هناك، على أي حال، أمر مؤكد وهو أننا نلمح في كل التعاريف التي جاء بها المثقفون العاملون لحساب الرأسماليين، والذين ذكرناهم أعلاه، أن الأمر يتعلق بـ volkswirtschaft.[1] وما عبارة الاقتصاد القومي Nationalokonomie سوى تعبير أجنبي يعني: نظرية الاقتصاد السياسي. فمفهوم الاقتصاد السياسي موجود في صلب كافة التفسيرات التي يأتي بها كافة الممثلين الرسميين لهذا العلم. ولكن، ما هو الاقتصاد السياسي؟ في هذا الصدد يعطينا الأستاذ بوخر، الذي حاز كتابه «أصل الاقتصاد السياسي» على شهرة واسعة في ألمانيا كما في الخارج، المعلومات التالية:
«إن مجموع التظاهرات، والمؤسسات والظواهر التي تسد حاجات الشعب كله، هي التي تشكل الاقتصاد السياسي. وهذا الاقتصاد السياسي ينقسم بدوره إلى عدة اقتصادات خاصة ترتبط بعضها بالبعض، بواسطة توزع المنافع، وتقيم فيما بينها روابط عديدة، بالنظر إلى أن كلا منها تشغل مهام معينة تفيد الأخرى، وتولي الأخرى، مهام تفيدها».
حسنا، فلنحاول الآن أن نترجم هذا «التعريف» الذكي إلى اللغة الدارجة. فحين ننوي قبل كل شيء، التحدث عن مجموع المؤسسات والظواهر الهادفة إلى الاستجابة لحاجات شعب بأسره، ينبغي علينا أن نفكر بكل نوع من أنواع الأشياء الممكنة: المصانع والمشاغل، الزراعة وتربية الماشية، سكك الحديد والمخازن، وكذلك العظات الدينية ومفوضيات البوليس، واستعراضات الباليه، ومكاتب الدولة المدنية، والمراصد الفلكية، والانتخابات النيابية، الملوك وجمعيات قدامى المحاربين، نوادي الشطرنج، المعارض والمبارزات –وذلك لأن كل هذا، بالإضافة إلى عدد لا ينتهى من «المؤسسات والظواهر» الأخرى، تستخدم اليوم لـ«إرضاء حاجات شعب بأسره». عند ذاك يصبح الاقتصاد السياسي كل ما يجري بين السماء والأرض، كما يصبح علم الاقتصاد السياسي، علما كونيا شاملا «لكل الأمور ولأكثر منها أيضا» كما يقول مثل لاتيني.
ينبغي علينا إذن أن نضع حدا لهذا التعريف الموسع بشكل مبالغ فيه، والذي يأتي به الأستاذ القادم من لايبسغ، ومن المرجح أن هذا الأستاذ ما كان يريد أن يتحدث إلا عن «المؤسسات والظواهر» التي تستخدم لإرضاء الحاجات المادية لشعب ما، أو بشكل أكثر تحديدا «لإرضاء الحاجات عن طريق الأشياء المادية». وحتى على هذا النحو نجد أن تعبير «مجموع» يصبح أيضا كثير الاتساع بحيث سرعان ما يضيع وسط الغمام. ومع هذا لنحاول أن نجد فيه ما يمكننا أن نجده.
كل الناس بحاجة، كي يعيشوا، إلى طعام وشراب، وإلى ثياب، وإلى كافة أنواع المواد والأشياء ذات الاستعمال المنزلي. هذه المواد قد تكون بسيطة، أو مصنعة، قد تكون دقيقة القياس أو غير دقيقته، لكنها -مهما يكن- ضرورية للوجود في كل مجتمع إنساني، وينبغي بالتالي إنتاجها بشكل متواصل وذلك لأن الفراريج لا تهبط علينا من السماء مشوية لتصب في أفواهنا. في المجتمعات المتمدنة، تضاف إلى تلك المواد الضرورية، مجموعة من الأدوات التي تجعل الحياة أكثر لذة، وتساعد على سد حاجات معنوية واجتماعية –وكذلك تضاف جيوش تعمل على حماية هذه المجتمعات من أعدائها. لدى الشعوب التي تسمى «متوحشة» تضاف أقنعة الرقص، والقوس والنشاب، وتماثيل الأصنام، ولدينا تضاف الكماليات، والكنائس، والمدافع الرشاشة والغواصات. لإنتاج هذه الأشياء، يحتاج الأمر إلى مواد أولية إلى آلات. وهذه المواد الأولية، مثل الحجارة والأخشاب والمعادن والمزروعات...الخ تتطلب عملا بشريا، وكذلك نجد أن الآلات التي تستخدم للحصول على المواد الأولية تتطلب عملا بشريا.. لأنها بدورها منتوجات مصنعة..
والآن إذا اكتفينا، مؤقتا، بهذه الصورة المرسومة بشكل إجمالي، سيكون بامكاننا أن نحدد الاقتصاد السياسي على الشكل التقريبي التالي: كل شعب يخلق، بشكل متواصل، وبواسطة عمله الخاص، كمية من الأشياء الضرورية للعيش –أغذية، ألبسة، أدوات منزلية، أسلحة.. حلي..الخ –وكذلك يصنع الآلات ومواد ضرورية لإنتاج تلك الأشياء. أما الطريقة التي ينجز بها الشعب كل هذه الأشغال، والتي بها يوزع المنتجات بين مختلف أعضائه، والتي بها كذلك يستهلك، ومن ثم ينتج من جديد في حركة دائرية مستديمة، فتشكل بمجملها اقتصاد الشعب المعني، أي «الاقتصاد السياسي». إن هذا هو، بالتقريب، معنى العبارة الأولى التي تجيء في تعريف الأستاذ بوخر. والآن، لنتابع تفسيرنا.
«الاقتصاد السياسي ينقسم، بدوره، إلى عدة اقتصادات خاصة ترتبط بعضها بالبعض، بواسطة توزع المنافع، وتقيم فيما بينها روابط عديدة، بالنظر إلى أن كلا منها تشغل مهام معينة تفيد الأخرى، وتولي الأخرى مهام تفيدها...»
ها نحن الآن، أمام مشكلة جديدة: ما هي هذه «الاقتصادات الخاصة» التي ينقسم إليها «الاقتصاد السياسي» الذي بالكاد عرفنا كيف نحدد له موضعنا؟ للوهلة الأولى، يتبدى أن المقصود بهذا هو الأمور المنزلية والاقتصاديات المنزلية. فالحال أن كل شعب، في بلد يقال أنه متمدن، يحدد موضعه بالنسبة إلى عدد من العائلات، ولكل عائلة حياة «اقتصادية» كقاعدة عامة. فما هي مقومات هذا الاقتصاد؟ إن لكال عائلة مداخيل مالية معينة، تأتي من جراء نشاط أفرادها البالغين، أو عن طريق مصادر أخرى، ومع هذه المداخيل، تواجه العائلة ما تحتاجه من الغذاء والملبس والمأوى الخ.
وعندما نفكر بالاقتصاد العائلي، تتبادر إلى أذهاننا صورة الأم والمطبخ وخزانة البياضات وغرفة الأطفال. فهل ينقسم «الاقتصاد السياسي» يا ترى إلى مثل هذه «الاقتصادات الخاصة»؟ إن هذا يضعنا في جو مربك بعض الشيء. فالمسألة بالنسبة إلى الاقتصاد السياسي، كما حددناه أعلاه، تتعلق قبل أي شيء آخر، بإنتاج كافة الأشياء الضرورية للحياة وللعمل، للغذاء، للثياب، للسكن، للمفروشات، للآلات وللمواد الأولية. ولكن بالنسبة إلى الاقتصاد العائلي، ليست المسألة سوى مسألة استهلاك الأشياء التي تحصل عليها العائلة بواسطة المال الذي تملكه. ونحن نعرف اليوم أم معظم العائلات، في الدول الحديثة، تشتري كل ما تحتاجه من المؤن والملابس والمفروشات.. الخ، من المخازن أو من السوق. فبالنسبة إلى الاقتصاد المنزلي، لا يتم تحضير الوجبات إلا بواسطة المؤن المشتراة، كما لا تتم خياطة الملابس إلا بواسطة الأقمشة المشتراة. ونحن لا نعثر على الأسر الفلاحية التي ما تزال تحصل لنفسها، وبواسطة عملها الخاص، على معظم ما تحتاجه للعيش، إلا في المناطق الريفية المتخلفة. صحيح أن ثمة في الدول الحديثة كذلك، أسرا عديدة تنتج في منازلها مختلف المنتوجات الصناعية، مثل حائكي الصوف وخائطي الثياب، بل وثمة أيضا، كما نعلم، قرى بأسرها تنتج الألعاب أو ما شابه. ولكن، في مثل هذه الحالات، نجد أن إنتاج العمل المنزلي، يخص المقاول الذي يوصي على هذا الإنتاج ويدفع ثمنه، بحيث لا يتم استهلاك أي جزء منه داخل الاقتصاد المنزلي، حيث يتم إنتاجه. والعمال المنزليون، يشترون، من أجل اقتصادهم المنزلي، وبأجرهم الهزيل، المواد المصنعة التي يحتاجونها، تماما مثلما تفعل بقية الأسر. إن ما يقوله بوخر، الذي ينقسم الاقتصاد السياسي بنظره، إلى اقتصادات خاصة، يعني أخيرا، وبكلمات أخرى، أن إنتاج وسائل البقاء، لشعب بأسره «يتقسم» إلى استهلاك لهذه الوسائل بواسطة العائلات الخاصة – وهذا هراء واضح.
يساورنا، كذلك شك آخر. فحسبما يقول الأستاذ بوخر «ترتبط الاقتصادات الخاصة فيما بينها عن طريق التوزيع» وهي على علاقة كلية الواحدة بالأخرى، لأن كلا منها «تشغل، في سبيل الأخرى، مهام معينة». فعن أي توزيع، وعن أي ارتباط يريد أن يتكلم أستاذنا الجليل؟ وهل المسألة مسألة تبادلات تحصل بين الأسر الصديقة أو المتجاورة؟ ولكن، ما علاقة مثل هذا التوزيع بالاقتصاد السياسي، وبالاقتصاد بشكل عام؟ إن أية ربة بيت صالحة ستنبئنا بأنه كلما خفت عملية التوزيع من بيت لبيت، كلما كان الأمر أفضل بالنسبة إلى الاقتصاد والوئام المنزليين. أما بالنسبة إلى «الترابط»، ليس بالامكان أبدا فهم ماهية تلك «المهام» التي يمكن للاقتصاد المنزلي للملاك السيد «ماير»، أن يشغلها من أجل فائدة ومصلحة الاقتصاد المنزلي للأستاذ «شولتز»... ومصلحة الآخرين. من الواضح الآن أننا قد ضعنا، وبات يتوجب علينا الإمساك بالمسألة من طرفها الآخر.
«الاقتصاد السياسي» للأستاذ بوخر، لا ينقسم إذن إلى اقتصادات عائلية خاصة، فهل تراه ينقسم إلى مصانع، ومشاغل، واستغلالات زراعية.. الخ؟
ثمة مؤشر يقول لنا الآن، بأننا إنما نسير على الطريق القويم. فعمليا يتم في هذه المنشئات، إنتاج ما يستخدم لمعيشة الشعب كله، وهنا ثمة ما يسمى توزيع وترابط... الخ. فمثلا نجد هنا أن مصنعا لأزرار السراويل يرتبط كليا بمشاغل الخياطين حيث ثمة من يشتري الأزرار، بينما يرتبط الخياطون بدورهم بالمصنع، لأنهم لا يستطيعون إنتاج السراويل، دون أزرار لها. ومشاغل الخياطين تحتاج، من جهة أخرى، إلى مواد أولية، وهي لهذا ترتبط بمصانع الأنسجة الصوفية والقطنية. وهذه المصانع بدورها ترتبط بتربية الماشية وبتجارة الصوف... وهكذا دواليك. إننا نلاحظ هنا، واقعيا، في عملية الإنتاج، ترابطا بين مصالح وأطراف عديدة. ومن الواضح أنه من قبيل الخرق التحدث عن «مهام» يقوم بها كل واحد من هذه الفروع «لما فيه مصلحة بقية الفروع»، عند الحديث عن بيع أزرار السراويل للخياطين، وبيع الصوف إلى فروع أخرى من هذه العملية الدائرية. فما هذا كله سوى بعض أزهار البيان الذي تلجأ إليه اللغة الأستاذية التي تحب اللجوء إلى الشاعرية وإلى «أحكام القيمة الأخلاقية»، كما يقول الأستاذ شمولر، لدى التحدث عن القضايا الصغيرة المربحة في عالم لمقاولين. ولكن تساورنا هنا، أيضا، شكوك أكثر خطورة. فمختلف المصانع، والاستغلاليات الزراعية، ومناجم الفحم، ومصانع الصلب قد تكون هي «الاقتصادات الخاصة» التي «ينقسم» إليها الاقتصاد السياسي. غير أن تعبير «اقتصاد» يتعلق، بوضوح –أو هذا على الأقل هو التفسير الذي وضعناه للاقتصاد السياسي –بالإنتاج كما باستهلاك وسائل العيش في مساحة معينة من الأرض. بيد أن ما يجري في المصانع والمشاغل والمناجم، هو إنتاج يتم موجه للآخرين. ففي الأماكن لا يستهلك سوى مواد أولية صنعت منها الآلات، وسوى الآلات التي تستخدم للإنتاج. أما المنتوج النهائي فلا يستهلك داخل المؤسسة. فما من زر للسروال يستهلك من قبل الصانع وعائلته، أو من قبل عمال المصنع، كذلك مالك مصنع الصلب لا يستهلك، وعائلته، أي أنبوب من الصلب. ثم، إذا كنا راغبين في تحديد ما هو «الاقتصاد» عن كثب، يتوجب علينا أخذ هذا المفهوم يشكله الشمولي، المتعلق بإنتاج واستهلاك وسائل العيش الأكثر أهمية للوجود البشري. غير أن المؤسسات الصناعية أو الزراعية القائمة حاليا، لا تنتج كل منها، سوى واحد، أو في أحسن الأحوال بضعة منتوجات، لا تكفي وحدها لعيش الإنسان، بل وغالبا ما تكون غير قابلة للاستهلاك إذ لا تشكل سوى جزء من وسيلة العيش، أو سوى مادة أولية أو آلة لإنتاج هذه الوسيلة. الحال أن المؤسسات الإنتاجية الراهنة ليست سوى قطاعات من الإنتاج، لا معنى لها، في ذاتها ومن وجهة النظر الاقتصادية، كما لا هدف لها. إنما لها من الصفات والمميزات ما يجعلها غير قادرة وحدها على تشكيل أكثر من جزء من الاقتصاد، وليس الاقتصاد كله. وإذا قلنا، بالنتيجة، أن الاقتصاد السياسي، أي مجمل المؤسسات والظواهر التي تستخدم لسد حاجات شعب ما، ينقسم إلى اقتصادات خاصة، في المصانع والمشاغل والمناجم... الخ. يمكننا كذلك أن نقول بأن مجمل «المؤسسات» البيولوجية التي تستخدم لإنجاز كافة مهام التنظيم البشري، وهي الإنسان نفسه، وأن هذا الإنسان ينقسم، بدوره، إلى عدد كبير من المنظومات الخاصة: الأنف، الأذنين، الفخذين، الذراعين... الخ. بحيث يمكننا القول بأن المصنع الراهن، هو تقريبا «اقتصاد خاص» تماما مثلما الأنف يعتبر منظومة (عضوا) خاصة.
وإذن، ها نحن مجددا نصل، عن هذا الطريق أيضا، إلى وضع عبثي، وما هذا سوى دليل على أن التعريفات الحاذقة التي وضعها العلماء البرجوازيون، والتي قامت على جملة من الأدلة الخارجية، والحجج اللفظية، إنما تهدف على الابتعاد عن لب المشكلة. والآن، لنحاول أن نضع، بنفسنا، مفهوم الاقتصاد السياسي، لامتحان أكثر دقة.
[1]. اقتصاد شعب