لقد رأينا كيف ولد الاقتصاد السلعي بعد أن تفككت كل أشكال المجتمع التي كان فيها الإنتاج منظما ومخططا –المجتمع المشاعي البدائي، الاقتصاد العبودي واقتصاد القنانة في العصور الوسطى- وكان تفككه على مراحل. ثم رأينا كيف ولد الاقتصاد الرأسمالي المعاصر بشكل تلقائي انطلاقا من الاقتصاد السلعي البسيط، أي الاقتصاد الحرفي المديني عند نهاية القرون الوسطى، وذلك دون أن يرغب الإنسان في ولادته أو يعيها. في البداية طرحنا سؤالا يقول: كيف كان الاقتصاد الرأسمالي ممكنا؟ وذلكم هو السؤال الأساسي المطروح حول الاقتصاد السياسي بوصفه علما. والحال أن العلم يوفر لنا الكثير من الإجابات. فهو يرينا كيف كان الاقتصاد الرأسمالي للوهلة الأولى أمرا مستحيلا، لغزا غير قابل لأي حل، بالنظر إلى غياب كل تخطيط، وكل تنظيم واع، ومع هذا ها هو الاقتصاد السياسي منتظم ككل وجود:
عبر تبادل السلع والاقتصاد النقدي الذي يربط كل منتجي السلع والمناطق الأكثر عزلة على الأرض ببعضها البعض اقتصاديا، ويفرض تقسيما عالميا للعمل.
عبر المنافسة الحرة التي تؤمن التقدم التقني وفي الوقت نفسه تعمل بشكل ثابت على تحويل صغار المنتجين إلى بروليتاريين يحملون إلى رأس المال قوة العمل التي يوسع هذا الأخير شراؤها.
عبر قانون الأجور الرأسمالي الذي يسهر من جهة على ألا ترتفع الأجور إلى مستوى يجعل البروليتاريين يتجاوزون وضعهم كبروليتاريين ويفلتون من العمل تحت أمر الرأسمال، ويسمح من جهة أخرى بتراكم متزايد للعمل غير المدفوع محولا إياه إلى رأسمال، وبتراكمٍ وازدهارٍ متحسنين على الدوام لأدوات الإنتاج.
عبر جيش الاحتياط الصناعي الذي يسمح للإنتاج الرأسمالي بالتوسع تبعا لمشيئته وبالتكيف مع احتياجات المجتمع.
وعبر تغيرات الأسعار والأزمات التي تُحدث، إما بشكل يومي وإما بشكل دوري، توازناً بين الإنتاج الأعمى والفوضوي وبين احتياجات المجتمع.
وهكذا، عبر فعل ميكانيكي قامت به القوانين الاقتصادية المذكورة أعلاه، والتي تشكلت من تلقائها دون أي تدخل واع قام به المجتمع، هكذا أُمكن للاقتصاد الرأسمالي أن يوجد. فعلى الرغم من غياب كل تماسك اقتصادي منظم بين المنتجين الأفراد، وعلى الرغم من غياب كل تخطيط لنشاط البشر الاقتصادي، تمكن الاقتصاد الاجتماعي من القيام ومن ربط نفسه بعجلة الاستهلاك، بشكل جعل من الممكن سد احتياجات المجتمع وقيام تطور اقتصادي، إضافة إلى تطور إنتاجية العمل البشري الذي هو أساس كل تقدم للحضارة.
إن في هذا كله الشروط الأساسية لوجود كل مجتمع بشري. فطالما أن ثمة شكلا تاريخيا للاقتصاد قادرا على الاستجابة لشروطه (أي لشروط المجتمع) بامكان هذا الشكل أن يوجد لأنه يكون ضرورة تاريخية.
ليس للعلاقات الاجتماعية أشكالا صارمة وثابتة. ففي مجرى الزمن تمر تلك العلاقات بالعديد من المتغيرات، وتخضع لانقلاب مستمر هو الذي يشق طريق التقدم الحضاري والتطور. إن الألوف الطويلة من السنين التي هيمن فيها الاقتصاد المشاعي البدائي والتي قادت المجتمع البشري، من بدايات وجود كانت لا تزال نصف حيوانية حتى مستوى عال من التطور ومن تشكل اللغة والدين إلى قيام اقتصاد الرعي والزراعة وإلى حياة العمران وإلى تشكل القرى، تلاها قليلا فقليلا اقتصاد الرعي البدائية وتشكل العبودية القديمة، التي أدت بدورها إلى حدوث تطورات جديدة وكبيرة في الحياة الاجتماعية قادت بدورها إلى تدهور العالم القديم. من المجتمع المشاعي لجرمان أوربا الوسطى، برز –على أطلال العالم القديم- شكل اقتصادي جديد هو القنانة التي ارتكزت إليها إقطاعية القرون الوسطى.
بعد ذلك تابع التطور مسيرته الدائبة: ففي رحم المجتمع الإقطاعي في العصور الوسطى، تشكلت في المدن بذور شكل اقتصادي واجتماعي جديد: المنغلقات الحرفية، الإنتاج السلعي والتجارة المنتظمة كلها توطدت لينتهي بها الأمر إلى تفكيك المجتمع الإقطاعي. وهذا المجتمع تدهور ليخلي المكان أمام الاقتصاد الرأسمالي الذي تطور انطلاقا من الاقتصاد السلعي الحرفي، بفضل التجارة العالمية، وبفضل اكتشاف أمريكا واكتشاف طرق الهند البحرية.
والإنتاج الرأسمالي نفسه ليس خالدا وثابتا إن نحن نظرنا غليه ضمن إطار المتطور الهائل للتقدم التاريخي، إذ سيلوح لنا عند ذاك كمجرد مرحلة انتقالية بسيطة، ومجرد درجة في سلم التطور البشري العظيم، مثله في هذا مثل كل أشكال المجتمعات التي سبقته. فهذا الإنتاج إذا نظرنا إليه عن كثب سنجد أن تطور الرأسمالية يقوده حتما نحو دماره أي إلى ما وراء الرأسمالية. حتى الآن سعينا لمعرفة ما يجعل الرأسمالية ممكنة، والآن بات علينا أن نعرف ما الذي يجعلها مستحيلة وحسبنا في سبيل هذا أن نتبع القوانين الداخلية للهيمنة الرأسمالية ضمن إطار نتائجها اللاحقة. فهذه القوانين هي التي، إذ تصل إلى مستوى تطور معين، تستدير ضد الشروط الأساسية التي لا يمكن للمجتمع البشري أن يعيش بدونها. إن ما يميز نمط الإنتاج الرأسمالي عن أنماط الإنتاج السابقة عليه، هو اتجاهه الداخلي للتوسع فوق كوكب الأرض كله طاردا كل شكل قديم من أشكال المجتمع. ففي زمن المشاعية البدائية كان العالم الذي تطاله البحوث التاريخية مغطى كذلك باقتصاديات مشاعية. وبين مختلف الجماعات المشاعية لم يكن ثمة علاقة على الإطلاق أو كانت هناك بعض العلاقات الواهية. فكل جماعة أو قبيلة كانت منغلقة على نفسها. وإذا كنا نعثر الآن على وقائع مدهشة كتشابه الأسماء بين المشاعية البدائية في البيرو في أمريكا اللاتينية (الماركة) والجماعة الجرمانية في العصور الوسطى (المارش) فالأمر أقرب إلى اللغز الذي لا يزال بحاجة إلى حل أو هو وليد الصدفة. وحتى في عصر ازدهار العبودية القديمة، بوسعنا أن نجد تشابهات كثيرة أو قليلة في تنظيم مختلف الاقتصاديات العبودبة والدول العبودية القديمة لكننا لا نجد أبدا شراكة في الحياة الاقتصادية. وكذلك نجد أن تاريخ المنغلقات الحرفية قد تكرر إلى حدٍ ما في معظم مدن إيطاليا وألمانيا وهولندا وإنكلترا وغيرها في العصور الوسطى. ومع هذا كان التاريخ في أغلب الأحيان تاريخا لكل مدينة على حدة. أما الاقتصاد الرأسمالي فإنه يشمل كل البلدان معطيا إياها الشكل الاقتصادي نفسه، ورابطا إياها جميعا في اقتصاد رأسمالي عالمي كبير واحد.
في داخل كل بلد صناعي أوروبي نجد أن الإنتاج الرأسمالي يلغي الإنتاج الصغير الفلاحي والحرفي دون هوادة. وهو في الوقت نفسه يدمج في الاقتصاد العالمي كل البلدان المتخلفة في أوربا وكل بلدان أمريكا وإفريقيا وآسيا واستراليا. ويتم هذا بطريقتين: طريقة التجارة العالمية، وطريقة الغزوات الاستعمارية، والطريقتان بدأتا معا منذ اكتشاف أمريكا عند نهاية القرن الخامس عشر، ثم توسعنا خلال القرون اللاحقة، ولقد كانت ذروة ازدهارها في القرن التاسع عشر ولا تزالان على انتشار حتى الآن. والطريقتان –التجارة العالمية والغزوات الاستعمارية- تعملان يداً بيد. وهما تضعان البلدان الرأسمالية الصناعية الأوربية على اتصالٍ مع كل أشكال المجتمع في أجزاء العالم الأخرى. ومع أشكال الحضارة والاقتصاد الأكثر قدماً، الاقتصاد العبودي الريفي. الاقتصاد الإقطاعي ولاسيما الاقتصاد المشاعي البدائي. إن التجارة التي تُدمج فيها تلك الاقتصاديات سرعان ما تعمل على تفكيكها وتدميرها. فتأسيس الشركات التجارية الاستعمارية في الأراضي المحتلة، يحول الأرض، التي هي قاعدة الإنتاج الأكثر أهمية، كما يحول قطعان الماشية حين توجد، إلى أيد الدول الأوربية أو إلى أيدي الشركات التجارية، وهذا ما يؤدي في كل مكان إلى تحطيم العلاقات الاجتماعية الطبيعية ونمط الإنتاج المحلي بحيث يتم القضاء على شعوب بأسرها أو يحول جزء منها إلى بروليتاريا توضع، بشكل أو بآخر في تصرف الرأسمال الصناعي والتجاري تارة كمجموعة من العبيد وتارة كعمال مأجورين. إن تاريخ عقود الحروب الاستعمارية خلال القرن التاسع عشر كله وتاريخ الانتفاضات ضد فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وألمانيا في أفريقيا، وضد فرنسا وإنكلترا وهولندا والولايات المتحدة في آسيا. وضد اسبانيا وفرنسا في إفريقيا هو تاريخ المقاومة الطويلة والعنيدة التي تُبديها المجتمعات المحلية القديمة في وجه زوالها وفي وجه تحولها إلى بروليتاريا على يد الرأسمال الحديث. لكنه صراعٌ كان الرأسمال يخرج منه مظفراعلىالدوام. ويعني هذا توسعا عظيما لسيطرة الرأسمال وتشكلا للسوق والاقتصاد العالميين يكون فيه مجموع بلدان الأرض الآهلة بالنسبة إلى بعضهم البعض منتجين للبضائع وشارين لها، ويعملون يداً بيد، وشركاء في اقتصاد واحد يشمل الأرض كله.
السمة الثانية هي سمة الإفقار المتزايد الذي يطال شرائحا أكثر وأكثر ضخامة من شرائح البشرية ويؤدي إلى قلق متزايد حول وجودها نفسه. فمع تراجع العلاقات المشاعية القديمة حيث كان ثمة فلاحون وإقطاعيون لهم قوى إنتاجية محدودة ورفاه محدد، وحيث كانت شروط الوجود ثابتة ومضمونة للجميع، وأمام العلاقات الاستعمارية الرأسمالية، أمام التبلتر والاستعباد المأجور، لا يعود أمام كل شعوب أمريكا وآسيا واستراليا وأفريقيا سوى العيش وسط دوامة البؤس العنيف والعمل الشاق وغير المعتاد والقلق الشامل حول إمكانيات الوجود نفسها. وبعد أن تحولت البرازيل، من بلد غني وخصب إلى صحراء هائلة الحجم مزروعة بالبن، بسبب احتياجات الرأسمالية الأوربية وأمريكا الشمالية، وبعد أن حول سكان البلاد الأصليين إلى عبيد مأجورين متبلترين يعملون في مزارع البن، حدث لهؤلاء العبيد المأجورين أن رُموا فجأة وسط فترات بطالة وجوع طويلة، بسبب ظاهرة «أزمة البن»، التي هي ظاهرة رأسمالية صرف. والهند الغنية والفسيحة خضعت بدورها بعد مقاومة يائسة استدامت بضعة عقود خضعت لهيمنة الرأسمال بفضل السياسة الاستعمارية الإنكليزية، ومنذ ذلك الحين صارت المجاعة ومرض التيفوس، اللذين يهلكان ملايين البشر بضربة واحدة، صارا ضيفين مزمنين على إقليم الغانج، وفي داخل إفريقيا تمكنت السياسة الاستعمارية الإنكليزية والألمانية خلال عشرين عاما من تحويل شعوب بأسرها إلى عبيد مأجورين هذا حين لم تمتها جوعا وتشتت عظامها في طول الأقاليم وعرضها. أما الانتفاضات اليائسة والأمراض المعدية الناتجة عن الجوع في الإمبراطورية الصينية الفسيحة فلم تكن سوى نتيجة دخول الرأسمال الأوربي الذي كان قد حطم الاقتصاد الفلاحي والحرفي القديم. كذلك نجد أن دخول الرأسمالية الأوربية إلى الولايات المتحدة صحبته منذ البداية عملية قضاءٍ على الهنود الأمريكيين وسرقة المهاجرين الإنكليز لأراضيهم، تلاها بعد ذلك دخول إنتاج رأسمالي في القرن التاسع عشر استفادت منه الصناعة الإنكليزية ومن ثم حُول أربعة ملايين زنجي أفريقي باعهم تجار العبيد الأوربيون في أمريكا، حُولوا إلى عبيد ليعملوا في خدمة الرأسمال في مزارع القطن والسكر والتبغ.
وهكذا، قارة بعد قارة، وفي كل قارة بلداً بعد بلد، تحولت شعوب بأسرها لتخضع لهيمنة الرأسمال[1] . وتحولت ملايين عديدة من الناس لتصبح بروليتاريا وعبيدا وتعيش عيشا غير مضمون، أي باختصار طالها الإفقار. إن توطد الاقتصاد الرأسمالي العالمي يؤدي إلى ازدهار بؤس متزايد على الدوام وإلى أعباء عمل غير قابلة للاحتمال وإلى قلق متزايد حول الوجود نفسه فوق سطح الأرض، يقابله في الجهة الأخرى تمركز لرأس المال. إن الاقتصاد الرأسمالي العالمي يفرض على الإنسانية جمعاء أن تقوم على الدوام بعمل شاق وأن تشكو من الحرمان ومن الأمراض التي لا تحصى. وأن تعيش تفككا جسديا ومعنويا، لكي تخدم تراكم رأس المال. ومن خصوصيات نمط الإنتاج الرأسمالي ألا يكون الاستهلاك البشري، سوى وسيلة تخدم هدفا محددا هو التراكم الرأسمالي، بعد أن كان في المجتمعات السابقة هدفا في حد ذاته. وتنامي الرأسمال يظهر وكأنه البداية والنهاية، وكأنه غاية في ذاته وكأنه معنى الإنتاج كله. وأن عبثية مثل هذه العلاقات لا تظهر إلا حين يصبح الإنتاج الرأسمالي عالميا. فهنا على الصعيد العالمي، تصل عبثية الاقتصاد الرأسمالي إلى تعبيرها الراقي على صورة الإنسانية وقد خضعت كليا أمام ربقة قوة اجتماعية عمياء كانت هي التي خلقتها دون وعي منها: وتلك القوة هي رأس المال. إن الهدف الأساسي لكل إنتاج اجتماعي هو إعالة المجتمع عن طريق العمل. أما هنا فإن الاستجابة للاحتياجات تظهر مقلوبة رأسا على عقب وذلك لأن الإنتاج من أجل الربح وليس من أجل الإنسان يصبح قانونا شاملا ولأن الاستهلاك دون الحد الأدنى وعدم ضمان مواد الاستهلاك على الدوام عدم استهلاك قسم كبير من الناس، بين وقت وآخر، تصبح هي القاعدة.
في الوقت نفسه يؤدي تطور الاقتصاد العالمي إلى ظواهر هامة تطال الإنتاج الرأسمالي نفسه. فتوطيد هيمنة الرأسمال الأوربي في بلدان غير أوربية يمر بمرحلتين: أولا إدخال التجارة ودمج السكان المجليين في عملية تبادل السلع، وإلى حد ما تحويل الأشكال الإنتاجية المحلية القديمة إلى إنتاج سلعي، وثانيا انتزاع السكان المحليين من أراضيهم ونهبهم أدوات إنتاجهم بشكل أو بآخر، وأدوات الإنتاج هذه إذ تصبح في أيدي الأوربيين تتحول إلى رأس مال فيما يتحول السكان المحليون إلى بروليتاريين، وثمة مرحلة ثالثة تأتي، كقاعدة عامة، لتلي المرحلتين الأوليين: مرحلة يتم فيها خلق اقتصاد رأسمالي في البلد المستعمر-، إما على يد أوربيين مهاجرين، وإما على يد سكان محليين صاروا أثرياء. في البداية كانت الولايات المتحدة الأمريكية التي امتلأت بالمهاجرين الإنكليز والأوربيين الآخرين بعد القضاء على سكان البلاد الأصلين من الهنود الحمر كانت قد شكلت مناطق زراعية ملحقة بأوربا الرأسمالية، حيث كانت تزود إنكلترا بالمواد الأولية كالقطن والقمح، لتحصل منها على في المقابل على كافة الأصناف المصنعة. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر تشكلت في الولايات المتحدة صناعة لم تكتف برفض الواردات الأوربية بل شنت حملة منافسة عنيفة ضد الرأسمال الأوربي في أوربا وفي القارات الأخرى، في الهند وجدت الرأسمالية الإنكليزية نفسها تواجه منافسة خطرة على شكل صناعة نسيج محلية إضافة إلى عدد من الصناعات الأخرى. واتبعت استراليا نفس الطريق في تحولها من بلد استعماري إلى بلد رأسمالي صناعي. وفي اليابان أدى الصدام مع التجارة العالمية، منذ المرحلة الأولى إلى خلق صناعة خاصة، جعلت اليابان في معزل عن عملية التقسيم الكولونيالية. أما في الصين فإن عملية التفكيك ونهب البلاد على يد الرأسمالية الأوربية، تعقدت بسبب الجهود التي بُذلت محليا من أجل خلق رأسمال صيني بمساعدة اليابان، وذلك بهدف الدفاع عن النفس ضد هجمة الإنتاج الرأسمالي الأوربي، مما ضاعف في واقع الأمر من آلام السكان. إن هيمنة وتحكم الرأسمال ينتشران في كل الكوكب الأرضي بفضل خلق سوق دولية، وعلى هذا النحو يتوسع نمط الإنتاج الرأسمالي قليلا فقليلا ليغطي الكرة الأرضية. بيد أن حاجة الإنتاج للتوسع وللأراضي التي يمكنه أن يتوسع فيها، أي إلى الأسواق، حاجة تتوسع بنسبة متزايدة، وإنها لحاجة ضرورية وقانون حيوي من قوانين الإنتاج الرأسمالي ذلك الواقع الذي يقضي بعدم الثبات وبالتوسع دائما أسرع وأسرع، أي بالإسراع دائما في إنتاج كميات هائلة من السلع، وفي مؤسسات تتزايد حجما، وبواسطة أدوات تقنية أكثر وأكثر تطورا.
إن قدرة التوسع هذه التي يتمتع بها الإنتاج الرأسمالي لا تعرف حدودا، وذلك لأن لا حدود للتطور التقني، وبالتالي لا حدود لقوى الإنتاج. غير أن هذه الحاجة إلى التوسع سرعان ما تصطدم بحدود معينة، وهي ربح الرأسمالي. فالإنتاج وازدهاره ليس لهما أي معنى إلا إذا حققا ربحا «معتادا». والربح يرتبط بالسوق وبحال السوق، أي بالعلاقة بين الطلب الذي يُبديه المستهلك، وكمية السلع المنتجة وأسعارها. إن مصلحة الرأسمال التي تتطلب إنتاجا دائم السرعة والنمو، تخلق في كل لحظة حدودا لسوقه، وهذه الحدود تعمل على وضع عقبة في وجه اتجاه الإنتاج للتوسع. وينتج عن هذا كون الأزمات الصناعية والتجارية أزمات لا يمكن تفاديها، وهي أزمات تقيم بشكل دوري توازنا بين اتجاه الرأسمال للإنتاج غير المحدود في ذاته وبين حدود الاستهلاك، سامحة للرأسمال بأن يستديم ويتطور.
وكلما كان عدد البلدان التي تطوّر صناعتها الرأسمالية الخاصة كبيرا، وكلما كانت الحاجة إلى، وإمكانيات، توسع الإنتاج كبيرة من جهة، كلما تضاءلت إمكانيات توسع السوق بالعلاقة مع توسع الإنتاج. فإذا نحن قارنا القفزات التي بها تطورت الصناعة الإنكليزية في ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر حين كانت إنكلترا لا تزال تهيمن على السوق العالمية، بحجم نمو تلك الصناعة خلا العقدين الآخرين، أي حين بدأت ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية تدفعان بإنكلترا إلى التراجع في السوق العالمية، سيتبين لنا أن النمو هو أبطأ الآن منه من قبل. أي أن مصير الصناعة الإنكليزية ارتبط بمصير الصناعة الألمانية والصناعة الأمريكية وأخيرا صناعة العالم كله. فالإنتاج الرأسمالي، في كل خطوة من خطوات تطوره، يدنو دون هوادة من العصر الذي لن يمكنه فيه أن يتطور إلا بمزيد من البطء والصعوبة. إن أمام التطور الرأسمالي في ذاته طريقا طويلا، لأن الإنتاج الرأسمالي بوصفه إنتاجا رأسماليا لا يشكل سوى قطاعا ضيقا من قطاعات الإنتاج العالمي. وحتى في أعرق البلدان الصناعية الأوربية لا يزال ثمة حتى الآن، إلى جانب المؤسسات الصناعية الكبرى، كثير من المؤسسات الحرفية الصغيرة المتخلفة كما أن الجزء الأكبر من الإنتاج الزراعي والفلاحي ليس في أوربا بلدانٌ بأسرها بالكاد تطورت فيها الصناعة الكبيرة. وحيث لا يزال للإنتاج المحلي طابعٌ فلاحي وحرفي، وفي القارات الأخرى، باستثناء أمريكا الشمالية، لا تشكل المؤسسات الرأسمالية، سوى جزر صغيرة موزعة بينما نجد مناطق بأسرها لم تتحول بعد إلى الإنتاج السلعي البسيط. إن الحياة الاقتصادية لهذه الشرائح الاجتماعية، ولهذه البلدان الأوربية وغير الأوربية التي لا تنتج تبعا للنمط الرأسمالي، خاضعة للهيمنة الرأسمالية على أية حال. صحيح أن بوسع الفلاح الأوربي أن يمارس أنواع الأعمال الأكثر بدائية، لكنه مع هذا مرتبط بالاقتصاد الرأسمالي وبالسوق العالمية اللذين وضعته التجارة والسياسة المالية للدول الرأسمالية على احتكاك معها. كذلك نجد أن البلدان غير الأوربية الأكثر بدائية تخضع للرأسمالية الأوربية أو الأمريكية الشمالية عن طريق التجارة العالمية والسياسية الكولونيالية. وأن بامكان نمط الإنتاج الرأسمالي أن تكون له قوة انتشار هائلة لو كان بوسعه أن يطرد أشكال الإنتاج المتخلفة من كل مكان. والتطور يسير بهذا الاتجاه على كل حال. ومع هذا فإن هذا التطور يأسر الرأسمالية في تناقضها الأساسي، فكلما أتى الإنتاج الرأسمالي ليحل مكان أنماط الإنتاج الأكثر تخلفا، كلما صارت أكثر ضيقا حدود السوق التي يخلقها السعي وراء الربح، بالنسبة إلى حاجة المؤسسات الرأسمالية القائمة للتوسع. ولسوف يكون الأمر في غاية الوضوح إن نحن تخيلنا للحظة أن تطور الرأسمالية هو من التقدم بحيث أن كل ما على الأرض يُنتج تبعا للأسلوب الرأسمالي، أي فقط عن طريق مقاولين رأسماليين أفراد، في مؤسسات كبيرة وبواسطة عمال مأجورين حديثين. أمام هذه الصورة ستبدو استحالة الرأسمالية ظاهرة للعيان.
*VII حسب تصنيف لوكسمبورغ
[1]. ملاحظة هامشية من روزا: (بالقلم) إبادة الشعوب البدائية