعض، ليشكل منها جميعا، نظرية شاملة وجريئة تبرهن، بالاستناد إلى كمية كبيرة من الوثائق والأبحاث المعمقة حول معلومات ووثائق قديمة ونصوص قضائية، على أن الملكية المشاعية للأرض لم تولد في نهاية العصر الوسيط، بل كانت تشكل النمط البدائي والتقليدي الذي عرفته المستوطنات الجرمانية الأوربية منذ بداية تاريخها. أي منذ ألفي عام وأكثر، في تلك الأزمان الغابرة من تاريخ الشعوب الجرمانية وهي أزمان لا يعرف التاريخ المكتوب عنها شيئا، كانت تسود لدى الجرمانيين أوضاع عقارية تختلف عن الوضع الراهن: فلم تكن لديهم دولة ذات قوانين مكتوبة وقامعة، كما لم تكن ثمة قطيعة بين الأغنياء والفقراء، وبين السادة والعمال. كان الجرمانيون يشكلون قبائل وعائلات حرة تنقلت لزمن طويل في أرجاء أوربا، قبل أن تستقر، بصورة مؤقتة أولا، ثم بصورة دائمة. لقد بدأت زراعة الأرض –في أوربا- في ألمانيا، كما برهن فون مورر، ليس عن طريق الأفراد، بل عن طريق القبائل والعائلات بكاملها، تماما مثلما انطلقت في أيسلندا، عن طريق تجمعات بشرية كبيرة الحجم، سميت «فرانداليد» FRANDALID و«سكولداليد» SKULDALID.
إن أقدم المعلومات التي نمتلكها عن الجرمانيين، أتتنا عن طريق الرومان، والواقع أن تفحصنا للمؤسسات التي انتقلت عن طريق التقاليد، تؤكد لنا صحة هذا المفهوم. لقد كانت قبائل الرعاة البدو هي أول من سكن ألمانيا. وكانت تربية الماشية –وبالتالي امتلاك مراع واسعة –هي جوهر البقاء، تماما مثلما الأمر بالنسبة إلى البدو الآخرين. ولكن، تماما مثل الشعوب المهاجرة الأخرى التي عرفتها الأزمان القديمة والحديثة، لم تتمكن القبائل الجرمانية من البقاء طويلا دون زراعة الأرض. وهكذا، بالتحديد، في هذا الوضع الاقتصادي البدوي المخلوط بزراعة الأرض (بالرغم من أن الزراعة كانت ثانوية بالنسبة إلى تربية الماشية) كانت القبائل تعيش في زمن يوليوس قيصر منذ نحو ألفي عام، وهي القبائل التي ذكرت تحت اسم «السويف» أو «السواب» SOABES ولقد لوحظ وجود وضع وعادات ومؤسسات مماثلة لدى «القزبح» و«الآلامان» و«الفاندال» وغيرها من القبائل الجرمانية. والواقع أن كافة الشعوب الجرمانية «الأقوام الجرمانية» قد عاشت، لفترة من الوقت في البداية، على شكل قبائل وعائلات، وكانت تزرع الأرض، ثم ما تلبث أن ترحل حين تطردها قبائل أكثر قوة منها.. أو حين لا تعود الأراضي الصالحة لرعي الماشية تكفيها.
وهذه القبائل لم تتمركز لأزمان أكثر طولا، وتصبح مقيمة في المناطق التي تعيش فيها وتعمل في الزراعة، إلا حين بدأت تستقر، وكفت بعضها عن طرد البعض الآخر. أما أن تكون عملية الاستيطان قد حدثت أبكر من هذا، وعلى أرض حرة أو ممتلكات قديمة كانت تخص الرومان أو السلافيين، فالأمر لا يهم، إنما المهم أن الاستيطان كان يتم عن طريق تمركز القبائل والعائلات بأسرها. فكل قبيلة، وكل عائلة داخل كل داخل كل قبيلة، كانت تتملك قطعة من الأرض وتجعلها ملكا مشتركا لكافة المعنيين بالأمر. أي أن الجرمانيين القدامى لم يعرفوا الملكية الفردية للأرض على الإطلاق. أما الفرد فكان، عن طريق القرعة، يتلقى شريحة من أرض الحقل لكي يعمل فيها فترة محدودة من الزمن، وذلك تبعا لنظام مساواة صارم. أما كافة القضايا الاقتصادية والقضائية والعامة، للجماعة التي كانت تشكل غالبا فرقة من الرجال القادرين على حمل السلاح، فكانت تسوي خلال مجالس يجتمع فيها أعضاء الجماعة الذين ينتخبون الزعيم وبقية المسؤولين.
أما في المناطق الجبلية وعند الغابات والناطق الساحلية المنخفضة، حيث كانا الافتقار إلى الحيز الكافي، أو إلى الأرض القابلة للزراعة يجعل من المستحيل إقامة مستوطنة ذات حجم كبير، مثلما هو الحال مثلا في «أودن والد» و«ستفاليا» وفي مناطق جبال الألب، فقلد أقام الجرمانيون مزارع فردية، كانت تشكل فيما بينها على أي حال جماعة تتملك، إن لم يكن الحقول، فعلى الأقل المناطق المحيطة والغابات والمراعي، بشكل جماعي، حيث كانت كافة القضايا العامة، أيضا، تسوى عن طريق الجماعة كلها.
والقبيلة كانت تضم بضع جماعات، يصل عدها إلى مائة عادة، لم تكن تدخل، عمليا، إلا بوصفها هيئة قضائية أو عسكرية عليا، وكانت هذه المنظمة الجماعية تشكل، كما برهن فون مورر في الأجزاء الاثني عشرة التي يتألف منها كتابه، أساس النسيج الاجتماعي، وفي نفس الوقت أصغر خلية في هذا النسيج، وذلك منذ بدايات العصر الوسيط حتى فترة يسيرة إبان العصر الحديث، بحيث أن المزارع، والقرى والمدن الإقطاعية «الفيودالية» قد تشكلت عن طريق تنويعات مختلفة تمت انطلاقا من مثل هذه الجماعات، وهي جماعات ما زلنا حتى أزماننا هذه، نعثر على آثار وبقايا لها في بعض مناطق أوربا الوسطى والشمالية.
عندما ظهرت هذه الاكتشافات الأولى المتعلقة بالملكية المشاعية البدائية للأرض في ألمانيا وفي البلدان الشمالية، بدأت تزهر النظرية التي تقول بأن العلم قد بات الآن مقتفيا لأثر مؤسسة ذات طابع جرماني خاص، لا يمكن أن يفسره سوى خصائص طبع الشعب الجرماني. وبالرغم من أن مورر نفسه، لم يراوده على الإطلاق هذا المفهوم القومي للشيوعية الزراعية لدى الجرمانيين، بل وذهب إلى حد الإشارة إلى وجود نماذج مماثلة لدى الشعوب الأخرى، ظلت تلك النظرية مبدأ تم الإقرار به في ألمانيا ويقول بأن المشاعية الريفية القديمة هي خاصة من خصائص العلاقات العامة والقضائية الجرمانية، ومظهرا من مظاهر «الروح الجرمانية».
ومع هذا، تقريبا في نفس الوقت الذي ظهر فيه أول مؤلف لمورر حول الشيوعية القروية البدائية لدى الجرمانيين، ثم التوصل إلى اكتشافات جديدة تتعلق بجزء آخر من أجزاء القارة الأوربية. فبين عامي 1847 و1852 نشر البارون الوستغالي فون هاكستهاوزن، الذي كان قد زار روسيا في بداية أربعينات القرن التاسع عشر بناء على طلب من القيصر نيقولا الأول، نشر في برلين، مؤلفه حول «دراسات حول الوضع الداخلي والحياة الشعبية، وخاصة المؤسسات الريفية في روسيا». ولقد علم العالم المندهش، انطلاقا من ذلك المؤلف، بأنه ما تزال توجد حتى أيامنا هذه، مؤسسات مماثلة في شرقي أوربا. فالشيوعية القروية البدائية، التي كان ينبغي الكثير من الجهد لاستخلاص آثارها التي أغبرتها القرون والسنوات التالية لها في ألمانيا، كانت ما تزال تعيش، بشكل مفاجئ، بقضها وقضيضها في الإمبراطورية المجاورة إلى الشرق. ولقد برهن فون هاكستهاوزن في كتابه المذكور آنفا، كما في كتاب آخر نشره فيما بعد بعنوان «التكوين الريفي في روسيا» (صدر عام 1866 في لايبسيغ)، برهن على أن الفلاحين الروس لا يعرفون أية ملكية خاصة للحقول أو للبراري أو الغابات، وعلى أن القرية بأسرها تعتبر هي المالك الوحيد لكل هذا، وعلى أن العائلات الفلاحية لا تأخذ سوى شرائح صغيرة من الأراضي تحتفظ بها للاستعمال المؤقت، وأن هذا يتم مثلما لدى الجرمانيين القدامى –عن طريق القرعة. في الزمن الذي زار فيه فون هاكستهاوزن روسيا، ودرس أوضاعها، كانت العبودية في أوجها، ولقد بدأ من المدهش –أول الأمر- أن القرية الروسية كانت تشكل، في ظل أوضاع العبودية الفولاذية، وتحت ربقة دولة استبدادية، عالما صغيرا منغلقا على نفسه، يعيش في وضع من الشيوعية الزراعية، ويسوي كافة قضاياه العامة بشكل جماعي، على طريق مجلس للقرية يدعى «مير» MIR. ويفسر المؤلف الألماني، الذي توصل على هذا الاكتشاف، هذا الأمر على أنه نتاج الجماعة العائلية السلافية البدائية، كما تم العثور عليه أيضا لدى السلافيين الجنوبيين وفي البلدان البلقانية، وكما يتبدى بكل وضوح من خلال الوثائق القضائية العائدة إلى القرن السابع وما بعد.
لقد استقبلت اكتشافات هاكستهاوزن هذه، بالكثير من الحبور من قبل تيار كامل من تيارات المثقفين والسياسيين الروسيين، هو تيار «أنصار السلافية» SLAUPHILES. فلقد وجد هذا التيار، الناحي باتجاه تجميد العالم السلافي وخصائصه «وقوته الصلبة» بالتعارض مع «الغرب الفاسد» ذي الثقافة الجرمانية، وجد في مؤسسات الجماعة الفلاحية الروسية، أصلب دعم لمواقفه خلال العقدين أو العقود الثلاثة التالية. إذ تبعا للحقيقة، الرجعية أو الثورية، التي يستند إليها أنصار الثقافة السلافية، اعتبرت المشاعية الريفية إما واحدة من المؤسسات الأساسية الثلاث الحقيقية السلافية في العالم الروسي: الإيمان الروحي الأورثوذكسي (الإغريقي الأورثوذكسي)، والاستبدادية القيصرية، والشيوعية القروية البطريركية، وأما، على العكس، كنقطة استناد خاصة بالثورة الاشتراكية، الحتمية في روسيا، وهي نقطة تتيح تفادي الرأسمالية والدخول بشكل مباشر، بل وقبل أوربا الغربية، في أرض الاشتراكية الموعودة. ولقد كان القطبان المتعارضان المرتبطان بالثقافة السلافية، كانا على أي حال متفقين تمام الاتفاق في فهمهما للجماعة الزراعية الروسية (المشاعية) بوصفها ظاهرة ذات خصوصية سلافية، ولا يمكن تفسيرها إلا عن طريق الطابع الخاص بالشعب السلافي.
في هذه الأثناء دخل مجال تاريخ الأمم الأوربية عامل آخر: لقد دخلت هذه الأمم في اتصال مع أجزاء أخرى من العالم، وهذا ما جعلها تعي، بشكل واضح لغاية، وجود مؤسسات عامة وأشكال حضارة بدائية لدى شعوب أخرى لم تكن لا جرمانية ولا سلافية. وهذه المرة لم تكن المسألة مسألة دراسات عليمة أو اكتشافات ذكية، بل مسألة مصالح مادية بحت ذات علاقة بالدول الرأسمالية الأوربية وبسياسة، هذه الدول، الاستعمارية.
في القرن التاسع عشر، أيام الرأسمالية المهيمنة، خاضت السياسة الاستعمارية الأوربية طرقا ودروب جديدة. وهذه المرة لم يعد الأمر يقتصر، كما كان في القرن السادس عشر، إبان الهجمة الأولى التي شنت على العالم الجديد، لم يعد يقتصر على عملية نهب سريعة للغاية لكنوز الدول الاستوائية المكتشفة حديثا، ولثرواتها الطبيعية المكونة من المعادن الثمينة والتوابل والجواهر الغالية والعبيد، وهي عملية تميز بها الاسبانيون والبرتغاليون على وجه الخصوص. والأمر، كذلك، لم يعد يقتصر على مجرد عمليات تجارية هائلة تنقل من بلدان ما وراء البحار، إلى المستودعات الأوربية، مختلف المواد الأولية، وتفرض في المقابل، على السكان الأصليين لتلك البلدان، حوائج وأشياء لا قيمة لها، وهو أمر مهد الهولنديون الطريق إليه في القرن السابع عشر، وتبعهم فيه الإنكليز.
فإلى هذه المناهج الاستعمارية القديمة، التي ما تزال مزدهرة –في المناسبات- حتى أيامنا هذه، ولم تتوقف ممارستها، كان ينبغي –هذه المرة- إضافة منهج جديد أكثر إلحاحا وانتظاما، ويؤدي إلى الإمعان في استغلال ونهب الشعوب المستعمرة- بفتح الميم- لما فيه مصلحة وثراء وثراء «المتروبول» -المركز المستعمر(بكسر الميم هذه المرة)- وللوصول إلى هذا ينبغي تضافر عاملين: أولا، السيطرة الفعلية على الأرض، المنبع الملموس والأكثر أهمية لثروة كل بلد، وثانيا، السيطرة الدائمة على السكان. وفي هذا الجهد المزدوج اصطدمت القوى الاستعمارية الأوربية بعقبة كأداء وكبيرة الحجم: فعلاقات الملكية الخاصة بالشعوب –بفتح الميم- كانت تقف عقبة في وجه النهب الذي يمارسه الأوربيون. فلانتزاع الأرض من أصحابها، كان ينبغي، قبل كل شيء آخر، تحديد مالكها. وللتمكن من الحصول على الضرائب –وليس فقط فرضها –كان ينبغي التمكن من القبض على المكلفين المتمردين. وفي هذا المجال بالذات اصطدم الأوربيون، في مستعمراتهم، بعلاقات كانت غربية عليهم تمام الغربة بحيث أنها كانت تغلب كافة مفاهيمهم حول الطابع المقدس للملكية الخاصة. ولقد عانى الإنكليز في جنوب آسيا والفرنسيون في شمال إفريقيا، نفس التجربة في هذا المجال.
إن غزو الإنكليز للهند، الذي بدأ منذ بداية القرن السابع عشر، لم يتم إنجازه إلا في القرن التاسع عشر، بعد الاستيلاء التدريجي على الساحل كله وعلى البنغال، بما صاحبه من إخضاع لمنطقة البنجاب الهامة الواقعة إلى الشمال. غير أن عملية النهب الصعبة للهند لم تبدأ إلا بعد السيطرة السياسية. وفي كل خطوة من الخطوات التي قادتهم إلى هذه السيطرة، كان الإنكليز ينتقلون من مفاجأة إلى أخرى: لقد عثروا على الجماعات الفلاحية الأكثر تنوعا، من كبيرة أو صغيرة، مقيمة هنالك منذ ألوف السنين، منكبة على زراعة الأرز، وتعيش في هدوء وانتظام. ولم يجد الإنكليز –ويا للفظاعة!- في أي قرية من تلك القرى، أية ملكية خاصة للأرض. وحتى إنهم لم يعثروا على أي شخص قادر على التصريح بأن قطعة الأرض التي يزرعها هي ملكه، وكذلك لم يكن بوسعه أن يبيعها، أو يضمنها، أو يرهنها لكي يدفع الضرائب المتأخرة. لقد كان كافة أعضاء تلك الجماعات (التي تضم أحيانا عائلات كبيرة بأسرها، وأحيانا بعض العائلات الصغيرة المتحدرة من عائلة كبيرة) مرتبطين واحدهم إلى الآخر، بكل إخلاص، بروابط الدم التي كان كل شيء بالنسبة إليهم. ومقابل هذا، لم تكن الملكية الفردية لتعني شيئا بالنسبة إليهم. ولقد اكتشف الإنكليز، مشدوهين، على ضفاف الغانج والأندوس أنماطا من الشيوعية الزراعية، لم تكن الأخلاق الشيوعية القروية الجرمانية أو المشاعيات القروية السلافية، بالمقارنة معها، لتبدوا أكثر من سقط من بقايا الملكية الخاصة.
وتقرأ في تقرير صادر عن إدارة الضرائب الإنكليزية في الهند، مؤرخ في العام 1845 ما يلي: «إننا لا نرى وجودا لأية قطعة أرض دائمة. وكل واحد لا يمتلك قطعة الأرض المزروعة، إلا خلال الفترة التي تستغرقها أعمال الحقل. فإذا ما تركت قطعة أرض بدون زراعة، سرعان ما توضع ضمن نطاق الأرض المشتركة، بحيث يصبح من حق أي كان أن يستعيرها... شرط أن يزرعها».
وفي حوالي تلك الفترة نفسها، صدر تقرير حكومي آخر حول إدارة البنجاب لعامي 1849-1851 يقول: «إنه لمن المفيد أن نلاحظ في هذا المجتمع، قوى روابط الدم، ووعي الانتماء المتحدر من جد مشترك. إن الرأي العام هنا متعلق تمام التعلق بالحفاظ على هذا النظام بحيث أنه من غير النادر أن نجد أشخاصا، لم يسبق لجدودهم لجيلين أو ثلاثة أن شاركوا في ملكية الأرض الجماعية، ومع هذا يمكنهم المشاركة والحصول على حصتهم حالما يرغبون...»
وعن هذا الأمر كتب مستشار الدولة الإنكليزي في تقرير له حول المشاعية الهندية يقول:
«إن هذا الشكل من أشكال ملكية الأرض، لا يسمح لأي واحد من أفراد الجماعة بتبرير ملكيته الخاصة لهذا الجزء أو ذاك من الأرض المشتركة، حتى ولو كانت الأرض المعنية تخصه لفترة مؤقتة من الزمن. إن منتجات الاستغلال الجماعي للأرض، تذهب إلى صندوق مشترك يغطي حاجات الجميع».
إننا لسنا هنا، ولا حتى تجاه توزيع للحقل –حتى ولو تعلق الأمر بموسم واحد وحسب، إن مزارعي الجماعة يملكون ويزرعون حقلهم بشكل مشترك دون أي تقسيم، ومن ثم يحملون المحصول إلى شونة القرية المشتركة (التي لا شك تبدو وكأنها «صندوق» بنظر الرأسمالية الإنكليزية) ويغطون بشكل أخوي حاجاتهم المتواضعة، بواسطة نتاج عملهم المشترك. ولقد عثر في شمال-غرب البنجاب، عند حدود أفغانستان، على عادات أخرى هامة للغاية تقف متحدية كافة مفاهيم الملكية الخاصة. فهناك يتم اقتسام الحقول ويتبادلها السكان بشكل دوري، غير أن تبادل النتاج لا يتم بين العائلات المزارعة، واحدة واحدة، بل بين قرى بأسرها تتبادل الحقول فيما بينها كل خمس سنوات... ولهذه الغاية ينتقل أهل القرية بأسرهم من مكان على آخر. وعن هذا الأمر كتب مفوض جمع الضرائب المدعو «جيمس» من الهند، إلى رؤسائه في الإدارة الحكومية في العام 1852، يقول:
«أنا ليس بوسعي إلغاء عادة تقليدية فريدة من نوعها حافظت على بقائها حتى الآن في مناطق معينة: وأعني بهذا عادة التبادل الدوري للأراضي بين القرى وتوابعها. وفي بعض المناطق لا يتبادل السكان سوى الحقول، أما في مناطق أخرى فإنهم يتبادلون المساكن أيضا.»
إذن ها نحن مرة أخرى أمام إحدى خصائص جزء من الشعوب، هي –هذه المرة- خاصة «هندية». والواقع أن المؤسسات الشيوعية في المشاعية القروية الهندية إنما تعبر، عبر وضعها الجغرافي أو عبر قوة روابط الدم وعلاقات القربى، عن طابع تقليدي أصيل وعريق للغاية. والحقيقة أن واقع كون الأشكال الأكثر قدما للشيوعية قد ظلت باقية في المناطق الأكثر قدما بالنسبة إلى عراقة سكانها الهنود في الشمال الغربي، إنما يشير وبكل وضوح إلى أن الملكية المشاعية، تماما مثل قوة روابط القربى، تعود إلى قرون موغلة في الزمن، أي إلى عهد أولى مستعمرات المهاجرين الهنود الذين وصلوا آنذاك إلى وطنهم الجديد: الهند الحالية. ولنذكر هنا أن أستاذ القانون المقارن في أوكسفورد، السير هنري مين، وهو عضو سابق من أعضاء حكومة الهند، اعتبر منذ عام 1871، المشاعيات الزراعية الهندية، موضوعا لمحاضارته، وصنفها بالتوازي مع المشاعات البدائية التي كان فون مورر قد أشار إلى وجودها في ألمانيا وبرهن عليه، تماما مثلما فعل «ناس» بالنسبة إلى إنكلترا، واعتبرها جميعا مؤسسات بدائية تنتمي إلى نفس الطابع الخاص بالمشاعات الزراعية الجرمانية.
والواقع أن العراقة التاريخية، الجديرة بالاعتبار، الخاصة بهذه المؤسسات الشيوعية، تعبر عن مسألة ذات حساسية بالنسبة إلى الإنكليز، الذين أدهشتهم –من جهة أخرى- المقاومة الصلبة التي ووجهت بها أساليبهم الضريبية والإدارية في الهند. ولقد احتاجوا إلى نضال وصراع استمرا عشرات السنين، وإلى عدة وقفات عنيفة وصلبة، وإلى الكثير من الانحطاط الأخلاقي، والتدخل اللامستند إلى ضمير، ضد القوانين والأعراف القديمة المعمول بها من قبل الهنود، قبل أن يتمكنوا من إحداث تشوش وارتباك في كافة علاقات الملكية، وهما تشوش وارتباك أديا إلى فقدان عام للأمن، وإلى دمار أصاب المزارعين. لقد حطمت العلاقات القديمة، ومزقت العزلة الهادئة التي كانت تعيشها الشيوعية بعيدا عن العالم، وحل مكانها معارك واشتباك وفوضى وتفاوت واستغلال. ولقد نتج عن هذا كله بزوغ إقطاعيات كبيرة LATIFUNDA من جهة، وبقاء ملايين المزارعين دون حول أو وسائل إنتاج (بما فيها الأرض) من جهة ثانية. لقد دخلت الملكية الخاصة إلى الهند، وأدخلت معها التيفوس، والجوع وداء فساد الدم، كل هذه الأمراض التي جاءت لتصبح ضيوفا دائمة في وهاد وسهول الغانج.
إذا كان بامكان الشيوعية الزراعية القديمة، بعد الاكتشافات التي أدهشت المستعمرين الإنكليز في الهند، والتي سبق أن عثر عليها في ثلاثة فروع من عائلة الشعوب الهند-جرمانية (الجرمان والسلاف والهنود)، إذا كان بامكانها حتى الآن أن تعتبر خاصة من خصائص هذه الشعوب، بكل ما في هذا المفهوم العريق من غموض وإبهام واهتزاز، فإن الاكتشافات الموازية التي توصل إليها الفرنسيون في شمال إفريقيا، تتجاوز هذه الحلقة. فالواقع أن الأمر يتعلق هنا باكتشافات تلاحظ، لدى عرب وبربر شمال إفريقيا، وجود مؤسسات شبيهة تماما بتلك الموجودة في قلب القارة الأوربية وفي القارة الآسيوية. إذ كانت الأرض، لدى البدو والعرب رعاة الماشية، ملكية عائلية. وكانت هذه الملكية العائلية، كما قال الفرنسي داريست في العالم 1852، تنتقل من جيل إلى جيل بحيث أن ما من عربي كان بامكانه أن يشير إلى شبر من الأرض ويقول: هذه أرضي أنا.
ولدى القبائل التي عربت بكاملها، نلاحظ أن التجمعات العائلية كان قد سبق لها أن تفسخت إلى شطائر متميزة، غير أن قوة العائلة ظلت كبيرة للغاية، فالعائلات كانت مسؤولة بالنسبة إلىجبي الضرائب، وكانت هي التي تشتري، بشكل جماعي، الماشية التي ستوزع على أفخاذ وفروع العائلة للغذاء، أما بالنسبة إلى كافة المشاكل المترتبة عن ملكية الأرض، فكان مجلس العائلة هو الذي يتولى وظيفة «الحكم الأعلى»، وكان المرء، لكي يتمكن من العيش بين القبائل (البربر) بحاجة إلى إذن من العائلات، بل وان مجلس العائلات كان يمتلك أراض غير مزروعة. غير أن النظام العام كان نظام الملكية العائلة غير القابلة للقسمة، ومفهوم العائلة لم يكن يعني الأسرة (كما هو الحال إلى الاستعمال الأوربي للكلمة) بل كان يعني عائلة على النمط البطريركي، مثل تلك التي يصف العهد القديم وجودها لدى اليهود وتضم حلقة كبرى من الأقارب فيهم الأب والأم والأبناء وزوجاتهم والأطفال والأحفاد والعموم والعمات وأبناء الأخ أم الأخت وأولاد العم. ولقد أشار فرنسي آخر يدعى ليتورن في العام 1870، إلى أن الملكية الموحدة في هذه الحلقة كانت تحت امرة أقدم فرد في العائلة، وهو ينتخب لملء وظائفه، من قبل العائلة بحيث يكون عليه أن يستشير مجلس العائلة بالنسبة إلى كل الطوارئ الهامة، وعلى الأخص بالنسبة إلى بيع الأرض أو شرائها. هكذا كان وضع السكان في الجزائر حين استعمرها الفرنسيون. ولقد كان الأمر بالنسبة إلى الفرنسيين في شمال إفريقيا، تماما مثلما سبق له أن كان بالنسبة إلى الإنكليز في الهند. ففي المنطقتين معا اصطدمت القوة الاستعمارية الأوربية بمقاومة عنيفة نتجت عن العلاقات الاجتماعية العريقة وعن المؤسسات الشيوعية (المشاعية) التي كانت تحمي الفرد إزاء عمليات الاستغلال الرأسمالي الأوربي كما إزاء السياسة المالية الأوربية.
لقد ألقت هذه التجارب الجديدة، أضواء كاشفة على الذكريات نصف المنسية المتعلقة بأولى أزمان السياسة الاستعمارية الأوربية، والمجازر التي ارتكبتها في العالم الجديد. ففي الأخبار المصفرة المحفوظة في أرشيفات الدولة وفي الأديرة الأسبانية، ما زالت باقية على عهدها، منذ قرون عديدة، تلك الحكاية الغريبة المتحدثة عن أمريكا الجنوبية الرائعة التي قابل فيها الغزاة الأسبان، إبان عصر الاكتشافات الكبيرة، ومؤسسات مثيرة للدهشة. والواقع أن نبأ وجود تلك الأمريكا الجنوبية الرائعة، كان قد انتشر بشكل مشوه في القرنين السابع والثامن عشر وانتقل إلى الآداب الأوربية، ومن ضمنه نبأ وجود «إمبراطورية الانكا»، التي عثر عليها الأسبان في المنطقة التي تعرف الآن باسم «البيرو»، وحيث كان الشعب يعيش مشاعية شاملة، خاضعا لسلطة تيوقراطية (لاهوتية) وأبوية يتولاها مستبدون خيرون. والواقع أن الأنباء الرائعة المتحدثة عن مملكة شيوعية خرافية في البيرو قد بقيت على حالها، بحيث أن كاتبا ألمانيا كان ما يزال بوسعه أن يكتب في العام 1875، متحدثا عن إمبراطورية الانكا وكأنها مملكة اجتماعية ذات قاعدة تيوقراطية «تكاد تكون فريدة من نوعها في تاريخ البشرية»، إذ تحقق فيها عمليا، الجزء «الأكبر مملا يحلم به الاشتراكيون-الديموقراطيون، بشكل مثالي في زمننا الراهن، إنما دون أن يتمكنوا من التوصل إليه على الإطلاق» [1] . وفي تلك الأثناء كانت المعلومات الأكثر صحة حول ذلك البلد الغريب وعاداته، قد بدأت تصل إلى معلوم الناس.
ففي عام 1840 ظهرت الترجمة الفرنسية لتقرير أصلي هام كان قد وضعه آلونزو زوزيتا، الأمين السابق للمجلس الملكي في المكسيك، متحدثا فيه عن الإدارة والعلاقات الزراعية في المستعمرات الاسبانية السابقة الواقعة في العالم الجديد. وفي نحو أواسط القرن التاسع عشر، أخرجت الحكومة الاسبانية من أرشيفها، معظم الوثائق القديمة المتحدثة عن الغزو وعن إدارة المؤسسات الاسبانية في أمريكا. ولقد ألقى هذا كله أضواء جديدة، وشكل مساهمة هامة في تعزيز الوثائق المتعلقة بالوضع الاجتماعي في الحضارات القديمة ما قبل-الرأسمالية في بلدان ما وراء البحار.
قبل هذا، وعلى ضوء التقارير الواردة من زوريتا، توصل العالم الروسي ماكسيم كوفاليفسكي في سبعينات القرن الماضي إلى استنتاج يقول بأن إمبراطورية الأنكا الخرافية في البيرو، كانت مجرد بلد تهيمن عليه تلك الشيوعية الزراعية البدائية التي كان فون مورر قد اكتشف وجودها، قبل ذلك، لدى الجرمانين القدامى، وأن هذه لشيوعية كانت مهيمنة، ليس فقط في البيرو، بل كذلك في المكسيك وفي طول وعرض القارة التي غزاها الاسبانيون حديثا. ولقد أتاحت كتب وتقارير نشرت فيما بعد، أتاحت دراسة معمقة للعلاقات الزراعية القديمة في البيرو أدت إلى رسم صورة جديدة للشيوعية الريفية البدائية في قارة جديدة، ولدى عرق آخر، وعند مستوى آخر من مستويات الحضارة، وفي عهد يختلف تمام الاختلاف عن العهد الذي درسته الاكتشافات السابقة.
كان أمامنا ها هنا تشكيل قديم جدا للعلاقات الزراعية –يسود لدى القبائل البيروفية منذ أزمان مغرقة في القدم- وما يزال مليئا بالحيوية والقوة حتى القرن السادس عشر، أي الزمن الذي بدا فيه الاسبان بغزو القارة. لقد كان هذا التشكيل عبارة عن تجمع يرتكز على علاقات القربى والعائلة، وهذا التجمع كان المالك الوحيد للأرض في كل قرية أو مجموعة من القرى، أما الحقول فكانت توزع عن طريق القرعة سنويا، عن طريق كل أعضاء القرية، هذا بينما كانت القضايا العامة تسوى عن طريق مجالس للقرية يتولى بنفسه انتخاب زعيم هذه القرية. ولقد تم العثور، حتى في هذا البلد الأمريكي الجنوبي البعيد، لدى الهنود، على آثار حية تشير إلى شيوعية كانت أكثر تقدما من مثيلتها في القارة الأوربية: كانت ثمة منازل جماعية هائلة تعيش فيها عائلات بكاملها عيشة مشتركة، ويدفن الأموات فيها بصورة مشتركة. وثمة من يتحدث عن وجود مساكن جماعية يضم كل منها ما لا يقل عن أربعة آلاف رجل وامرأة. أما المقر الرئيسي لأباطرة الانكا، مدينة «كوزكو»، فكانت تتألف، بشكل خاص، من مساكن جماعية على هذا النحو، يحمل كل منها اسم عائلة من العائلات.
وهكذا لقيت الأضواء الكاشفة في أواسط القرن التاسع عشر على مجموعة هامة من الوثائق التي أدى ظهورها إلى تصفية المفهوم القديم المتحدث عن الطبيعة الخالدة للملكية الخاصة، وعن وجود هذه الملكية منذ بداية العالم.. ولقد أدت تصفية هذا المفهوم إلى القضاء عليه نهائيا بعد ذلك. وبعد أن رؤي، في الشيوعية الزراعية، خاصة من خصائص الشعوب الجرمانية، ثم السلافية فالهندية فالعربية فالبربرية والمكسيكية، ومن ثم خاصة من خصائص دولة الأنكا الرائعة في البيرو، وعدد كبير من الشعوب، «ذات الخصوصية»، توصل المعنيون –بالقوة- إلى استنتاج بقول بأن هذه الشيوعية القروية لم تكن «خصوصية عرقية» يتمتع بها عنصر معين أو قارة معينة، بل كانت شكلا عاما من أشكال المجتمع البشري، خلال مرحلة معينة من مراحل تطور الحضارة. غير أن العلم البرجوازي الرسمي، وخاصة فرع الاقتصاد السياسي منه، لم يؤمن بهذا كله، بل أبدى معارضة ضارية للمبدأ ككل. وهكذا نجد أن مدرسة سميت-ريكاردو الإنكليزية، ذات الهيمنة في كل أنحاء أوربا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، كانت ترفض وتنكر بتصلب إمكانية وجود ملكية مشاعية للأرض، بل وأن أهم وأفخم عيون العلم الاقتصادي في عهد «العقلانية» البرجوازية، كانوا يتصرفون تماما مثلما كان يفعل أول الغزاة الاسبان والبرتغاليين والفرنسيين والهولنديين، الذين كانوا –بسبب جهلهم المطبق- عاجزين كليا عن فهم العلاقات الزراعية لدى السكان الأصليين، في أمريكا المكتشفة حديثا، بحيث أنهم كانوا يعلنون بكل بساطة، بسبب ما لاحظوه من غياب للملكيات الخاصة، بأن كل البلد «كان يعتبر ملكا للإمبراطور» وأرضا خاضعة للضريبة. ففي القرن السابع عشر، كتب المبشر الفرنسي دوبوا بصدد الهند يقول:
«لا يعرف الهنود أية ملكية خاصة للأرض. والحقول التي يزرعونها تعتبر ملكا للحكومة المنغولية».
وكذلك يبدي استياءه ، دكتور في الطب من كلية مونتبلييه، يدعى فرانسوا برييه، سبق له أن سافر إلى آسيا، وإلى بلدان المنغول الكبرى، ونشر في عام 1969، في مدينة أمستردام، وصفا لتلك البلاد نال شهرة كبيرة، يبدي استياءه بقوله:
«لقد أزالت هذه الدول الثلاث: تركيا وإيران والهند، كل المفاهيم المتعلقة بخاصتك وخاصتي، بصدد ملكية الأرض، هذه المفاهيم التي هي في الواقع في أصل كل الخير والجمال الموجودين في هذا العالم.»!
ومثل هذا الجهل وعدم الاستيعاب المخزيين لكل ما ليس شبيها بالحضارة الرأسمالية، أبداهما في القرن التاسع عشر العالم جيمس ميل، والد الفيلسوف الشهير جون ستيوارت ميل، حين كتب في كتابه التاريخي عن الهند البريطانية يقول:
«نحن لا يمكننا، على أساس كافة الوقائع التي لاحظناها، إلا أن نصل إلى الاستنتاج بأن ملكية الأرض في الهند كانت تعود إلى العامل، وذلك لأننا إذا لم نقر بأنه هو مالك الأرض، سيكون من المستحيل علينا أن نحدد مالك هذه الأرض».
أما أن تكون الأرض، وبكل بساطة، ملكا للجماعات الفلاحية التي كانت تزرعها منذ ألوف السنين، وأما أن يكون ثمة بلد، ومجتمع كبير متمدن، حيث لا تعتبر الأرض وسيلة لاستغلال عمل البشر الآخرين –بل مجرد أساس وجود للبشر الذين يعملون فيها بأنفسهم-، فأمران غير قادرين على التسلل إلى دماغ عالم كبير من أقطاب العلم البرجوازي الإنكليزي. إن هذا التحديد، المدهش، للأفق الثقافي عند حدود العقلية الاقتصادية الرأسمالية وضمن مفاهيمها، يؤكد لنا بما لا يدع مجالا لأي شك، بأن العلم الرسمي السائد خلال عصر الأنوار البرجوازي، إنما كان يحمل رؤية واستيعابا تاريخيين ضيقين للغاية، بحيث أن المفاهيم الرومانية، السائدة منذ ما قبل ألفي سنة، التي نقل إلينا الجنرالات من أمثال قيصر، والمؤرخون من أمثال تاسيتيوس، آراء وأفكار قيمة تنتمي إليها وتتعلق بجيرانهم الجرمانيين وبعلاقات هؤلاء الاقتصادية والاجتماعية، المختلفة تماما عما لدى الرومان أنفسهم.. كانت تبدو أكثر وعيا وإدراكا منهما.
في الماضي، كما هو الحال الآن، كان الاقتصاد السياسي البرجوازي، من بين كافة العلوم، العلم الذي يبدى، بوصفه قاعدة انطلاق نمط السيطرة الاستغلالي، أدنى حد من الفهم بالنسبة إلى أشكال الحضارة والاقتصاد الأخرى. ولقد اسندت إلى فروع أخرى علمية، أكثر ابتعادا منه عن التعارض المباشر للمصالح وعن حقل العراك بين رأس المال والعمل، مهمة التعرف على الشكل العام المهيمن للتطور الاقتصادي، في المؤسسات الشيوعية المنتمية إلى العصور القديمة، وبالتالي على الشكل العام لتطور الحضارة في مرحلة معينة. لقد كان قضائيون من أمثال فون مورر وكوفالفسكي والإنكليزي هنري مين أستاذ القانون ومستشار الدولة في الهند، كانوا أول من أقر بوجود شكل بدائي عالمي وقيم، هو الشيوعية الزراعية المنتشرة بين كافة القارات وكافة الأجناس. أما شرف اكتشاف أن هذه الشيوعية هي القاعدة الضرورية، في البنية الاجتماعية للمجتمع البدائي، لشكل التطور الاقتصادي هذا، فيعود إلى عالم اجتماع أمريكي سبق له أن درس الحقوق، هو الأمريكي مورغان. لقد دهش الباحثون دهشة كبيرة حين اكتشفوا الدور الهام الذي تلعبه علاقات القربى في المشاعات القروية الشيوعية البدائية، سواء أكان هذا في الهند أو في الجزائر أو لدى الشعوب السلافية. فبالنسبة إلى الشعوب الجرمانية كانت أبحاث فون مورر قد ركزت على أن عمليات الاستيطان الأوربية إنما تمت عن طريق المجموعات العائلية والعائلات. والواقع أن تاريخ الأقوام القديمة، كما هو الحال بالنسبة إلى تاريخ اليونانيين والرومان، إنما يؤكد لنا في كل لحظة بأن العائلة قد لعبت، على الدوام، دورا كبيرا وهاما للغاية، بوصفها مجموعة اجتماعية، ووحدة اقتصادية، ومؤسسة قضائية، وكذلك بوصفها حلقة مغلقة من حلقات الممارسة الدينية. وأخيرا نجد بأن كافة المعلومات التي نقلها الرحالة حول البلدان المسماة «بلدانا متوحشة» إنما تؤكد، على اتفاق غريب فيما بينها، بأنه كلما كان شعب ما أكثر بدائية، ازدادت أهمية الدور الذي تنلعبه، لديه، علاقات القربى، وازدادت هيمنة هذه العلاقات على كافة الروابط والمفاهيم الاقتصادية والاجتماعية والدينية.
وعلى هذا النحو طرحت على البحث العلمي مشكلة جديدة فائقة الأهمية. فما هي، في الحقيقة، تلك التجمعات العائلية التي كانت لها كل هذه الأهمية في الأزمان البدائية، وكيف تراها تشكلت، وما هي الرابطة التي كانت توحدها، ومم كانت تتشكل الشيوعية الاقتصادية، والتطور الاقتصادي بشكل عام؟ على سبيل الرد، والإتيان بتوضيح لكل هذه الأسئلة، كانت الإجابات التي قدمها مورغان للمرة الأولى عام 1877 في كتابه «المجتمع البدائي». ولقد توصل مورغان، الذي كان قد أمضى جزءا كبيرا من حياته بين هنود ينتمون إلى إحدى قبائل «ولاية نيويورك»، ودرس بتعمق وضع هذا الشعب البدائي الصياد، توصل عن طريق المقارنة بين أبحاثه، وبين الوقائع المعروفة المتعلقة بشعوب بدائية أخرى، إلى نظرية جديدة وهامة تتحدث عن أشكال تطور المجتمع البشري خلال فترات الزمن المتعاقبة التي سبقت كل معرفة تاريخية. وبامكاننا أن نلخص هذه الأفكار، التي جعلت من مورغان رائدا، ومازالت تحفظ بكل قيمتها وأهميتها حتى الآن، بالرغم من توفر الكثير من المواد الجديدة التي تساعده على تصحيح بعض التفاصيل، على الشكل التالي:
1- لقد كان مورغان أول من حدد نظاما علميا يتعلق بتاريخ الحضارات ما-قبل-التاريخية، من جهة عن طريق التمييز بين مختلف أحقاب التطور، ومن جهة أخرى عبر الكشف عن محركه الرئيسي. فحتى ذلك الحين، كانت الحقبة الواسعة من الحياة الاجتماعية، وهي الحقبة التي استبقت كل تاريخ مدون، تماما مثلما كانت العلاقات الاجتماعية لدى الشعوب البدائية التي ما تزال حية حتى اليوم، بكل ما لديها من أشكال وحقب تطورية، كانت تشكل نوعا من الهوة المظلمة، التي لم تكن لتضاء غلا عبر فقرة أو جزء من بحث علمي من هنا أو هناك. والواقع أن مفاهيم «الحالة المتوحشة» و«البربرية» التي كانت تطبق بشكل إجمالي على أوضاع البشرية تلك، لم تكن لتحمل سوى قيمة سلبية، تطبع غياب كل ما كان يعتبر إشارة إلى وجود «حضارة» بالمعنى الذي تشير إليه مفاهيم ذلك الحين. وانطلاقا من وجهة النظر هذه، لم تبدأ الحياة المتمدنة والإنسانية إلا مع بداية التاريخ المدون. أما كل ما ينتمي إلى «الحالة المتوحشة» و«البربرية» فلم يكن ليشكل أكثر من مرحلة منحطة ومشينة، استبقت الحضارة، وأكثر من وجود حيواني ليس بوسع البشرية المتمدنة اليوم إلا أن تلقي عليه نظرة احتقار واستهانة. وتماما مثلما كان الأمر مع الممثلين الرسميين للكنيسة المسيحية، الذين اعتبروا كافة الأديان البدائية التي أتت قبل المسيحية، مجرد سلسلة من النكسات التي عرفتها الإنسانية خلال بحثها المضني عن الدين الحقيقي، كذلك هو بالنسبة على الاقتصاديين، الذين يرون بأن كافة الأنماط الاقتصادية البدائية لم تكن أكثر من محاولات خرقاء جرت قبل التوصل إلى اكتشاف النمط الاقتصادي الحقيقي الوحيد: نمط الملكية الخاصة والاستغلال اللذين بدأ معها التاريخ المدون للحضارة.
لقد وجه مورغان إلى هذا المفهوم ضربة قاضية حين اعتبر التاريخ البدائي للحضارة، جزءا من أكثر أجزاء تاريخ التطور المستمر للبشرية أهمية، بل وأكثر أهمية سواء عن طريق طوله الزمني –أي الفترة الزمنية التي عاشها- الذي يزيد كثيرا عن تلك الفترة الضيقة التي يعبر عنها التاريخ المدون، أو عن طريق المكتسبات الحضارية الرئيسية التي تم الوصول إليها خلال تلك الفترة الطويلة، عند فجر الوجود الاجتماعي للبشرية. إن مورغان، حين أعطى محتوى إيجابيا لـ«تسميات» الحالة المتوحشة والبربرية للحضارة، إنما حدد المعاني العلمية الدقيقة للكلمات ومن ثم استخدامها كوسائل للبحث العلمي. فالحالة المتوحشة والبربرية والحضارة، بالنسبة إلى مورغان، هي عبارة عن ثلاث مراحل من مراحل التطور البشري، تتميز عن بعضها البعض عن طريق دلائل مادية مميزة، ومحددة، وتنقسم بدورها إلى مستويات أدنى، ومتوسطة ورفيعة، لا يمكن تمييزها إلا عن طريق المكتسبات وأوجه التقدم الملموسة والمحددة للحضارة. إن بوسع بعض المتحذلقين الذين يزعمون معرفة كل شيء، اليوم أن يحاججوا بأن المستوى المتوسط للفترة المتوحشة لم يبدأ مع اختراع الصيد (صيد السمك)، كما كان مورغان يعتقد، أو أن المستوى الأرفع قد ابتدأ مع اختراع القوس والسهم، وذلك لأن النظام-بالنسبة إلى حالات كثيرة- كان مقلوبا، كما أن حالات أخرى افتقدت مراحل بأكملها بسبب عدد من الظروف الطبيعية، غير أن هذه كلها ليست سوى انتقادات، بالامكان توجيهها إلى كل تصنيف تاريخي، إذا ما اعتبرنا هذا التصنيف صورة صارمة ذات قيمة مطلقة، أو سلسلة من عبير المعرفة، وليس مجرد خيط حي ومرن يقودنا على طريق هذه المعرفة. إن أهمية مورغان التاريخية تكمن في أنه قد استنبط، عن طريق تصنيفه العلمي الأول، الشروط الضرورية لدراسة حقبة ما قبل-التاريخ، تماما مثلما تكمن أهمية «ليني» التاريخية في أنه كان أول من استنبط تصنيفا علميا للمزروعات. مع حفظ الفارق الكبير بين الاثنين. فنحن نعلم مثلا أن ليني قد أخذ، كأساس لتصنيف المزروعات، دليلا عمليا جدا، لكنه خارجي –أجهزة إعادة إنتاج المزروعات- بحيث كان ينبغي عليه –حسب التعبير الذي جاء به بنفسه- أن يبدل هذه العملية الأولى بتصنيف طبيعي أكثر حيوية من وجهة نظر تاريخ تطور العالم النباتي. وعلى عكس هذا نجد أن مورغان قد أثمر بحثه، عبر اختياره للمبدأ الأساسي الذي ركز عليه منهجه التصنيفي: لقد أخذ، كنقطة انطلاق للتصنيف الذي جاء به، المبدأ القائل بأن نمط العمل الاجتماعي، أي الإنتاج، هو الذي يحدد في كل حقبة تاريخية، منذ بداية الحضارة، كل العلاقات الاجتماعية بين البشر. وأن المنعطفات الحاسمة في تاريخ هذا التطور كانت هي العلامات التي تحدد مجرى تطور تلك العلاقات.
2- العمل الجليل الآخر الذي قام به مورغان، ذو علاقة بالروابط العائلية التي كانت سائدة في المجتمع البدائي. ففي هذا المجال أيضا، وعلى أساس مادة هائلة حصل عليها عن طريق عملية بحث عالمي دؤوب، تمكن مورغان من ترسيخ صورة لأول تعاقب، مرسوم بشكل علمي، في مجال أشكال تطور العائلة، ابتداء بالأشكال الأكثر انحطاطا في المجتمع البدائي، حتى شكل الزواج من امرأة واحدة Monogamie، أي شكل العلاقات الزوجية المسيطر اليوم، والذي يقضي بزواج رجل واحد من امرأة واحدة، بشكل يستمد شرعيته من الدولة، ويكون للرجل، فيه، الوضع المهيمن. صحيح أن الاكتشافات التي تم الوصول إليها منذ إتيان مورغان بنظريته تستدعي القيام بعدة تصحيحات لصورة تطور العائلة لديه. غير أن السمات الأساسية لنظامه المعتبر أول سلم يصف أشكال العائلة البشرية، منذ عصور الظلمات حتى عصرنا الحاضر مرورا بما-قبل التاريخ، والتي سارت، بشكل حازم، على أساس فكرة التطور، تظل حتى الآن إسهاما كبيرا وهاما يضاف إلى مكتسبات العلوم الاجتماعية. والواقع أن مورغان لم يثر هذا المجال فقط عن طريق منهجيته، بل أيضا عن طريق أفكاره الأساسية والعبقرية المتعلقة بالروابط بين العلاقات العائلية في مجتمع معين، ونظام القرابة الذي يهيمن في هذا المجتمع. لقد جذب مورغان، للمرة الأولى، الانتباه إلى هذا الواقع المدهش الذي يقول بأن علاقات القربى والتحدر الحقيقية لدى كثير من الشعوب البدائية، أي العائلة الحقيقية، لم تكن لتتطابق مع نعوت القرابة التي يتبادلها الناس فيما بينهم، ولا مع المتوجبات المتبادلة التي تفرضها مثل هذه النعوت. وكان مورغان أول من وجد لهذه الظاهرة الغامضة تفسيرا ماديا جدليا، إذ قال: «إن العائلة هي العنصر الفعال، وهي ليست ثابتة، بل تتطور من نمط أدنى إلى نمط أكثر ارتفاعا، بالنظر إلى أن المجتمع يتطور من نمط أدنى إلى نمط أكثر ارتفاعا. مقابل هذا نجد أن أنظمة القربى جامدة، وهي لا تسجل، إلا خلال حقب بعيدة جدا عن بعضها البعض، تطورات شبيهة بتلك التي تحققها العائلة خلال تلك الحقب، كما أنها –أي أنظمة القربى- لا تعرف التغيرات الجذرية، إلا حين تتغير العائلة بشكل جذري». ومن هنا نصل إلى الاستنتاج بأن صلات القربى ونظمها، لدى الشعوب البدائية (وهي نظم تتوازى مع شكل سابق ومتجاوز، من أشكال العائلة) ما تزال سارية حتى الآن، تماما مثلما تظل سارية مبادئ أشخاص يظلون لزمن طويل متعلقين بأوضاع تم تجاوزها عن طريق التطور المادي الفعال للمجتمع.
3- إن مورغان، استنادا منه إلى تاريخ تطور العلاقات العائلية، يعطي أول دراسة شاملة عن تلك التجمعات العائلية القديمة التي هي في أصل التقاليد التاريخية، لدى كافة الشعوب المتمدنة: لدى اليونان والرومان، ولدى الكلتيين والجرمان، ولدى اليهود القدماء، وبامكاننا أن نعثر عليها حتى أيامنا هذه لدى معظم الشعوب البدائية التي ما تزال تعيش في مناطق نائية ومتفرقة من العالم. لقد برهن مورغان كيف أن هذه التجمعات، استنادا منها إلى قرابة الدم والتحدر من أصل مشترك، ليست –من جهة- سوى مرحلة مرتفعة من مراحل تطور تاريخ العائلة، وليست –من جهة ثانية- سوى أساس كل حياة اجتماعية، في تلك الحقبة الزمنية الطويلة حيث لم تكن هناك بعد دولة بالمعنى الحديث للكلمة، أي حيث لم تكن هناك بعد منظمة سياسية قامعة تقوم على مقولة الأرض المشتركة (المقولة الجغرافية). كانت لكل قبيلة، تتألف من عدد معين من العائلات أو الأفخاذ (أوGENTES حسب التعبير الروماني)، أرض خاصة بها تملكها بشكل جماعي، وداخل كل قبيلة، كانت الجماعة العائلية هي الوحدة التي تدير شؤونها بنفسها وبشكل شيوعي، وحيث لم يكن هناك لا أغنياء ولا فقراء، ولا كسالى ولا عمال، ولا سادة ولا عبيد، وحيث كانت كافة القضايا العامة تسوى عن طريق الاختيار الحر والقرار الحر، اللذين يمارسهما الجميع. وكمثال حي على هذه العلاقات، التي مرت بها كافة الشعوب المنتمية إلى الحضارة الراهنة، يصف مورغان –بشكل مفصل- التنظيم الذي يتبعه الهنود في أمريكا، وهو التنظيم الذي كان ما يزال مزدهرا حين غزا الأوربيون القارة الأمريكية.
يقول مورغان:
«إن كافة أعضاء هذا التنظيم هم قوم أحرار، عليهم واجب حماية حرية الآخرين، وهم جميعا متساوون في الحقوق، بحث أن ما من أحد بامكانه المطالبة بأية امتيازات، وتنطبق هذه المقولة حتى على الزعماء الذين يسودون –بالاتفاق- أيام السلم وأولئك الذين يتولون زمام الأمور في أوقات الحرب، إن الجميع يشكلون أخوية تجمعها روابط الدم. والحرية والمساواة والأخوة، بالرغم من أن أحدا لا يفه بها، هي المبادئ الأساسية التي تسير العشيرة على هديها، وهذه الأخيرة –أي العشيرة- كانت، بدورها، وحدة النظام الاجتماعي بأسره، وأساس المجتمع الهندي المنظم. وهذا ما يفسر المعنى الحازم للاستقلال والكرامة الشخصية التي يلاحظها الجميع لدى الهنود..»
4- إن الانتظام داخل عشائر (عائلات) هو الذي قاد التطور الاجتماعي إلى عتبة الحضارة التي يصفها مورغان بأنها تلك الحقبة القصيرة الحديثة جدا من تاريخ الحضارة، حيث بزغت، على أطلال الشيوعية والديموقراطية القديمة، أساليب الملكية الخاصة، وبالتالي الاستغلال ومن ثم المؤسسة العامة القامعة (أي الدولة)، وسيطرة الرجل على المرأة داخل الدولة، ضمن حق الملكية المعطى له، وداخل العائلة. إن مجرى هذه الحقبة التاريخية القصيرة نسبيا، هو الذي شهد إنتاج أهم وأسرع عملية تطور أصابت الإنتاج والعلم والفن، لكنه شهد كذلك كل الانقسامات العميقة التي شهدها المجتمع عن طريق التعارض الطبقي، وشهد أيضا كل البؤس الذي أصاب الشعوب وأدى إلى استعبادها. وهاكم الحكم الخاص الذي أطلقه موغان على حضارتنا الراهنة، وهو الحكم الذي ينهي به دراسته الكلاسيكية، محددا استنتاجاتها:
«منذ بداية الحضارة، بات نمو الثروات رائعا وهائلا، وأشكالها متنوعة وانتشارها واسعا وإدارتها موجهة، بشكل أخرق لما فيه مصلحة مالكي الثروات. بحيث أن الثروة أضحت، في مواجهة الشعب، قوة مخيفة. لقد وجد العقل البشري نفسه مسحورا تجاه الشيء الذي خلقه بنفسه. ومع هذا، لا شك سيأتي يوم يضحي فيه هذا العقل من القوة بحيث يسيطر على الثروة، وتتوطد علاقة الدولة بالثروة، كما تنظم فيه حدود هذا العقل من القوة بحيث يسيطر على الثروة، وتتوطد علاقة الدولة بالثروة، كما تنتظم فيه حدود حقوق المالكين. إن مصالح المجتمع تتقدم على المصالح الخاصة، لذا يجب أن تقوم بين هذه وتلك علاقات عادلة ومتناسقة. إن عملية البحث عن الثروة، ليست المصير الوحيد للإنسانية، إذا ما كان ينبغي لقانون التقدم أن يظل قانون المستقبل كما كان قانونا للماضي. إن الزمن الذي مر منذ بدايات الحضارة، ليس سوى جزء يسير من الحياة الماضية للبشرية، وليس سوى قطاع صغير من حياة طويلة ما يزال عليها أن تعيشها. إن تفكك وذوبان المجتمع أمر يلقي بثقله كخطر يهددنا في نهاية مرحلة تاريخية كان هدفها النهائي والوحيد الحصول على الثروة، وذلك لأن تلك المرحلة تحمل في ذاتها كافة عناصر زوالها. ومن هنا نجد أن الديموقراطية في الإدارة، والإخاء في المجتمع، والمساواة في الحقوق، والتربية الكونية، كلها أمور ستعمل على تكريس المرحلة القادمة السامية من مراحل المجتمع، هي مرحلة تساهم التجربة والعقل والعلم في أخذنا إليها، ولسوف تساهم فيها بشكل دائم كذلك. وتلك المرحلة هي التي ستحيي الحرية والمساواة والإخاء، تلك المبادئ التي عرفتها الأقوام القديمة، لكنها ستحييها من جديد، وبشكل أكثر سموا...»
لقد كانت مساهمة مورغان في معرفة تاريخ الاقتصاد، مسألة ذات أهمية فائقة. فهو قد قدم الاقتصاد الشيوعي البدائي، الذي قدمه باعتباره قد عرف وفسر حتى ذلك الحين إلا على أنه سلسلة من الحالات الاستثنائية، قدمه باعتباره قاعدة عامة لتطور منطقي للحضارات، وكقاعدة أساسية ذات علاقة بتكون الشعوب والأقوام. وعلى هذا النحو تم البرهان على أن الشيوعية البدائية كانت هي مهد التطور الاجتماعي جنبا إلى جنب مع الديموقراطية والمساواة اجتماعية. وهكذا، عبر توسيعه لأفق الماضي ما-قبل-التاريخي، حدد مورغان كل حضارتنا الراهنة بما فيها من ملكية خاصة وسيطرة طبقية وهيمنة ذكورية ودولة وزواج إكراهي، حددها باعتبارها مجرد مرحلة قصيرة عابرة ولدت من جراء تحلل المجتمع الشيوعي البدائي، ولسوف تخلي المكان ذات يوم مقبل، لأشكال اجتماعية أكثر سموا. ومورغان، إذ فعل هذا، إنما زود الاشتراكية العليمة بسند جديد وقوي. وفي الوقت الذي كان فيه ماركس وانجلز قد برهنا، عن طريق التحليل الاقتصادي للرأسمالية، على أن المستقبل القريب سيشهد عبورا حتميا للمجتمع نحو الاقتصاد الشيوعي العالمي، وزودا –على هذا النحو- كل ذوي الآمال الاشتراكية بأساس علمي صلب، وفر مورغان –على نحو ما- لأعمال ماركس إنجلز قاعدة ارتكاز صلبة، وذلك حين برهن بأن المجتمع الديموقراطي الشيوعي يشمل، ولو بأشكال بدائية، كل ماضي التاريخ البشري الذي استبق حضارتنا الراهنة، وهكذا مدت التقاليد العريقة النبيلة الموغلة في القدم، يدها إلى أمال المستقبل الثورية، وبهذا انغلقت حلقة المعرفة، بشكل متناسق وضمن هذا الأفق بحيث بدا واضحا أن عالمنا الراهن، عالم السيطرة الطبقية والاستغلال الذي كان يزعم بأنه أسمى وأعلى ما وصلت إليه الحضارة، والهدف الأرفع للتاريخ العالمي، ليس أكثر من مرحلة صغيرة عابرة على طريق مسيرة البشرية الطويلة إلى الأمام.
*III حسب تصنيف لوكسمبرغ
[1].مذكرة لدى هوييت ص 60