لكي نتحقق من الصورة التخطيطية التي يقدمها غروس، علينا أن نتجه، رأسا، ناحية الوقائع. فلنتفحص –ولو بنظرة سريعة- نمط الاقتصاد لدى الشعوب ذات المستوى الأكثر انخفاضا. فما هو هذا النمط؟ غروس يسمي هذه الشعوب بـ « شعوب الصيادين ذوي المستوى أدنى» ويقول في صددهم: «أن شعوب الصيادين الدنيا لا تشكل اليوم سوى قطاع صغير جدا من البشرية. فهم بسبب الضعف العددي والفقر الناتجين عن أسلوب إنتاجهم غير المتكامل، تراجعوا في كل مكان أمام الشعوب الأكثر عددا وقوة، بحيث أنهم غير موجودين اليوم، إلا في مناطق الغابات العذراء التي لا يمكن الدخول إليها، وألا في الصحاري التي لا يمكن للبشر الآخرين السكن فيها. ويمكن القول بأن الجزء الأكبر من هذه القبائل البائسة إنما ينتمي إلى أعراق الأقزام. وهم الأكثر ضعفا بين كافة الشعوب، مما جعلهم، في صراعهم في أجل البقاء، يدفعون، من قبل الشعوب القوية، باتجاه المناطق العسيرة، بحيث حكم عليهم بالبقاء على أوضاعهم القديمة جامدين. وعلى أي حال، يمكننا أن نعثر حتى اليوم، وفي كافة القارات باستثناء القارة الأوربية، على ممثلين لأقدم أشكال الإنتاج هذه. ففي أفريقيا ثمة وجود لعدد من شعوب الصيادين ذوي أجساد القصيرة: ولسوء الحظ، ليست لدينا حتى الآن سوى معلومات قليلة، عن واحد من هذه الشعوب هو شعب البوشيمان القاطن في صحراء كالاهاري (في جنوب غرب أفريقيا). أما قبائل «البيغمي» الأخرى فما تزال مختبئة في ظلام الغابات العذراء.
ولنترك أفريقيا لنتجه إلى الشرق. إننا سنلاقي في جزيرة سيلان (عند الطرف الأكثر بعدا إلى الجنوب من شبه الجزيرة الهندية) شعب «الويدا» الصياد، وهو شعب من الأقزام. وأبعد منه، في أرخبيل عندامان، في المنكوبيا، داخل سومطرة، سنلتقي بقبائل الكوبو، أما في جبال الفلبين المتوحشة فلسوف نلتقي بشعوب «العايطاس»... وهذه الشعوب الثلاثة معا تنتمي إلى أجناس الأقزام. وقبل الاستعمار الأوربي، كانت القارة الاسترالية مسكونة من قبل قبائل الصيادين، فإذا كان السكان المحليون قد طردوا من الجزء الأكبر من المناطق الساحلية، بواسطة المستوطنين البيض خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإنهم ما يزالون حتى الآن يعيشون في الصحاري الداخلية.
في أمريكا، بوسعنا أن نتتبع أوضاع مجموعة كاملة من الجماعات البشرية تعتبر حضارتها من أفقر حضارات العالم، وهي مشتتة بين أقصى الجنوب حتى مجاهل الشمال. ففي الصحاري الجبلية عند راس «هورن» (المعتبر آخر نقطة إلى الجنوب في أمريكا الجنوبية) ثمة سكان «أرض النار» الذين تضربهم الأمطار والعواصف، والذين قال أكثر من مراقب أنهم أفقر وأبأس سكان الأرض قاطبة. وعبر الغابات البرازيلية يتجول ويعيش، عدا عن قبائل البوتوكودوس، ذات السمعة السيئة، جماعات أخرى من القناصين منهم البورورو الذين نعرفهم بفضل أبحاث فون ديرشتينن. «أن في كاليفورنيا الوسطى (على الشاطئ الغربي لأمريكا الشمالية) وجودا لمختلف القبائل التي لا يمكن اعتبار مستواها متميزا عن مستوى بؤساء القارة الأسترالية»[1] هذا ما يقوله غروس، وهو دون أن يتمكن من التوقف طويلا عند هذه الظاهرة، يذكر قبائل الاسكيمو بين الشعوب الأكثر انحطاطا في العالم. والآن سوف نستعرض بعضا من القبائل المذكورة أعلاه، باحثين فيها عن آثار تنظيم للعمل مخطط بشكل اجتماعي.
نوجه أنظارنا أول الأمر نحو الجماعات الاسترالية التي يقول عدد كبير من العلماء، أنها تعيش عند المستوى الأكثر انحطاطا في طول كرتنا الأرضية وعرضها، من الناحية الحضارية. لدى زنوج استراليا، يمكننا –قبل أي شيء آخر- أن نعثر على التقسيم البدائي للعمل بين الرجال والنساء (وهو تقسيم سبق لنا أن ذكرناه): فالنساء يشغلن هنا، بشكل رئيسي، المهام المتعلقة بالأغذية النباتية، وبالخشب وبالماء، أما الرجال فيتولون الصيد والمجيء باللحوم.
بالإضافة إلى هذا، نعثر هنا على لوحة تصويرية لنظام العمل متعارضة تمام التعارض مع مسألة «البحث الفردي عن الطعام»، تحمل لنا –في الوقت نفسه- دليلا وافيا على الطريقة التي يتم بها الاستخدام الضروري لكل قوى العمل، في المجتمعات الأكثر بدائية. فمثلا «لدى قبيلة الشيبارا، ينتظر من كافة الرجال القادرين أن يهتموا بالحصول على الطعام. فإذا كان واحد منهم كسولا وفضل البقاء في القرية، سيتعرض لسخرية الجميع منه وإهانتهم له. وها هنا يترك الرجال والنساء والأطفال الأكواخ باكرا عند الصباح حيث يتوجهون للحصول على الطعام. وعندما يصطادون ما فيه الكفاية، يحملون –رجالا ونساء- غنيمتهم ويتوجهون بها إلى أقرب نقطة فيها ماء، حيث يشعلون النار ويشوون الفريسة. والجميع، رجالا ونساء وأطفالا يأكلون معا في جو من التفاهم والانشراح، بعد أن يتم توزيع الطعام بين الجميع بمعرفة الأكبر سنا. ثم بعد الطعام تحمل النساء ما يتبقى منه إلى القرية... أما الرجال فيتابعون صيدهم في طريق العودة» .[2]
تلكم كانت بعض المعلومات حول مخطط الإنتاج لدى الزنوج الأستراليين. والواقع أنه –هذا المخطط- بالغ التعقيد والتنظيم حتى في أدق تفاصيله. ولنلاحظ هنا أن كل قبيلة أسترالية تنقسم إلى عدد معين من العشائر التي تحمل كل منها اسم حيوان أو نبات تبجله، كما تمتلك لكل منها قطعة من الأرض محدودة داخل الأرض التي تخص القبيلة. فثمة، مثلا، ارض تخص رجال الكانغارو، وارض أخرى تخص رجال طير الايمو –وهو طير كبير الحجم يشبه النعامة- وثالثة تخص رجال الأفعى (أستراليون يأكلون أفاعي أيضا)... الخ. وتقول آخر المكتشفات العلمية أن كل هذه الطوطمات، ما هي سوى حيوانات ونباتات تستخدم كغذاء، لدى الزنوج الاستراليين. ولكل واحد من تلك الجماعات زعيم ينظم شؤون الصيد ويقوده. ولكن علينا أن نلاحظ بأن اسم النبات أو الحيوان والعبادة المتعلقة به، ليست أمورا خاوية، فالواقع أن كل جماعة تكون مجبرة على الاهتمام بالغذاء الذي تحمل اسمه، وعلى السهر للحفاظ على وجود وديمومة هذا الشيء الذي يشكل مصدرا رئيسيا لغذائها. ونلاحظ أن كل مجموعة لا تتولى الاهتمام بنبات أو حيوان معين، لتستفيد منه هي فقط، بل لكي تستفيد منه باقي الجماعات المنتمية إلى القبيلة. فرجال الكانغارو مجبرون على تزويد باقي أعضاء القبيلة بلحم الكنغارو، ورجال الأفاعي مجبرون على تزويدهم بالأفاعي، ورجال الايمو بالايمو... وهكذا دواليك. ومن الأمور الملفتة للنظر أن كل هذا تصحبه عادات دينية صارمة واحتفالات كبيرة. وتبعا لقاعدة شبه عامة، نجد أنه ليس بوسع أعضاء جماعة ما أن يأكلوا، أو يأكلوا كثيرا، من الحيوان أو النبات الذي يعتبر طوطمهم الخاص، ومقابل هذا يكونون مجبرين على تزويد الجماعات الأخرى بكميات منه. فعلى رجل ينتمي إلى مجموعة الأفاعي، إذا قبض على أفعى، عليه أن يغض النظر عن أكلها، إلا في حالات الجوع المضني، بل عليه أن يحملها إلى القرية حيث يقدمها للآخرين. وكذلك نجد أن الرجل-الايمو، لا يمكنه أن يأكل إلا نذرا يسيرا من لحم الايمو، كما أن من الممنوع عليه بتاتا أن يأكل بيض هذا الطير أو دهنه، إذ أن هذين يستخدمان كدواء، لذا يكون من الضروري عليه أن يسلم ما يحصل عليه منها إلى أعضاء القبيلة. ومن جهة أخرى لا يمكن للمجموعات الأخرى أن تصطاد أو تجمع أو تأكل حيوانا أو نباتا دون إذن من رجال الطوطم ذوي العلاقات بهذا الحيوان أو النبات.
وفي كل عام تحتفل كل مجموعة، بشكل صاخب بعيد يكون الهدف منه ضمان ديمومة الحيوان أو النبات الطوطم (وذلك عن طريق الغناء والموسيقى ومختلف أنواع الاحتفالات الطقوسية)، وهو احتفال يسمح بعد انتهائه للمجموعات الأخرى تناول الطعام المصنوع من الطوطم. ونذكر هنا أن الزعيم –زعيم كل مجموعة- هو الذي يحدد تاريخ الاحتفال، كما يتولى قيادته بنفسه. ويكون هذا التاريخ عادة، على علاقة مباشرة بشروط الإنتاج. فهناك في استراليا الوسطى فصل جفاف طويل تقاسي منه الحيوانات والنباتات بشدة، كما أن هناك فصل أمطار قصير يؤدي إلى تنامي الحيوانات وتكاثر النباتات. ولهذا نلاحظ أن معظم الاحتفالات تكون عند اقتراب الفصل الخير. ويرى العالم الانتروبولوجي راتزل بأن ثمة «سوء فهم مضحك» في الرأي الذي يؤكد بأن الأستراليين إنما يحملون اسم طعامهم الرئيسي [3]. ومع هذا لا يمكننا، بصدد نظام الجماعات الطوطمية الموصوف أعلاه بشكل مختصر، إلا أن نقر، من النظرة الأولى، بوجود تنظيم ناتج عن شروط الإنتاج الاجتماعي. فمن الواضح أن مختلف الجماعات الطوطمية ليست سوى أعضاء وأجزاء في نظام تقسيم للعمل، واسع. فالجماعات تشكل معا، كلا منظما ومخططا، كما أن كل مجموعة تعمل لذاتها حسب أسلوب منظم ومخطط وخاضع لقيادة واحدة. وما واقع أن نظام الإنتاج هذا يأخذ شكلا دينيا، وما شكل كافة أنواع المحظورات الغذائية، وما الاحتفالات كلها، سوى دلائل على أن مخطط العمل هذا عريق جدا وموغل في القدم، وعلى أن هذا التنظيم موجود لدى الزنوج الاستراليين منذ قرون عديدة...
بل ومنذ آلاف السنين، بحيث أنه كان لديه ما يكفي من الوقت للتبلور تبعا لمعادلات وصيغ صارمة، وللتحول إلى سلسلة أفعال الإيمان، وإلى معتقدات ذات علاقة بروابط غيبية غامضة، بعد أن كان في البداية مجرد قضية منفعة عامة من وجهة نظر الإنتاج وتموين الغداء.
إن هذه المعتقدات وعلاقاتها التي اكتشفها الإنكليزيان سبنسر وغيلن، جرى تأكيدها أيضا من قبل عالم آخر هو فريزر. ويقول هذا الأخير: «ينبغي علينا ألا ننسى بأن مختلف الجماعات الطوطمية لا تعيش معزولة عن بعضها البعض في مجتمع طوطمي، بل هي ممتزجة ببعضها وتمارس قواها السحرية في سبيل الصالح العام. ففي النظام البدائي-وإذا لم نكن مخطئين- كان الرجال-الكانغارو، يصطادون ويقتلون هذا الحيوان ليستخدم من قبل كافة الجماعات الطوطمية الأخرى، كما يستخدموه هم أنفسهم... ومما ريب فيه أن الأمر نفسه يمكن قوله بالنسبة إلى طوطم-ايمو، وطوطم-العقاب، وباقي الطوطمات. وفي النظام الجديد ذي الطابع الديني، حيث حظر على الرجل قتل وأكل الحيوانات الطوطمية، تابع الرجال-الكانغارو اصطياد هذا الحيوان... غير أنهم لم يعودوا يصطادونه لكي يستخدموه بأنفسهم، والرجال-الايمو تابعوا اصطياد الايمو من جهة، ودفعه إلى التكاثر من جهة أخرى، بالرغم من أنه لم يكن من حقهم تناول لحمه كغذاء، ورجال-اليسروع CHENILLE تابعوا تطبيق فنون سحرهم في سبيل الحفاظ على ديمومة هذه الحشرة، بالرغم من أنها باتت الآن لا تؤكل إلا من قبل بطون أقوام آخرين»، أي أن ما يقدم لنا على أساس أنه نظام عبادة لم يكن في الواقع، وباختصار، وفي الأزمان السحيقة، سوى نظام بسيط للإنتاج الاجتماعي المنظم يرتبط بتقسيم صارم للعمل.
والآن إذا اتجهنا صوب مسألة توزيع الإنتاج لدى الزنوج الاستراليين، سنواجه هاهنا أيضا، نظاما أكثر تفصيلا وتعقيدا في الوقت نفسه. إذ أن كل شريحة من الغنيمة التي ثم اصطيادها، وكلب قلب عصفور كان يعثر عليه، وكل حفنة من التمر تم جمعها، كانت تعطى لهذا العضو أو ذاك، من أعضاء المجتمع، تبعا لقاعدة ومخطط صارمين. فالأغذية النباتية التي كانت تجمعها النساء، كانت تخصهن وتخص الأطفال. وغنائم الصيد التي كان يأتي بها الرجال، كانت توزع تبعا لقواعد تختلف بين قبيلة وأخرى، لكنها كانت دائما وعلى العموم، قواعد دقيقة للغاية. وعلى هذا النحو، مثلا، لاحظ العالم البريطاني هوويت، نمط التوزيع التالي لدى سكان الجنوب الشرقي الاسترالي، ولاسيما سكان إقليم فيكتوريا:
«يقتل رجل ما حيوان كنغارو على مسافة معينة من المخيم (القرية). يرافقه رجلان، لكن هذين الرجلين لم يساعداه على قتل ذلك الحيوان. إن بعدهم عن القرية مسألة تؤخذ بعين الاعتبار، لذا يصار إلى شي الفريسة قبل حملها إلى القرية. الرجل الأول يشعل النار، والآخران يقطعان الفريسة أربا، والثلاثة يشون المحصول كله ويأكلونه. أما التوزيع بينهم فيتم على الشكل التالي: الرجلان الثاني والثالث يحصلان على فخذ وذنب، وعلى فخذ مع جزء من الالية، وذلك لأنهما شهدا عملية الصيد، وشاركا في الإعداد. الرجل الأول يحتفظ بالباقي ويحمله إلى القرية، فتقوم زوجته بتقديم الرأس وفقار الظهر إلى أهلها، أما الباقي فيقدم إلى أهل الرجل. وهذا الأخير إن لم يكن لديه لحم، يحتفظ بقليل منه، أما إذا كان لديه مسبقا شيء من اللحم، فإنه يتخلى عن باقي ما بقي من الفريسة. وإذا كانت أمه قد حصلت على بعض السمك، فإن بوسعها أن تعطيه بعض ما حصلت عليه، أو يتولى حماه وحماته، تزويده بشيء من السمك من جانبها... ثم يعطيانها كمية أخرى عند الصباح التالي. وفي جميع الأحوال يتولى الجد والجدة، من الجانبين، تزويد الأطفال بما يكفيهم من الغذاء» .[4]
وفي قبيلة أخرى، تتم الأمور حسب القواعد التالية: فمن أصل حيوان كنغارو ثم قنصه، مثلا، يحصل القناص على قطعة من الظهر، ويحصل أبوه على الصلب والجوانب والكتفين والرأس، أما الأم فتحصل على الفخذ الأيمن، والشقيق أصغر يحصل على القائمة الأمامية اليسرى، أما الشقيقة الكبرى فتحصل على قطعة من الصلب طويلة، بينما تحصل الشقيقة الصغرى على القائمة الأمامية اليمنى. وهنا يعود الأب ويعطي الذنب وقطعة من الظهر لوالديه. أما من أصل دب تم قنصه، فيحصل القناص على الجانب الأيسر، وأبوه على القائمة الخلفية اليمنى، والأخ الأصغر على اليسرى. بينما تأخذ الأخت الكبرى الصلب وتحصل الصغرى على الكبد. أما الجوانب اليمنى فيحصل عليها شقيق الأب، أما شقيق الأم فيحصل على الكشح (الخاصرة)... أما الرأس فيحصل عليه الرجال بالتساوي.
وفي قبيلة أخرى يجري اقتسام الغذاء، مباشرة، بين كافة الحاضرين. فإذا تم مثلا اصطياد كنغارو صغير (فالابي)، وكان ثمة عشرة أشخاص أو اثني عشر، يتلقى كل واحد منهم قطعة من الحيوان. ولكن شرط ألا يحق لواحد منهم لمس الحيوان أو قطعة منه قبل أن يتولى الصياد توزيعها بنفسه. أما إدا كان الصياد، بالصدفة، غائبا خلال شي الفريسة، لا يحق لأحد لمسها قبل عودته وتوليه مسألة التوزيع بنفسه. أما النساء فيتلقين حصصا مساوية لتلك التي يتلقاها الرجال، بينما يهتم الأهل الكبار بتغذية الأطفال [5].
إن الشكل الطقوسي الذي تتخذه أنماط التوزيع هذه، وهي متنوعة بتنوع القبائل، تنم عن الطابع الموغل في القدم لهذه الأنماط [6]. إذ نجد التعبير فيها، بلا ريب، تقاليد قديمة للغاية تتولى الأجيال جيلا بعد جيل، احترامها بحزم ودقة. والواقع أن هذا النظام كله، يظهر لنا أمرين هامين، بكل وضوح: فمن جهة نجد أن الإنتاج، لدى الزنوج الاستراليين، الذين يعتبرون أكثر أقوام الأرض تخلفا، ليس هو وحده المنظم بطريقة مرسومة، وكقضية جماعية اجتماعية، بل يشاركه في هذا، الاستهلاك، ومن جهة أخرى نجد أن هذا المخطط إنما يهدف إلى تأمين المؤونة لكافة أفراد المجتمع، سواء تبعا لحاجاتهم أم تبعا لإنتاجهم: ففي كافة الظروف، يصار إلى الاهتمام بغذاء المسنين، وهؤلاء بدورهم، مثلهم مثل الأمهات، يتولون الاهتمام بصغار الأطفال. إن الحياة الاقتصادية للاستراليين، سواء من ناحية الإنتاج أو تقسيم العمل أو توزيع الغذاء، إنما هي منظمة بطريقة مرسومة بشكل دقيق للغاية، ومقننة تبعا لقواعد ثابتة موغلة في القدم.
نترك الآن استراليا لنتوجه إلى أمريكا الشمالية. ها هنا نلاحظ أن بقايا الهنود الذين ظلوا متواجدين في الشرق، على جزيرة تيبورون في خليج كاليفورنيا، وعلى جزء يسير من الساحل، يوفرون لنا صورة ذات أهمية خاصة، وذلك لأنهم يعيشون في عزلة تامة، ويواجهون كل الغرباء بروح عدائية. وهم، بفضل هذا، تمكنوا من الحفاظ على النقاء التام لكافة عاداتهم البدائية. ففي عام 1895، قام علماء الولايات المتحدة بعملية غزو عليمة تهدف إلى دراسة هذه القبيلة، ولقد تولى الأمريكي ماكغي تصوير نتائج هذه الحملة. ويقول هذا الأخير بأن قبيلة هنود «ساري» -وهو اسم هذا القوم ذي الحجم الضئيل- تنقسم إلى أربع مجموعات تحمل كل منهما اسما لحيوان معين. والمجموعتان الأكبر هما مجموعة «البجعة» ومجموعة «السلحفاة». ويلاحظ العالم الأمريكي أن المجموعات تحافظ على عادتها وتقاليدها وقواعد عيشها، وكل ما يتعلق بحيواناتها الطوطمية، بشكل سري للغاية، بحيث يصعب التعرف عليها. وحين نعلم أن غذاء هؤلاء الهنود يتألف أساسا من لحم البجع والسلاحف والأسماك، وبقية الحيوانات البحرية، وحين نتذكر النظام المذكور أعلاه والمتعلق بالمجموعات الطوطمية لدى زنوج استراليا، يمكننا التوصل، بدرجة كبيرة من اليقين، إلى أن العبادة السرية للحيوانات الطوطمية، وتقسيم القبيلة إلى مجموعات حسب هذه الحيوانات، ليس، لدى هنود كاليفورنيا، سوى آثار نظام إنتاج قديم للغاية، ومنظم بشكل صارم ويشتمل على تقسيم للعمل تبلور في نوع من الرموز الدينية. والواقع أن ما يعزز هذه الفكرة لدينا هو أن البجعة تعتبر الروح الحارسة العليا لدى هنود «ساري».ويشكل هذا الطير، في الوقت نفسه، أساس الوجود الاقتصادي للقبيلة. فلحم البجعة هو الغذاء الرئيسي، كما أن جلدها يستخدم لصنع الثياب والأسرّة، والأقفال وأدوات مقاومة الغرباء.
ومن جهة أخرى لاحظ العلماء الأمريكيون أن نمط العمل الأكثر أهمية لدى هنود «ساري» وهو الصيد، خاضع بدوره لقواعد صارمة للغاية. فصيد البجع هو عملية منتظمة تنظيميا دقيقا، ولها «طابع نصف-احتفالي» على الأقل، ولا يمكن لصيد هذا الطير أن يجري إلا في حقب معينة، بشكل يتم معه توفير هذا الطير في الفترات التي يتكاثر ويبيض فيها، وذلك لضمان ديمومته وتكاثره». وبعد ذبح الطير (الذي يتم بشكل كثيف دون أن يشكل أية صعوبة بالنظر إلى ثقل وزن هذا الطير) يتم تناول الطعام بصورة جماعية، حيث تنزوي كل عائلة في ركن مظلل لتتلهم نصيبها... وتظل تأكل حتى يداهمها النعاس. وفي اليوم التالي تبحث النساء عن ما بقي من الجثث لتنزع عنها الجلد» ويستمر مثل هذا الصيد لعدة أيام تصحبه احتفالات متنوعة. إن هذه «الوليمة الجماعية» الفخمة التي تجري في الظل وبكثير من الصخب، والتي لا شك أن البروفسور بوخر سيرى فيها دلائل سلوك حيواني لا تخيب، هي في حقيقتها عملية منظمة تمام التنظيم –وما طابعها الاحتفالي سوى الضمانة الكافية لصحة هذا الرأي. فعادة ما يترافق التخطيط للصيد مع تنظيم صارم لعملية التوزيع والاستهلاك. بحيث أن الوليمة المشتركة تتبع نظاما محددا: فأولا يأتي زعيم القبيلة (وقائد الصيد) ثم المحاربين الآخرون حسب أعمارهم، وبعدهم الأطفال (أيضا حسب أعمارهم) حيث يلاحظ أن الفتيات (وخاصة القريبات من البلوغ منهن) يتمتعن بشيء من الامتياز، وذلك بفضل التساهل الذي يمارس تجاه المرأة. «إن بوسع كل فرد من أفراد العائلة أو العشيرة أن يطالب بما يلزمه من الغذاء أو الملبس، ومن مهمة جميع الآخرين السهر على تغطية كل هذه الاحتياجات. أما درجة هذا الإرغام الأخير فتكون، جزئيا، تابعة لتسلسل الجوار، والمكانة ودرجة المسؤولية ضمن المجموعة (وعادة حسب تسلسل السن). إن مهمة الشخص الأول أن يسهر على أن يبقى من الطعام لمن هم دونه، وهذه المهمة الإجبارية تأخذ شكلا تسلسليا انحداريا، حتى تصل إلى ما فيه مصلحة الأطفال الصغار العاجزين، بمفردهم، عن تدبر أمورهم» [7].
وبالنسبة إلى أمريكا الجنوبية، لدينا الشهادة التي أدلى بها البروفسور فون شتينن حول قبيلة البورورو المتوحشة في البرازيل. فهنا أيضا يهيمن التقسيم النموذجي للعمل: تتولى النساء أمر الغذاء النباتي ويبحثن عن ضلوع النباتات الصالحة بواسطة عصا مدببة، وهن لهذا يتسلقن الأشجار ويجمعن ثمار الجوز ويبحثن عن الثمار وما شابهها. والنساء هن اللواتي يهيئن الأغذية النباتية ويصنعن آنية الفخار والآنية الحجرية. وهن، حين يعدن إلى الأكواخ، يعطين الثمر للرجال ليحصلن بالمقابل على ما تبقى من اللحم. أما عملية التقسيم والاستهلاك فتنظمان بشكل صارم.
ويقول فون شتينن: «إذا كانت تقاليد البورورو لا تمنعهم من الأكل سويا، فإن لديهم بالمقابل عادات أخرى غربية تبرهن بكل وضوح على أن القبائل التي تحصل على غنيمة هزيلة، عليها أن توجد من الوسائل ما يكفي للحيلولة دون العراك والخصام ساعة التوزيع». فلقد كانت هناك، على سبيل المثال، قاعدة مدهشة للغاية يقول بأن ما من أحد يحق له شي الفريسة التي يصطادها بنفسه، بل على الصياد أن يعطيها لآخرين يشوونها! ومثل هذه الاحتياطات العاقلة لتتخذ أيضا بالنسبة إلى عملية توزيع الجلد والدفاع عن الحيوانات. فعندما يتم اصطياد نمر مرقط SAGUAR يقام لهذه المناسبة احتفال كبير يتم خلاله أكل اللحم، غير أن الصياد ليس هو الذي يحصل على الجلد والأسنان، بل يحصل عليها أقرب أقرباء آخر هندي (أو هندية) توفي من أفراد القبيلة. أما الصياد فيجري تكريمه حيث يقدم له الجميع هدايا هي عبارة عن ريش ذات احترام خاص، كما يهدى قوسا ثمينا. أما عملية التسوية الأكثر أهمية، في سبيل الحيلولة دون قيام أي خلاف، فتعزى إلى الطيب (أو إلى الساحر أو الكاهن حسب ما يقول الأوربيون عادة). فبهذا ينبغي عليه أن يكون حاضرا حين يتم قتل حيوان ما، وهو الذي يعطي الإذن بتقسيم أجزاء كل حيوان مقتول، أو كل كمية من الثمر، وذلك خلال طقوس احتفالية معينة. أما الصيد فيجري تبعا لمبادرة يقوم بها الزعيم وتحت قيادته. لدى هذه القبائل، يلاحظ بأن الشبان غير المتزوجين يعيشون مع بعضهم البعض عيشة جماعية في «بيت الرجال» حيث يعملون ويصنعون الأسلحة والأدوات ويحيكون ويمارسون بعض الألعاب، وكل هذا بصورة مشتركة، كما يأكلون بشكل مشترك تبعا لنظام وامتثال صارمين،مثلما سبق لنا أن ذكرنا أعلاه. ويقول البروفسور فون شتينن: «إن العائلة التي يموت أحد أفرادها، تشعر أنها أصيبت بخسارة عظيمة... خاصة وأن كل ما كان يستخدمه الميت من أدوات يحرق فور موته، أما جثمانه فيرمي في النهر بعد أن يثقل بكمية من العظام، تمنعه من الطفو ثانية. أما كوخه فسرعان ما ينظف. وهنا يتلقى الباقون من أسرته هدايا جديدة، وتصنع لهم أقواس وأسهم. وتقول التقاليد بأنه حين يقتل نمر مرقط يعطي جلده إلى شقيق آخر امرأة متوفية، أو إلى عم آخر رجل متوف»[8] إذن، نلاحظ من كل هذا أن ثمة تخطيطا وتنظيما محددين للغاية يهيمنان على عملية الإنتاج وكذلك على عملية التوزيع.
والآن إذا اجتزنا القارة الأمريكية لنصل إلى أبعد مناطقها الجنوبية، سنجد في «أرض النار» شعوبا تعيش في مستويات أكثر انخفاضا. فهذه الشعوب تعيش في مجموعة من الجزر غير مضيافة تقع عند أقصى الجنوب من أمريكا الجنوبية. أما معلوماتنا عنها فلا تعود إلى أبعد من القرن السابع عشر، إذ في العام 1698، وبمبادرة من بعض القراصنة الفرنسيين، الذين كانوا منتشرين منذ بضعة أعوام في البحار الجنوبية: أرسلت الحكومة الفرنسية إلى المنطقة حملة استكشافية. ولقد ترك أحد المستكشفين الذين اشتركوا في الحملة، يومياته التي تحتوي على المعلومات المختصرة التالية حول سكان «أرض النار»:
«إن لكل عائلة هنا، وأعني الأب والأم والأطفال غير المتزوجين، زورقا (مصنوعا من تجويف جدع شجرة) تحتفظ في داخله بكل ما تحتاجه، وتنام في داخله حين يدهمها الليل. فإذا لم يكن لهذه العائلة كوخا مبنيا،فإنها تقيم كوخا من الزورق هذا. أو تقيم الكوخ بين مجموعة من الأشجار، حيث تشعل نارا ينام أفراد العائلة حولها، فوق أكواب من العشب. وحين يجوعون يطبخون بعض الأصداف والمحار الذي يوزعه، الأكبر سنا، بينهم بالتساوي. وفي هذه المجموعة لاحظنا أن المهمة الرئيسية والعمل الأساسي للرجال يتقوم في بناء الكوخ، والقنص والصيد، أما النساء فيكون من واجبهن العناية بالزوارق الصغيرة وجمع الأصداف، وهم يصطادون سمكة الرنجة على الشكل التالي: يتوجهون إلى أعلى البحر في خيمة أو ستة زوارق، وحين يعثرون على سمكة يلحقون بها ويضربونها بالسهام الكبيرة التي تكون رؤوسها مصنوعة من العظام أو من الحجارة ومقصوصة بشكل دقيق للغاية... وحين يقتلون السمكة (أو العصفور) أو أي حيوان، أو يحصلون على كمية من السمك أو المحار (وهذه كلها تشكل غذاءهم الرئيسي أو الوحيد) يقسمون المحصول بين كافة العائلات... وهم يتميزون عنا بشيء هام هو أنهم يحتفظون بكل مؤنهم ملكا للمجموعة»[9].
والآن بعد هذه الجولة، نترك أمريكا متجهين إلى آسيا، وهنا يروي لنا العالم الإنكليزي أ.ه.مان الذي أمضى أحد عشرة سنة بين قبائل أقزام المنكوبيا، في أرخبيل عندمان (في خليج البنغال) وحصل بالتالي على معرفة دقيقة تفوق ما يعرفه عنهم كافة الأوربيين، يروي لنا الوقائع التالية:
«يتوزع أهالي منكوبيا على تسع قبائل، كما تنقسم كل قبيلة إلى عدد كبير من المجموعات يتألف كل منها من نحو 30 أو 50 وأحيانا 300 شخص. ولكل من هذه المجموعات زعيمة، كما أن للقبيلة كلها زعيما تفوق مرتبته زعماء الجماعات. غير أن سلطته محدودة للغاية. وهي تتقوم، بشكل أساسي في عملية تنظيم اجتماعات كافة الجماعات التي تتشكل منها القبيلة. إنه هو الذي يقود القنص والصيد والحملات، وهو الذي يحكم حين تنشب الخلافات. وفي داخل كل جماعة يكون العمل مشتركا، كما يكون ثمة تقسيم للعمل بين الرجال والنساء، فالرجال هم الذين يمارسون القنص والصيد وجمع العسل وصنع الزوارق والأقواس والسهام وبقية الأدوات، أما النساء فيحصلن على الخشب والماء وكذلك على الأغذية النباتية، وهن اللواتي يصنعن الحلي ويقمن بأعمال الطبخ. أما العناية بالأطفال فهي مهمة كافة الرجال والنساء الذين يبقون في البيت، وهؤلاء يتولون أيضا العناية بالمرضى والعجائز، وبتوفير النار لكافة الأكواخ، إن كل واحد هنا قادر على العمل، يكون مجبرا على ممارسة العمل لما فيه خيره وخير الجماعة، ومن الأمور المعتادة السهر على أن تكون ثمة على الدوام كميات زائدة من الغذاء، وذلك لتقديمها للأصدقاء العابرين. والأطفال الصغار والضعفاء والعجائز هم موضع رعاية الجميع، وتكون أوضاعهم أفضل مما هي أوضع بقية أفراد الجماعة، ولاسيما فيما يتعلق بسد حاجاتهم اليومية.
«أما بالنسبة إلى استهلاك الطعام، فثمة قواعد محددة أولا بأن الرجل المتزوج لا يمكنه أن يأكل بشكل جماعي إلا مع رجال متزوجين آخرين أو مع عازبين، لكنه لا يقدر أبدا على تناول الطعام مع نساء غير زوجته، اللهم إلا إذا كان متقدما في العمر. أما الأشخاص غير المتزوجين فمجبرون على تناول وجباتهم على حدة: الشبان في جانب، والفتيات في جانب آخر.
«والنساء هن اللواتي يتولين، عادة، تحضير الوجبات، وهن يقمن بهذا، بشكل عام، أثناء غيبة الرجال. فإذا ما كن منهمكات، استثنائيا، بالحصول على الخشب والماء، إبان أيام الأعياد أو خلال فترة يكون فيها الصيد وفيرا، فإن الرجل هو الذي يتولى شؤون الطبخ، والذي ما أن يصبح الطعام نصف ناضج، يقسمه بين الحاضرين، تاركا مهمة استكمال الإعداد والتحضير يقوم بها كل واحد منهم على ناره الخاصة. فإذا كان الزعيم حاضرا، يكون هو الذي يحصل على القطعة الأولى، أي حصة الأسد، ثم يليه الرجال ثم النساء فالأطفال، أما ما يتبقى فيحصل عليه الرجل الذي قام بعملية التوزيع.
«وفي مجال صنع أسلحتهم وأدواتهم وكل ما يحتاجونه، يبدي أهالي مينكوبيا عادة، مثابرة ملحوظة، إذ أنهم يمضون الساعات في تقطيع قضيب من الحديد، بشكل دقيق، وبواسطة مطرقة من الحجر تساعدهم على تسوية القوس...الخ. وهم يتولون مثل هذه الأعمال حتى ولو لم تكن ثمة ضرورة مباشرة، أو متوقعة، تحثهم على هذا الأمر. غير أن الواحد لا يمكنه اتهامهم بالأنانية –كما يفعل البعض- وذلك لأنهم يقدمون أفضل ما يملكونه للآخرين، بحيث أنهم لا يحتفظون بالآلات التي يبدعون في صنعها...كما أنهم لا يحتفظون أبدا بأفضل ما يصنعونه، لأنفسهم» [10].
والآن سوف ننهي سلسلة الأمثلة التي ذكرناها أعلاه بنموذج عن حياة المتوحشين الأفارقة. والواقع أن قصار القامة من قبائل شعب البوشمان في صحراء كالاهاري، يقدمون لنا أكثر الأمثلة تخلفا، على أدنى مستوى بلغته أية حضارة بشرية. ويذكر لنا علماء ألمان وإنكليز وفرنسيون، بالاتفاق فيما بين رواياتهم، جملة من المعلومات تقول بأن البوشيمان يعيشون كجماعات (زمر) تمارس حياة اقتصادية مشتركة. وثمة، في مجموعاتهم الصغيرة، مساواة تهيمن عليهم هيمنة تامة وتشمل المؤن والأسلحة...الخ. وهم يجمعون الأغذية التي يعثرون عليها خلال حملاتهم في أكياس وتفرغ في المخيم «عندئذ –كما يروي الألماني باسارج- تبرز حصيلة اليوم: لحاء شجر، ثمر، أعشاب، حشرات، عصافير، ضفادع، سلاحف، سحالي... بل وأفاعي» وعند هذا يتم توزيع الغنيمة على الجميع. «إن جمع النباتات والثمار ولحاء الشجر، والعصافير الصغيرة أيضا، هو من عمل النساء. وهؤلاء ينبغي عليهن أن يجمعن مؤونة من هذه المواد لاستخدام الجماعة كلها، ويساعدهن في هذا كافة الأطفال. والرجل يأتي كذلك بكل ما يعثر عليه صدفة من هذه الأشياء، غير أنها تكون ثانوية بالنسبة إليه... إذا مهمته الأولى القنص».. وغنيمة القنص تؤكل بشكل مشترك من قبل الجماعة كلها. وأفراد الجماعة يقدمون لمواطنيهم الشريدين والجماعات الصديقة، مكانا يأوون إليه وشيئا من الطعام حول نارهم المشتركة. ويرى العالم باسارج، الأوربي الطيب الذي ينتحل نظارات مجتمعه البرجوازي، يرى في «الفضيلة المبالغ فيها» التي يقاسم، تبعا لها، البوشمان مع الآخرين لكل ما يتبقى لهم، سببا في عدم قدرتهم على التمدن !![11]
وهكذا نرى إذن، بالنظر لما نعرفه عنهم عن طريق الملاحظة المباشرة، أن الشعوب الأكثر بدائية، وبالتحديد أولئك الأكثر بعد عن الاستقرار المكاني والزراعي، أي المتواجدين عند نقطة الانطلاق في سلسلة التطور، يقدمون لنا صورة تختلف تمام الاختلاف عن «وضعهم» الذي يصوره السيد غروس. فنحن لا نرى، في كل الزوايا، سوى جماعات اقتصادية مشاعية، منظمة أمورها بشكل دقيق، ولديها ملامح نموذجية للتنظيم الشيوعي، ولا تعيش أي «تشتت» أو «في استغلاليات منفصلة». هذا بالنسبة إلى «الصيادين ذوي المستوى الأدنى». أما بالنسبة إلى «صيادي المستوى الأعلى» فإن صورة اقتصادهم العشائري، كما هو عند قبائل الايروكوا، وكما يصفه لنا مورغان بالتفصيل، تكفينا لتكوين صورة متكاملة. لكننا نرى كذلك أن الرعاة يقدمون لنا أيضا مادة كافية لتوجيه تكذيب حازم لكل المزاعم الوقحة التي يأتي بها غروس [12].
إن المشاعية الزراعية في «المارش» ليست الوحيدة إذن، بل هي الأكثر تطورا، وهي ليست الأولى، بل الأخيرة بين التنظيمات الشيوعية البدائية التي نلاقيها خلال تفحصنا للتاريخ الاقتصادي. عن هذا التنظيم الشيوعي البدائي، نفسه، ليس نتاجا من نتاجات الزراعة، بل واحدا من أقدم التقاليد الشيوعية، ولقد ولد في صلب التنظيم العشائري، وانتهى إلى المجتمعات الزراعية، ووصلت فيه الشيوعية إلى قمة باتت تعجل من انهياره. والحقيقة أن الوقائع لا تؤيد أيا من صور غروس. فإذا ما طلبنا منه تفسيرا لهذه الشيوعية، هذه الظاهرة الهامة التي انبثقت في أواسط التاريخ الاقتصادي لتعود وتختفي بعد فترة، سيكتفي بأن يقدم لنا واحدة من تفسيراته «المادية» الروحانية ويقول: «لقد رأينا في الواقع أنه إذا كانت العشيرة قد حازت على قدر فائق من الصلابة والسلطة لدى مزارعي المستوى الأدنى، مما هو لدى الشعوب التي لديها أنماط حضارة أخرى، فما هذا إلا لأن العشيرة تبرز على شكل جماعة سكنية وتمارس جماعية الملكية والاقتصاد. أما أن تكون قد توصلت إلى هذا المستوى من النمو، فأمر تفسره لنا بدوره طبيعة الزراعية الدنيا التي توجد فيما بينهم، بينما نلاحظ أن القنص يبعد البشر عن بعضهم، مثلما هو الحال مع تربية المواشي» (ص 15)، وبكلمات أخرى أن «الاجتماع» أو «التشتت» المكاني للبشر هو الذي يحدد هيمنة الشيوعية أو الملكية الخاصة. ومن المؤسف هنا أن السيد غروس قد نسي أن يفسر لنا كيف حدث أن الغابات والبراري –حيث يبتعد الناس عن بعضهم البعض طوعا –قد ظلا لفترة طويلة من الزمان (بل حتى أيامنا هذه في بعض الأماكن) ملكية جماعية، بينما تحولت الحقول (التي «تجمع» الناس مع بعضهم البعض) إلى ملكية خاصة منذ وقت مبكر. وخسارة أن السيد غروس هذا لا يفسر لنا لماذا، طوال التاريخ الاقتصادي، لم يؤد نمط الإنتاج الذي «يجمع» كافة البشر (أعني الإنتاج الصناعي الكبير)، لم يؤد إلى إنتاج الملكية الجماعية، بل على العكس، أدى إلى نشوء أسوا أنواع الملكية الخاصة، أعني الملكية الرأسمالية.
ها نحن نرى إذن أن «مادية» غروس، ما هي سوى دليل جديد على أنه لا يكفي التحدث عن «الإنتاج» ومدلوله بالنسبة إلى مجمل الحياة الاجتماعية، للحصول على مفهوم مادي للتاريخ، وعلى أن المادية التاريخية، بشكل خاص، إذا فصلت عن المفهوم الثوري للتطور، تصبح شيئا لا معنى له أشبه بركام من الخشب الفاسد بدلا من أن تكون، كما هو وضعها لدى ماركس، ضربة من ذهن عبقري.
إن ما يتبدى أمامنا للوهلة الأولى، هو أن السيد غروس، في نفس الوقت الذي يكثر فيه من الثرثرة حول الإنتاج وأشكاله، لا يمكنه أن ينظر بوضوح وتفهم، إلى المفاهيم الأكثر عمقا ذات العلاقة بعلاقات الإنتاج. لقد سبق لنا أن رأينا بأن غروس يفهم بـ«أنماط الإنتاج» مقولات خارجية تماما مثل الصيد وتربية الماشية والزراع. وإذن، في سبيل الإجابة، داخل كل واحد من «أنماط الإنتاج» هذه، على السؤال المتعلق بشكل الملكية –ملكية مشاعية، عائلة أو خاصة –أو بمن هو المالك الحقيقي، نلاحظ أن البروفسور يميز بين مقولات مثل «الملكية العقارية» و «الأملاك المنقولة». ثم حين يجد مالكين مختلفين لمختلف أشكال الملكية هذه، ينصرف إلى التساؤل عن «أي نوع من الملكيات هي الأهم» ومن ثم يجعل من «الملكية الأهم» نمط الملكية المهيمن في المجتمع. وهو يقول، مثلا، بأن لدى الصيادين- على المستوى الأرفع- «حازت ملكية الأغراض المنقولة على أهمية فائقة» بحيث أضحت أكثر أهمية من الملكية «العقارية» وبما أن الأغراض المنقولة، بما فيها الطعام مثلا، هي ملكية خاصة يستنتج غروس بأن عليه ألا يقر بوجود اقتصاد شيوعي، بالرغم من الملكية المشاعية للأرض.
غير أن هذه التمييزات، القائمة على أساس خارجي بحت –أشياء منقولة أو ثابتة- ليس لها في الواقع أي مدلول بالنسبة إلى الإنتاج، وهي –تقريبا- تقف على ذات المستوى الذي تقف عنه بقية التمييزات التي يحددها غروس بين أشكال العائلة، تبعا للهيمنة الذكورية أو الأنثوية، أو بين أنماط الإنتاج تبعا لإثارتها المشتتة أو الموحدة. قد تكون «الأغراض المنقولة» تتألف من مؤن، من مواد أولية، من أدوات ثقافية أو من أدوات عملية. وقد يكون بالامكان صنعها للاستعمال الخاص أو للتبادل. وتبعا للاتجاه المعين، تكتسب هذه الأغراض أهمية مختلفة تماما بالنسبة إلى علاقات الإنتاج. غير أن غروس يطلق حكمه على علاقات الإنتاج وعلاقات الملكية لدى الشعوب، انطلاقا من المؤن ومن أغراض الاستهلاك الأخرى بالمعنى الواسع للكلمة –وبهذا يقدم السيد غروس نفسه كواحد من الممثلين النموذجيين للعلم البرجوازي المعاصر. فإذا ما وجد هذا السيد أن الأفراد هم الذين يتملكون الأغراض الاستهلاكية ويستهلكونها، فإن الملكية الخاصة، بنظره، هي التي تهيمن على الشعب المعني. والواقع أن هذا هو الأسلوب الذي يستخدم هذه الأيام من أجل نقض الشيوعية البدائية «علميا»[13] . إذ، تبعا لوجهة النظر العميقة هذه، نجد أن جماعة الشحاذين التي تلاقيها غالبا في مناطق الشرق، والتي تحصل على الفضلات وتستهلكها بشكل جماعي، أو عصابة اللصوص التي تستفيد بشكل تضامني جماعي من منتوج السرقات، هما اللتان تمثلان «جماعية اقتصادية شيوعية» بالمعنى النقي للكلمة. وعلى عكس هذا، نجد –وأيضا تبعا لوجهة النظر نفسها- أن الجماعة الزراعية التي تملك وتزرع الأرض بشكل مشترك، لكنها تستهلك ثمار العمل بوصفها عائلات متفرقة لا يمكن اعتبارها تعيش في «مشاعية اقتصادية إلا بالمعنى الضيق جدا لكلمة». أي باختصار، أن ما يقرر طابع الإنتاج، وكذلك تبعا لنفس المفهوم الذي نتحدث عنه، هو حق الملكية الذي يتعلق بالأغراض الاستهلاكية، وليس بأدوات الإنتاج ، أي بشروط التوزيع وليس بأوضاع الإنتاج نفسه. ونحن، ها هنا، وصلنا إلى نقطة مركزية في مسألة الاقتصاد السياسي، وهي نقطة ذات أهمية فائقة للغاية في سبيل فهم شامل للتاريخ الاقتصادي بأسره.
لهذا يجدر بنا أن ندع البروفسور المحترم غروس لمصيره، ولنوجه كل اهتمامنا وعنايتنا نحو مسائل أكثر جدية وأهمية.
[1].غروس: أشكال العائلة والأشكال الاقتصادية، ص 30.
[2]. شوملو: مكورى لدى هوويت ص 45.
[3]. ف. راتزل: اتنولوجيا، 1887، الجزءالثاني، ص 64.
[4]. شوملو، مذكرة لدى هوييت ص 42.
[5]. المصدر السابق ص 43.
[6]. راتزل، 1894، الجزء الأول، ص 333.
[7]. شوملو، مذكورة لدى موك جي، ص 128.
[8]. ك. فون دير شتينن: بين الشعوب الطبيعية في البرازيل، ص 378 ـ 389.
[9]. تقرير المؤتمر الثامن المؤتمر العالمي لعلماء القضايا الأمريكية في باريس، 1890، كتبه م. ج. مارسيل، باريس 1892.
[10]. شوملو: مذكورة لدى مان. ص 96 ـ 99.
[11]. شوملو: ص 116.
[12]. ملاحظة هامشية من ر. ل: البيروفيون، غير أنهم ليسوا باورا، هذا صحيح ـ العرب، القبائل، الكرخيزيين، الياقوت.
[13].شولمو