المؤتمر الأول |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رسالة دعوة للحزب الشيوعي الألماني إلى
المؤتمر الأول للأممية الشيوعية
رسالة دعوة للحزب الشيوعي الألماني (عصبة سبارتاكوس) إلى المؤتمر الأول للأممية الشيوعية أيها الرفاق الأعزاء ! تعتبر الأحزاب والمنظمات الموقّعة أدناه أن الدعوة إلى المؤتمر الأول للأممية الشيوعية الجديدة ذات ضرورة ملحة. لقد ظهرت أثناء الحرب والثورة، ليس فقط الهزيمة الكاملة للأحزاب الاشتراكية و الاشتراكية-الديموقراطية القديمة، والأممية الثانية في الوقت نفسه، وليس فقط عجز العناصر الوسطية الاشتراكية-الديموقراطية (المسماة بـ« الوسط ») عن الفعل الثوري الفعّال، بل إننا نرى حاليا ارتسام معالم أممية ثورية فعلية. إن الحركة الصاعدة فائقة السرعة للثورة العالمية تطرح، باستمرار، مشاكل جديدة. إن خطر خنق هذه الثورة عبر التحالف بين الدول الرأسمالية المتحدة ضد الثورة تحت راية « عصبة الأمم » المخادعة ومحاولات الأحزاب الاشتراكية-الخائنة أن تتوحد وتعين حكوماتها وبرجوازيتها من جديد على خيانة الطبقة العاملة، بعد أن مُنحت « العفو » مقابل ذلك؛ وأخيرا التجربة الثورية فائقة الغنى التي جرى اكتسابها، وعالمية الحركة الثورية – كل هذه الظروف تجبرنا على اتخاذ المبادرة بوضع مسألة الدعوة إلى مؤتمر عالمي للأحزاب البروليتارية الثورية على جدول أعمال النقاش. 1-الأهداف والتكتيك إن الاعتراف بالفقرات التالية، المثبّتة هنا كبرنامج، والمبلورة على قاعدة برنامج عصبة سبارتاكوس في ألمانيا والحزب الشيوعي (البلشفي) في روسيا، ينبغي أن يُشكل بالنسبة لنا قاعدة للأممية الجديدة. أ- إن المرحلة الحالية هي مرحلة تحلّل وانهيار النظام الرأسمالي العالمي بمجمله، وسيكون مرحلة انهيار الحضارة الأوروبية بشكل عام، إذا لم يتم تحطيم الرأسمالية وتناقضاتها التي لا حل لها. ب- تقوم مهمة البروليتاريا حاليا على استلام سلطة الدولة، ويعني استلام سلطة الدولة تحطيم جهاز الدولة البرجوازي وتنظيم جهاز جديد للسلطة البروليتارية. ج- يجب أن يمثل جهاز السلطة الجديد دكتاتورية الطبقة العاملة، وفي بعض المناطق يجب أن يمثل أيضا سلطة صغار الفلاحين والعمال الزراعيين، أي يجب أن يكون أداة الإطاحة المنهجية للطبقة المستغِلة ونزع ملكيتها. ليس الديموقراطية البرجوازية المزيفة – هذا الشكل المخادع لسيطرة الأوليغارشية المالية – بمساواتها الشكلية المحضة، بل الديموقراطية البروليتارية، مع إمكانية تحقيق الحرية للجماهير العاملة، وليس البرلمانية بل الأجهزة الإدارية التي تخلقها الجماهير بنفسها، بمشاركة حقيقية لهذه الجماهير في إدارة البلد والعمل لأجل البناء الإشتراكي – هذا ما يجب أن يكون عليه نموذج الدولة البروليتارية. إن سلطة المجالس العمالية والمنظمات العمالية هي شكلها الملموس. د- يجب أن تكون دكتاتورية البروليتاريا الرافعة للمصادرة المباشرة للرأسمال، وإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتحويل هذه الملكية إلى ملكية شعبية. إن المشكلات الأساسية الراهنة تتلخص في تشريك (ونعني بالتشريك هنا إلغاء الملكية الخاصة التي تتسلمها الدولة البروليتارية، والإدارة الاشتراكية للطبقة العاملة) الصناعة الكبيرة والبنوك، مراكز تنظيمها؛ ومصادرة أراضي كبار الملاكين العقاريين وتشريك الإنتاج الزراعي الرأسمالي، واحتكار التجارة؛ وتشريك الأبنية الكبرى في المدن والملكيات الكبرى في الريف؛ وإدخال الإدارة العمالية ومركزة المهام الاقتصادية بين أيدي الهيئات المنبثقة عن دكتاتورية البروليتاريا. هـ- من أجل أمن الثورة الاشتراكية، ومن أجل الدفاع عنها ضد أعدائها الداخليين والخارجيين، من أجل مساعدة الأجزاء الأخرى القومية في البروليتاريا المناضلة.. الخ، فإن نزع السلاح الكامل للبرجوازية وعملائها، والتسليح العام للبروليتاريا، هما مسألتان ضروريتان. و- يفترض الوضع العالمي حاليا الاتصال الوثيق جدا بين مختلف أجزاء البروليتاريا الثورية، والوحدة التامة بين البلدان التي انتصرت فيها الاشتراكية. ز- إن الوسيلة الأساسية للنضال هي النشاط الجماهيري للبروليتاريا، بما فيه النضال المسلح المفتوح ضد سلطة دولة الرأسمال. 2- العلاقات مع الأحزاب « الاشتراكية » ح- لقد انقسمت الأممية الثانية إلى ثلاث مجموعات رئيسية: الاشتراكيون-الوطنيون المُعلنون، وهم الذين دعموا، على امتداد الحرب الإمبريالية خلال السنوات 1914-1918، برجوازيتهم الخاصة وحوّلوا الطبقة العاملة إلى جلاّد الثورة العالمية؛ « الوسط »، وزعيمه النظري حاليا هو كاوتسكي، ويمثل تنظيما مؤلفا من عناصر متذبذبة باستمرار، عاجزة عن اتباع خط موجّه محدد، وهؤلاء يتحركون أحيانا كخونة حقيقيين؛ وأخيرا الجناح اليساري الثوري. ط- بمواجهة الاشتراكيين-الوطنيين، الذين يجابهون، في كل مكان وفي اللحظات الحاسمة، الثورة البروليتارية بالسلاح، فإن النضال العنيد هو وحده الممكن، وبمواجهة « الوسط »: يجب اتباع تكتيك كسب العناصر الثورية، والنقد القاسي، وفضح القادة. وفي مرحلة معينة من التطور يصبح الانفصال التنظيمي عن الوسطيين ضرورة مطلقة. ي- من جهة ثانية هناك ضرورة للتكتل مع هذه العناصر من الحركة الثورية التي، بالرغم من عدم انتمائها يوما إلى الحزب الاشتراكي، تقف الآن بمجملها على أرضية دكتاتورية البروليتاريا تحت شكل السلطة السوفياتية، وهؤلاء هم بالدرجة الأولى العناصر النقابية في الحركة العمالية. ك- وأخيرا، من الضروري جذب كل المجموعات والتنظيمات البروليتارية التي، بالرغم من عدم انضمامها صراحة إلى التيار اليساري الثوري، تُظهر مع ذلك في تطورها ميلا بهذا الإتجاه. ل- نقترح، وبشكل ملموس، أن يشارك في المؤتمر، ممثلو الأحزاب والتيارات والمجموعات التالية (سيكون الأعضاء كاملو الحقوق في الأممية الثالثة، أحزابا مختلفة تماما، تقف كليا على أرضيتها):
1- عصبة سبارتاكوس (ألمانيا) م- يقوم أساس الأممية الثالثة على واقع أن مجموعات وتنظيمات من رفاق في الأفكار كانت قد تشكلت في أنحاء مختلفة من أوروبا. وهي تقف على أرضية برنامج مشترك وتستخدم، إجمالا، الأساليب التكتيكية نفسها، وهؤلاء هم في الدرجة الأولى السبارتاكيون في ألمانيا والأحزاب الشيوعية في العديد من البلدان الأخرى. ن- يجب أن ينبثق من المؤتمر، بهدف الاتصال الدائم والقيادة النظامية للحركة، جهاز نضال مشترك، يكون مركز الأممية الشيوعية، ويخضع مصالح الحركة في كل بلد للمصالح المشتركة للثورة على الصعيد العالمي. وسيقوم المؤتمر بوضع الأشكال الملموسة للتنظيم والتمثيل. ص- يتخذ المؤتمر اسم « المؤتمر الأول للأممية الشيوعية » وتصبح مختلف الأحزاب فروعا لهذه الأممية. على الصعيد النظري، وجد ماركس وإنجلز أن تسمية « اشتراكي-ديموقراطي » خاطئة، ويفرض هنا الانهيار المخزي للأممية الاشتراكية-الديموقراطية انفصالا عنها. وبالنهاية فإن النواة الأساسية للحركة الكبرى قد تشكلت من أحزاب اتخذت هذا الاسم.
انطلاقا مما سبق ذكره، نقترح على كل الأحزاب والتنظيمات الشقيقة أن تضع
على جدول أعمالها مسألة الدعوة إلى المؤتمر الأممي الشيوعي. مع تحياتنا
الاشتراكية. كانت الدعوة أعلاه موجهة إلى الشيوعيين في كل البلدان لحضور كونفرنس يعقد في موسكو في 15 فبراير 1919، غير أن الافتتاح تأخر بسبب الصعوبات الكبيرة في التنقل، ولم يعقد إلاّ في 2 مارس. وقد افتتح لينين الكونفرنس بكلمة صغيرة في السادسة مساء، واعتمدت اللغة الألمانية في المناقشات، وبالإضافة إليها استخدمت الروسية والفرنسية والانجليزية. وقد انتخبت بالإجماع، كرؤساء للمؤتمر، الرفاق: لينين (روسيا)، ألبرت (ألمانيا)، بلاتين (سويسرا) أمّا الرابع فقد جرى انتدابه، دوريا، من مختلف الأحزاب. وانتخب المؤتمر الرفيق كلينغر كأمين سر المؤتمر. وقد سجلت لجنة المندوبين حضور الأحزاب الثالية وقامت بتوزيع الأصوات:
نيابة عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي، أفتتح المؤتمر الأممي الأول. قبل أي شيء، أرجوكم أن تقفوا تمجيدا لذكرى أفضل ممثلي الأممية الثالثة، ذكرى كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ. أيها الرفاق، يكتسي مؤتمرنا أهمية كبرى في التاريخ العالمي، إنه يثبت إفلاس كل أوهام الديموقراطية البرجوازية؛ لقد أصبحت الحرب الأهلية واقعا ليس في روسيا وحسب بل في البلدان الرأسمالية الأكثر تطورا، ألمانيا مثلا. لقد جنت البرجوازية من الذعر أمام الحركة الثورية البروليتارية المتنامية وهذا يمكن فهمه، لأن كل مسار الأحداث منذ نهاية الحرب الإمبريالية، يعزز، حتما، الحركة الثورية البروليتارية، ولأن الثورة الأممية العالمية تبدأ وتنمو في البلدان كافة. إذ يتبين الشعب عظمة هذا النضال وأهميته، كان يفرض إيجاد الشكل العملي الذي يسمح للبروليتاريا بممارسة سيطرتها. هذا الشكل، هو نظام السوفياتات مع ديكتاتورية البروليتاريا. ديكتاتورية البروليتاريا: هاتان الكلمتان كانتا حتى أيامنا من « اللغة اللاتينية » بالنسبة للجماهير. أمّا الآن، فبفضل نظام السوفياتات، جرت ترجمة هذا التعبير اللاتيني إلى كل اللغات الحديثة؛ لقد أوجدت الجماهير الشعبية الشكل العملي للديكتاتورية، التي أصبحت مفهومة لدى أوسع الجماهير العمالية بفضل سلطة السوفياتات في روسيا، والسبارتاكيين في ألمانيا، وبعض التنظيمات المماثلة في البلدان الأخرى مثل لجان ممثلي شغيلة المتاجر في إنجلترا. كل هذا يثبت أن الشكل الثوري لديكتاتورية البروليتاريا بدأ يظهر ويشق طريقه في بلدان أخرى أيضا، فقد قرأت اليوم، في صحيفة إنجليزية معادية للاشتراكية، برقية تعلن أن الحكومة الإنجليزية استقبلت سوفيات مندوبي العمال في برمنغهام ووعدته بالاعتراف بالسوفياتات كمنظمات اقتصادية. إن النظام السوفياتي حقق النصر ليس في روسيا المتخلفة فحسب بل في البلدان الأكثر تحضرا في أوروبا كألمانيا، وفي أقدم بلد رأسمالي: إنجلترا. باستطاعة البرجوازية أن تعاقب بقسوة؛ وباستطاعتها أن تقتل أيضا آلاف العمال – غير أن النصر سيكون لنا. إن انتصار الثورة الشيوعية العالمية مؤكد. أيها الرفاق ! أرحب بكم بحرارة باسم لجنتنا المركزية.
موضوعات لينين حول الديموقراطية البرجوازية وديكتاتورية البروليتاريا 1- إن نمو الحركة الثورية البروليتارية في كل البلدان يحفّز الجهود المتشنجة للبرجوازية، وعملائها في التنظيمات العمالية، من أجل اكتشاف الحجج الفلسفية السياسية القادرة على المساعدة في الدفاع عن سيطرة المستغلين. وتندرج إدانة الدكتاتورية والدفاع عن الديموقراطية في إطار هذه الحجج. إن الكذب والخبث في هكذا حجة أرهقت السامعين من كثرة تردادها في الصحافة الرأسمالية وفي كونفرنس الأممية الصفراء في برن، فبراير 1919، بديهيان بالنسبة لجميع أولئك الذين لا يسعون إلى خيانة المبادئ الأساسية للاشتراكية. 2- بداية، ترتكز هذه الحجة على مفاهيم الـ« ديموقراطية بشكل عام » والـ« ديكتاتورية بشكل عام » دون تحديد المسألة الطبقية. إن طرح المشكلة بهذا الشكل، خارج المسألة الطبقية، بدعوى مراعاة الأمة بمجملها، هو بالضبط الهزء بالمذهب الرئيسي للاشتراكية، أي مذهب الصراع الطبقي، المسلّم بصحته قولا ولكن ينساه في الواقع الاشتراكيون الذين انتقلوا إلى معسكر البرجوازية، ذلك أنه لا يوجد في أي بلد متحضر، في أي بلد رأسمالي ديموقراطية بشكل عام، لا يوجد إلاّ الديموقراطية البرجوازية. ولا يتعلق الأمر بالديكتاتورية التي تمارسها الطبقة المضطهَدة، أي البروليتاريا، على المضطهِدين والمستغِلين، أي الطبقة البرجوازية، بهدف التغلب على مقاومة المستغِلين الذين يكافحون من أجل سيطرتهم. 3- يعلّم التاريخ أنه ما من طبقة مضطهَدة توصلت إلى السيطرة، أو استطاعت التوصل إليها دون المرور بمرحلة ديكتاتورية تستولي خلالها على السلطة السياسية وتتغلب عن طريق القوة على المقاومة اليائسة، الساخطة التي يواجِه بها المستغَلون دائما والتي لا ترتدع عن أية جريمة. إن البرجوازية، التي يدعم الاشتراكيون اليوم سيطرتها، خاطبين بإطناب حول الديكتاتورية « بشكل عام »، وضاجّين من أجل الديموقراطية « بشكل عام »، قد استولت على السلطة في البلدان المتحضرة عبر سلسلة انتفاضات وحروب أهلية، وعبر الإطاحة بالملوك والنبلاء ومالكي العبيد بالقوة، وعبر قمع محاولات الردة. لقد شرح الاشتراكيون في كل البلدان للشعب، آلاف المرات، الطابع الطبقي لهذه الثورات البرجوازية، في كتبهم وكراريسهم، في قرارات مؤتمراتهم وفي خطبهم الدعاوية. لذلك ليس الدفاع الحالي عن الديموقراطية البرجوازية عبر الخطب عن الـ« الديكتاتورية بوجه عام »، وليست كل هذه الصرخات وهذه الدموع ضد ديكتاتورية البروليتاريا تحت حدة إدانة « الديكتاتورية بشكل عام »، إلاّ خيانة فعلية للاشتراكية، وتخليا مميزا لصالح البرجوازية، ليست إلاّ إنكارا لحق البروليتاريا في ثورتها البروليتارية. إنه الدفاع عن الإصلاحية البرجوازية، وتحديدا في الوقت الذي انهزمت فيه في العالم أجمع، فيما خلقت الحرب حالة ثورية. 4- إن كل الاشتراكيين، إذ أثبتوا الطابع الطبقي للحضارة البرجوازية و الديموقراطية البرجوازية والبرلمانية البرجوازية، عبّروا عن هذه الفكرة، التي كان قد صاغها ماركس وإنجلز بأقصى ما يمكن من الصحة العلمية، والقائلة إن أكثر الجمهوريات البرجوازية ديموقراطية ليست شيئا آخر سوى آلة لاضطهاد الطبقة العاملة لصالح البرجوازية، وجماهير الشغيلة لصالح قبضة من الرأسماليين. ليس هناك ثوري واحد، ولا ماركسي واحد بين هؤلاء الذين يصرخون اليوم ضد الديكتاتورية ومن أجل الديموقراطية، لم يكن قد أقسم بأكبر آلهته أمام العمال، بأنه يقبل هذه الحقيقة الأساسية في الاشتراكية. واليوم بينما البروليتاريا الثورية تختمر وتتحرك، وتنزع إلى تحطيم آلة الاضطهاد هذه وتحقيق ديكتاتورية البروليتاريا، يريد هؤلاء الخونة الإيهام بأن البرجوازية قد أعطت الشغيلة الـ« ديموقراطية الصافية » وكأن البرجوازية قد استنكفت عن أية مقاومة وكانت جاهزة لإطاعة غالبية الشغيلة، وكأنه في أية ديموقراطية برجوازية، لم يكن هناك آلة حكومية معدّة لسحق العمال على يد الرأسمال. 5- إن كومونة باريس، التي يجلّها قولا كل الذين يريدون أن يُعتبروا اشتراكيين، لأنهم يعلمون أن الجماهير مفعمة بالتعاطف القوي والصادق معها، قد أثبتت بوضوح مميز النسبة التاريخية والقيمة المحدودة للبرلمانية البرجوازية و الديموقراطية البرجوازية، وهما المؤسستان اللتان تسجلان أكبر الأهمية بالنسبة لمؤسسات القرون الوسطى، ولكنهما تفرضان بالضرورة إصلاحا أساسيا في عصر الثورة البروليتارية. لقد أظهر ماركس، الذي ثمن أكثر من غيره الأهمية التاريخية للكومونة عبر تحليلها، طابع الاستغلال في الديموقراطية البرجوازية والبرلمانية البرجوازية، وهو النظام الذي تحصل فيه الطبقات المضطهدَة، ليوم واحد، على حق تقرير من سيكون ممثل الطبقات المالكة الذي سيمثل الشعب ويضطهده في البرلمان خلال مرحلة تمتد عدة سنوات. وفي الوقت الذي تشمل الحركة السوفياتية العالم أجمع، وتكمل بنظر الجميع عمل الكومونة، ينسى الخونة الاشتراكيون التجربة الملموسة لكومونة باريس، ويرددون الترهات البرجوازية حول الـ« ديموقراطية بشكل عام ». مع ذلك، لم تكن كومونة باريس مؤسسة برلمانية. 6- تتمثل قيمة الكومونة كذلك في أنها حاولت أن تقلب رأسا على عقب الجهاز الحكومي البرجوازي وتحطمه سواء في الإدارة، أو القضاء، أو الجيش أو الشرطة وذلك عن طريق استبداله بالتنظيم الذاتي للجماهير العمالية، دون الاعتراف بأي تمييز بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. إن كل الديموقراطيات البرجوازية المعاصرة، ودون استثناء الجمهورية الألمانية التي يسميها خونة الاشتراكية بروليتارية رغما عن الحقيقة، تحفظ على العكس الجهاز الحكومي القديم. وهكذا يتأكد مرة أخرى وبشكل بديهي كليا أن كل هذه الصرخات لصالح الديموقراطية لا تخدم بالواقع إلاّ الدفاع عن البرجوازية وعن امتيازات الطبقة المستغلة. 7- يمكن أخذ حرية الاجتماع مثالا على الديموقراطية الصافية. إن عامل واع لم يقطع مع طبقته، يفهم منذ اللحظة الأولى أنه من الحماقة بمكان السماح بحرية الاجتماع للمستغِلين في الوقت والظروف التي يقاوم فيها المستغِلون سقوطهم ويدافعون عن امتيازاتهم. عندما كانت البرجوازية ثورية في إنجلترا عام 1649 أو في فرنسا عام 1793 لم تمنح حرية الاجتماع للملكيين ولا للنبلاء الذين استدعوا القوات الأجنبية و« اجتمعوا » لتنظيم محاولات الردة. إذا كانت البرجوازية اليوم، التي أصبحت رجعية منذ فترة طويلة، تطالب البروليتاريا بأن تضمن لها مسبقاً، وبالرغم من كل المقاومة التي يقوم بها الرأسماليون ضد مصادرة ملكيتهم، حرية الاجتماع للمستغلين، فإن العمال لا يملكون إلاّ أن يضحكوا من نفاق البرجوازية. من جهة أخرى، يعلم العمال جيدا جدا أن حرية الاجتماع، حتى في الجمهورية البرجوازية الأكثر ديموقراطية، هي جملة لا معنى لها، طالما أن الأغنياء يملكون أفضل العمارات الخاصة والعامة, ووقت الفراغ اللازم للاجتماع تحت حماية هذا الجهاز الحكومي البرجوازي. إن بروليتاريي المدن والأرياف وصغار الفلاحين، أي الأغلبية العظمى من السكان لا تملك لا تلك العمارات ولا ذلك الوقت. وطالما أن الأمر كذلك، فإن المساواة، أي الديموقراطية المحضة ليست إلاّ خديعة. من أجل الحصول على المساواة الفعلية، ومن أجل تحقيق الديموقراطية فعلا لصالح الشغيلة، ينبغي مسبقا انتزاع كل المساكن الغنية العامة والخاصة من المستغِلين، وينبغي مسبقا تأمين أوقات الفراغ للشغيلة، وينبغي أن تتم حماية اجتماعاتهم بواسطة عمال مسلحين، وليس أبدا من قبل الضباط النبلاء الريفيين أو الرأسماليين، والجنود الموالين لهم. عندئذ فقط يمكننا أن نتكلم على حرية الاجتماع والمساواة، دون أن نهزأ من العمال والشغيلة. والحال، منْ باستطاعته إنجاز هذا الإصلاح غير الطبقة العمالية، أي البروليتاريا، عن طريق إطاحة المستغِلين و البرجوازية ؟ 8- إن حرية الصحافة هي أيضا أحد أكبر شعارات الديموقراطية المحضة. ومرة أخرى يعلم العمال أن الاشتراكيين في كل البلدان قد اعترفوا ملايين المرات بأن هذه الحرية هي أكذوبة، طالما أن أفضل المطابع وأكبر مخازن الورق يستأثر بها الرأسماليون، وطالما بقيت سلطة الرأسمال قائمة في العالم أجمع، وبوضوح وصفاء وصلافة أكبر، كلما كان النظام الديموقراطي والجمهوري أكثر تطورا، كما في أمريكا مثلا. فمن أجل الحصول على المساواة الفعلية و الديموقراطية الحقيقية بما يخدم مصالح الشغيلة، العمال والفلاحين، ينبغي أن تنزع من الرأسمال قدرته على استئجار الكتّاب، وشراء الصحف ودور النشر وإفسادها، ومن أجل هذا ينبغي إسقاط نير الرأسمال، إسقاط المستغلين، وتحطيم مقاومتهم. إن الرأسماليين يطلقون اسم حرية الصحافة على قدرة الأغنياء على إفساد الصحافة، وقدرتهم على استخدام ثرواتهم، من أجل فبركة الرأي العام المزعوم والمحافظة عليه. إن المدافعين عن « الديموقراطية المحضة » هم في الواقع، مرة أخرى، مدافعون عن النظام الحقير والفاسد لسيطرة الأغنياء على إعلام الجماهير، إنهم هؤلاء الذين يخدعون الشعب ويضللونه بالجمل الكاذبة، حول هذه الضرورة التاريخية، وهي تحرير الصحافة من خضوعها للرأسمال. إن الحرية الفعلية أو المساواة الفعلية لن توجدا إلاّ في النظام الذي يبنيه الشيوعيون، حيث يستحيل ماديا إخضاع الصحافة بشكل مباشر أو غير مباشر لسلطة المال، وحيث لا شيء يمنع أي شغيل أو مجموعة من الشغيلة في ظل هذا النظام من امتلاك، أو استخدام، حق استعمال مطابع الدولة وورقها، وبمساواة تامة. لقد بين لنا تاريخ القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حتى قبل الحرب، ما كانت عليه الديموقراطية المحضة الشهيرة في ظل النظام الرأسمالي. ردّد الماركسيون دوما أنه كلما كانت الديموقراطية أكثر تطورا، كلما كانت أكثر صفاء، كلما وجب أن يكون الصراع الطبقي أكثر حيوية وحدة وشراسة، وكلما ظهر أكثر صفاء نير الرأسمال و ديكتاتورية البرجوازية. إن قضية درايفوس في فرنسا الجمهورية، والعنف الدموي للمفارز المستأجرة والمسلحة من قبل الرأسماليين ضد المضربين في الجمهورية الأمريكية الحرة والديموقراطية، إن هذه الوقائع ولآلاف المشابهة غيرها، تكشف هذه الحقيقة التي تسعى البرجوازية عبثا إلى إخفائها، وهي أنه، تحديدا، في الجمهوريات الأكثر ديموقراطية، يسود الرعب وديكتاتورية البرجوازية. رعب ودكتاتورية يظهران بصراحة في كل مرة يبدو فيها للمستغِلين أن سلطة الرأسمال تتزعزع. 9- أظهرت الحرب الإمبريالية بين عامي 1914 و1918 بشكل نهائي، حتى أمام أعين العمال غير المستنيرين، هذا الطابع الحقيقي للديموقراطية البرجوازية، حتى في الجمهوريات الأكثر حرية – بما هو طابع ديكتاتورية برجوازية. فمن أجل إغناء حفنة من أصحاب الملايين أو المليارات الألمان أو الانجليز، جرى ذبح عشرات الملايين من الرجال، وتم تأسيس الديكتاتورية العسكرية للبرجوازية في الجمهوريات الأكثر حرية. وما زالت هذه الديكتاتورية العسكرية مستمرة في البلدان الحليفة حتى بعد هزيمة ألمانيا. إن الحربـ أكثر من أي شيء آخر، هي التي فتحت أعين الشغيلة ونزعت المغريات الكاذبة للديموقراطية البرجوازية؛ لقد أظهرت للشعب جحيم المضاربة والربح خلال الحرب وبمناسبة الحرب. لقد قامت البرجوازية بهذه الحرب باسم الحرية والمساواة، وباسم الحرية والمساواة جنى مموّنو الجيش ثروات خيالية. ولم تتوصل كل جهود أممية برن الصفراء إلى أن تخفي عن الجماهير طابع الاستغلال، الظاهر حاليا، للحرية البرجوازية، وللمساواة البرجوازية وللديموقراطية البرجوازية. 10- إن الأشهر الأولى من هذه الحرية الجمهورية التامة في ألمانيا، البلد الرأسمالي الأكثر تطورا في أوروبا، هذه الحرية التي حملتها هزيمة ألمانيا الإمبريالية، قد أظهرت للعمال الألمان وللعالم أجمع الطابع الطبقي للجمهورية الديموقراطية البرجوازية. إن اغتيال كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ هو حدث ذو أهمية تاريخية عالمية، ليس فقط بسبب الموت المأساوي لإثنين من أفضل شخصيات وقيادات الأممية البروليتارية والشيوعية الحقيقية، بل أيضا لأنها أظهرت الجوهر الفعلي للنظام البرجوازي في الدول الأكثر تطورا في أوروبا، لا بل يمكننا القول، في العالم أجمع. إذا كان هناك أشخاص قيد الاعتقال، بمعنى أنهم موضوعون تحت السلطة الحكومية للاشتراكيين الوطنيين، قد أمكن قتلهم، دون محاكمة، من قبل الضباط والرأسماليين، فهذا يعني أن الجمهورية الديموقراطية التي أمكن أن يتم فيها حدث مماثل ليست إلاّ ديكتاتورية البرجوازية. إن الأشخاص الذين يعبّرون عن نقمتهم بصدد موضوع اغتيال كارل ليـبكنخت وروزا لوكسمبورغ، لكن دون أن يفهموا هذه الحقيقة، لا يثبتون بذلك إلاّ غباءهم أو نفاقهم. إن الحرية، في إحدى أكثر جمهوريات العالم حرية وتقدما، الجمهورية الألمانية، هي حرية قتل قادة البروليتاريا الموقوفين دون محاكمة. ولا يمكن أن يكون الأمر مختلفا طالما بقيت الرأسمالية، لأن تطور المبدأ الديموقراطي، بعيدا عن أن يضعف الصراع الطبقي، زاد من حدته؛ وقد بلغ هذا الصراع نقطة الغليان بفعل مضاعفات الحرب وتأثيرها. ويجري اليوم، في كل العالم المتحضر طرد البلاشفة، وملاحقتهم وسجنهم، كما حصل مثلا في سويسرا، إحدى الجمهوريات البرجوازية الأكثر حرية، وفي أمريكا حيث يجري ذبح الشيوعيين الخ.. ومن وجهة نظر الديموقراطية بشكل عام والديموقراطية المحضة، من السخف تماما أن تخاف الدول المتحضرة والمتقدمة، والديموقراطية المسلحة حتى الأسنان، من وجود بضع عشرات من الأشخاص القادمين من روسيا المتأخرة الجائعة والمهدمة، من روسيا هذه التي يسمونها في ملايين النسخ في الصحف البرجوازية، بالمتوحشة والمجرمة، الخ.. من الواضح أن الشروط الاجتماعية التي أمكن أن ينمو فيها تناقض صارخ إلى هذا الحد، تُحقّق في الواقع دكتاتورية البرجوازية. 11- في حالة كهذه، ليست ديكتاتورية البروليتاريا شرعية بشكل مطلق فحسب، كأداة خاصة بالبروليتاريا لإطاحة المستغلين وسحق مقاومتهم، بل إنه لا غنى عنها بالمطلق بالنسبة لكل الجماهير العاملة، كونها الوسيلة الوحيدة للدفاع ضد دكتاتورية البرجوازية التي سبّبت الحرب والتي تحضر لحروب جديدة. إن النقطة الأكثر أهمية، التي لا يفهمها الاشتراكيون، والتي تشكل قصر نظرهم النظري وانحباسهم في الأفكار المسبقة البرجوازية وخيانتهم السياسية تجاه البروليتاريا، هي أنه عندما يحتدم الصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي، وهو في أساس هذا المجتمع، لا يعود هناك حل وسط بين ديكتاتورية البرجوازية وديكتاتورية البروليتاريا، فكل الأحلام حول حل وسط ليست إلاّ نوا حا رجعيا من جانب برجوازيين صغار. لقد حملت البرهان على ذلك تجربة تطور الديموقراطية البرجوازية والحركة العمالية منذ أكثر من قرن في كل البلدان المتحضرة، وبشكل خاص تجربة السنوات الخمس الأخيرة، وهذه أيضا الحقيقة التي يعلمها كل علم الاقتصاد السياسي، وكل مضمون الماركسية الذي يشرح بحكم أية ضرورة اقتصادية تولد ديكتاتورية البرجوازية، وكيف أنه لا يمكن أن تستبدل إلاّ بطبقة متطورة، مضاعفة، معزّزة، أصبحت شديدة التماسك بفعل تطور الرأسمالية نفسها، أي طبقة البروليتاريين. 12- إن الخطأ النظري والسياسي الآخر للإشتراكيين، يقوم على عدم فهمهم أن أشكال الديموقراطية قد تعززت باستمرار خلال القرون التي مرت، منذ بذورها الأولى في العصور القديمة، كلما أستُبدلت طبقةٌ مسيطرة بأخرى. في الجمهوريات اليونانية القديمة، وفي المدن في القرون الوسطى، وفي البلدان الرأسمالية المتحضرة، تتخذ الديموقراطية أشكالا مختلفة وعلى درجة من التكيف مختلفة. وسيكون حماقة لا حماقة بعدها الاعتقادُ بأن الثورة الأكثر عمقا في تاريخ الإنسانية وبأن انتقال السلطة،للمرة الأولى في العالم، من أقلية من المستغِلين إلى أكثرية من المستغَلين، يمكن أن تحدث في الأطر القديمة للديموقراطية البرجوازية والبرلمانية، ويمكن أن تحدث دون شروخ واضحة، دون أن تخلق مؤسسات جديدة تجسد شروط الحياة الجديدة الخ… 13- تشبه ديكتاتورية البروليتاريا ديكتاتورية الطبقات الأخرى، لأنها تَنْتُج مثل كل صنف من الديكتاتورية، عن ضرورة قمع مقاومة الطبقة التي خسرت سيطرتها السياسية، وبشكل عنيف. إن النقطة الأساسية التي تفصل ديكتاتورية البروليتاريا عن تلك الخاصة بالطبقات الأخرى، عن ديكتاتورية العناصر الإقطاعية في القرون الوسطى والديكتاتورية البرجوازية في كل البلدان المتحضرة الرأسمالية، هي أن ديكتاتورية العناصر الإقطاعية و ديكتاتورية البرجوازية، تتمثلان بالسحق العنيف لمقاومة الأكثرية الهائلة من السكان ومن الطبقة العاملة، فيما تسحق ديكتاتورية البروليتاريا عن طريق القوة، مقاومة المستغِلين، أي الأقلية الضئيلة من السكان، الملاكين العقاريين والرأسماليين. ينتج عن هذا أيضا أن ديكتاتورية البروليتاريا تُحدث بشكل حتمي تغييراً ليس فقط في الأشكال والمؤسسات الديموقراطية بشكل عام بل أنها أيضا تُحدث تغييراً يصل إلى حد التوسيع غير المعروف حتى الآن للمبدأ الديموقراطي لصالح الطبقات التي تستغلها الرأسمالية، لصالح الطبقات الكادحة. وفي الواقع، إن شكل ديكتاتورية البروليتاريا الذي تم تحقيقه بالفعل، أي سلطة السوفيات في روسيا، والـRaete Système في ألمانيا، والـShop Stewadrs Committees، والمؤسسات الأخرى المشابهة في البلدان الأخرى، يعني للطبقات الكادحة، أي الأغلبية العظمى من السكان، ويحقق لها إمكانية سريعة للإفادة من الحقوق والحريات الديموقراطية كما لم يحصل أبدا من قبل، ولو بشكل مشابه، في الجمهوريات الأفظل ديموقراطية. إن جوهر سلطة السوفيات يقوم على أن الأساس الثابت والوحيد لكل السلطة الحكومية هو منظمة الجماهير المضطَهدة سابقا على يد الرأسماليين، أي العمال وأشباه البروليتاريا (الفلاحين الذين لا يستغلون عمل غيرهم والذين هم بحاجة بشكل ثابت لبيع جزء على الأقل من قوة عملهم). هذه هي الجماهير التي تتمتع حتى في الجمهوريات البرجوازية الأكثر ديموقراطية، بالمساواة تبعا للقانون، فيما هي مبعدة في الواقع، وبواسطة آلاف الآعراف والمناورات، عن كل مشاركة في الحياة السياسية، عن كل استخدام للحقوق والحريات الديموقراطية، وهي المدعوة اليوم إلى اتخاذ نصيب هام وإلزامي، نصيب حاسم، في الإدارة الديموقراطية للدولة. 14- إن المساواة بين المواطنين، بغض النظر عن الجنس والدين والعرق والقومية، التي وعدت بها الديموقراطية البرجوازية دائما وفي كل مكان، لكنها لم تحققها في أي مكان، ولن تستطيع تحقيقها نظرا لسيطرة الرأسمالية، تحققها سلطة السوفيات أو ديكتاتورية البروليتاريا دفعة واحدة وبشكل كامل، لأنها وحدها القادرة على تحقيق سلطة العمال غير المنتفعين من الملكية الخاصة، ووسائل الإنتاج، والصراع من أجل اقتسامها وتوزيعها. 15- كانت الديموقراطية القديمة، أي الديموقراطية البرجوازية والبرلمانية منظمة بطريقة تبعد الجماهير الكادحة، أكثر فأكثر، عن الجهاز الحكومي. إن سلطة السوفيات، أي ديكتاتورية البروليتاريا، مبنية على العكس بحيث تقرّب الجماهير الكادحة من الجهاز الحكومي، وللغاية نفسها يهدف الجمع بين السلطة التشريعية والتنفيذية في التنظيم السوفياتي للدولة، كذلك استبدال الدوائر الانتخابية الإقليمية بوحدات عمل، مثل المصانع والمشاغل. 16- لم يكن الجيش أداة قمع في ظل الملكية فقط، بل بقي كذلك في كل الجمهوريات البرجوازية حتى أكثرها ديموقراطية. إن سلطة السوفيات وحدها، باعتبارها التنظيم الدائم للطبقات المضطهدة على يد الرأسمالية، هي القادرة على إزالة خضوع الجيش للقيادة البرجوازية، وعلى الدمج الفعلي للبروليتاريا بالجيش، عبر إنجاز تسليح البروليتاريا ونزع سلاح البرجوازية، اللذين بدونهما يستحيل انتصار الاشتراكية. 17- يتكيّف التنظيم السوفياتي للدولة مع الدور القيادي للبروليتاريا، باعتبارها طبقة متمركزة إلى حد بعيد، وقد تربّت على يد البرجوازية. إن تجربة كل الثورات وكل حركات الطبقات المضطهدة، وتجربة الحركة الاشتراكية في العالم أجمع، تعلمنا أن البروليتاريا هي وحدها القادرة على توحيد وقيادة الجماهير المتشتتة والمتخلفة من السكان الكادحين والمستغَلين. 18- إن التنظيم السوفياتي للدولة هو وحده القادر فعليا، وبضربة واحدة، على تحطيم الجهاز الإداري والقضائي البرجوا زي القديم وتدميره، بشكل نهائي، هذا الجهاز الذي بقي وكان من المحتم أن يبقى في ظل الرأسمالية حتى في الجمهوريات الأكثر ديموقراطية، لأنه كان بالفعل الحائل الأكبر أمام وضع المبادئ الديموقراطية لصالح العمال والشغيلة موضع التنفيذ. لقد قامت كومونة باريس، في هذا الطريق، بالخطوة الأولى ذات الأهمية التاريخية العالمية، وقامت سلطة السوفيات بالخطوة التالية. 19- إن القضاء على السلطة الحكومية هو الهدف الذي اتخذه الاشتراكيون على عاتقهم وكان ماركس أولهم. دون تحقيق هذا الهدف، لا يمكن تحقيق الديموقراطية الحقيقية، أي المساواة والحرية. وعليه فإن الوسيلة الوحيدة لتحقيقه هي الديموقراطية السوفياتية أو البروليتارية، ذلك أنها بدعوتها منظمات الجماهير الكادحة إلى الإسهام الحقيقي والإلزامي بالحكومة، تبدأ من الآن بالإعداد للإزالة التامة لكل حكومة. 20- إن الإفلاس الكامل للإشتراكيين المجتمعين في برن وعدم فهمهم المطلق للديموقراطية البروليتارية الجديدة يظهران بشكل خاص بالتالي: في العاشر من فبراير 1919، اختتم برانتينغ في برن الكونفرانس العالمي للأممية الصفراء. وفي 11 فبراير 1919، ،نُشر في برلين في صحيفة شركاء برانتينغ في العقيدة، صحيفة Die Freiheit، نداء من حزب المستقلين إلى البروليتاريا. يجري الاعتراف في هذا النداء بالطابع البرجوازي لحكومة شيدمان، التي يتهمها بالرغبة في إلغاء السوفياتات، المدعوة بالمبشرة بالثورة والمدافعة عنها، وتجري مطالبة الحكومة باعتبار السوفياتات شرعية ومنحها الحقوق السياسية وحق التصويت ضد قرارات الجمعية التأسيسية، على أن يبقى الاستفتاء الحكم الأخير. يبين هذا النداء السقوط الكامل للمنظرين المدافعين عن الديموقراطية دون فهم طابعها البرجوازي. إن هذه المحاولة السخيفة لدمج نظام السوفياتات، أي ديكتاتورية البروليتاريا بالجمعية التأسيسية، أي دكتاتورية البرجوازية، تفضح بالعمق، وفي آن معا، الفقر الفكري للاشتراكيين الصُّفر والاشتراكيين الديموقراطيين، وطابعهم الرجعي البرجوازي الصغير، وتنازلاتهم الجبانة أمام القوة المتصاعدة باضطراد للديموقراطية البروليتارية الجديدة. 21- إذا أدانت البلشفية أغلبية أممية برن، التي لم تجرؤ على التصويت الشكلي على جدول أعمال يتفق مع فكرها، خوفا من الجماهير العمالية، فإنها تصرفت بالضبط انطلاقا من وجهة نظرها الطبقية. إن هذه الأكثرية متضامنة بالكامل مع المناشفة والاشتراكيين الثوريين الروس، وأنصار شيد مان الألمان. إن المناشفة والاشتراكيين الثوريين الروس، إذ يشتكون من ملاحقة البلاشفة لهم يحاولون أن يخفوا واقع أن سبب هذه الملاحقة هو مشاركة المناشفة والاشتراكيين الثوريين في الحرب الأهلية إلى جانب البرجوازية ضد البروليتاريا. ولقد كان أنصار شيدمان وحزبهم قد أظهروا بالطريقة نفسها في ألمانيا، أنهم يشاركون في الحرب الأهلية إلى جانب البرجوازية ضد العمال. من الطبيعي، تبعا لذلك، أن تعلن أغلبية المشاركين في أممية برن الصفراء معاداتها للبلاشفة، وبذلك لا تظهر أبدا الرغبة في الدفاع عن الديموقراطية المحضة بل الحاجة للدفاع عن النفس، لدى أشخاص يحسبون ويعلمون أنهم يقفون إلى جانب البرجوازية ضد البروليتاريا في الحرب الأهلية. لذلك، ومن وجهة نظر الصراع الطبقي، من المستحيل عدم الاعتراف بصحة قرار أكثرية الأممية الصفراء. لا ينبغي للبروليتاريا أن تخشى الحقيقة بل أن تنظر إليها مواجهة وتستخلص النتائج الناجمة عنها. على قاعدة الموضوعات، ونظرا إلى تقارير المندوبين في مختلف البلدان يعلن مؤتمر الأممية الشيوعية أن المهمة الأساسية للأحزاب الشيوعية في مختلف المناطق حيث لم تتشكل سلطة السوفيات بعد، تتمثل بالتالي: أولا: تنوير جماهير الطبقة العاملة، بشكل واسع، حول المعنى التاريخي للضرورة السياسية والعملية لديموقراطية بروليتارية جديدة، ينبغي أن تحل مكان الديموقراطية البرجوازية والبرلمانية. ثانيا: توسيع وتنظيم السوفياتات في كل ميادين الصناعة والجيش والبحرية وبين العمال الزراعيين وصغار الفلاحين. ثالثا: كسب أغلبية شيوعية موثوقة وواعية داخل السوفياتات.
أيها الرفاق أريد أن أضيف بعض الكلمات على النقطتين الأخيرتين، وأعتقد أن الرفاق الذين سيقدمون لنا التقرير عن كونفرانس أممية برن سيحدثوننا بتفاصيل أكبر. خلال كونفرانس برن بأكمله لم يقل كلمة واحدة عن معنى السلطة السوفياتية، فيما نحن نناقش هذه المسألة منذ سنتين في روسيا. كنا في أبريل 1917، في مؤتمر الحزب، قد طرحنا المسألة من وجهة نظر نظرية وسياسية: « ما هي السلطة السوفياتية، ما هو جوهرها وما هو معناها التاريخي ؟ » وها قد مضى حوالي عامين ونحن ندرس هذه المسألة وقد تبنينا قرارا بهذ الصدد في مؤتمر الحزب. نشرت صحيفة الفرايهايت (Freiheit) في 11 فبراير نداء إلى البروليتاريا الألمانية لم يوقعه فقط القادة الاشتراكيون-الديموقراطيون المستقلون في ألمانيا، بل كذلك كل أعضاء تكتل المستقلين. وفي غشت 1918، كتب كاوتسكي أكبر منظري المستقلين في كراسه « ديكتاتورية البروليتاريا » أنه كان من مناصري الديموقراطية والأجهزة السوفياتية، ولكن ينبغي ألاّ تتخذ السوفياتات إلاّ طابعا اقتصاديا، ولا يمكن اعتبارها كمنظمات لدولة. ويكرر كاوتسكي هذا التأكيد في عدديْ 11 نوفمبر و12 يناير من صحيفة الفراهايت. في 9 فبراير ظهر مقال لرودولف هيلفردينغ، الذي يُعتبر أيضا أحد المنظرين الأساسيين المسؤولين في الأممية الثانية، يقترح فيه دمج نظامي السوفياتات والجمعية التأسيسية حقوقيا، أي بالطريقة الاشتراعية. كان ذلك في التاسع من فبراير، وتبنى هذا الاقتراح الثاني حزب المستقلين بكامله، ونُشر بشكل نداء. على الرغم من أن الجمعية الوطنية باتت موجودة بالفعل، حتى بعد أن تجسدت « الديموقراطية المحضة » في الواقع، وبعد أن شرح كبار منظري الاشتراكية-الديموقراطية أن المنظمات السوفياتية لا يمكن أن تكون منظمات دولة، بعد كل ذلك ورغما عنه، لا زال هناك تردد. هذا يثبت أن هؤلاء السادة لم يفهموا حقا أي شيء عن الحركة الجديدة وشروطها النضالية. لكن هذا يثبت، بالإضافة إلى ذلك، شيئا آخر، وهو أنه يجب أن توجد هناك ظروف ودوافع تؤدي إلى هذا التردد. عندما يقترحون علينا بعد كل تلك الأحداث، بعد ما يقارب عامين من الثورة المنتصرة في روسيا، هكذا مقررات، كما جرى تبنيها في كونفرانس برن، مقررات لم يُذكر فيها أي شيء عن السوفياتات ومعناها، وفي كونفرانس لم ينطق خلاله أي مندوب بكلمة، في أي خطاب، عن هذه المسائل، يكون لدينا الحق في التأكيد بأن كل هؤلاء السادة أموات، بالنسبة لنا، كاشتراكيين وكمنظرين. لكن، في الواقع، فإن هذا يثبت، أيها الرفاق، من وجهة النظر السياسية، أن هناك تقدما كبيرا يتحقق بين الجماهير، بما أن هؤلاء المستقلين المعاد ين من الناحية النظرية ومن حيث المبدأ لمنظمات الدولة هذه، يقترحون علينا فجأة حماقة من مثل الدمج « السلمي » بين الجمعية الوطنية ونظام السوفياتات، أي الدمج بين ديكتاتورية البرجوازية و ديكتاتورية البروليتاريا. وهكذا نرى إلى أي درجة أفلست هذه الجماعة من الناحيتين السياسية والنظرية، ونرى التحول الضخم الذي حصل على الصعيد الجماهيري. إن الجماهير المتخلفة من البروليتاريا الألمانية تأتي إلينا، ماذا أقول ؟ لقد أتت إلينا. هكذا فإن معنى الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني المستقل، الذي شكل الجزء الأفضل من الناحيتين النظرية والاشتراكية، يساوي صفرا، وهو يحتفظ مع ذلك بأهمية معينة، بمعنى أن عناصره تقدم لنا مؤشرا على حالة الجزء الأكثر تخلفا من البروليتاريا. من هنا تنبع برأيي الأهمية التاريخية الضخمة لهذا الكونفرانس. لقد شهدنا شيئا مشابها خلال ثورتنا، إذ خضع المناشفة خطوة خطوة، تقريبا، للتطور ذاته الذي عرفه المنظرون المستقلون في ألمانيا. عندما كانوا يحوزون الأغلبية في السوفياتات كانوا من أنصارها فلم نكن نسمع آنذاك سوى صيحات مثل: « عاشت السوفياتات »، « من أجل السوفياتات »، « السوفياتات و الديموقراطية الثورية ! » لكن عندما حزنا نحن الأكثرية في السوفياتات، نحن البلاشفة، أنشدوا أغنيات أخرى، مثل: « لا ينبغي للسوفياتات أن توجد في الوقت نفسه مع الجمعية التأسيسية »، لا بل إن بعض المنظرين المناشفة اقترحوا شيئا مشابها لدمج نظام السوفياتات مع الجمعية التأسيسية وإدخالها في منظمات الدولة. ويظهر مرة أخرى أن المجرى العام للثورة البروليتارية متشابه في العالم أجمع: تشكل عفوي وأولي للسوفياتات في البداية، وامتدادها فيما بعد وتطورها، ومن ثم ظهور السؤال التالي في الممارسة: سوفيتات، أو جمعية وطنية تأسيسية، أو برلمانية برجوازية ؟، تشويش مطلق لدى القادة، وفي النهاية الثورة البروليتارية. يبدو لي مع ذلك أنه بعد حوالي عامين من الثورة لا يجب أن نطرح السؤال على هذه الشاكلة، بل ينبغي أن نتخذ مقررات ملموسة لأن انتشار نظام السوفياتات هو بالنسبة لنا، وبشكل خاص بالنسبة لغالبية بلدان أوربا الغربية، إحدى المهام الأكثر جوهرية. إن الغريب الذي لم يسمع أي شيء سابقا عن البلاشفة، لن يستطيع أن يكوّن رأيا خاصا عن نقاشاتنا إلاّ بصعوبة بالغة. فكل ما يؤكده البلاشفة يناقضه المناشفة والعكس صحيح، وبالطبع لا يمكن أن يكون الأمر مختلفا في مجرى الصراع. كان من الأهمية بمكان أن يتخذ الكونفرنس الأخير للحزب المنشفي المنعقد في شهر ديسمبر 1918 قرارا طويلا مفصلا، نشر بكامله في جريدة المناشفة « جريدة التيبوغراف ». يطرح المناشفة بالذات، في هذا القرار، تاريخ الصراع الطبقي والحرب الأهلية بشكل مختصر. ويذكر القرار أن المناشفة يدينون المجموعات الحزبية المتحالفة مع الطبقات المسيطرة في الأورال والجنوب والقرم وجورجيا، ويشيرون بدقة إلى كل هذه المناطق. إن المجموعات الحزبية المنشفية المتحالفة مع الطبقات المسيطرة والتي حاربت ضد السلطة السوفياتية هي الآن مدانة بهذا القرار، لكن النقطة الأخيرة تدين كذلك الذين انضموا إلى الشيوعيين. وتبعا لذلك فإن المناشفة مضطرون للاعتراف بأنه لم تعد هناك وحدة في حزبهم، فهم إمّا يقفون إلى جانب البرجوازية أو إلى جانب البروليتاريا. إن قسما هاما من المناشفة انضم إلى البرجوازية وقاتل ضدنا خلال الحرب الأهلية، فطبيعي أن نلاحقهم، وحتى أن نغتالهم، حيث أنهم، في الحرب ضدنا، يقاتلون الجيش الأحمر ويغتالون ضباطنا الحمر. لقد رددنا على البرجوازية، التي أعلنت علينا الحرب البروليتارية، ولا يمكن أن يكون هناك مخرج آخر. هكذا إذن فمن وجهة نظر سياسية ليس كل ذلك إلاّ نفاقا منشفيا. تاريخيا، ثمة أمر لا يمكن فهمه هو أن أشخاصا غير معتبرين رسميا مجانين كان بإمكانهم، وبدفع من المناشفة والاشتراكيين الثوريين أن يتحدثوا، في كونفرانس برن، عن نضال البلاشفة ضدهم، فيما يمرون بصمت على نضالهم المشترك مع البرجوازية ضد البروليتاريا. جميعهم يهاجموننا بشراسة لأننا نلاحقهم، هذا صحيح، لكنهم يحاذون أن يقولوا كلمة واحدة عن الموقع الذي اتخذوه هم أنفسهم في الحرب الأهلية. أعتقد أنه من المناسب أن يُنشر النص الكامل للقرار في محضر الجلسة وأتمنى على الرفاق الأجانب أن يعيروه كل اهتمامهم، لأنه يمثل وثيقة تاريخية، المسألة مطروحة فيه بالكامل، وتقدم أفضل توثيق حول النقاش بين الاتجاهات « الإشتراكية » المختلفة في روسيا. توجد بين البروليتاريا والبرجوازية طائفة من الناس تميل تارة إلى هذا الجانب وتارة إلى الجانب الآخر. هكذا كان الوضع دائما وفي كل الثورات، ومن المستحيل على الإطلاق في المجتمع البرجوازي، حيث تشكل البروليتاريا والبرجوازية معسكرين عدوين متقابلين، ألاّ توجد بينهما شرائح اجتماعية وسطية. إن وجود هذه العناصر المترددة أمر حتمي تاريخيا ولسوء الحظ فإن هذه العناصر التي لا تعرف هي نفسها مع من ستقاتل إذا، سوف تبقى موجودة، ولفترة طويلة نسبيا. إنني أرغب بتقديم اقتراح ملموس نحو تبني قرار تتم الإشارة فيه بشكل خاص إلى ثلاث نقاط: 1- إن إحدى المهمات الأكثر أهمية بالنسبة للرفاق في أوربا الغربية تقوم على شرح معنى نظام السوفياتات للجماهير وأهميته وضرورته. فإننا نلحظ نقصا في الفهم في هذه الناحية. إذا كان صحيحا أن كاوتسكي وهيلفردينغ قد أفلسا كمنظرين، فإن المقالات الأخيرة التي نشرت في الـ« فرايهايت » تبرهن، مع ذلك، على أنهما قد عرفا أن يعبرا بدقة عن ذهنية الأقسام المتخلفة من البروليتاريا الألمانية. لقد حصل الشيء نفسه عندنا: خلال الأشهر الثمانية الأولى للثورة الروسية نوقشت مسألة النظام السوفياتي كثيرا، ولم يكن العمال يرون بوضوح كبير على ماذا يقوم النظام الجديد، ولا إذا كان بالإمكان تشكيل جهاز الدولة بواسطة السوفياتات. لقد استطعنا التقدم، في ثورتنا، ليس بالطريقة النظرية بل بالطريقة العملية. وهكذا مثلا، لم نطرح أبدا في السابق مسألة الجمعية التأسيسية نظريا ولم نقل أبدا لن نعترف بها. ونحن لم نقرر حلّ الجمعية التأسيسية إلاّ مؤخرا، عندما انتشرت المؤسسات السوفياتية عبر البلد كله واستولت على السلطة السياسية. إننا نشهد في الوقت الحاضر المسألة تطرح بحدة أكبر في المجر وسويسرا. من جهة، شيء ممتاز أن يكون الأمر كذلك، فإننا نستمد من هذه الواقعة القناعة المطلقة بأن الثورة تتقدم بسرعة أكبر في البلدان الغربية، وأنها ستحمل إلينا انتصارات كبيرة، ولكن، من جهة ثانية، هناك خطر ما، وهو أن الصراع سيكون من الشراسة والتوتر بحيث أن وعي الجماهير العمالية لن يتمكن من اللحاق بهذا الإيقاع. حتى الآن ما زال معنى نظام السوفياتات غير واضح بالنسبة لأوسع الجماهير العمالية الألمانية المثقفة سياسيا، ذلك أنها تربّت على عقلية برلمانية وعلى أفكار مسبقة برجوازية. 2- ثمة نقطة متعلقة بانتشار نظام السوفياتات. فعندما نرى مدى السرعة التي تنتشر فيها فكرة السوفياتات في ألمانيا وحتى في انجلترا، يمكننا أن نقول لأنفسنا إن هذا برهان أساسي على أن الثورة البروليتارية سوف تنتصر، ولا يمكن إيقاف مجراهاإلاّ لقليل من الوقت. ولكن أن يأتي إلينا الرفيقان ألبرت وبلاتين ليصرحا بأنه لا يوجد سوفياتات عندهما في الريف بين العمال الزراعيين والفلاحين الصغار، فهذه قضية مختلفة. لقد قرأت، في « روت فاهنه » (Rote Fahne) مقالا ضد السوفياتات الفلاحية ولكنه (وهذا صحيح كليا) يدعم سوفياتات العمال الزراعيين والفلاحين الفقراء. إن البرجوازية وخدامها مثل شيدمان وشركاه قد أطلقوا شعار السوفياتات الفلاحية. ولكننا لا نريد إلاّ سوفياتات العمال الزراعيين والفلاحين الفقراء. يتضح لسوء الحظ، من تقريري الرفيقين ألبرت وبلاتين وغيرهما أننا، باستثناء المجر، لا نقوم إلاّ بالشيء القليل من أجل توسيع النظام السوفياتي في الأرياف. وهنا ربما يكمن خطر عملي ذو أهمية بوجه البروليتاريا الألمانية الساعية إلى تحقيق الانتصار. وبالفعل لا يمكن أن يُعتبر الانتصار مضمونا إلاّ عندما لا يُنظم العمال في المدن فقط، بل كذلك العمال الزراعيون. وعندما ينظّمون ليس كما في السابق في النقابات والتعاونيات، بل في السوفياتات. لقد أحرزنا الانتصار بسهولة أكبر لأننا في أكتوبر 1917، مشينا معا نحن وكل الفلاحين. بهذا المعنى فإن ثورتنا كانت آنذاك برجوازية. كانت الخطوة الأولى لحكومتنا البروليتارية هي تحقيق المطالب القديمة لكل الفلاحين، التي عبّرت عنها السوفياتات وجمعيات الفلاحين في عهد كيرنسكي، وذلك عن طريق القانون الذي وضعته حكومتنا في 26 أكتوبر (التقويم القديم) 1917، غداة الثورة. هنا تكمن قوتنا ولهذا كان بمقدورنا أن نكسب بسهولة تعاطف الأغلبية الساحقة. لقد استمرت ثورتنا في الريف ثورة برجوازية، ولكن، فيما بعد، وبانقضاء ستة أشهر اضطررنا للشروع، ضمن أطر تنظيم الدولة، بالصراع الطبقي في الأرياف، وبتأسيس لجان الفقراء وأنصاف البروليتاريين في كل قرية والنضال بشكل منظم ضد البرجوازية الريفية. كان ذلك أمرا لا مفر منه عند نا لأن روسيا بلد متخلف. وسيكون الأمر مختلفا تماما في أوربا الغربية، لهذا علينا أن نشدد على الضرورة المطلقة لتوسيع النظام السوفياتي وسط السكان الريفيين، بأشكال ملائمة وربما جديدة. 3- ينبغي أن نقول إن كسب الأغلبية الشيوعية داخل السوفياتات يشكل المهمة الرئيسية في مختلف البلدان حيث لم تنتصر بعد السلطة السوفياتية. لقد درست لجنة القرارات عندنا هذه المسألة. ربما أراد بعض الرفاق إبداء رأيهم ولكنني أرغب بتقديم اقتراح، وهو أن يجري تبني النقطة التالية بشكل قرار خاص. من البديهي أننا لن نتمكن من تحديد مجرى تطور الثورة، فمن المحتمل جدا أن تنفجر في دول عديدة من أوربا الغربية قريبا جدا. في كل الأحوال نحن نميل ويجب أن نميل بصفتنا جناحا منظما من العمال، وبوصفنا حزبا، إلى كسب الأغلبية في السوفياتات. عندها، يصبح انتصارنا مضمونا ولن يبقى هناك من قوة قادرة على القيام بأي شيء ضد الثورة الشيوعية. وإلاّ، فلن يكون النصر سهل البلوغ كما لن يكون استمراره طويلا.
قرار حول الموقف من التيارات الإشتراكية وكونفرانس برن لقد تبيّن منذ عام 1907، في المؤتمر العالمي الاشتراكي في شتوتغارت، عندما عرضت الأممية الثانية لمسألة السياسة الكولونيالية والحرب الإمبريالية، أن نصف أعضاء الأممية الثانية وغالبية قياداتها كانوا في هذه المسألة أكثر قربا بكثير إلى وجهات نظر البرجوازية منهم إلى وجهة نظر ماركس وإنغلز الشيوعية. على الرغم من ذلك، فإن مؤتمر شتوتغارت تبنى تعديلا اقترحه الجناح الثوري، ن. لينين وروزا لوكسمبرغ، مصوغا بالشكل التالي: « بيد أنه إذا اندلعت حرب ما، على الاشتراكيين أن يعملوا على وضع نهاية سريعة لها، وأن يستخدموا، بكل الوسائل، الأزمة الاقتصادية والسياسية الناجمة عن الحرب من أجل إيقاظ الشعب والإسراع بذلك في إسقاط السيطرة الرأسمالية ». وفي مؤتمر بال في نوفمبر 1912، الذي دعي للإنعقاد أثناء حرب البلقان، أعلنت الأممية الثانية: « على الحكومات البرجوازية ألاّ تنسى أن الحرب الفرنسية-الألمانية قد خلقت انتفاضة الكومونة الثورية، وأن الحرب الروسية-اليابانية قد حركت القوى الثورية في روسيا. بنظر البروليتاريين، إن التقاتل لأجل الربح الرأسمالي والتنافس بين السلالات الملكية وازدهار المعاهدات الديبلوماسية، إنما هو جريمة ». وفي أواخر يوليو وأوائل أغسطس 1914، قبل 24 ساعة من بدء الحرب العالمية استمرت الهيئات والمؤسسات المختصة، بإدانة الحرب التي تقترب، على اعتبارها أكبر جريمة ترتكبها البرجوازية. إن التصريحات العائدة إلى تلك الأيام، والصادرة عن الأحزاب القيادية في الأممية الثانية تشكل حكم الإدانة الأكثر بلاغة ضد قياد يّي الأممية الثانية. * * * * * مع طلقة المدفع الأولى التي سقطت على حقول المجزرة الامبريالية، خانت الأحزاب الرئيسية في الأممية الثانية الطبقة العاملة، وانحاز كل حزب منها، تحت غطاء « الدفاع الوطني »، إلى جانب برجوازيته الخاصة. شيدمان وألبرت في ألمانيا، توماس ورينودل في فرنسا، هندرسون وهايدمان في إنكلترا، فاندرفلد ودي بروكير في بلجيكا، رينير وبرنر ستورفر في النمسا، بليخانوف وروبانوفيتش في روسيا، برانتينغ وحزبه في السويد، غومير ورفاقه في أمريكا، موسوليني وشركاؤه في إيطاليا، كل هؤلاء نصحوا البروليتاريا بـ« هدنة » مع برجوازية بلد« ها »، وبأن تقلع عن الحرب ضد الحرب، بأن تصبح في الواقع وقودا لمدافع الامبرياليين. كانت هذه هي اللحظة التي أفلست فيها الأممية الثانية إفلاسا نهائيا وهلكت. * * * * * لقد تمكنت البرجوازية في البلدان الأكثر ثراء، بفعل التطور الاقتصادي العام، من إفساد قمة الطبقة العاملة. الأرستقراطية العمالية، وإغرائها، عن طريق الصدقات المأخوذة من أرباحها الضخمة. وتوافد « رفاق نضال » الاشتراكية البرجوازيون الصغار إلى صفوف الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية الرسمية، ووجهوا شيئا فشيئا مجرى هذه الأخيرة وجهة البرجوازية. وشكّل قادة الحركة العمالية البرلمانية والسلمية، والقادة النقابيون، وأمناء سرّ الاشتراكية-الديموقراطية ومحرروها ومستخدموها، شريحة بيروقراطية عمالية كاملة، لها مصالحها الخاصة كمجموعة أنانية، شريحة كانت في الواقع معادية للإشتراكية. بفعل هذه الظروف مجتمعة انحطت الاشتراكية-الديموقراطية الرسمية إلى حزب معاد للاشتراكية وشوفيني. كانت قد ظهرت داخل الأممية الثانية ثلاث إتجاهات رئيسية. وخلال الحرب وحتى بداية الثورة البروليتارية في أوربا تحددت معالم هذه الاتجاهات الثلاثة بوضوح كامل: 1- الاتجاه الاشتراكي-الشوفيني (إتجاه « الأغلبية ») وممثلوه الأكثر نموذجية هم الاشتراكيون-الديموقراطيون الألمان الذين يتقاسمون السلطة اليوم مع البرجوازية الألمانية، والذين أصبحوا قتلة زعيمي الأممية الشيوعية كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبرغ. لقد انكشف الاشتراكيون-الشوفينيون حاليا كأعداء طبقة البروليتاريا كليا، وهم يتبعون برامج « تصفية » الحزب، الذي أملته عليهم البرجوازية: تحميل الجماهير الكادحة الجزء الأكبر من الضرائب، عدم المساس بالملكية الخاصة، الحفاظ على الجيش بأيدي البرجوازية، حل المجالس العمالية التي تظهر في كل مكان والحفاظ على السلطة السياسية بأيدي البرجوازية – أي برنامج « الديموقراطية » البرجوازية بوجه الاشتراكية. على الرغم من الشراسة التي قاتل فيها الشيوعيون حتى اليوم « جناح الأكثرية في الاشتراكية-الديموقراطية »، لم يدرك العمال، مع ذلك، بعد كل الخطر الذي يتهدد به هؤلاء الخونة البروليتاريا العالمية، ان فتح أعين العمال كافة على العمل الخياني للاشتراكيين-الشوفينيين وشل قدرة الحزب المعادي للثورة على الأذية، وبقوة السلاح، هو إحدى المهمات الأكثر أهمية للثورة البروليتارية العالمية. 2- الإتجاه الوسطي (الاشتراكيون-السلميون، الكاوتسكيون والمستقلون)، هذا الاتجاه بدأ يتشكل منذ ما قبل الحرب، خاصة في ألمانيا. في بداية الحرب تطابقت بشكل شبه دائم المبادئ العامة للـ« وسط » مع تلك الخاصة بالاشتراكيين-الشوفينيين. ودافع كاوتسكي، الزعيم النظري للـ« وسط » عن سياسة الاشتراكيين-الشوفينيين الألمان والفرنسيين. ولم تكن الأممية سوى « أداة في زمن السلم » و« نضال من أجل السلم »، و« صراع طبقي – في زمن السلم ». كانت هذه شعارات كاوتسكي. منذ بداية الحرب والـ« وسط » داعم لـ« الوحدة » مع الاشتراكيين-الشوفينيين. وبعد اغتيال ليبكنخت ولوكسمبورغ، استمر الـ« وسط » بالتبشير بهذه « الوحدة »، أي وحدة العمال الشيوعيين مع قتلة الزعيمين الشيوعيين، ليبكنخت ولوكسمبورغ. منذ بداية الحرب والـ« وسط » (كاوتسكي وفيكتور آدلر، توراتي، ماك دونالد) يروج « للعفو المتبادل »، تجاه زعماء الأحزاب الاشتراكية-الشوفينية في ألمانيا والنمسا من جهة، وفي فرنسا وإنجلترا من جهة ثانية. وما زال « الوسط » حتى اليوم وبعد الحرب ينادي بهذا العفو، معيقا بذلك العمال عن تكوين فكرة واضحة عن أسباب انهيار الأممية الثانية. لقد أرسل « الوسط » ممثليه إلى برن، إلى الكونفرانس العالمي للإشتراكيين المساومين، مسهلا بذلك مهمة شيدمان ورينودل بخداع العمال. إنه من الضروري بشكل مطلق فصل العناصر الأكثر ثورية عن « الوسط »، ولا يمكن تحقيق ذلك إلاّ بالنقد الذي لا يرحم لزعماء « الوسط » والتشهير بهم. إن القطيعة التنظيمية مع « الوسط » هي ضرورة تاريخية مطلقة. ومهمة الشيوعيين في كل بلد هي أن يحددوا وقت هذه القطيعة تبعا للمرحلة التي بلغتها الحركة عندهم. 3- الشيوعيون: كان هذا التيار يمثل الأقلية داخل الأممية الثانية، حيث دافع عن المفاهيم الشيوعية-الماركسية حول الحرب ومهام البروليتاريا (شتوتغارت 1907، قرار لينين-لوكسمبورغ). وقد شكل تجمع « اليسار الراديكالي » (عصبة سبارتاكوس فيما بعد) في ألمانيا، والحزب البلشفي في روسيا و« المنبريون » في هولندا، وتجمع الشبيبة في عدد من البلدان، النواة الأولى للأممية الجديدة. ولما كان هذا الإتجاه مخلصا لمصالح الطبقية العاملة فقد رفع منذ بداية الحرب شعار تحويل الحرب الامبريالية إلى حرب أهلية. لقد تشكل هذا الإتجاه الآن كأممية ثالثة. * * * * * كان الكونفرانس الإشتراكي في برن الذي عقد في فبراير 1919 محاولة لتحنيط جثة الأممية الثانية. يدل تكوين كونفرانس برن بشكل جلي على أن البروليتاريا الثورية في العالم لا تشترك مع الكونفرانس في أي شيء. إن البروليتاريا المنتصرة في روسيا، و البروليتاريا البطلة في ألمانيا، والبروليتاريا الإيطالية والحزب الشيوعي البروليتاري النمساوي والمجري، والبروليتاريا السويسرية والطبقة العاملة في بلغاريا، ورومانيا والصرب، والأحزاب العمالية اليسارية في السويد والنروج وفنلندا، والبروليتاريا الأوكرانية والليتونية والبلند ية، والشبيبة الأممية والأممية النسائية، قد رفضت بحزم المشاركة في كونفرنس برن الذي عقده الاشتراكيون - الوطنيون. إن المشاركين في كونفرنس برن الذين ما زالوا يحفظون شيئا من الصلة مع الحركة العمالية الفعلية في عصرنا، شكلوا تجمعا معارضا، وقف بوجه مكائد الاشتراكيين-الوطنيين، على الأقل بصدد المسألة الجوهرية، مسألة « تقويم الثورة الروسية » إن تصريح الرفيق الفرنسي لوريو، الذي فضح أغلبية كونفرنس برن، يعكس الرأي الفعلي لكل العمال الواعين في العالم أجمع. لقد كان كونفرنس برن يتحرك دائما، في « قضية المسؤوليات » المزعومة، ضمن أطر الإيديولوجية البرجوازية. وقد تبادل الاشتراكيون-الوطنيون الألمان والفرنسيون التهم نفسها التي تراشقت بها البرجوازيتين الألمانية والفرنسية. وضاع كونفرنس برن في تفاصيل سخيفة حول هذا المسلك أو ذاك لهذا الوزير أو ذاك قبل الحرب، وهم لا يريدون أن يعترفوا بأن الرأسمالية، والرأسمال المالي في مجموعتي القوى وخدامها الاشتراكيون-الوطنيون هم المسؤولون الرئيسيون عن الحرب. لقد كانت أغلبية الاشتراكيون-الوطنيون في برن تريد أن تكتشف من هو المسؤول عن الحرب، وكانت تكفي نظرة واحدة إلى المرآة كي يعترفوا كلهم على أنفسهم كمسؤولين عنها. إن التصريحات الصادرة عن كونفرنس برن حول المسألة الإقليمية مليئة بالالتباسات. إن هذا الالتباس هو بالضبط ما تحتاج إليه البرجوازية. وقد اعترف السيد كليمنصو ممثل البرجوازية الامبريالية الأكثر رجعية بمزايا الكونفرنس الاشتراكي-الوطني في برن بوجه الرجعية الامبريالية، باستقباله وفدا عن كونفرنس برن وبالاقتراح عليه المشاركة في كل لجان الكونفرانس الامبريالية في باريس. لقد أظهرت المسألة الكولونيالية بوضوح أن كونفرنس برن كان في المؤخرة وراء سياسيي الاستعمار الليبراليين-البرجوازيين هؤلاء، الذين يبررون استغلال البرجوازية الامبريالية للمستعمرات واستعبادها لها، ويسعون فقط إلى تمويه ذلك الاستغلال والاستعباد بجمل خيرية-إنسانية. إن الاشتراكيين-الوطنيين الألمان يطالبون بالإبقاء على انتماء المستعمرات الألمانية للرايخ، أي الإبقاء على استغلال الرأسمال الألماني لهذه المستعمرات. وتبين الاختلافات في وجهات النظر حول هذا الموضوع أن الاشتراكيين-الوطنيين في الدول الحليفة إنما يحملون وجهة نظر تاجر العبيد نفسها، ويعتبرون أنه من الطبيعي جدا أن يستعبد رأس المال الاستعماري المستعمرات الانكليزية والفرنسية. وهكذا يظهر أن كونفرنس برن قد نسي كليا شعار « فلتسقط السياسة الكولونيالية ». في تقويم « جمعية الأمم » أظهر كونفرنس برن أنه يقتفي آثار هذه العناصر البرجوازية، التي تسعى تحت المظهر المخادع لما يسمى بـ« عصبة الأمم » إلى إبعاد الثورة البروليتارية المتعاظمة في العالم أجمع. فبدل أن يفضح كونفرنس برن دسائس مؤتمر الحلفاء المنعقد في باريس، باعتبارها دسائس زمرة تقوم باستنزاف الشعوب الصغيرة التابعة والمجالات الاقتصادية، ساندها في ذلك، إذ جعل من نفسه أداة لها. إن الموقف الذيلي للكونفرانس الذي ترك لمؤتمر حكومي برجوازي في باريس الاهتمام بحل مسألة التشريع حول حماية العمل، يُظهر أن الاشتراكيين-الوطنيين قد عبّروا بوعي عن دعمهم للإبقاء على عبودية الإجارة الرأسمالية واستعدادهم لخداع الطبقة العاملة بإصلاحات غير مجدية. إن التحولات، التي أوحت بها السياسة البرجوازية، بأن يتخذ كونفرنس برن قرارا تغطي بموجبه الأممية الثانية أي تدخل عسكري محتمل ضد روسيا، لم تفشل إلاّ بفضل جهود المعارضة. إن النجاحات التي حققتها المعارضة في برن بمواجهة العناصر الشوفينية المعلنة هي بالنسبة لنا دليل غير مباشر على أن البروليتاريا في أوربا الغربية تتعاطف مع الثورة البروليتارية في روسيا، وأنها مستعدة للنضال ضد البرجوازية الامبريالية. وإزاء خشية خدم البرجوازية هؤلاء من الاهتمام، ولو بالحد الأد نى، بهذه الظاهرة ذات الأهمية التاريخية العالمية، نكتشف الخوف الذي يشعرون به أمام امتداد المجالس العمالية. تشكل المجالس العمالية الظاهرة الأكثر أهمية منذ كومونة باريس. إن كونفرنس برن بتناسيه هذه المسألة، إنما عبّر عن بؤسه المعنوي وإفلاسه النظري. يعتبر مؤتمر الأممية الشيوعية أن « الأممية » التي يحاول كونفرانس برن إنشاءها، هي أممية صفراء مشكلة من قامعي الإضرابات، وهي ليست ولن تكون إلاّ أداة للبرجوازية. إن المؤتمر يدعو عمال العالم أجمع إلى خوض النضال الأكثر حزما ضد الأممية الصفراء، وإلى وقاية أوسع الجماهير من أممية الكذب والخيانة هذه.
إعلان من المشاركين بكونفرانس زيمرفالد في مؤتمر الأممية الشيوعية لقد كان لكونفرانسي زيمرفالد وكينتال أهميتهما الخاصة في مرحلة كانت من الضروري فيها توحيد كل العناصر البروليتارية المستعدة، بشكل أو بآخر، للاحتجاج على المجزرة الامبريالية، غير أن بعض العناصر « الوسطية »، السلمية والمترددة، كانت قد دخلت إلى تجمع زيمرفالد إلى جانب العناصر الشيوعية الصرفة، وقد توحدت اليوم، كما ظهر في كونفرانس برن، هذه العناصر الوسطية مع الاشتراكيين الوطنيين من أجل قتال البروليتاريا الثورية، مستخدمة بذلك زيمرفالد لصالح الرجعية. وكانت الحركة الشيوعية، في الوقت نفسه، تنمو في عدد من البلدان. والآن أصبح النضال ضد العناصر الوسطية، التي تشكل عائقا أمام تطور الثورة الاجتماعية، المهمة الرئيسية للبروليتاريا الثورية. إن تجمع زيمرفالد قد إنتهى، وما تبقى فيه من ثوري بالفعل راح ينحاز وينضم إلى الأممية الشيوعية. إن المشاركين في زيمرفالد، الموقعين أدناه، يعلنون أنهم يعتبرون تجمع زيمرفالد منحلاًّ، ويطالبون من مكتب كونفرانس زيمرفالد أن يعيد جميع وثائقه إلى اللجنة التنفيذية ل الأممية الثالثة. راكوفسكي، لينين، زينوفييف، تروتسكي، بلاتن
بعد الاستماع إلى تقرير الرفيق بالابانوف، سكرتير اللجنة الاشتراكية العالمية، والرفاق راكوفسكي، بلاتن، لينين، تروتسكي وزينوفييف، أعضاء تجمع زيمرفالد يقرر المؤتمر الشيوعي الأول اعتبار تجمع زيمرفالد منحلاً.
لكي يتمكن المؤتمر من بدء عمله النشط د ون تأخير، فإنه يعيّن فورا الهيئات الضرورية، على اعتبار أن التشكيل النهائي للأممية الشيوعية يجب أن يقدمه المؤتمر القادم بناء على اقتراح المكتب. تُسند قيادة الأممية الشيوعية إلى لجنة تنفيذية، وتتشكل هذه اللجنة من ممثل عن كل حزب شيوعي في البلدان الأكثر أهمية. وعلى الأحزاب في روسيا، وألمانيا، والنمسا الألمانية، وهنغاريا، واتحاد البلقان، وسويسرا واسكندنافسا، أن ترسل فورا ممثليها إلى أول اجتماع للجنة تنفيذية. إن الأحزاب في البلدان التي تعلن انتسابها إلى الأممية الشيوعية قبل المؤتمر الثاني تحصل على مقعد في اللجنة التنفيذية. وحتى وصول ممثلين أجانب يؤمن الرفاق في البلد مركز اللجنة التنفيذية سير العمل، وتنتخب اللجنة التنفيذية مكتبا من خمسة أشخاص.
بلاتن، رئيسا - .. سأطلعكم الآن على اقتراح تقدم به المندوبون: راكوفسكي، غروبر، غريملاند ورودنيانسكي. هذا الاقتراح وارد بالشكل التالي: « إن ممثلي الحزب الشيوعي النمساوي الألماني، وحزب اليسار الاشتراكي-الديموقراطي في السويد والاتحاد العمالي الثوري الاشتراكي-الديموقراطي في البلقان، والحزب الشيوعي الهنغاري، يقترحون تأسيس الأممية الشيوعية. « 1- إن ضرورة النضال من أجل ديكتاتورية البروليتاريا تفرض التنظيم الموحد، المشترك والأممي لكل العناصر الشيوعية التي تقف على هذه الأرضية. « 2- إن هذا التأسيس هو الواجب الأكثر إلحاحا في الوقت الذي تجري فيه حاليا في برن، وربما في مكان آخر أيضا، لاحقاً، محاولة لإعادة الأممية الإنتهازية القديمة، وتجمع كل العناصر البروليتارية المشوشة والمترددة. لهذا من الضروري إقامة فصل واضح بين العناصر البروليتارية الثورية والعناصر الاشتراكية-الخائنة. « 3- إذا لم تتأسس الأممية الثالثة في الكونفرانس المنعقد في موسكو، فإن ذلك سيخلق انطباعا بأن الأحزاب الشيوعية غير متفقة، مما يضعف موقفنا ويزيد من البلبلة بين العناصر المترددة من البروليتاريا في كل البلدان. « 4- إن بناء الأممية الثالثة هو إذن واجب تاريخي مطلق، وعلى الكونفرانس الشيوعي العالمي المنعقد في موسكو أن يجعل منه حقيقة ». يفترض هذا الإقتراح اتخاذ قرار بصدد ما إذا كنا نشكل كونفرانسا أو مؤتمرا. إن هذا القرار يهدف إلى بناء الأممية الثالثة والنقاش مفتوح. بعد النقاش طرح الرفيق بلاتن على التصويت الاقتراح الذي وقّعه كل من راكوفسكي، غروبر، غريملاند ورودنيانسكي. وقال: « إن هذا الإقتراح قد وُضع بهدف الوصول إلى قرار حول تأسيس الأممية الثالثة ». جرى تبني القرار بالإجماع، ما عدا امتناع خمسة أصوات (الوفد الألماني).
إن الكونفرانس الشيوعي العالمي يقرر تشكيل نفسه كأممية ثالثة ويتبنى اسم الأممية الشيوعية. إن نُسَب الأصوات الممنوحة لن يطرأ عليها أي تغيير، وكل الأحزاب والتنظيمات والتجمعات تحتفظ بحق الإنضمام بشكل نهائي إلى الأممية الثالثة، ضمن مهلة ثمانية أشهر.
لقد انكشفت بقوة لا مثيل لها تناقضات النظام العالمي، التي كانت مخبأة داخله في السابق، بانفجار هائل: الحرب الامبريالية العالمية الكبرى. سعت الرأسمالية إلى تخطي فوضاها الخاصة بها عبر تنظيم الإنتاج. فعوضا من المشاريع العديدة المتنافسة، نظمت نفسها في جمعيات رأسمالية (نقابات، كارتيلات، تروستات). لقد ا ندمج الرأسمال المصرفي بالرأسمال الصناعي. ووقعت الحياة الاقتصادية بمجملها تحت سلطة أوليغارشية مالية رأسمالية، اكتسبت سلطة مطلقة بواسطة تنظيم قائم على هذه السلطة، وحل الاحتكار محل المنافسة الحرة. إن الرأسمالي المنعزل تحول إلى عضو في جمعية رأسمالية؛ لقد حل التنظيم محل الفوضى الجنونية. ولكن، بقدر ما استبدلت الأساليب الفوضوية في الإنتاج الرأسمالي بالتنظيم الرأسمالي، في كل دولة مأخوذة على حدة، بلغت التناقضات والمنافسة والفوضى في الاقتصاد العالمي درجة أكبر من الحدة. إن الصراع بين أكبر الدول المتنافسة يؤدي، بفعل ضرورة صارمة، إلى الحرب الامبريالية الوحشية. إن التعطش للأرباح يدفع الرأسمالية العالمية إلى الصراع من أجل غزو أسواق جديدة ومصادر جديدة للمواد الخام والأيدي العاملة الرخيصة من عبيد المستعمرات. إن الدول الامبريالية التي تقاسمت العالم أجمع وحولت ملايين البروليتاريين والفلاحين الأفارقة والآسيويين والأمريكيين والأوستراليين إلى بهائم بمجموعهم، كان لابد عاجلا أو آجلا أن تكشف، في نزاع هائل، الطبيعة الفوضوية للرأسمال. وهكذا حدثت إحدى أكبر الجرائم-الحرب اللصوصية العالمية. سعت الرأسمالية إلى تخطي تناقضات بنيتها الاجتماعية. إن المجتمع البرجوازي هو مجتمع طبقي، لكن رأس المال في الدول الكبرى « المتحضرة » سعى إلى خنق التناقضات الاجتماعية، وعلى حساب الشعوب المستعمرة، التي كان يحطمها، اشترى عبيده المأجورين خالقا وحدة مصالح بين المستغَلين والمستغِلين – وحدة مصالح موجهة ضد المستعمرات المضطَهدة والشعوب المستعمرَة الصفراء والسوداء والحمراء، وقيّد العامل الأوروبي أو الأمريكي إلى « الوطن » الإمبريالي. غير أن هذا المنهج نفسه من الإفساد المستمر، الذي كان يخلق وطنية الطبقة العاملة وخضوعها المعنوي، أحدث، بفضل الحرب، نقيضه الخاص. فالتحطيم والإخضاع الكلي للبروليتاريا والنير الوحشي، والافقار والانحطاط والجوع في العالم أجمع كل ذلك كان آخر فدية للسلام الإجتماعي. لقد أفلس ذلك السلام، وتحولت الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية. وُلد عصر جديد، عصر انحلال الرأسمالية وانهيارها الداخلي، عصر ثورة البروليتاريا الشيوعية. إن النظام الرأسمالي ينهار. اضطرابات في المستعمرات، تخمّر بين القوميات الصغيرة المحرومة من الاستقلال حتى الآن، انتفاضات بروليتارية، ثورات بروليتارية منتصرة في العديد من البلدان، تفكك في الجيوش الامبريالية، وعجز مطلق لدى الطبقات المسيطرة عن التحكم، من الآن وصاعدا، بمصير الشعوب: هذه هي لوحة الوضع الحالي في العالم أجمع. إن الإنسانية، التي جرى تخريب حضارتها، مهددة بالدمار. لم يعد هناك إلاّ قوة واحدة قادرة على إنقادها، وهذه القوة هي البروليتاريا. إن « النظام » الرأسمالي القديم لم يعد موجودا، ولم يعد بإمكانه أن يوجد. والنتيجة النهائية للأساليب الرأسمالية في الإنتاج هي الفوضى وهذه الفوضى لا يمكن التغلب عليها إلاّ بواسطة أكبر طبقة منتجة، الطبقة العاملة، وهي التي ينبغي أن تقيم النضال الفعلي، النظام الشيوعي، وينبغي أن تكسر سيطرة الرأسمال، وتجعل الحروب مستحيلة، وتمحو الحدود بين الدول، وتحوّل العالم إلى جماعة واسعة عاملة من أجل نفسها، وتحقق التضامن الأخوي وتحرر الشعوب. في غضون ذلك، يتسلح الرأسمال العالمي ضد البروليتاريا في معركة أخيرة. وتحت غطاء عصبة الأمم والثرثرة السلمية يجرب جهوده الأخيرة من أجل ضبط الأجزاء المفككة من تلقاء نفسها في النظام الرأسمالي، وتوجيه قواه ضد الثورة البروليتارية المندفعة بشكل لا يقاوم. على هذا الجديد، على هذه المؤامرة الضخمة للطبقات الرأسمالية، ينبغي أن ترد البروليتاريا باستلام السلطة السياسية وأن توجه هذه السلطة ضد أعدائها، وأن تستخدمها كرافعة للتحويل الاقتصادي للمجتمع. إن الانتصار النهائي للبروليتاريا العالمية سوف يشكل بداية تاريخ الإنسانية المحررة.
إن استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية يعني القضاء على السلطة السياسية للبرجوازية. إن الجهاز الحكومي بجيشه الرأسمالي، الموضوع تحت قيادة هيئة من الضباط البرجوازيين واليونكرز، وبشرطته ودركه، بسجانيه وقضاته، وكهنته وموظفيه…الخ، يشكل أقوى أداة للحكم بين أيدي البرجوازية. إن الاستيلاء على السلطة الحكومية لا يمكن أن تقتصر على تغيير الأشخاص في تأليف الحكومات، بل يجب أن يعني القضاء على جهاز دولة غريب، والاستيلاء على القوة الحقيقية، ونزع سلاح البرجوازية وهيئة الضباط المعادين للثورة والحرس الأبيض، وتسليح البروليتاريا والجنود الثوريين والحرس الأحمر العمالي، وعزل القضاة البرجوازيين وتنظيم المحاكم البروليتارية، وتدمير نزعة التوظيف الرجعية وإنشاء أجهزة جديدة للإدارة البروليتارية. إن النصر البروليتاري مضمون بفعل فساد السلطة العد وة وتنظيم السلطة البروليتارية، وهو ما يجب أن يعني انهيار جهاز الدولة البرجوازي وإنشاء جهاز دولة بروليتاري. ولن تستطيع البروليتاريا إجبار أعدائها القدامى على خدمتها بشكل مفيد، عبر وضعهم بشكل تدريجي تحت رقابتها في سياق عملية بناء الشيوعية، إلاّ بعد الانتصار الكامل، أي عندما تكون حطمت المقاومة البرجوازية نهائيا.
تمثل الدولة البروليتارية، مثل كل دولة، جهاز إكراه، وهذا الجهاز موجه الآن ضد أعداء الطبقة العاملة. مهمته تحطيم مقاومة المستغلين وجعلها مستحيلة، هؤلاء المستغلين الذين يستخدمون في صراعهم اليائس كل الوسائل من أجل خنق الثورة بشكل دموي. ومن جهة أخرى تجعل دكتاتورية البروليتاريا من هذه الطبقة طبقة حاكمة بشكل رسمي، وتخلق بذلك وضعا انتقاليا. وبالقدر الذي يجري فيه تحطيم مقاومة البرجوازية، يجري نزع ملكيتها وتتحول إلى جماهير كادحة. عندها تختفي دكتاتورية البروليتاريا، وتموت الدولة، وتنتهي معها الطبقات الاجتماعية. إن ما يسمى بالديموقراطية، أي الديموقراطية البرجوازية ليست سوى دكتاتورية برجوازية مقّنعة. إن « الإدارة الشعبية » التي طالما جرى تمجيدها ليست سوى تلفيق، مثل وحدة الشعب. الواقع أنه توجد طبقات لا يمكن التوفيق بين مصالحها المتعارضة. وبما أن البرجوازية ليست إلاّ أقلية ضئيلة، فإنها تلجأ إلى هذا التلفيق، هذه « الإدارة الشعبية »، المزعومة من أجل تثبيت سيطرتها على الطبقة العاملة بواسطة التعابير الجميلة، ومن أجل أن تفرض عليها إرا دة طبقتها. وعلى العكس من ذلك، فإن البروليتاريا التي تشكل الأغلبية العظمى من السكان، تستخدم بشكل صريح قوة منظماتها الجماهيرية وسوفياتاتها من أجل الدفع بالانتقال نحو مجتمع شيوعي بد ون طبقات. إن جوهر الديموقراطية البرجوازية يقوم على الاعتراف الشكلي المحض بالحقوق والحريات، وتحديدا تلك المتعذ رة على البروليتاريين وأنصاف البروليتاريين، بسبب افتقارهم للموارد المادية، بينما تملك البرجوازية كل الامكانات لتستفيد من هذه المصادر المادية، ومن صحافتها وتنظيمها لتكذب على الشعب وتخدعه. على العكس من ذلك يقوم جوهر النظام السوفياتي – هذا النموذج الجديد من السلطة الحكومية – على اكتساب البروليتاريا إمكانية تأمين حقوقها وحريتها بالفعل. إن سلطة السوفيات تضع في أيدي الشعب أجمل القصور والبيوت والمطابع ومستودعات الورق، الخ.. من أجل صحافته واجتماعاته ونقاباته، ولا تصبح الديموقراطية البروليتارية ممكنة فعلا إلاّ عند ذلك. في ظل النظام البرلماني، لا تعطي الديموقراطية البرجوازية السلطة للجماهير إلاّ بالقول، وتكون تنظيماتها مبعدة كليا عن السلطة الفعلية والإدا رة الحقيقية للبلاد. أمّا في النظام السوفياتي فتحكم تنظيمات الجماهير، بواسطتها نفسها، وتستقدم السوفياتات إلى إدارة الدولة عددا متزايدا باستمرار من العمال. وبهذه الطريقة فقط سيتمكن ا لشعب العامل شيئا فشيئا من المساهمة الفعالة في حكم الدولة. بهذا الشكل، يرتكز النظام السوفياتي على تنظيمات الجماهير البروليتارية، الممثلة بالسوفياتات نفسها والاتحادات المهنية الثورية والتعاونيات الخ. إن الديموقراطية البرجوا زية والبرلمانية، إذ تفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وبغياب حق عزل النواب، تستكمل عزل الجماهير عن الدولة. على العكس، فإن النظام السوفياتي، إذ يقر حق العزل ويجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتبعا لذلك، إذ يتيح للسوفياتات القدرة على تشكيل مجموعات عمل، إنما يربط الجماهير بأجهزة الإدارات. ويتعزز هذا الارتباط بواقع أنه لا تجري الانتخابات في النظام السوفياتي تبعا لتقسيمات مناطقية مصطنعة، بل تتوافق مع الوحدات المحلية للإنتاج. يؤمن النظام السوفياتي بهذا الشكل إمكانية ديموقراطية بروليتارية حقيقية، ديموقراطية من أجل البروليتاريا وداخل البروليتاريا، موجهة ضد البرجوازية. في هذا النظام يتأمن للبروليتاريا الصناعية وضعٌ مسيطر، ويناط بها دور الطبقة القائدة، بسبب تنظيمها الجيد وتطورها السياسي الكبير. وهذا التفوق الآني للبروليتاريا الصناعية يجب أن يُستخدم من أجل انتزاع الجماهير غير المالكة، البرجوازية الصغيرة الفلاحية، من تحت تأثير الملاكين الريفيين الكبار والبرجوازية، ومن أجل تنظيمها ودعوتها إلى المشاركة في البناء الشيوعي.
نزع ملكية البرجوازية وتشريك وسائل الإنتاج إن تحليل النظام الرأسمالي والتنظيم الرأسمالي للعمل يجعلان من المستحيل إعادة تشكيل الإنتاج على الأسس القديمة، نظرا إلى العلاقات بين الطبقات. إن نضال العمال من أجل تحسين الأجور، حتى في حال نجاحه، لا يؤدي إلى التحسن المرتجى في ظروف المعيشة. فزيادة أسعار المنتجات تلغي لا محالة كل نجاح. إن النضال الحازم للعمال من أجل زيادة أجورهم في البلدان حيث الحالة ميؤوس منها بداهة، هذا النضال، بطابعه المندفع والحماسي، وبميله إلى التعميم، يجعل من المستحيل من الآن وصاعدا تطور الإنتاج الرأسمالي. إن تحسين ظروف العمال لا يمكن أن يتحقق إلاّ عندما تستولي البروليتاريا بنفسها على الإنتاج. فمن أجل رفع مستوى القوى الإنتاجية الاقتصادية، ومن أجل كسر المقاومة البرجوازية بأقصى سرعة ممكنة، هذه المقاومة التي تطيل احتضار المجتمع القديم، وتخلق بذلك خطر القضاء الكامل على الحياة الاقتصادية، على دكتاتورية البروليتاريا أن تحقق مصادرة ملكية البرجوازية الكبيرة وطبقة النبلاء، وأن تجعل من وسائل الإنتاج والنقل ملكية جماعية للدولة البروليتارية. إن الشيوعية تولد حاليا على أنقاض المجتمع الرأسمالي، ولن يترك التاريخ مخرجا آخر أمام الانسانية. إن الانتهازيين، عبر رغبتهم بتأخير التشريك، وعبر مطلبهم الطوباوي بتجديد الاقتصاد الرأسمالي، لا يقومون إلاّ بتأخير حل الأزمة، وخلق التهديد بالخراب الكامل. بينما تظهر الثورة الشيوعية، بالنسبة للقوة الإنتاجية الحقيقية في المجتمع، بالنسبة للبروليتاريا – ومعها بالنسبة لكل المجتمع – كأفضل وسيلة خلاص وأضمنها. لا تقود ديكتاتورية البروليتاريا إلى أي توزيع لوسائل الإنتاج والنقل، وعلى العكس فإن مهمتها تقوم على تحقيق أكبر مركزة لوسائل الإنتاج، وعلى إدارة الإنتاج وفق خطة واحدة. إن الخطوة الأولى نحو تشريك الاقتصاد بمجمله ستتضمن بالضرورة الإجراءات التالية: تشريك المصارف الكبرى التي تدير الإنتاج حاليا، واستيلاء السلطة البروليتارية على كل أجهزة الدولة الرأسمالية التي تدير الحياة الاقتصاد ية، والاستيلاء على كل المشاريع البلدية، وتشريك فروع الصناعة في التروستات أو النقابات، وكذلك تشريك فروع الصناعة التي تجعل درجة تمركزها من التشريك ممكنا من الناحية التقنية، وتشريك الملكيات الزراعية وتحويلها إلى مشاريع زراعية يديرها المجتمع. أمّا في ما يخصّ المشاريع الأقل أهمية، فعلى البروليتاريا أن تشرّكها تدريجيا، آخذة بعين الاعتبار مدى ضخامة هذه المشاريع. من المهم أن نشير هنا، أنه لا ينبغي مصادرة الملكية الصغيرة، وينبغي ألاّ يتعرض الملاكون الصغار، الذين لا يستعملون عمل غيرهم، لأي عنف. فسوف تُجذ ب هذه الطبقة شيئا فشيئا إلى دائرة التنظيم الاجتماعي، عبر النموذج والممارسة اللذين يظهران تفوق البنية الاجتماعية الجديدة، التي تحرر طبقة الفلاحين الصغار والبرجوازية الصغيرة من نير الرأسماليين الكبار ومن مجمل طبقة النبلاء ومن الضرائب الفاحشة (أساسا بعد إلغاء ديون الدولة، الخ..). إن مهمة ديكتاتورية البروليتاريا في المجال الإقتصادي لا يمكن أن تتحقق إلاّ بالقدر الذي تتمكن فيه البروليتاريا من خلق أجهزة إدارة الإنتاج الممركز، وتحقيق التسيير من قبل العمال أنفسهم. وللوصول إلى هذه الغاية ستكون مجبرة على الإفادة من منظماتها الجماهيرية، تلك المرتبطةا رتباطا وثيقا بسيرورة الإنتاج. أمّا في مجال التوزيع، فعلى ديكتاتورية البروليتاريا أن تحقق استبدال التجارة بتوزيع عادل للمنتجات. ومن بين الإجراءات الضرورية للوصول إلى هذه الغاية، تجدر الإشارة إلى تشريك المشاريع التجارية الكبرى، وتسليم البروليتاريا جميع أجهزة التوزيع في الدولة والبلديات البرجوازية، ومراقبة الاتحادات التعاونية الكبرى التي يحتفظ جهازها المنظم بأهمية اقتصادية كبرى، والمركزة التدريجية لكل هذه الأجهزة وتحويلها إلى كل موحد يهدف التوزيع العقلاني للمنتجات. وكما في مجال الإنتاج، كذلك في مجال التوزيع، من المهم استخدام كل التقنيين والاختصاصيين المهرة – عندما يتم تحطيم مقاومتهم في الميدان السياسي ويصبحون مستعدين لخد مة نظام الإنتاج الجديد بدل خدمة رأس المال. ليس لدى البروليتاريا نية اضطهادهم. على العكس فإنها أول من يعطيهم إمكانية تطوير نشاطهم الخلاق الأكثر حيوية. إن ديكتاتورية البروليتاريا تستبدل تقسيم العمل الجسدي والفكري الخاص بالرأسمالية، بالوحدة، جامعة بذلك ما بين العمل والعلم. وفي الوقت نفسه الذي تصادر فيه البروليتاريا المشاغل، والمناجم والملكيات الخ، عليها أن تضع حدا لاستغلال الرأسمال ومالكي البنايات للسكان، وأن تنقل المساكن الكبرى إلى أيدي السوفياتات العمالية المحلية، وتؤمن سَكن الجمهور العامل في الشقق البرجوازية، الخ. أثناء هذا التحول الضخم، على السلطة السوفياتية، من جهة، أن تبني جهازا حكوميا ضخما يزداد مركزة بشكل دائم من حيث الشكل، وأن تدعو من جهة أخرى الشرائح المتزايدة الاتساع في الشعب العامل إلى العمل الإداري المباشر.
إن المرحلة الثورية تتطلب من البروليتاريا أن تستخدم طريقة نضالية تعبئ كل طاقتها، ونقصد بذلك العمل المباشر للجماهير وتتمته المنطقية المتمثلة بالصدام المباشر مع الآلة الحكومية البرجوا زية والحرب المعلنة ضدها. ومن أجل هذا الهدف يجب أن تلجأ إلى كل الوسائل الأخرى، بما فيها الاستخدام الثوري للبرلمانية البرجوازية. إن الشروط التمهيدية الضرورية لهذا النضال الظافر هي: القطيعة ليس فقط مع الخدام المباشرين للرأسمال وجلادي الثورة الشيوعية – ويقوم بهذا الدور اليوم الاشتراكيون-الديموقراطيون – ولكن أيضا القطيعة مع « الوسط » (مجموعة كاوتسكي) الذي تخلى، في اللحظة الحرجة، عن البروليتاريا وتحالف مع أعدائها المعلنين. من جهة ثانية، هناك ضرورة لتحقيق تكتل مع هذه العناصر من الحركة العمالية الثورية التي، بالرغم من عدم انتسابها سابقا إلى الحزب الاشتراكي، تقف الآن كليا على أرضية ديكتاتورية البروليتاريا بشكلها السوفياتي، أي مع العناصر النقابية التي ينطبق عليها هذا الوصف. إن نمو الحركة الثورية في كل البلدان، وخطر أن تُخنق هذه الثورة على يد عصبة الدول البرجوازية، ومحاولات الوحدة ما بين الأحزاب التي خانت الاشتراكية (تشكيل الأممية الصفراء في برن)، بهدف خدمة عصبة ويلسون بشكل وضيع، وأخيرا الضرورة المطلقة بالنسبة للبروليتاريا لتنسيق جهودها – كل ذلك يقودنا بشكل حتمي إلى تشكيل الأممية الشيوعية، الثورية حقا والبروليتارية حقا. إن الأممية، التي ستظهر قدرتها على إخضاع المصالح المسماة قومية لمصالح الثورة العالمية، ستحقق بذلك تكاتف البروليتاريين في مختلف البلدان – حيث أنه دون هذه المساعدة المتبادلة، الاقتصادية وغيرها، لن تكون البروليتاريا قادرة على بناء مجتمع جديد. من جهة ثانية، وبعكس الأممية الاشتراكية الصفراء، فإن الأممية البروليتارية والشيوعية ستدعم الشعوب المستغَلة في المستعمرات في نضالها ضد الإمبريالية، ومن أجل الإسراع بالإنهيار النهائي للنظام الإمبريالي العالمي. في بداية الحرب العالمية، كان أشرار الرأسمالية يؤكد ون أنهم لا يقومون بكل ذلك إلاّ من أجل الدفاع عن وطنهم. غير أن الامبريالية الألمانية أ ظهرت طبيعتها الوحشية في سلسلة من الجرائم الد موية التي ارتكبتها في روسيا، وأوكرانيا، وفنلندا. وبدورها، تنكشف الآن، حتى أمام أعين الشرائح الأكثر تخلفا من السكان، القوات الحليفة التي تنهب العالم أجمع وترتكب المجازر بحق البروليتاريا. وهي تسعى، بالاتفاق مع البرجوازية الألمانية والاشتراكيين-الوطنيين، وكلمة السلام في شفتيها، لأن تسحق الثورة البروليتارية الأوربية، بواسطة دبابات وقوات استعمارية هائلة وهمجية. إن الإرهاب الأبيض للبرجوازيين – آكلي لحوم البشر كان وحشيا بشكل لا يوصف. والضحايا في صفوف الطبقة العاملة لا تحصى. كما انها فقدت خيرة أبطالها: ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ. ينبغي على البروليتاريا أن تدافع عن نفسها بأي حال. إن الأممية الشيوعية تدعو البروليتاريا العالمية إلى هذا النضال الحاسم. السلاح ضد السلاح ! القوة بوجه القوة ! لتسقط المؤامرة الامبريالية للرأسمال ! عاشت الجمهوريات الأممية للسوفياتات البروليتارية !
موضوعات حول الوضع العالمي وسياسة التحالف لقد كشفت تجارب الحرب العالمية، السياسة الإمبريالية للـ« ديموقراطيات » البرجوازية باعتبارها سياسة صراع بين القوى العظمى، الساعية إلى تقاسم العالم وتدعيم دكتاتورية الرأسمال المالي الاقتصادية والسياسية على الجماهير المستغَلة والمضطهدة. إن المجزرة بحق مليون بشري، وإفقار البروليتاريا الواقعة تحت العبودية، والثراء الفاحش للشرائح العليا من البرجوازية بفضل التموينات الحربية والقروض.. الخ، وانتصار الرجعية العسكرية في كل البلدان، كل ذلك لم يلبث أن طوح بالأوهام حول الدفاع عن الوطن، والهدنة والـ« ديموقراطية ». وقد فضحت « سياسة السلم » التطلعات الفعلية الإمبريالية في كل البلدان، وذهبت إلى النهاية في تعريتها.
سلام بريست-ليتوفسك ومساومة الإمبريالية الألمانية لقد كشف سلام بريست-ليتوفسك وفيما بعد سلام بوخارست طابع النهب والرجعية لدى إمبريالية دول المحور. فقد انتزع المنتصرون من روسيا العزلاء ضرائب وأراضي، واستخدموا حق الشعوب في تقرير مصيرها كتبرير لسياسة الضم، خالقين بذلك دولا تابعة، تشجع حكوماتها الرجعية سياسة النهب وتقمع الحركات الثورية للجماهير الكادحة. إن الامبريالية الألمانية التي لم تستطع أن تحرز نصرا كاملا في الصراع العالمي، لم يكن بإمكانها، في تلك اللحظة، أن تظهر نواياها الفعلية بصراحة كلية، فلجأت مضطرة إلى العيش بسلا م ظاهري مع روسيا السوفياتية وإلى تغطية سياسة النهب لديها وسياستها الرجعية بجمل خادعة. مع ذلك، ما أن حقق الحلفاء انتصارا عالميا حتى تركوا أقنعتهم تسقط وكشفوا أمام أعين العالم أجمع الوجه الحقيقي للإمبريالية العالمية.
انتصار الحلفاء وتجمع الدول ثانيةً لقد قسم انتصار الحلفاء البلدان المسماة متحضرة في العالم إلى مجموعات مختلفة، تتشكل المجموعة الأولى من قوى العالم الرأسمالي، القوى العظمى الامبريالية المنتصرة (إنكلترا، أمريكا، فرنسا، اليابان وإيطاليا)، وتقف بمواجهتها البلدان الامبريالية المهزومة التي هدمتها الحرب، وصدعت بنيتها الداخلية بداية الثورة البروليتارية (ألمانيا، النمسا-المجر، مع الدول التابعة لها سابقا). وتتشكل المجموعة الثالثة من الدول التابعة لدول الحلفاء وهي تتألف من الدول الرأسمالية الصغيرة التي شاركت في الحرب إلى جانب الحلفاء (بلجيكا، الصرب والبرتغال، الخ)، والجمهوريات « القومية » الصغيرة والدول العازلة التي أنشئت مؤخرا (جمهورية تشيكو-سلوفاكيا، بولندا والجمهوريات الروسية المعاد ية للثورة، الخ) وتقترب الدول المحايدة، تبعا لوضعها، من الدول التابعة، ولكنها تتعرض لضغط سياسي واقتصادي قوي، يجعل وضعها، أحيانا، متشابها لوضع الدول المهزومة. أمّا الجمهورية الاشتراكية فهي دولة عمال وفلاحين، تقف خارج العالم الرأسمالي وتمثل بالنسبة للإمبريالية المنتصرة خطرا اجتماعيا هائلا، خطر انهيار كل نتائج النصر تحت مطرقة الثورة العالمية.
« السياسة السلمية » للحلفاء أو الامبريالية تفضح نفسها بنفسها إن « السياسة السلمية » للقوى العالمية الخمس، مأخوذةً بمجملها، كانت ولا تزال سياسة تفضح نفسها بنفسها. على الرغم من كل العبارات حول « سياستها الخارجية الديموقراطية »، فإنها تشكل الانتصار الكامل للديبلوماسية السرية التي، عن طريق التسويات بين وكلاء سلطة التروستات المالية، تقرر مصير العالم من وراء ظهر ملايين العمال في كل البلدان، وعلى حسابهم. فتجري معالجة كل المسائل الأساسية د ون استثناء في جلسات سرية من قبل اللجنة الباريسية للقوى العظمى الخمس، بغياب ممثلي الدول المهزومة والمحايدة والدول التابعة نفسها. إن خطابات لويد جورج وكليمنصو وسونينو، الخ…، تنادي وتسعى لأن تبرر علناً ضرورة ضم الأراضي والغرامات. على الرغم من العبارات الكاذبة حول « الحرب من أجل نزع السلاح الشامل »، يجري الإعلان عن ضرورة التسلح أيضا والحفاظ قبل كل شيء على القوة البحرية البريطانية من أجل ما يسمى بـ« حماية حرية البحار ». إن حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، الذي نادى به الحلفاء، جرى دوسه علنا واستبدل بتقاسم المناطق المتنازع عليها بين الدول القوية والدول التابعة لها. لقد جرى ضم الألزاس-اللورين إلى فرنسا دون استشارة السكان، ولم يكن لإيرلندا ومصر والهند أن تقرر مصيرها بنفسها، وجرى إنشاء الدول السلافية الجنوبية والجمهورية التشيكوسلوفاكية بقوة السلاح، وتجري المساومة بدون حياء حول تقاسم تركيا الأوروبية والآسيوية، هذا وقد بدأ تقاسم المستعمرات الألمانية، الخ، الخ… لقد دُفعت سياسة الغرامات إلى درجة النهب الكامل للمهزومين، فلا يجري فقط تقديم فواتير لهم تبلغ مليارات ومليارات ولا يجري انتزاع كل وسائل الحرب منهم فحسب – بل إن دول الحلفاء تسلبهم القطارات وسكك الحديد والمراكب والأدوات الزراعية وأرصدة الذهب، الخ.، الخ.. إضافة إلى ذلك يجب على أسرى الحرب أن يصبحوا عبيدا للمنتصرين. وتتم مناقشة اقتراحات تهدف إلى فرض العمل القسري على العمال الألمان، فلدى القوى الحليفة النية في أن تجعل منهم عبيدا بائسين وجائعين لدى رأسمال دول الحلفاء. إن سياسة الإثارة القومية مدفوعة إلى أقصاها تجد تعبيرها في الإثارة المستمرة ضد الأمم المهزومة في صحافة الحلفاء وإدارات الإحتلال، كما في حصار الجوع، حاكمة بذلك على شعوب ألمانيا والنمسا بالإبادة. إن هذه السياسة تقود إلى مذابح ضد الألمان، منظمة بدعم الحلفاء، من قبل العناصر الشوفينية التشيكية والبولونية، وإلى مذابح ضد اليهود، تتخطى كل « الأعمال الباهرة » للقيصرية الروسية. إن الدول الحليفة « الديموقراطية » تتبع سياسة رجعية قصوى. وتنتصر الرجعية داخل الدول الحليفة نفسها، ومن بينها فرنسا التي عادت إلى أسوأ عهود نابوليون الثالث، كما في العالم الرأسمالي بمجمله الواقع تحت سيطرة الحلفاء. فهؤلاء يخنقون الثورة في البلدان المحتلة: ألمانيا، المجر، بلغاريا، الخ.. ويحرضون الحكومات الانتهازية-البرجوازية في الدول المهزومة ضد العمال الثوريين، بتهديدها بقطع سبل عيشها. لقد أعلن الحلفاء أنهم سيغرقون كل السفن الألمانية التي تجرؤ على رفع علم الثورة الأحمر؛ ورفضوا الاعتراف بالمجالس الألمانية؛ وفي المناطق المحتلة ألغوا يوم العمل من ثماني ساعات. وبغض النظر عن دعم السياسة الرجعية في البلدان المحايدة وتشجيع هذه السياسة في البلدان التابعة (نظام بادريفسكي في بولندا)، فقد حرّض الحلفاء العناصر الرجعية في هذه البلدان (في فنلندا وبولندا والسويد، الخ..) ضد روسيا الثورية، وطالبوا بتدخل القوى المسلحة الألمانية.
على الرغم من تجانس الخطوط الأساسية للسياسة الامبريالية للقوى العظمى التي تسيطر على العالم، فإن سلسلة من التناقضات العميقة تبرز داخلها. تتركز هذه التناقضات بالأخص حول برنامج الرأسمال المالي الأمريكي للسلام (البرنامج المسمى برنامج ويلسون). إن النقاط الأكثر أهمية في هذا البرنامج هي التالية: « حرية البحار »، و« عصبة الأمم »، و« تدويل المستعمرات ». إن شعار « حرية البحار » – بعد نزع قناع المخادع – يعني في الواقع إلغاء الهيمنة العسكرية البحرية لبعض القوى العظمى (بالدرجة الأولى هيمنة انكلترا) وفتح الطرق البحرية كافة أمام التجارة الأمريكية. وتعني « عصبة الأمم » أن حق الضم الفوري للدول والشعوب الضعيفة سيكون ممنوعا على القوى العظمى الأوروبية (بالدرجة الأولى فرنسا)؛ أمّا « تدويل المستعمرات » فيحدد القاعدة نفسها بالنسبة للمناطق المستعمرَة. تتحكم بهذا البرنامج الوقائع التالية: إن الرأسمال الأمريكي لا يملك أكبر أسطول في العالم، ولم يعد بإمكانه أن يقوم بضم مباشر في أوربا، لهذا يهدف إلى استغلال الدول والشعوب الضعيفة عبر العلاقات التجارية وتوظيف الرساميل، ولذلك يريد أن يجبر القوى الأخرى على تشكيل نقابة تروستات دولية، ويريدها أن تتقاسم في ما بينها حصص الاستغلال العالمي « بأمانة »، وأن يتحول الصراع بين التروستات الدولية إلى صراع اقتصادي بحث. أمّا في مجال الإستغلال الاقتصادي فسيكتسب الرأسمال المالي الأمريكي المتطور جدا هيمنة فعالة ستؤمن له السيطرة الاقتصادية والسياسية في العالم. إن « حرية البحار » تتناقض بشكل حاد مع مصالح انكلترا واليابان، وجزئيا مع مصالح إيطاليا (في الأدرياتيك). وتتناقض « عصبة الأمم » و« تدويل المستعمرات » بشكل حاسم مع مصالح فرنسا واليابان – وبقدر أقل مع مصالح كل القوى الامبريالية العظمى الأخرى. إن سياسة الامبرياليين في فرنسا، حيث يتخذ الرأسمال المالي الشكل المرابي المتميز، وحيث الصناعة قليلة التطور وحيث دمرت الحرب القوى المنتجة بشكل كامل، تهدف بوسائل يائسة إلى الإبقاء على النظام الرأسمالي. وهذه الوسائل هي: النهب البربري لألمانيا، القهر المباشر والاستغلا ل الجشع للدول التابعة (مشروعا اتحاد الدانوب، واتحاد الدول السلافية الجنوبية) واستيفاء الديون المستحقة على روسيا القيصرية لشيلوك الفرنسي بالعنف. إن فرنسا وإيطاليا (وينطبق ذلك بشكل ملطف على اليابان) باعتبارهما دولتين قاريتين، قا د رتان أ يضا على متابعة سياسة الضم المباشر. في الوقت الذي تتناقض فيه مصالح القوى العظمى مع مصالح أمريكا، فإن مصالح كل منها تتناقض مع مصالح الأخرى. إن إنكلترا تخشى إزدياد قوة فرنسا في القارة، ولها مصالح في آسيا الصغرى وفي افريقيا تتناقض مع مصالح فرنسا. إن مصالح إيطاليا في البلقان والتيرول تتناقض مع مصالح فرنسا، فيما تنازع اليابان أ وستراليا الإنكليزية على الجزر الواقعة في المحيط الهادي.
تجمعات واتجاهات داخل الدول الحليفة إن هذه التناقضات بين القوى العظمى سهّلت إمكانية ظهور تجمعات مختلفة داخل الدول الحليفة. ولقد ارتسمت حتى الآن تركيبتان أساسيتان: التركيبة الفرنسية-الإنكليزية-اليابانية الموجهة ضد أمريكا وإ يطاليا، والتركيبة الإنكليزية-الأمريكية الموجهة ضد القوى العظمى الأخرى. كانت التركيبة الأولى متفوقة حتى بداية يناير 1918، طالما أن الرئيس ولسون لم يكن قد تنازل عن مطالبته بإلغاء السيطرة البحرية الانكليزية. إن تطور الحركة الثورية للعمال والجنود في إنكلترا، الذي أ دّى إلى وفاق بين إمبرياليي مختلف البلدان من أجل تصفية الأسطورة الروسية والإسراع بإتمام السلام عزّز من ميل إنكلترا نحو هذه التركيبة، وأصبحت مسيطرة منذ يناير 1919. وتقف الكتلة الإنكليزية-الأمريكية ضد أسبقية فرنسا في نهب ألمانيا وحدّة هذا النهب المبالغ بها، وهي تضع بعض الحد ود لمطالب فرنسا وإيطاليا واليابان بخصوص ضم الأراضي المبالغ به. وتمنع من أن تكون الدول التابعة المؤسسة حديثا ملحقة مباشرة بهذه الدول. أمّا في ما يتعلق بالمسألة الروسية فلدى التركيبة الانكليزية-الأمريكية استعدادات سلمية: تريد أن تكون طليقة اليدين لتتمكن من إتمام تقاسم العالم، وخنق الثورة الأوربية والثورة الروسية فيما بعد. يقابل هاتين التركيبتين من القوى ا تجاهان داخل القوى العظمى، أحدهما ذو توجه متطرف بخصوص مسألة ضم الأراضي، والآخر معتدل وهو يدعم تركيبة ويلسون لويد جورج.
نظرا للتناقضات التي لا يمكن التوفيق بينها والتي ظهرت حتى بين الدول الحليفة فإن عصبة الأمم – حتى لو تحققت على الورق – لن تلعب مع ذلك سوى دور الحلف المقدس بين الرأسماليين من أجل قمع الثورة العالمية. فنشر « عصبة الأمم » هو أفضل وسيلة لبلبلة الوعي الثوري للطبقة العاملة. فبدلاً من شعار أممية الجمهوريات العمالية الثورية، يُطلق شعار جمعية أممية للديموقراطيات المزعومة تتحقق بائتلاف بين البروليتاريا والطبقات البرجوازية. إن « عصبة الأمم » هي شعار خادع، يشق بواسطته الاشتراكيون-الخونة القوى البروليتارية بأمر من الرأسمال العالمي، ويشجعون الثورة المضادة الامبريالية. على البروليتاريين الثوريين في العالم أجمع أن يخوضوا صراعا لا هوا دة فيه ضد أفكار عصبة الأمم الخاصة بولسون وأن يحتجوا على الدخول في هذه العصبة: عصبة النهب والاستغلال والثورة المضادة الامبريالية.
السياسة الخارجية والداخلية للبلدان المهزومة لقد أدى سحق الامبرياليتين النمساوية والألمانية العسكري وانهيارهما الداخلي إلى سيطرة النظام البرجوازي الاشتراكي-الإنتهازي في دول المحور في المرحلة الأولى من الثورة. إن الاشتراكيين-الخونة، تحت ستار الديموقراطية والاشتراكية، يحمون وينعشون السيطرة الاقتصادية للدكتاتورية السياسية للبرجوازية، وهم يسعون في سياستهم الخارجية إلى ترميم الامبريالية الألمانية عبر طلبهم إعادة المستعمرات وقبول ألمانيا في عصبة النهب. وبقدر ما تتعزز عصابات الحرا َّس البيض في ألمانيا وتتطور سيرورة التفسخ في معسكر الحلفاء تتزايد أيضا رغبات البرجوازية والاشتراكيين-الخونة في أن تصبح ألمانيا قوة عظمى. وفي الوقت ذاته، تعمل الحكومات البرجوازية الاشتراكية-الانتهازية أيضا على تلغيم التضامن الأممي البروليتاري وتفصل العمال الألمان عن ا خوتهم الطبقيين، بتنفيذها لأوامر الحلفاء المعادية للثورة، وخاصة بتحريضها العمال الألمان ضد الثورة الروسية البروليتارية من أجل إرضاء الحلفاء. إن سياسة البرجوازية والاشتراكيين-الإنتهازيين في النمسا وهنغاريا هي تكرار لسياسة الكتلة البرجوازية الانتهازية في ألمانيا ولكن بشكل ملطَّف.
إن سياسة الحلفاء، في الدول التابعة والجمهوريات التي أنشأوها لتوِّهم (تشيكوسلوفاكيا والبلدان السلافية الجنوبية، ويجب أن نضيف أيضا بولندا وفنلندا، الخ)، المستندة إلى الطبقات المسيطرة والاشتراكيين-القوميين، تهدف إلى خلق مراكز حركة قومية معادية للثورة. هذه الحركة مفروض عليها أن توجِّه ضد الشعوب المهزومة وأن تبقي على توازن قوى الدول الجديدة وتخضعها للحلفاء، وأن تكبح الحركات الثورية التي تنمو داخل الجمهوريات « القومية » الجديدة، وأن تقدم في نهاية المطاف حرسا أبيض للمواجهة ضد الثورة الأممية وخاصة الثورة الروسية. في ما يتعلق ببلجيكا والبرتغال واليونان والبلدان الأخرى الصغيرة المتحالفة مع الحلفاء، فإن سياستها محددة كليا بسياسة كبار قطاع الطرق، الذين تخضع لهم بشكل كامل وتطلب عونهم من أجل الحصول على ضم مساحات صغيرة من الأراضي وعلى تعويضات تتعلق بالحرب.
إن وضع الدول المحايد مشابهة لوضع الدول التابعة التي لا تحوز رضى أمبريالية الدول المتحالفة، والتي تتبع الدول الحليفة إزاءها، بشكل ملطّف، الأساليب نفسها التي تستخدمها إزاء الدول المهزومة. أمّا الدول المحايدة الحائزة الرضى، فتتقدم بمطالب مختلفة من أعداء الدول الحليفة (مطامع الدا نمارك بفلانسبرغ واقتراح سويسرا تدويل الراين، الخ.) وتنفيذ في الوقت نفسه أوامر الدول الحليفة المعادية للثورة (طرد السفير الروسي وتجنيد الحرس الأبيض في البلدان الاسكند نافية، الخ.) فيما تتعرض دول أخرى منها للتجزئة (مشروع ضم مقاطعة ليمسبورغ إلى بلجيكا، وتدويل مصب الأسكوت).
إن السمة النهبية وغير الإنسانية والرجعية الإمبريالية في الدول الحليفة تظهر بأوضح أشكالها تجاه روسيا السوفياتية. فمنذ بداية ثورة أكتوبر وقفت القوى الحليفة إلى جانب الأحزاب والحكومات المعادية للثورة في روسيا، وبمساندة من البرجوازيين المعاديين للثورة قامت بضم سيبريا والأورال وشواطئ روسيا الأوربية والقوقاز وجزء من تركستان. وقد اختلست المواد الأولية من المقاطعات التي جرى ضمها (الخشب، النفط والمانغانيز، الخ..)؛ وبمساندة العصابات التشيكوسلوفاكية المأجورة لها سرقت احتياطي الذهب من روسيا، وبقيادة الديبلوماسي الإنكليزي لوهارت قام العملاء الإنكليز والفرنسيون بنسف الجسور وتحطيم سكك الحديد، وحاولوا إعاقة التموين بالمواد الغذائية. لقد دعم الحلفاء بالأموال والأسلحة والمساعدة العسكرية، الجنرالات الرجعيين: دنكين وكولتشاك وكراسنوف، الذين أعدموا بالرصاص وشنقوا آلاف العمال والفلاحين في روستوف وجوسوفكا ونرفوسيجك وأوسك، الخ.. وأعلن الحلفاء جهارا عبر خطب كليمنصو وبيشون مبدأ « الحصار الاقتصادي »، أي أنهم يريدون تجويع جمهورية العمال والفلاحين الثوريين وتدميرها، ووعدوا بتقديم « الدعم التقني » لعصابات دينيكين وكولتشاك وكراسنوف. هذا ورفض الحلفاء في عدة مناسبات اقتراحات السلام السوفياتية. في 23 يناير 1919 تقدم الحلفاء، الذين تعززت داخلهم الاتجاهات المعتدلة بشكل مؤقت، إلى كل الحكومات الروسية باقتراح إرسال مند وبين إلى جزيرة الأمراء، ولم يخل هذا الاقتراح بالطبع من نية استفزازية حيال الحكومة السوفياتية. وعلى الرغم من أن الحلفاء تلقوا في 4 فبراير جوابا بالموافقة من قبل الحكومة السوفياتية، جوابا ضمنته هذه الأخيرة استعدادها للبحث في مسألة ضم الأراضي والتعويضات والتنازلات، من أجل إنقاذ العمال والفلاحين الروس من الحرب التي فرضها عليهم الحلفاء، فإن هؤلاء لم يردوا على اقتراح السلام هذا ولا غيره. إن ذلك يؤكد من جديد صلابة الاتجاهات التوسعية الرجعية لإمبرياليي الد ول الحليفة، ويهدد الجمهورية الاشتراكية باقتطاع أجزاء جديدة من أراضيها وبهجمات جديدة معاد ية للثورة. وهنا تكشف « سياسة السلم » لدى الحلفاء بشكل قاطع أمام البروليتاريا العالمية طبيعة إمبريالية الدول الحليفة والإمبريالية بشكل عام. وتؤكد في الوقت نفسه أن الحكومات الإمبريالية عاجزة عن الوصول إلى « سلام عادل ودائم »، وأن الرأسمال المالي عاجز عن ترميم الاقتصاد المهدم، وأن الحفاظ على سيطرة رأس المال المالي يؤدي إمّا إلى التحطيم الكامل للمجتمع المتحضر وإمّا إلى زيادة الاستغلال والعبودية والرجعية السياسية والتسلح، وبالنهاية إلى حروب مدمرة جديدة.
لقد كان النظام الرأسمالي منذ البداية نظام النهب والاغتيالات الكثيفة؛ ففظاعات التراكم الأولي؛ والسياسة الكولونيالية التي أدت عن طريق الإنجيل والسفلس والكحول إلى القضاء على أجناس وشعوب صغيرة بلا رحمة؛ والبؤس والمجاعة والإنهاك لملايين لا تحصى من البروليتاريين المستغَلين، وموتهم المبكر؛ والقمع الدموي للطبقة العاملة عندما تنتفض ضد مستغليها، وأخيرا المجزرة الهائلة التي لا مثيل لها التي حولت الإنتاج العالمي إلى إنتاج جثث بشرية – هذه هي صورة النظام الرأسمالي. منذ بداية الحرب قامت الطبقات المسيطرة – التي كانت قد قتلت في ساحات المعارك أكثر من عشرة ملايين إنسان وشوهت أيضا عددا أكبر – بإرساء نظام الديكتاتورية الد موية داخل بلدانها أيضا. لقد أعدمت الحكومة القيصرية بالرصاص العمال وشنقتهم ونظمت المذابح ضد اليهود وأبادت كل ما هو حي في البلاد. وخنقت الملكية النمساوية بشكل دموي انتفاضة الفلاحين والعمال الأوكرانيين والتشيكيين، واغتالت البرجوازية الانكليزية أفضل ممثلي الشعب الإيرلندي، وهاجت الامبريالية الألمانية داخل بلدها وكان البحارة الثوريون أول ضحايا تلك الفظاظة، وفي فرنسا جرى ذبح الجنود الروس الذين لم يكونوا مستعدين للدفاع عن أرباح أصحاب البنوك الفرنسيين، وأدانت البرجوازية في أمريكا، دون محاكمة، الأمميين وحكمت على المئات من خيرة البروليتاريين بالأعمال الشاقة لمدة عشرين عاما، وذبحت العمال بسبب قيامهم بالإضرابات. عندما بدأت الحرب الامبريالية بالتحول إلى حرب أهلية وشعرت الطبقات المسيطرة التي لم يعرف التاريخ البشري مثيلا لإجرا مها، بأنها مهددة بخطر مباشر وهو ا نهيار نظامها الدموي، أصبحت وحشيتها أكثر قساوة. وتستخدم البرجوازية، في صراعها من أجل الحفاظ على النظام الرأسمالي، وسائل لا مثيل لها تبدو إزاءها كل بشاعات القرون الوسطى ومحاكم التفتيش والاستعمار باهتة. إن الطبقة البرجوازية التي تجد نفسها على حافة القبر تحطم ماديا أهم قوة إنتاجية في المجتمع البشري، أي البروليتاريا، وقد فضحها الآن هذا الإرهاب الأبيض بكل عريها البشع. إن الجنرالات الروس، الذين يشكلون التجسيد الحي للنظام القيصري قد قتلوا – وهم يقتلون أيضا – العمال بالجملة، بمساندة مباشرة أو غير مباشرة من الاشتراكيين-الخونة. خلال سيطرة الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة في روسيا كان الآلاف من العمال والفلاحين يملأون السجون وكان الجنرالات يبيدون فرقا عسكرية بكاملها بسبب عدم الطاعة. في الوقت الحالي، إذ ينعم أ نصار كراسنوف ود نيكين بالتعاون الودي من قبل الحلفاء، فهم يقتلون ويشنقون عشرات الآلاف من العمال، ويبقون الجثث معلقة على المشانق لمدة ثلاثة أيام من أجل إرهاب الباقين. وفي الأورال والفولغا تقطع عصابات الحرس الأبيض التشيكوسلوفاكي أيدي المساجين وأرجلهم وتغرقهم في الفولغا وتدفنهم أحياء، فيما يذبح الجنرالات آلاف الشيوعيين وأعدادا لا تحصى من العمال والفلاحين. إن البرجوازيتين الألمانية والنمساوية، كما الاشتراكيين-الخونة، قد أظهروا بشكل جلي طبيعتهم كآكلي لحوم البشر، عند ما علقوا على مشانق الحديد المتنقلة العمال والفلاحين بعد سلبهم، وكذلك فعلوا بالشيوعين من مواطنيهم، رفاقنا الألمان والنمساويين. وفي فنلندا، بلد الديموقراطية البرجوا زية، ساعدوا البرجوازية الفنلندية على إعدام أكثر من 13 إلى 14 ألف بروليتاري رميا بالرصاص، وعلى تعذيب أكثر من 15 ألف حتى الموت في السجون. في هلسينكي، دفعوا أمامهم النساء والأطفال من أجل حماية أنفسهم من الرشاشات. فبمساعدتهم تمكن الحرس الأبيض الفنلندي والقوى المساعدة السويدية من القيام بتلك العربدات الدامية ضد البروليتاريا الفنلندية المهزومة. وفي تامرفورز أُجبرت النساء المحكوم عليهن بالإعدام على أن يحفرن قبورهن بأيديهن. وفي فيبورغ تم قتل مئات النساء والرجال والأطفال الفنلنديين والروس. وقد بلغت البرجوازية والاشتراكية-الديموقراطية الألمانية، داخل بلدها، أقصى درجات السعار الرجعي عبر القمع الدموي للانتفاضة العمالية الشيوعية والاغتيال الوحشي لليبكنيخت ولوكسمبورغ، وقتل العمال السبارتاكيين وإبادتهم. الإرهاب الأبيض الجماعي والفردي – هذه هي الراية التي تقود البرجوازية. وترتسم اللوحة نفسها في بلدان أخرى أمامنا. في سويسرا الديموقراطية، كل شيء جاهز لإعدام العمال إذا ما تجرأوا على خرق القانون الرأسمالي. وفي أمريكا تظهر الأشغال الشاقة وقانون لينش والكرسي الكهربائي كرموز مختارة للديمقراطية والحرية.(*) وفي المجر وإنكلترا، وفي بوهميا وبولندا – الشيء نفسه في كل مكان. القتلة البرجوازيون لا يتراجعون عن أية مخزية، ومن أجل تأكيد سيطرتهم يثيرون الشوفينية. فتقوم، مثلا، الديموقراطية البرجوازية الأوكرانية وعلى رأسها المنشفي بتليورا، والديموقراطية البرجوازية البولونية مع الاشتراكي-الوطني بيلسودسكي، وهكذا دواليك.. بتنظيم مذابح واسعة ضد اليهود تفوق تلك التي نظمتها شرطة القيصر. وإذا كان الرعاع البولونيون الرجعيون و« الاشتراكيون » قد إغتالوا ممثلي الصليب الأحمر الروسي، فهذه ليست إلاّ نقطة ماء في بحر جرائم وفظاعات البرجوازية أكلة لحوم البشر. إن « عصبة الأمم »، التي تقود إلى السلام، حسب تصريحات مؤسسيها، تتجه نحو حرب دموية ضد البروليتاريا في كل البلدان، والقوى الحليفة الراغبة بإنقاذ سيطرتها تشق بجيوش سوداء الطريق أمام إرهاب وحشي لا يُصدق. إن المؤتمر الأول للأممية الشيوعية، إذ يلعن المجرمين الرأسماليين يدعو العمال في العالم أجمع إلى تجميع قواهم من أجل وضع حد نهائي لنظام الإجرام والنهب، عبر إطاحة النظام الرأسمالي.
الرفيق ليون تروتسكي (روسيا) – لقد قال الرفيق ألبرت إن الجيش الأحمر غالبا ما يكون موضوع نقاش في ألمانيا، وإذا كنت قد فهمته جيدا، فإن الجيش الأحمر يقلق أيضا السيدين إيبرت وشيد مان في ليالي أرقهما، أي إنهما يخافان من خطر ا كتساح الجيش الأحمر بروسيا الشرقية. في ما يتعلق بالاكتساح، فإن الرفيق ألبرت يستطيع فعلاً أن يطمئن سادة ألمانيا الحاليين، أننا، لحسن الحظ أو لسوئه – تبعا لوجهة النظر – لم نصل إلى ذلك حاليا. في كل الأحوال، في ما يتعلق بالاجتياحات التي تتهددنا، فإن وضعنا اليوم أفضل بكثير منه خلال مرحلة بريست-ليتوفسك. وهذا شيء أكيد تماما. في تلك المرحلة، كنا ما زلنا أطفالا بالنسبة للتطور العام للحكومة السوفياتية، وكذلك بالنسبة للتطور العام للجيش الأحمر. في تلك المرحلة كان هذا الأخير يسمى بالحرس الأحمر، ومنذ فترة طويلة لم تعد هذه التسمية موجودة عند نا. كان الحرس الأحمر مشكلاً من الفرق الأولى من الأنصار، ومن الفروع المرتجلة من العمال الثوريين الذين نشروا الثورة البروليتارية بدءا من بتروغراد وموسكو في كامل الأرض الروسية، مدفوعين بروحهم الثورية. امتدت هذه المرحلة حتى أول مواجهة لهذا الحرس الأحمر مع الأفواج الألمانية النظامية، حيث رأينا بوضوح أن هذه المجموعات المرتجلة غير قادرة بذاتها على تقديم حماية فعلية للجمهوريات الاشتراكية الثورية، طالما أن المسألة لم تعد مسألة القضاء على الثورة المضادة فحسب بل طرد جيش منظم. وعندها بدأت تتغير عقلية الطبقة العاملة تجاه الجيش، وتتغير أيضا أساليب تنظيم هذا الجيش. لقد لجأنا، تحت ضغط الوضع، إلى بناء جيش جيد التنظيم، يمتلك وعيا طبقيا، لأن الميليشيا الشعبية كانت موجودة في برنامجنا. لكن الحديث عن المليشيا الشعبية، هذا المطلب السياسي للد يموقراطية في بلد تحكمه ديكتاتورية البروليتاريا، هو شيء مستحيل، لأن الجيش مرتبط شديد الارتباط دائما بطابع القوة التي تمسك بالسلطة. إن الحرب، كما يقول العجوز كلاوزفيتش هي استمرار السياسة ولكن بوسائل أخرى. والجيش هو أداة الحرب ويجب أن يتوافق مع السياسة. فالحكومة بروليتارية، والجيش يجب أن يتوافق أيضا بتركيبه الاجتماعي مع هذه الواقعة. وهكذا أدخلنا التعداد في تشكيل الجيش. منذ شهر مايو في العام الماضي، انتقلنا من الجيش المتطوع، من الحرس الأحمر إلى الجيش الذي يستند إلى الخدمة العسكرية الإلزامية، ولكننا لم نكن نقبل إلاّ بالبروليتاريين، أو الفلاحين الذين لا يستغلون يدا عاملة خارجية. من المستحيل الحديث بجد ية عن ميليشيا شعبية في روسيا، عند ما تأخذ في الاعتبار واقع أنه كان عندنا، ولا يزال هناك أيضا عدة جيوش للطبقات المعادية على أرض الامبراطورية القيصرية القديمة. وعند نا أيضا، مثلا على أرض الدون، جيش ملكيّ، بقيادة ضباط قوزاق، مؤلف من عناصر برجوازية وفلاحين أغنياء قوزاق. ومن ثم، كان لدينا في صقيع الفولغا والأورال جيش الجمعية التأسيسية، الذي كان أيضا، تبعاً لمفهومه، جيشا شعبيا كما كان يسمى. لقد حُلَّ هذا الجيش بسرعة كبيرة، وانهزم سادة الجمعية التأسيسية هؤلاء، وتركوا الساحة الديموقراطية في الفولغا والأورال بشكل قسري تماما، وطلبوا ضيافة الحكومة السوفياتية. وببساطة اعتقل الأميرال كولتشاك حكومة الجمعية التأسيسية هؤلاء، وتطور الجيش إلى جيش ملكيّ. لا يمكن إذا في بلد يعيش حربا أهلية أن يتم بناء جيش إلاّ على أساس المبدأ الطبقي. هذا ما قمنا به فعلا وبنجاح أيضاً. لقد أثارت لنا مسألة القادة العسكريين صعوبات كبيرة وبالطبع كان الهم الأول هو تربية الضباط الحمر الذين تم تطويعهم من صفوف الطبقة العاملة ومن بين أبناء الفلاحين الميسورين. لقد لجأنا من البدا ية إلى هذا العمل، وحتى هنا، أمام باب هذه القاعة، يمكنكم أن تروا بعض « الرقباء » الحمر الذين سيدخلون، خلال فترة قصيرة، في الجيش السوفياتي كضباط حمر، ولدينا عدد كبير منهم. لا أريد أن أعطي أرقاما لأن سر الحرب هو دائما سر حرب. قلت إن عددهم كبير ولكننا لم نكن نستطيع أن ننتظر أن يصبح الرقباء الحمر الشباب، جنرالات حمراً، لأن العدو لم يكن يريد أن يترك لنا الوقت الكافي للراحة. فمن أجل الإفادة بنجاح من هذا الاحتياطي، ولكي نأخذ منه الرجال القادرين، يجب أن نتوجه أيضا إلى قدامى القادة العسكريين. إننا لم نبحث بالطبع عن ضباطنا بين الشريحة اللامعة من رجال البلاط العسكريين، بل إننا كسبنا قوى قادرة تماما من بين العناصر الأكثر بساطة، التي تساعدنا حاليا على مقاتلة زملاءها السابقين. فمن جهة، لدينا العناصر الجيدة والمخلصة التي تشكل مجموعة الضباط القدامى والتي أضفنا إليها شيوعيين جيدين بصفة مفوضين سياسيين، وهناك من جهة أخرى أ فضل العناصر، بين الجنود والعمال والفلاحين، التي تحتل المراكز القيادية الد نيا. وبهذه الطريقة استطعنا تشكيل هيئة الضباط الحمر. منذ أن وجدت الجمهورية السوفياتية في روسيا كانت مجبرة دائما على خوض الحرب وما زالت تخوضها اليوم. لدينا جبهة تمتد على أكثر من 8 ألف كلم. في الجنوب والشمال، في الشرق والغرب وفي كل مكان. الأسلحة بأيدينا، يحاربوننا ونحن مضطرون للدفاع عن أنفسنا. هذا وكاوتسكي يتهمنا حتى بتنمية النزعة العسكرية. والحال، أعتقد أنه إذا أردنا الاحتفاظ بالسلطة للعمال، علينا أن ندافع عن أنفسنا بجدية. ومن أجل الدفاع عن أنفسنا علينا أن ندرب العمال على استعمال الأسلحة التي صنعوها. لقد بدأنا بنزع سلاح البرجوازية وبتسليح العمال. وإذا كانت هذه نزعة عسكرية، فإننا إذن قد خلقنا النزعة العسكرية الاشتراكية، وسنستمر بحزم في الإعتماد عليها. وفي هذا الصدد، كان وضعنا في أغسطس الماضي سيئا بالفعل. ليس فقط أننا كنا محاصرين، بل إن الحصار كان قريبا جدا من موسكو. منذ تلك الفترة وسَّعنا دائرة الحصار بشكل متزا يد، وفي الأشهر الستة الأخيرة، أعاد الجيش الأحمر إلى روسيا السوفياتية ليس أقل من 700 ألف كلم مربع مع 42 مليونا من السكان و16 حكومة مع 16 مدينة كبرى، حيث كانت الطبقة العاملة ولا تزال تخوض نضالا شرسا. واليوم، إذا مددتم على الخريطة خطا من موسكو بأي اتجاه كان، فإنكم ستجدون في كل مكان فلاحا روسيا، عاملا روسيا على الجبهة، يقف مع بندقيته في هذه الليلة الباردة على حدود الجمهورية السوفياتية من أجل الدفاع عنها. وأستطيع أن أؤكد لكم أن العمال الشيوعيين الذين يشكلون حقا نواة هذا الجيش يتصرفون ليس كجيش لحماية الجمهورية الاشتراكية فحسب، بل أيضا كجيش أحمر للأممية الثالثة. وإذا كنا قد تمكنا اليوم من استضافة هذا الكونفرنس الشيوعي لنشكر، لمرة واحدة، إخواننا في أوربا على الضيافة التي قدموها لنا خلال عشرات السنين، فنحن من جهتنا إنما ندين بذلك لجهود وتضحيات الجيش الأحمر، الذي يتصرف داخله أفضل الرفاق من الطبقة العاملة الشيوعية كجنود عاديين، وكضباط حمر أو مفوضين، أي كممثلين مباشرين لحزبنا وللحكومة السوفياتية؛ وهم في كل كتيبة وفي كل فرقة يقدمون المثال السياسي والأخلاقي، أي يعلمون، بمثالهم،الجنود الحمر كيف نناضل ونموت من أجل الإشتراكية.ليست هذه كلمات فارغة لدى هؤلاء الرجال، لأنها ،مرفقة بالأعمال، وقد فقدنا في هذا النضال المئات والآلاف من خيرة العمال الاشتراكيين؛ وأنا أعتقد أنهم لم يسقطوا فقط من أجل الجمهورية السوفياتية بل أيضا من أجل الأممية الثالثة. وإذا لم يكن يخامرنا اليوم حتى التفكير بالهجوم على بروسيا الشرقية – على العكس فإننا نكون سعداء جدا لو أن السيدين إيبرت وشيدمان يتركاننا بسلام – فصحيح مع ذلك، أنه عندما يدعونا إخوتنا في الغرب إلى نجدتهم فإننا سنجيب « حاضرون ! لقد تعلمنا خلال هذا الوقت استخدام الأسلحة ونحن جاهزون للنضال والموت من أجل مصلحة الثورة العالمية »
خطاب لينين الاختتامي (7 مارس 1919) هكذا أنهينا عملنا. إذا كنا قد استطعنا أن نجتمع على الرغم من كل الصعوبات والقمع البوليسي، وإ ذا كنا قد نجحنا، دون تعارضات أساسية، في أن نتخذ، في وقت قصير من الزمن، قرارات هامة حول كل المسائل الساخنة للمرحلة الثورية الحالية، فذلك لأن الجماهير البروليتارية في العالم أ جمع قد وضعت عبر أفعالها كل هذه المسائل العملية على جدول أعمالها وبدأت بحلها فعلا. ولم نقم هنا إلاّ بتلخيص ما كانت الجماهير قد نجحت باكتسابه في نضالها الثوري. إن الحركة الداعمة للسوفياتات تمتد دائما إلى الأبعد، ليس فقط في بلدان أوربا الشرقية بل أيضا في بلدان أوربا الغربية، ليس فقط في البلدان المهزومة بل أ يضا في البلدان المنتصرة كإنكلترا مثلاً، وهذه الحركة ليست أقل من حركة هدفها خلق ديموقراطية بروليتارية جديدة، إنها التطور الأكثر أهمية نحو ديكتاتورية البروليتاريا ونحو الانتصار الكامل للشيوعية. فلتستمر البرجوازية في العالم أجمع في التخريب، فلتلاحقْ وتعتقلْ وحتى تغتلْ السبارتاكيين والبلاشفة، فإن هذا لن يخدمها بشيء، لن يكون بمقدوره إلاّ توعية الجماهير، وحفز تصميمها على تخطي أفكارها المسبقة البرجوا زية الديموقراطية القديمة وعلى الإنخراط في النضال. إن انتصار الثورة البروليتارية مضمون في العالم أجمع: فتشكيل الجمهورية السوفياتية العالمية يسير قدما.
بيان الأممية الشيوعية إلى بروليتاريي العالم أجمع ! منذ إثنين وسبعين عاما قدم الحزب الشيوعي برنامجه للعالم على شكل بيان كتبه أكبر أنبياء الثورة البروليتارية، كارل ماركس وفريدريك إ نغلز. منذ تلك المرحلة، وفيما كانت الشيوعية لا تزال في بدايات نضالها، أثقلت كاهلها الملاحقات والأكاذيب والحقد والاضطهاد من جانب الطبقات المالكة التي رأت فيها، وعن حق، عد وتها القاتلة. خلال ثلاثة أ رباع القرن هذه، اتَّبع تطور الشيوعية طرقا معقدة وشهد، بشكل متناوب، عواطف الحماس وفترات الإحباط، وعرف الانتصارات والخيبات القاسية. ولكن الحركة سارت بالواقع تبعا للطريق الذي رسمه البيان الشيوعي. لقد أتت ساعة النضال النهائي والحاسم متأخرة عمّا كان يقدره ويتوقعه رسولا الثورة الاجتماعية. ولكنها أتت. ونحن الشيوعيين، ممثلي البروليتاريا الثورية في مختلف بلدان أوربا وأمريكا وآسيا، المجتمعين في موسكو، عاصمة روسيا السوفياتية، نشعر أننا ورثة العمل الذي أُعلن برنامجه منذ اثنين وسبعين عاما، ومتابعوا هذا العمل. إن مهمتنا هي تعميم التجربة الثورية للطبقة العاملة، وتخليص الحركة من الخليط العكر من الانتهازية والاشتراكية-الوطنية، وتوحيد قوى كل أحزاب البروليتاريا العالمية الثورية حقا. وانطلاقا من ذلك تسهيل انتصار الثورة الشيوعية في العالم والإسراع به. اليوم، وأوربا مغطاة بالحطام والأنقاض المحترقة، ينهمك مشعلو الحرائق الأكثر إثما في البحث عن المسؤولين عن الحرب، تتبعهم حاشيتهم من أساتذة وبرلمانيين وصحافيين واشتراكيين-وطنيين وغيرهم من الداعمين السياسيين للبرجوازية. خلال سلسلة طويلة من السنين، تنبأت الإشتراكية بحتمية الحرب الامبريالية. لقد رأت أسبابها في الرغبة المسعورة بالربح والتملك لدى الطبقات المالكة في المعسكرين المتنافسين، وبشكل عام في جميع البلدان الرأسمالية. قبل عامين من الانفجار، في مؤتمر بال، كان القادة الاشتراكيون المسؤولون في كافة البلدان يشهرون بالامبريالية باعتبارها المحرضة على الحرب المقبلة، ويهدد ون البرجوا زية بإطلاق الثورة الاجتماعية ضدها وبثأر البروليتاريا من جرائم الرأسمالية. والآن، بعد تجربة امتدت خمس سنوات، وفيما يكشف التاريخ، بعد أن فضح شهوات ألمانيا الجشعة، ممارسات الحلفاء التي لا تقل إجراما، لم يكفّ الاشتراكيون الرسميون في بلدان الحلفاء عن التشهير بالامبرا طور الألماني المخلوع باعتباره مجرم الحرب الأكبر وذلك جريا خطى حكوماتهم. أكثر من ذلك، إن الاشتراكيين الوطنيين الألمان، الذين جعلوا في أغسطس 1914 من الكتاب الديبلوماسي الأبيض لعائلة هوهينزولرن إنجيل الأمم المقدس، هؤلاء الاشتراكيون الوطنيون، في خنوعهم الدنيء، يتهمون بد ورهم اليوم الملكية الألمانية المجندلة، التي كانوا خدامها المخلصين، بأنها المسبب الرئيسي للحرب. وهم يأملون، هكذا، نسيان الدور الذي لعبوه وكسب تسامح المنتصرين في آن واحد. ولكن إلى جانب الدور الذي قامت به عائلات رومانوف وهوهنزولرن وهابسبورغ الملكية المخلوعة والزمر الرأسمالية في تلك البلدان، فإن دور الطبقات الحاكمة في فرنسا وإنكلترا وإ يطاليا والولايات المتحدة يظهر بكل ضخامته الإجرامية على ضوء الأحداث الحاصلة والإفشاءات الديبلوماسية. لم ترفع الديبلوماسية الانكليزية قناعها الخفي أبدا حتى انفجار الحرب. كانت حكومة السيتي(**) تخشى إن هي أعلنت بوضوح عن نيتها الاشتراك في الحرب إلى جانب الحلفاء أن تتراجع حكومة برلين ولا تقع الحرب. لهذا كانت، من جهة، تتصرف بشكل يجعل برلين وفيينا تأملان حيادها، وبشكل يجعل باريس وبيتروغراد من جهة ثانية تعتمدان بثقة على تدخلها. إن الحرب، التي هيأ لها مسار التاريخ خلال عدة عقود، فجرها استفزاز مباشر وواع من جانب بريطانيا العظمى. لقد كانت حكومة هذا البلد تنوي أن تدعم روسيا وفرنسا فقط بالقدر الضروري الذي يسمح بإنهاكهما عبر إنهاك ألمانيا عدوها اللدود. غير أن قوة التنظيم العسكري الألماني بدت خطرة جدا وفرضت على إنكلترا تدخلا حقيقيا وليس فقط ظاهريا كما كانت تنوي. إن دور المشاهد الباسم، الذي كانت تطمح إليه بريطانيا جريا على عادتها انتقل إلى الولايات المتحدة. وقبلت حكومة ويلسون بسهولة أكبر الحصار الانكليزي الذي كان يضعف إمكانات مضاربة البورصة الأمريكية على الدم الأوربي، لا سيما أن الدول العظمى المتحالفة عوّضت البرجوازية الأمريكية بأرباح ضخمة من جراء ذلك الخرق « للقانون الدولي ». مع ذلك فالتفوق العسكري الهائل لألمانيا أجبر حكومة واشنطن بدورها على الخروج من حالة الحياد الزا ئف حيال أوربا، وتكلفت بالمهمة التي أدتها بريطانيا في الحروب السابقة والتي حاولت القيام بها، في الحرب الأخيرة، على صعيد القارة: إضعاف أحد المعسكرين باستخدام الآخر وعدم التورط في العمليات العسكرية إلاّ بالقدر الذي لا مفر منه من أجل تأمين كل مكاسب الوضع. إن الرهان المعروض في اليناصيب الأمريكي لم يكن كبيرا، ولكنه كان الخيار الأخير، ولهذا كان يؤمن لها الربح. لقد أظهرت تناقضات النظام الرأسمالي للإنسانية أثر الحرب على شكل عذابات جسدية: الجوع، البرد، الأمراض السارية وعودة إلى الهمجية. هكذا تم الحكم المبرم على النزاع الأكاديمي القديم بين الاشتراكيين حول نظرية الإفتقار والانتقال التدريجي من الرأسمالية إلى الاشتراكية. كان إحصائيو نظرية تدوير الزوايا وأحبارها قد بحثوا خلال عشرات السنوات في جميع أنحاء العالم عن وقائع حقيقية أو خيالية قادرة على إثبات تقدم رفاهية بعض مجموعات الطبقة العاملة أو فئاتها. لقد اعتبرت نظرية الإفتقار مدفونة وسط صفير الاحتقار من جانب الخصيان الذين يحتلون المنابر الجامعية البرجوازية وكبار موظفي الانتهازية الاشتراكية. والآن ليس فقط الإفتقار الاجتماعي بل الإفتقار الفيزيولوجي والبيولوجي هو الذي يظهر لنا بكل واقعه البشع. لقد كنّست كارثة الحرب الامبريالية كل مكاسب المعارك النقابية والبرلمانية بصورة جذرية. ومع هذا فقد ولدت تلك الحرب من الاتجاهات الداخلية للرأسمالية مثلها مثل المساومات الاقتصادية أو التسويات السياسية التي دفنتها في الوحل والدم. بعد أن جر الرأسمال المالي الإنسانية إلى هاوية الحرب، تعرّض هو نفسه لتحول كارثي. لقد انقطعت نهائيا تبعية العملة الورقية للأساس المادي للإنتاج، وتحولت العملة الورقية، بفقدانها بشكل متزا يد لقيمتها بما هي وسيلة وضابطة لتبادل المنتوجات في النظام الرأسمالي، إلى أداة تسخير وقهر، وبشكل عام، إلى أداة اضطهاد عسكري واقتصادي. إن الانخفاض الكلي لقيمة أ وراق البنوك يشير إلى الأزمة المميتة الشاملة التي يتعرض لها تداول المنتجات في النظام الرأسمالي. وإذا كان قد تم استبدال المنافسة الحرة، كمنظمة للإنتاج والتوزيع، بنظام التروستات والاحتكارات في الحقول الرئيسية للاقتصاد قبل بضعة عقود من الحرب، فإن مسار الحرب نفسه قد انتزع من التجمعات الإقتصادية دورها المنظم والموجه، ليضعه مباشرة في أيدي السلطة العسكرية والحكومية. فتوزيع المواد الأولية واستغلال نفط باكو أو رومانيا والفحم الحجري في دونتز وقمح أوكرانيا، واستخدام قاطرات ألمانيا وحافلاتها وعرباتها، وتموين أوربا الجائعة بالخبز واللحم، كل هذه المسائل الأساسية في الحياة الاقتصادية للعالم لم تعد تنظم بالمنافسة الحرة ولا حتى بواسطة تشكيلات من التروستات أو الاتحادات الوطنية أو العالمية، لقد وقعت تحت نير الطغيان العسكري كي يستخدمها كضمانة من الآن وصاعدا. وإذا كان خضوع السلطة السياسية للرأسمال المالي قد قاد الإنسانية إلى المجزرة الامبريالية، فإن هذه المجزرة قد سمحت للرأسمال المالي ليس فقط بعسكرة الدولة، بل بعسكرة نفسه بالذات، حيث أنه لم يعد قادرا على القيام بوظائفه الاقتصادية إلاّ بواسطة الحديد والدم. إن الانتهازيين الذين كانوا يدعون العمال، قبل الحرب، إلى الاعتدال في مطالبهم تحت حجة المرور البطيء نحو الاشتراكية، والذين أجبروهم خلال الحرب على التخلي عن الصراع الطبقي، باسم الوحدة المقدسة والدفاع الوطني، يطلبون تضحية جديدة من البروليتاريا، وهذه المرة من أجل التغلب على النتائج المخيفة للحرب. إذا كان لمثل هذه المواعظ أن تؤثر على الجماهير العمالية، فإن تطور الرأسمال سيستمر، مضحيا بأجيال عديدة عبر أشكال جديدة، أكثر تركيزا وبشاعة أيضا، وبمنظور حتمي لحرب عالمية جديدة. ولكن من حظ الإنسانية، أن ذلك لم يعد ممكنا. إن دولنة الحياة الاقتصادية التي طالما احتجت عليها الليبرالية الرأسمالية أصبحت أمرا واقعا. إن العودة ليس إلى المنافسة الحرة بل فقط إلى سيطرة التروستات والنقابات أو أي أخطبوط رأسمالي آخر، من الآن فصاعدا، باتت أمرا مستحيلا. فالمسألة الوحيدة التي يجب معرفتها من الآن وصاعدا هي من سيستلم الإنتاج الذي تسيطر عليه الدولة: الدولة الامبريالية أو دولة البروليتاريا المنتصرة. بعبارات أخرى هل ستصبح الإنسانية العاملة بمجملها العبد التابع لزمرة عالمية منتصرة، تنهب البعض وتخنقه، وتتعهد بالرعاية للبعض الآخر، ولكنها دائما وفي كل مكان، تقيّد البروليتاريا ضمن هدف واحد وهو الحفاظ على سيطرتها، وذلك تحت رعاية عصبة الأمم وبواسطة جيش « أممي » وأسطول « أممي » ؟ أم أن الطبقة العاملة في أوربا وفي البلدان الأكثر تقدما في الأجزاء الأخرى من العالم ستستولي على الحياة الاقتصادية على الرغم من فوضاها ود مارها من أجل إعادة بنائها على أسس اشتراكية ؟ إن اختصار فترة الأزمة التي نمر بها لا يمكن أن يتم إلاّ بأساليب ديكتاتورية البروليتاريا التي لا تنظر إلى الماضي ولا تقيم وزنا للامتيازات الموروثة ولا لحق الملكية، ولا تقيم اعتبارا إلاّ لضرورة إنقاد الجماهير الجائعة، وتعبئ من أجل ذلك كل الوسائل وكل القوى، وتقرر إلزامية العمل للجميع وتؤسس لنظام الانضباط العمالي، وذلك ليس فقط من أجل شفاء الجروح الفاغرة التي أحدثتها الحرب بل من أجل الارتفاع بالانسانية إلى علو جديد غير منتظر. * * * * * لقد أصبحت الدولة القومية، بعد أن أعطت دفعا قويا للتطور الرأسمالي، ضيقة جدا بالنسبة لتوسع القوى المنتجة، وقد جعلت هذه الظاهرة من وضع الدول الصغرى، المحصورة وسط القوى الكبرى الأوربية والعالمية، أكثر صعوبة. إن هذه الدول الصغرى التي ولدت في فترات مختلفة كأجزاء من تلك الكبرى، وكعملة النحاس المخصصة لتسديد مختلف الضرائب، وكصمامة استراتيجية، لديها أسرُها الملكية وشرا ئحها الحاكمة وأطماعها الامبريالية وحيلها الديبلوماسية. لقد كان استقلالها الوهمي مرتكزا، حتى الحرب، على ما كان يرتكز عليه التوازن الأوربي بالضبط أي العداء بين المعسكرين الامبرياليين. لقد جاءت الحرب لتدمر هذا التوازن. وإذا أعطيت الحرب في البداية تفوقا هائلا لألمانيا، دفعت الدول الصغرى إلى البحث عن الخلاص في شهامة العسكرية الألمانية، وبعد أن هزمت ألمانيا، استدارت برجوازية الدول الصغرى، بالاتفاق مع « اشتراكييها » الوطنيين، لتحية امبريالية الحلفاء المنتصرة، وا نكبت تبحث في البنود المخادعة لبرنامج ويلسون عن ضمانات للمحافظة على وجودها المستقل. وفي الوقت نفسه، كان عدد الدول الصغرى يتزايد: لقد انفصلت عن الملكية النمساوية-المجرية وامبراطورية القياصرة دول جديدة. ما إن ولدت حتى أمسكت الواحدة منها بخناق الأخرى حول مسألة الحدود. وكان الامبرياليون الحلفاء خلال ذلك الوقت، يعدون لتشكيلات من القوى الصغرى، الجديدة والقديمة، من أجل ربطها بعضها ببعض بحقد متبادل وضعف شامل. لا يكف الحلفاء الامبرياليون، وهم يسحقون ويقهرون الشعوب الصغيرة والضعيفة ويقضون عليها بالجوع والإدلال كما فعل إمبرياليو دول المحور قبلهم بقليل، لا يكفون عن الحديث عن الحقوق القومية، هذه الحقوق التي داسوها بأرجلهم في أوربا والعالم أجمع. إن الثورة البروليتارية وحدها تستطيع أن تضمن للشعوب الصغيرة وجودا حرا، لأنها تحرر القوى المنتجة في كل البلدان من الكماشات التي تشدّها الدول القومية، عبر توحيدها للشعوب في تعاون اقتصادي وثيق، انسجاما مع خطة اقتصادية مشتركة. وهي الوحيدة التي تعطي الشعوب الأضعف والأقل عددا إمكانية حكم نفسها، مع حرية واستقلالية مطلقين، وتمنحها ثقافتها الوطنية دون أن تلحق أدنى ضرر بالحياة الاقتصادية الموحدة والممركزة في أوربا والعالم. إن الحرب الأخيرة التي كانت إلى حد بعيد حربا من أجل الاستيلاء على المستعمرات، كانت في الوقت نفسه حربا وقعت بمساعدة المستعمرات. فبنسب لم تكن معروفة حتى ذلك الحين جُرت الشعوب المستعمرة إلى الحرب الأوربية. لقد تقاتل الهنود والزنوج والعرب والملقيون على أرض أوربا، ولكن لماذا ؟ باسم حقهم بالبقاء مدة أطول عبيدا لانكلترا وفرنسا. فلم يحصل أبدا بالسابق أن كان مشهد انعدام شرف الدولة الرأسمالية في المستعمرات موجبا للعبرة إلى هذا الحد، ولم يحدث من قبل أن طرحت مشكلة العبودية الاستعمارية بحدة مماثلة. ومن هنا، قامت سلسلة من الانتفاضات والحركات الثورية في كل المستعمرات في أوروبا نفسها، وذكرت إيرلندا في معارك د موية في الشوارع بأنها لا تزال بلدا مستعبدا وأنها تعي ذلك. في مدغشقر وأنام وأماكن أخرى، كان على قوات الجمهورية البرجوازية، والأكثر من مرة، أن تخمد انتفاضات العبيد المستعمرين. وفي الهند لم تتوقف الحركة الثورية يوما واحدا، وقد أدت في الفترة الأخيرة إلى إضرابات عمالية عظيمة ردت عليها الحكومة البريطانية باستخدام العربات المصفحة. وهكذا طُرحت المسألة الكولونيالية بكل زخمها ليس فقط على البساط الأخضر لمؤتمر ديبلوماسيي باريس، بل في المستعمرات نفسها. لقد كان هدف برنامج ويلسون، في تفسيره الأفضل، تغيير مراسم الاستعباد الاستعماري. إن تحرر المستعمرات لا يمكن إحرازه إلاّ إذا تم بالتزا من مع تحرر الطبقة العاملة في الدول المستعمرة. إن العمال والفلاحين، ليس فقط في أنام والجزائر والبرتغال، بل أيضا في إيران وأرمينيا، لا يمكنهم أن يتمتعوا بوجود مستقل إلاّ في اليوم الذي يستولي فيه عمال إنكلترا وفرنسا على السلطة الحكومية، بعد أن يطيحوا لويد جورج وكليمنصو. ومنذ الآن، لم يعد يخاض النضال في المستعمرات الأكثر تطورا تحت راية التحرر القومي فقط، بل إنه يتخذ فورا طابعا اجتماعيا بالغ الوضوح إلى هذا الحد أو ذاك. إذا كانت أوربا الرأسمالية قد قادت الأجزاء الأكثر تخلفا في العالم، رغما عنها، إلى دوامة العلاقات الرأسمالية، فإن أوربا الاشتراكية ستأتي بدورها لإنقاذ المستعمرات المحررة، بواسطة تقنيتها وتنظيمها ونفوذها المعنوي، من أجل الإسراع بانتقالها إلى الحياة الاقتصادية المنظمة باتقان على يد الاشتراكية. يا عبيد المستعمرات في افريقيا وآسيا، إن ساعة دكتاتورية البروليتاريا في أوربا ستدق من أجلكم، باعتبارها ساعة خلاصكم. * * * * * إن العالم البرجوازي بأكمله يتهم الشيوعيين بإلغاء الحرية والديموقراطية السياسية. هذا ليس صحيحا. إن البروليتاريا باستلامها السلطة لا تقوم إلاّ بإظهار الاستحالة التامة لتطبيق أساليب الديموقرا طية البرجوازية، وبخلق الشروط والاشكال الخاصة بديموقراطية عمالية جديدة، وأكثر تقدما. لقد نسف كامل مسار التطور الرأسمالي، وبشكل خاص في العصر الامبريالي الأخير، أسس الديموقراطية السياسية، ليس فقط بتجزئته الأمم إلى طبقتين عدوتين لا مجال للتوفيق بينها، بل أيضا بحكمه بالهلاك الاقتصادي والعجز السياسي على شرائح عديدة من البرجوازية الصغيرة والبروليتاريا، مثلما فعل بالعناصر الأكثر حرمانا من هذه البروليتاريا نفسها. لقد استخدمت الطبقة العاملة نظام الديموقراطية السياسية من أجل تنظيم نفسها بمواجهة الرأسمال في البلدان حيث سمح لها التطور التاريخي بذلك. وهذا ما سيحصل في المستقبل في البلدان التي لم تتحقق فيها بعد الشروط التمهيدية لثورة عمالية. لكن جماهير السكان المتوسطين ليس فقط في القرى ولكن أيضا في المدن، ما زالت تشدهم الرأسمالية إلى الوراء، متخلفين مراحل عديدة عن التطور التاريخي. إن فلاح بافيير أو باد، الذي ما زال وثيق الصلة بمسقط رأسه، ومزارع العنب الفرنسي الصغير الذي دفعه إلى الإفلاس غش كبار تجار الخمور الرأسماليين، والأمريكي صاحب المزرعة الصغيرة الذي أثقله أصحاب البنوك والنواب بالديون وخدعوه، كل هذه الفئات الاجتماعية التي رمتها الرأسمالية خارج طريق التطور التاريخي الكبير، يدعوها نظام الديموقراطية السياسية للمشاركة بحكومة الدولة. والواقع أنه في المسائل الأساسية التي يتوقف عليها مصير الأمم، هناك طغمة مالية تحكم من وراء كواليس الديموقراطية البرلمانية. هذا ما حصل سابقا في مسألة الحرب ويحصل حاليا في مسألة السلم. وبقدر العناء الذي ما زالت تتكبده الطغمة المالية من أجل تشريع أعمال الطغيان التي تقوم بها عبر التصويتات البرلمانية، فإن الد ولة البرجوازية تستخدم للوصول إلى النتائج المتوخاة كل أسلحة الكذب والديماغوجية والتعذيب والافتراء والإفساد والارهاب التي وضعتها بيدها عصور العبودية البائدة، والتي ضاعفتها معجزات التقنية الرأسمالية. أن يُطلب من البروليتاريا، في صراعها الأخير حتى الموت ضد الرأسمال، أن تراعي بورع مبادئ الديموقراطية السياسية، فهذا يعادل مطالبة شخص يدافع عن وجوده وحياته ضد قطاع طرق بأن يراعي القواعد الشكلية والمتفق عليها للملاكمة الفرنسية، تلك القواعد التي وضعها خصمه علما أ نه لا يحترمها. وفي مجال الدمار، حيث لم تعد وسائل الإنتاج والنقل، بل وأيضا مؤسسات الديموقراطية السياسية، إلاّ كومة من الحطام الملطخ بالدم، ستضطر البروليتاريا إلى خلق جهازها الخاص الذي يخدم قبل كل شيء بالإبقاء على التماسك الداخلي للطبقة العاملة نفسها ويمنحها القدرة على التدخل بشكل ثوري في التطور اللاحق للإنسانية. هذا الجهاز هو السوفياتات. عبرت الأحزاب القديمة والمنظمات النقابية القديمة بشخص زعمائها عن عجزها ليس فقط عن ا تخاذ القرار بل حتى عن فهم المشاكل التي يطرحها العصر الجديد. إن البروليتاريا خلقت نموذجا جديدا من التنظيم الواسع، الذي يستوعب الجماهير العمالية بغض النظر عن المهنة ودرجة التطور السياسي. جهازا مرنا قادرا على التجدد والتوسع الدائمين، وبإمكانه دائما جذب فئات جديدة واحتضان شرائح الشغيلة القريبة من بروليتاريا المدينة والريف. إن تنظيم الطبقة العاملة هذا، الذي لا يمكن الاستعاضة عنه والذي يحكم نفسه بنفسه، ويناضل ويستولي بالنهاية على السلطة السياسية، قد خضع للتجربة في بلدان مختلفة وهو يشكل المكسب والسلاح الأكثر قوة في يد البروليتاريا في عصرنا. في البلدان كافة حيث تتمتع البروليتاريا بحياة واعية، تتشكل اليوم وستتشكل في المستقبل سوفياتات النواب العمال والجنود والفلاحين. إن تعزيز السوفياتات ورفع سلطاتها ووضعها بوجه الجهاز الحكومي للبرجوازية، هذا هو حاليا الهدف الأساسي للعمال الواعين والمخلصين في البلدان كافة. بواسطة السوفياتات تستطيع البروليتاريا أن تتخلص من عناصر التفسخ التي تحمل في داخلها آلام الحرب الجهنمية والجوع وطغيان الأغنياء مع خيانة زعمائها السابقين، وبواسطة السوفياتات تستطيع الطبقة العاملة، بالطريقة الأكثر ثقة والأكثر سهولة، أن تصل إلى السلطة في البلدان كافة حيث تجمع السوفياتات حولها غالبية الشغيلة، وبواسطة السوفياتات تستطيع الطبقة العاملة سيدة السلطة، أن تحكم كل ميادين الحياة الاقتصادية والأخلاقية للبلد، كما هو قائم في روسيا. إن انحلال الدولة الامبريالية، بدءا بأشكالها القيصرية ووصولا إلى أشكالها الأكثر ديموقراطية، يترافق مع انحلال النظام العسكري الامبريالي. إن الجيوش المؤلفة من عدة ملايين من الرجال والتي تعبئها الامبريالية لن تستطيع الصمود إلاّ طالما بقيت البروليتاريا خاضعة لنير البرجوازية. إن تحطيم الوحدة الوطنية يعني التحطيم الحتمي للجيوش. هذا ما جرى أولا في روسيا، ومن ثم في ألمانيا والنمسا، وهذا ما ينبغي انتظاره في البلدان الامبريالية الأخرى. إن تمرد الفلاح على المالك والعامل على الرأسمالي، وتمرد الإثنين معا على البيروقراطية الملكية أو « الديموقراطية » يقود بشكل حتمي إلى تمرد الجنود على الضباط. ويؤدي إلى ا نشقاق مميز بين العناصر البروليتارية والبرجوازية في الجيش نفسه. إن الحرب الامبريالية إذ وضعت الأمم بعضها بمواجهة البعض قد انقلبت وستنقلب بشكل متزايد إلى حرب أهلية تضع الطبقات بعضها بمواجهة البعض. يشكل نواح العالم البرجوا زي حول الحرب الأهلية والإرهاب الأحمر أضخم نفاق سجله تاريخ الصراعات السياسية. فلم يكن هناك حرب أهلية لو أن طغمة المستغِلين، التي قادت البشرية إلى حافة الهاوية، لم تقف في وجه أي تطور للعمال، ولم تنظم المؤامرات والاغتيالات ولم تطلب النجدة العسكرية من الخارج من أجل الحفاظ على امتيازاتها المغتصبة وتجديدها. لقد فرضت الحرب الأهلية على الطبقات العاملة أعداؤها اللدودون، فإذا لم تكن الطبقة العاملة تريد الانتحار أو التخلي عن مستقبلها الذي هو مستقبل كل البشرية، ليس بإمكانها إلاّ أن ترد بضربات على ضربات المعتدين عليها. إن الأحزاب الشيوعية لا تثير الحرب الأهلية بشكل مصطنع، وتسعى مستطاعها لتقصير مدتها قدر الإمكان، عندما تظهر هذه الحرب كضرورة لا ترد، ولأن تقلص عدد الضحايا إلى حده الأدنى، ولكن، وفوق كل شيء، أنها تسعى لتحقيق انتصار البروليتاريا. من هنا تنبع ضرورة نزع سلاح البرجوازية في الوقت المناسب وتسليح العمال وخلق جيش شيوعي من أجل الدفاع عن سلطة البروليتاريا وحصانة بنائها الاشتراكي. هذا هو الجيش الأحمر، جيش روسيا السوفياتية الذي برز ويرتفع كسور لمكاسب الطبقة العاملة ضد الهجمات كافة في الداخل والخارج. إن جيشا سوفياتيا لا يمكن فصله عن الدولة السوفياتية. اتجه العمال الأكثر تقدما، واعين الطابع العالمي لقضيتهم، نحو ا تحاد أممي للحركة الاشتراكية، منذ الخطوات الأولى للحركة الاشتراكية المنظمة. لقد وضعت أسس هذا الاتحاد عام 1864 في لندن على يد الأممية الأولى. وقد حصدت الحرب الفرنسية الألمانية، التي نشأت عنها ألمانيا هوهنزلرن، الأممية الأولى وأدت في الوقت نفسه إلى ظهور الأحزاب العمالية القومية. ومنذ عام 1889 اجتمعت هذه الأحزاب في باريس وأنشأت منظمة الأممية الثانية. غير ان مركز ثقل الحركة العمالية كان قد انتقل بشكل كامل، في تلك الفترة، إلى الحقل الوطني في إطار الدولة القومية، وعلى قاعدة الصناعة الوطنية في ميدان البرلمانية الوطنية. وخلقت بضعة عقود من العمل والتنظيم والاصلاحات، جيلا من القادة كان بأغلبيته يقبل كلاميا برنامج الثورة الاجتماعية ولكنه كان قد تخلى عنها في الواقع وغاص في الاصلاحية عبر تكيف عبودي مع السيطرة البرجوازية. إن الطابع الانتهازي للأحزاب القائدة للأممية الثانية قد انكشف بشكل واضح وأ دى إلى أكبر انهيار للتاريخ العالمي في اللحظة المحددة التي كان مجرى الأحداث التاريخية فيها يتطلب من أحزاب الطبقة العاملة أساليب ثورية في النضال. إذا كانت حرب 1870 قضت على الأممية الأولى وكشفت أنه وراء برنامجها الاجتماعي والثوري لا توجد أي قوة جماهيرية منظمة، فإن حرب 1914 قد قضت على الأممية الثانية وأ ظهرت أن الأحزاب التي تسيطر على المنظمات القومية للجماهير العمالية قد أصبحت الأداة الطبقية للسيطرة البرجوازية. لا تنطبق هذه الملاحظات فقط على الاشتراكيين-الوطنيين الذين انتقلوا بوضوح وعلانية إلى معسكر البرجوازية وأصبحوا مندوبيها المفضلين وعملاءها الموثوقين وجلادي الطبقة العاملة الأكثر أهلا للثقة، بل تنطبق أيضا على التيار الوسطي غير المحدد وغير الواضح الذي يسعى إلى إحياء الأممية الثانية، أي تخليد ضيق الأفق والانتهازية والعجز الثوري لدوائرها القيادية. ويسعى الحزب الألماني المستقل، والأغلبية الحالية في الحزب الاشتراكي الفرنسي، وحزب العمال الإنكليزي المستقل وكل المجموعات الأخرى المماثلة، في الواقع، إلى شغل الموقع الذي كانت تحتله قبل الحرب الأحزاب الرسمية القديمة للأممية الثانية. وهي تقدم نفسها، كما في السابق، بأفكار التسوية والوحدة، مطيلة بذلك الأزمة ومضاعفة آلام أوربا. إن النضال ضد الوسط الاشتراكي هو الخلاصة التي لا مفر منها لإنجاح النضال ضد الامبريالية. نحن، الشيوعيون، المتحدين في الأممية الثالثة، إذ نطرح بعيدا عنا انصاف الإجراءات وكذب الأحزاب الاشتراكية الرسمية التي مر عليها الزمن وكسلها، نعتبر أنفسنا المكملين المباشرين لجهود سلسلة طويلة من الأجيال الثورية ولاستشهادها البطولي الذي تقبلته، بدءا ببابوف وحتى كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبرغ. إذا كانت الأممية الأولى قد توقعت التطور المقبل ومهدت له الطريق، وإذا كانت الأممية الثانية قد جمّعت ملايين البروليتاريين ونظمتهم، فإن الأممية الثالثة هي أممية العمل الجماهيري، أممية الإنجاز الثوري. إن النقد الاشتراكي قد أشبع النظام البرجوازي جلدا، ومهمة الحزب الشيوعي الأممي هي قلب نظام الأشياء هذا، وتشييد النظام الاشتراكي مكانه. إننا نطلب من كل العمال والعاملات في كل البلدان أن يتوحدوا تحت الراية الشيوعية التي أصبحت راية الانتصارات البروليتارية الكبرى الأولى في العالم أجمع ! فلتتحدوا في النضال ضد الهمجية الامبريالية، ضد الملكية والطبقات صاحبة الامتياز، ضد الدولة البرجوازية والملكية البرجوازية وضد كل مظاهر الاضطهاد الطبقي والقومي وأشكاله. تحت راية السوفياتات العمالية، وراية النضال الثوري من أجل السلطة وديكتاتورية البروليتاريا، تحت راية الأممية الثالثة، يا عمال العالم إتحدوا !. (*) قانون لينش: قانون
الإعدام من غير محاكمة قانونية، وهو منسوب إلى قاضٍ أمريكي بهذا الإسم
(المعربة)
(**) Gouvernement de la City، المقصود بالسيتي
المنطقة التجارية في لندن، وبالتالي حكومة التجار الإنكليز (المعربة) |