المؤتمر الثاني |
الأنظمة الداخلية للأممية الشيوعية
الأنظمة الداخلية للأممية الشيوعية تأسست في لندن، عام 1864، أول عصبة أممية للشغيلة: العصبة الأممية الأولى. وقد تضمنت الأنظمة الداخلية لهذه العصبة ما يلي: « لما كانت العصبة تعتبر: أن تحرر الطبقة العاملة ينبغي ان تحقيقه الطبقة العاملة نفسها، أن النضال من أجل التحرر لا يعني بأي حال نضالا من أجل خلق امتيازات طبقية جديدة واحتكارات جديدة، بل من أجل اقامة المساواة في الحقوق والواجبات ومن أجل إلغاء كل سيطرة طبقية؛ إن خضوع الانسان الاقتصادي للعمل في ظل نظام مالكي وسائل الانتاج (أي كل موارد الحياة) والعبودية بأشكالها كافة، هما السببان الرئيسيان للبؤس الاجتماعي والانحطاط الأخلاقي والخضوع السياسي؛ أن التحرر الاقتصادي للطبقة العاملة هو، في كل مكان، الهدف الأساسي الذي يجب أن ترتهن به كل حركة سياسية، بوصفها وسيلة لبلوغه؛ أن كل الجهود لبلوغ هذا الهدف الكبير قد فشلت بسبب غياب التضامن بين الشغيلة في فروع العمل المختلفة في كل بلد، وغياب التحالف الأخوي بين الشغيلة في البلدان المختلفة؛ أن التحرر ليس مشكلة محلية أو وطنية إطلاقا، بل مشكلة إجتماعية تطول جميع البلدان حيث يوجد النظام الاجتماعي الجديد، ويتوقف حلها على التعاون النظري والعملي بين البلدان الأكثر تقدما، وأن تجديد الحركة العمالية الذي يحد ث بشكل متزامن في البلدان الأوربية الصناعية يوقظ فينا من جهة، آمالاً جديدة، ولكنه يشكل لنا، من جهة ثانية، تحذيرا صارخا لعدم الوقوع في الأخطاء القديمة، ويدعونا إلى التنسيق الفوري للحركة التي لم تكن تتمتع إلى الآن بالتماسك والانسجام. إن الأممية الثانية، التي تأسست في باريس عام 1889، كانت تعهدت بأن تكمل عمل الأممية الأولى، ولكنها تعرضت عام 1914، في بداية الحرب العالمية، إلى انهيار كامل. لقد هلكت الأممية الثانية، نخرتها الانتهازية وجندلتها خيانة زعمائها، الذين انتقلوا إلى معسكر البرجوازية؛ لذلك فإن الأممية الثالثة التي تأسست في مارس 1919 في عاصمة جمهورية السوفياتات الاشتراكية الاتحادية، موسكو، قد أعلنت بوجه العالم أنها تتكفل بمتابعة وانجاز العمل الذي شرعت به الأممية الأولى للشغيلة. لقد تشكلت الأممية الثالثة الشيوعية في نهاية المجزرة الامبريالية بين عامي 1914 و1918، التي زهقت خلالها البرجوازية، في مختلف البلدان، أرواح 20 مليون بشري. تذكر الحرب الامبريالية ! هذه هي الكلمة الأولى التي توجهها الأممية الشيوعية إلى كل شغيل مهما كان أصله أو اللغة التي يتكلمها. تذكَّر أنه بفعل وجود النظام الرأسمالي، تمكنت حفنة من الامبرياليين، خلال سنوات أربع طويلة، من إجبار الشغيلة في كل مكان على ذبح بعضهم بعضا، ! تذكر أن الحرب البرجوازية قد أغرقت أوربا والعالم أجمع في الجوع والفقر ! تذكر أنه دون إطاحة الرأسمالية فإن تكرار هذه الحروب الإجرامية لن يكون ممكنا فحسب بل هو محتم ! إن الأممية الشيوعية قد وضعت نصب أعينها الكفاح المسلح من أجل إطاحة البرجوازية العالمية، وخلق الجمهوريات الأممية للسوفيتات، المرحلة الأولى على طريق القضاء التام على كل نظام حكومي. وتعتبر الأممية الشيوعية أن دكتاتورية البروليتاريا هي الوسيلة الوحيدة المهيأة لتخليص الإنسانية من الفضائع الرأسمالية، وتعتبر سلطة السوفياتات شكل دكتاتورية البروليتاريا الذي يفرضه التاريخ. لقد خلقت الحرب الإمبريالية صلة وثيقة جدا بين مصير الشغيلة في بلد محدد ومصير البروليتاريا في البلدان الأخرى كافة. لقد أكدت الحرب الإمبريالية مرة جديدة صحة ما ورد في الأنظمة الداخلية للأممية الأولى: أن تحرر الشغيلة ليس مهمة محلية، ولا وطنية، بل مهمة اجتماعية وأممية. إن الأممية الشيوعية تقطع إلى الأبد مع تراث الأممية الثانية، لم يكن يوجد في الواقع، بالنسبة لها، إلاّ الشعوب ذات العرق الأبيض. فالأممية الشيوعية تتآخى مع الشعوب في كل الأعراق: الأبيض والأصفر والأسود، ومع شغيلة الأرض أجمع. إن الأممية الشيوعية تدعم بالكامل، ودون تحفظ، مكاسب الثورة البروليتارية العظمى في روسيا، أول ثورة اشتراكية منتصرة في التاريخ، وتدعو بروليتاريي العالم إلى السير في الطريق نفسه، وتتعهد الأممية الشيوعية بدعم كل جمهورية اشتراكية تنشأ في أي مكان، بكل الوسائل التي تكون بمتناولها. لا تجهل الأممية الشيوعية أنه، من أجل تسريع النصر، على العصبة الأممية للشغيلة، التي تقاتل لإزالة الرأسمالية وبناء الشيوعية، أن تمتلك تنظيما شديد المركزية، وأن على الآلية المنظمة للأممية الشيوعية أن تؤمن للشغيلة في كل بلد محدد إمكانية تلقي كل نجدة ممكنة، في أي وقت، من جانب العمال المنظمين في البلدان الأخرى. آخذة بالاعتبار كل ذلك، تتبنى الأممية الشيوعية الأنظمة التالية:
المادة الأولى:
المادة الثانية:
المادة الثالثة:
المادة الرابعة:
المادة الخامسة:
المادة السادسة:
المادة السابعة:
المادة الثامنة:
المادة التاسعة:
المادة العاشرة:
المادة الحادية عشرة:
المادة الثانية عشرة:
المادة الثالثة عشرة:
المادة الرابعة عشرة:
المادة الخامسة عشرة:
المادة السادسة عشرة:
المادة السابعة عشرة:
شروط قبول الأحزاب في الأممية الشيوعية إن المؤتمر التأسيسي الأول للأممية الشيوعية لم يقم بصياغة الشروط الدقيقة لقبول الأحزاب في الأممية الثالثة. فبعدما عقدت الأممية مؤتمرها الأول لم يكن يوجد في غالبية البلدان إلاّ اتجاهات وتجمعات الشيوعية. إن المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية ينعقد في شروط مختلفة تماما. في أغلب البلدان أصبح هناك أحزاب وتنظيمات شيوعية بدل الاتجاهات والتجمعات. بشكل متزايد، نرى أحزابا وتجمعات، كانت لوقت قريب تنتمي إلى الأممية الثانية، تتجه إلى الأممية الشيوعية راغبة الآن بالانضمام إليها، دون أن تكون قد أصبحت مع ذلك شيوعية حقا. لقد هُزمت الأممية الثانية بشكل نهائي. والأحزاب الوسطية وتجمعات « الوسط »، إذ رأت وضعها اليائس، تسعى للاستناد إلى الأممية الشيوعية التي تزداد قوتها كل يوم، وهي تأمل الاحتفاظ مع ذلك بـ« استقلالية » تسمح لها بمتابعة سياستها الانتهازية أو « الوسطية » القديمة. فالأممية الشيوعية هي، بشكل أو بآخر، « على الموضة ». إن رغبة بعض المجموعات القيادية « الوسطية » القديمة. بالانتساب إلى الأممية الثالثة تؤكد لنا بشكل غير مباشر أن الأممية الشيوعية قد كسبت تعاطف الأغلبية العظمى من الشغيلة الواعين في العالم أجمع، وأنها تشكل قوة تزداد نموا يوما بعد يوم. إن الأممية الشيوعية مهددة بأن تغزوها تجمعات متذبذبة ومترددة لم تستطع بعد القطع مع أيديولوجية الأممية الثانية. يضاف إلى ذلك أن بعض الأحزاب الهامة (الإيطالي، والسويدي) التي تتبنى الغالبية فيها وجهة النظر الشيوعية، مازالت تحتفظ داخلها بالعديد من العناصر الإصلاحية، والاشتراكية-السلمية التي لا تنتظر إلاّ الفرصة من أجل رفع رأسها وتخريب الثورة البروليتارية بشكل نشط،، مقدمة بذلك المساعدة للبرجوازية وللأممية الثانية. ينبغي على أي شيوعي ألاّ ينسى دروس جمهورية السوفياتات الهنغارية، إن اتحاد الشيوعيين الهنغاريين مع الإصلاحيين كلّف البروليتاريا الهنغارية غاليا. لذلك يرى المؤتمر الثاني العالمي وجوب تحديد شروط قبول الأحزاب الجديدة تحديدا دقيقا للغاية، والإشارة، بالمناسبة عينها، إلى الواجبات التي تقع على عاتق الأحزاب المنتسبة سابقا. يقرر المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية أن شروط القبول في الأممية هي التالية: 1- ينبغي أن يكون للدعاوة والتحريض اليوميين طابع شيوعي حقا، وأن يتفقا مع برنامج الأممية الثالثة وقراراتها، وأن يحرر كامل صحافة الحزب شيوعيون حقيقيون، أثبتوا تفانيهم في سبيل قضية البروليتاريا. ولا يحْسن الحديث عن الديكتاتورية البروليتارية كصيغة محفوظة ورائجة، بل يجب أن تتم الدعاوة بشكل يظهر ضرورة هذه الديكتاتورية لكل شغيل، لكل جندي، ولكل فلاح، عبر وقائع الحياة اليومية نفسها المدوّنة في صحافتنا. إن الصحافة الدورية أو غيرها وجميع مصالح النشر يجب أن تخضع كليا للجنة المركزية للحزب، أكان هذا الحزب شرعيا أو غير شرعي. فمن غير المقبول أن تسيء أجهزة الدعاوة استخدام الاستقلالية، من أجل اتباع سياسة لا تتفق مع سياسة الحزب. في أعمدة الصحافة، وفي الاجتماعات العامة، وفي النقابات، وفي التعاونيات، وفي كل مكان يصل إليه أنصار الأممية الثالثة، عليهم أن يفضحوا بشكل دائم ودون شفقة ليس فقط البرجوازية بل المتواطئين معها أيضا، الإصلاحيين بمختلف تلاوينهم. 2- على كل تنظيم يرغب في الانتساب إلى الأممية الشيوعية أن يبعد الاصلاحيين و« الوسطيين » بانتظام وبشكل دائم عن المراكز، التي تفرض ولو حدا أدنى من المسؤولية (منظمات الحزب، التحرير، الكتلة البرلمانية، التعاونيات والمجالس البلدية)، وأن يستبدلهم بشيوعيين مجربين – دون أن تخشى أن يكون عليه، خاصة في البداية، أن يستبدل مناضلين مجربين بشغيلة متدرجين. 3- يدخل الصراع الطبقي في جميع بلدان أوربا وأمريكا تقريبا مرحلة الحرب الأهلية، ولا يمكن الشيوعيين ضمن هكذا شروط أن يثقوا بالشرعية البرجوازية، وعليهم أن يخلقوا في كل مكان بموازاة التنظيم الشرعي، جهازا سريا قادرا على تأدية واجبه في اللحظة الحاسمة تجاه الثورة. وفي جميع البلدان حيث لا يتمكن الشيوعيون من تطوير نشاطهم بأكمله بشكل شرعي، بسبب حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية، يصبح الجميع بين النشاط الشرعي والنشاط غير الشرعي ضرورة أكيدة. 4- إن واجب نشر الأفكار الشيوعية يفرض ضرورة اتباع دعاوة وتحريض منظمين ومستمرين بين الجنود، كضرورة مطلقة، وحيث تصعب الدعاوة العلنية بسبب القوانين الاستثنائية، يجب أن تتم بشكل غير شرعي، ورفض ذلك يعني خيانة الواجب الثوري وهو بالتالي لا يتناسب مع الانتماء للأممية الشيوعية. 5- هناك ضرورة للتحريض العقلاني والمنهجي في الأرياف. فالطبقة العاملة لا تستطيع أن تنتصر إذا لم تكن مدعومة على الأقل بجزء من شغيلة الأرياف (المياومين الزراعيين وفقراء الفلاحين) وإذا لم تحيّد بسياستها جزءا على الأقل من الريف المتخلف. إن النشاط الشيوعي في الأرياف يكسب في هذه المرحلة أهمية رئيسية ويجب أن يقوم به العمال الشيوعيون الذين لهم صلة بالأرياف. إن رفض القيام بهذا العمل أو إسناده إلى أنصاف إصلاحيين مشكوك فيهم، يعني التخلي عن الثورة الاشتراكية. 6- على كل حزب يرغب في الانضمام إلى الأممية الشيوعية واجب التشهير بالاشتراكية الوطنية المعلنة كما الاشتراكية-السلمية المنافقة والزائفة. والمقصود أن يبرهن للعمال بشكل مستمر أنه دون الإطاحة الثورية للرأسمالية، فإن أي محكمة تحكيم دولية، وأي نقاش حول خفض الأسلحة، أو أية إعادة تنظيم « ديموقراطية » لعصبة الأمم لا تستطيع أن تحمي الإنسانية من الحروب الإمبريالية. 7- على جميع الأحزاب الراغبة في الانضمام إلى الأممية الشيوعية واجب الاعتراف بضرورة القطيعة التامة والنهائية مع الاصلاحية وسياسة الوسط، وعليها أن تروّج لهذه القطيعة بين أعضاء منظماتها. فالنشاط الشيوعي الحازم ليس ممكنا إلاّ لقاء هذا الثمن. تفرض الأممية الشيوعية، بشكل إلزامي ودون نقاش، هذه القطيعة، التي يجب أن تتم في أقرب مهلة. فلا تستطيع الأممية الشيوعية أن تقبل أن يكون لإصلاحيين حقيقيين مثل توراتي، وكاوتسكي، وهيلفردينغ، ولونغه، وماكدونالد، وموديلياني وغيرهم، حق اعتبار أنفسهم أعضاء في الأممية الثالثة وأن يكونوا ممثًّلين داخلها. إن وضعا كهذا سيجعل الأممية الثالثة شبيهة إلى حد بعيد بالأممية الثانية. 8- أمّا بصدد مسألة المستعمرات والقوميات المضطهدة، فيجب أن يكون للأحزاب في البلدان حيث البرجوازية تملك مستعمرات وتضطهد أمما، خطُّ سلوك واضح وصريح بشكل خاص. ومن واجب كل حزب ينتمي إلى الأممية الثالثة أن يفضح دون شفقة مآثر إمبرياليي بلده في المستعمرات، وأن يدعم بالفعل، وليس لفظيا، كل حركة تحرر في المستعمرات، ويطالب بطرد إمبريالي الحواضر من المستعمرات، وأن ينمي في قلب شغيلة البلد مشاعر أخوية فعلية تجاه السكان الكادحين في المستعمرات والقوميات المضطهدة، وأن يقوم بتحريض مستمر بين جنود البلد المستعمِر ضد كل اضطهاد للشعوب المستعمَرة. 9- على كل حزب يرغب في الانضمام إلى الأممية الشيوعيةأن يتبع دعاوة مثابرة ومستمرة داخل النقابات والتعاونيات والمنظمات الأخرى للجماهير العمالية. وينبغي تشكيل نوى شيوعية يكسب عملها العنيد والمستمر النقابات إلى الشيوعية. إن من واجبها أن تكشف في كل لحظة خيانة الاشتراكيين-الوطنيين وتردُّد « الوسط »، ويجب أن تكون هذه النُّوى خاضعة بمجملها للحزب. 10- على كل حزب منتسب إلى الأممية الشيوعية واجب محاربة « أممية » النقابات الصفراء المؤسسة في أمستردام بقوة وصلابة. وعليه أن ينشر بحزم داخل النقابات العمالية فكرة ضرورة القطيعة مع أممية أمستردام الصفراء. فيما عليه بالمقابل أن يؤازر بكل قوته الاتحاد العالمي للنقابات الحمراء المنتسب إلى الأممية الشيوعية. 11- على الأحزاب الراغبة في الإنتساب إلى الأممية الشيوعية واجب مراجعة تشكيل كتلها البرلمانية، لإقصاء العناصر المشكوك فيها وإخضاعها ليس لفظيا بل عمليا للجنة المركزية للحزب، وعليها أن تطلب من كل نائب شيوعي أن يُخضعها كل نشاطه للمصالح الحقيقية للدعاوة الثورية والتحريض. 12- يجب أن تبنى الأحزاب المنتسبة إلى الأممية الشيوعية على مبدأ المركزية الديموقراطية. ففي الفترة الحالية، فترة الحرب الأهلية الضارية، لا يستطيع الحزب الشيوعي أن يقوم بمهامه إلاّ إذا كان منظما بالشكل الأكثر مركزية. إلاّ إذا كان الانضباط الحديدي المشابه للانضباط العسكري مقبولا به، وهيئته المركزية تتمتع بسلطات واسعة وتمارس سلطة مسلما بها، وتتمتع بثقة المناضلين بالإجماع. 13- على الأحزاب الشيوعية في البلدان حيث يناضل الشيوعيون بشكل علني أن تلجأ إلى تطهيرات دورية لمنظماتها، بهدف فصل العناصر المنتفعة والبرجوازية-الصغيرة. 14- على الأحزاب الراغبة في الانتساب إلى الأممية الشيوعية أن تدعم دون تحفظ كل الجمهوريات السوفياتية في نضالاتها ضد الثورة المضادة، وأن تدعو الشغيلة، دون كلل، إلى رفض نقل الذخيرة والمعدات المخصصة لأعداء الجمهوريات السوفياتية وأن تقوم بالدعاوة، سواء بشكل شرعي أو بشكل غير شرعي، بين الجنود المرسلين لقتال الجمهوريات السوفياتية. 15- على الأحزاب التي مازالت تحتفظ حتى الآن بالبرامج الاشتراكية-الديموقراطية القديمة أن تقوم بمراجعتها دون تأخير وأن تصوغ برنامجا شيوعيا جديدا ينسجم مع الشروط المميزة لبلدها ومصمما بذهنية الأممية الشيوعية، والقاعدة أن تجري المصادقة على برامج الأحزاب المنتسبة إلى الأممية الشيوعية من قبل المؤتمر العالمي أو اللجنة التنفيذية. وفي حال رفض هذه الأخيرة لأحد الأحزاب، يحق له الاستئناف لدى مؤتمر الأممية الشيوعية. 16- جميع قرارات مؤتمرات الأممية الشيوعية، وكذلك قرارات اللجنة التنفيذية ملزمة لكل الأحزاب المنتسبة للأممية الشيوعية. وفي مرحلة الحرب الأهلية المحتدمة، على الأممية الشيوعية ولجنتها التنفيذية أن تأخذا بالاعتبار شروط النضال شديد التنوع في مختلف البلدان، وألاّ تبنى قرارات عامة وإلزامية إلاّ في المسائل التي تكون فيها هذه القرارات ممكنة. 17- انسجاما مع كل ما سبق، على كل الأحزاب المنتمية إلى الأممية الشيوعية أن تغير تسميتها. وكل حزب راغب في الانتساب إلى الأممية الشيوعية يجب أن يحمل الاسم التالي: الحزب الشيوعي لـ…(فرع الأممية الثالثة). إن مسألة التسمية هذه ليست مجرد مسألة شكلية، بل لها أهمية سياسية كبيرة. فالأممية الشيوعية قد أعلنت الحرب دون هوادة على العالم البرجوازي القديم بأكمله وعلى الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية الصفراء الهرمة كافة، ومن الأهمية بمكان أن يبرز الفرق بأكثر جلاء ممكن، أمام أعين كل الشغيلة، بين الأحزاب الشيوعية والأحزاب « الاشتراكية-الديموقراطية » الهرمة أو « الاشتراكيين » الرسميين الذين باعوا راية الطبقة العاملة. 18- إن كل الأجهزة القيادية لصحافة الحزب في كل بلد مجبرة على طباعة كل الوثائق الرسمية المهمة الصادرة عن اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية. 19- إن كل الأحزاب المنتسبة إلى الأممية الشيوعية، أو تلك التي تطلب الانضمام، مجبرة على الدعوة (بأقصى سرعة ممكنة) ضمن مهلة أربعة أشهر بعد المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية، كأقصى حد، إلى مؤتمر استثنائي يبث بشأن هذه الشروط. وعلى اللجان المركزية أن تسهر على إيصال قرار المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية إلى كل المنظمات المحلية. 20- على الأحزاب التي تريد الآن الانتساب إلى الأممية الثالثة، ولكنها لم تغير بعد تكتيكها القديم بشكل جذري، أن تعمل بشكل مسبق على أن يكون ثلثا أعضاء لجنتها المركزية ومؤسساتها المركزية الأكثر أهمية من رفاق أعلنوا قبل المؤتمر الثاني دعمهم لانضمام الحزب إلى الأممية الثالثة. ويمكن قبول ببعض الاستثناءات بموافقة اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية. وتحتفظ اللجنة التنفيذية بحق الاستثناء بالنسبة لممثلي التيار الوسطي المذكور في الفقرة السابعة. 21- إن المنتسبين إلى الحزب الذين يرفضون الشروط والموضوعات التي وضعتها الأممية الشيوعية يجب أن يُطردوا من الحزب، وينطبق الشيء على المنتدبين إلى المؤتمر الإستثنائي.
المهام الرئيسية للأممية الشيوعية 1- تتميز اللحظة الحالية من تطور الحركة الشيوعية العالمية بواقع أن أفضل ممثلي الحركة البروليتارية في جميع البلدان الرأسمالية قد فهموا جيدا المبادئ الأساسية للأممية الشيوعية أي، ديكتاتورية البروليتاريا وحكومة السوفياتات، ووقفوا إلى جانبها بتفان مفعم بالحماس. وما هو أكثر أهمية أيضا واقع أن أوسع الجماهير البروليتارية في المدن، والشغيلة المتقدمين في الأرياف، قد أظهروا تعاطفهم دون تحفظ مع هذه المبادئ الأساسية. وهذه خطوة كبيرة إلى الأمام. من جهة ثانية، يمكننا ملاحظة خطأين أو نقطتي ضعف في الحركة الشيوعية العالمية التي تنمو بسرعة خارقة. إحداهما خطيرة جدا وتشكل خطرا كبيرا مباشرا على قضية تحرر البروليتاريا، وتتمثل في أن بعض الزعماء القدماء وبعض أحزاب الأممية الثانية القديمة يعلنون، بشكل غير واع تحت ضغط الجماهير، أو بشكل واع، انتسابهم المشروط أو غير المشروط إلى الأممية الثالثة، بالرغم من بقائهم، في الواقع، في كل نشاطهم العملي اليومي عند مستوى الأممية الثانية، وهم إنما يخدعون هذه الجماهير ليحافظوا على وضعهم القديم كعملاء للبرجوازية ومساعدين لها داخل الحركة العمالية. هذا الوضع لا يمكن القبول به إطلاقا. فهو يدخل بين الجماهير عنصر إفساد، ويمنع تشكيل حزب سيوعي قوي أو تطوره، ويضع الاحترام المفروض أن تحوزه الأممية الثالثة موضع تشكيك، إذ يهدد بتجدد الخيانات المماثلة لخيانات الاشتراكيين-الديموقراطيين المجريين الذين تنكروا على عجل بثياب الشيوعيين. وثمة خطأ آخر أقل أهمية بكثير، هو بالأحرى من أمراض نمو الحركة، وهو الميل « إلى اليسار »، الذي يؤدي إلى تقويم خاطئ لدور الحزب ومهمته تجاه الطبقة العاملة والجماهير، ولواجب الشيوعيين الثوريين المتمثل بالنضال في البرلمان البرجوازي والنقابات الرجعية. من واجب الشيوعيين ألاّ يسكتوا عن نقاط الضعف في حركتهم، بل أن ينتقدوها علنا من أجل التخلص منها بشكل سريع وجذري. وللوصول إلى هذا الهدف، هناك أهمية في البداية لتحديد مضمون مفهومي ديكتاتورية البروليتاريا وسلطة السوفياتات، وذلك تبعا لتجربتنا العملية. وثانيا تحديد على أي شيء يمكن أن يقوم العمل التحضيري، المباشر والمنظم في جميع البلدان، من أجل تحقيق هذه الشعارات. وثالثا، تحديد الطرق والوسائل التي تسمح لنا بتخليص حركتنا من نقاط الضعف هذه. أ- جوهر ديكتاتورية البروليتاريا وسلطة السوفياتات 2- إن انتصار الإشتراكية (المرحلة الأولى من الشيوعية) على الرأسمالية يتطلب أن تنجز البروليتاريا، الطبقة الوحيدة الثورية حقا، المهام الثلاث التالية: تقوم الأولى على إطاحة المستغِلين وبالدرجة الأولى البرجوازية، ممثلتهم الاقتصادية والسياسية الأساسية، والمقصود أن تلحق بهم هزيمة كاملة، وأن تحطم مقاومتهم، وتجعل كل محاولة من جانبهم لإحياء الرأسمال والعبودية المأجورة مستحيلة. وتقوم المهمة الثانية على جعل كل جمهور الشغيلة الذين يستغلهم الرأسمال، وليس البروليتاريا فقط، يجرون في أثر طليعة البروليتاريا الثورية وحزبها الشيوعي، وتوعيتهم وتنظيمهم وتربيتهم وجعلهم منضبطين حتى خلال النضال الشرس والقاسي ضد المستغلين – وأن يتم انتزاع الأغلبية الساحقة من السكان في جميع البلدان الرأسمالية من البرجوازية، وإعطاؤهم الثقة، عمليا، بالدور القيادي للبروليتاريا وطليعتها الثورية – وتقوم المهمة الثالثة على تحييد – أو شل قدرة – المترددين حتما بين البروليتاريا و البرجوازية، بين الديموقراطية البرجوازية وسلطة السوفياتات، ومن طبقة الملاكين الصغار الزراعيين، والصناعيين والتجار، الذين ما زالوا كثيري العدد على الرغم من أنهم يشكلون أقلية من السكان، ومن فئات المثقفين والمستخدمين.. الخ، الدائرة حول هذه الطبقة. تتطلب كل من المهمتين الأولى والثانية أساليب عمل خاصة تجاه المستغَلين والمستغِلين. وتَنتُج الثالثة عن المهمتين الأولى والثانية ولا تتطلب سوى تطبيق ذكي، سلس ومناسب للأساليب المطبقة في المهمتين السابقتين والتي ينبغي تكييفها مع الظروف الملموسة. 3- في الظرف الحالي، الناشئ في العالم أجمع – وخاصة في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدما والأكثر قوة، واستنارة وحرية – عن النزعة العسكرية، الإمبريالية، واضطهاد المستعمرات والبلدان الضعيفة، والمذبحة الإمبريالية العالمية، و« سلم » فرساي، ليست فكرة الخضوع الهادئ من جانب أكثرية المستغَلين للرأسماليين والتطور السلمي نحو الاشتراكية، علامة رداءة برجوازية صغيرة فحسب، بل أنها أيضا تضليل وإخفاء لعبودية الإجارة. وتشويه للحقيقة أمام أعين الشغيلة. فالحقيقة أن البرجوازية الأكثر استنارة، والأكثر ديموقراطية، لا ترتد أمام مجزرة بحق ملايين العمال والفلاحين بهدف واحد وهو إنقاذ الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. إن إطاحة البرجوازية عن طريق العنف ومصادرة ممتلكاتها وتحطيم جهاز دولتها البرلماني، والقضائي، والعسكري والبيروقراطي، والإداري والبلدي، الخ.. وصولا إلى نفي جميع المستغِلين الأكثر خطورة وعنادا أو اعتقالهم، دون استثناء، وممارسة رقابة صارمة في أوساطهم من أجل قمع المحاولات التي لن يتوانوا عن القيام بها على أمل إعادة العبودية الرأسمالية، هذه هي الإجراءات التي بوسعها دون غيرها أن تؤمن الإخضاع الحقيقي لطبقة المستغِلين بمجملها. من جهة ثانية إن الفكرة المألوفة لدى أحزاب الأممية الثانية الهرمة وقياداتها، بأن في وسع أغلبية الشغيلة والمستغَلين، في ظل النظام الرأسمالي، وتحت النير العبودي للبرجوازية – الذي يتخذ أشكالاُ شديدة التنوع، ويكون أكثر تفننا وقساوة ودون رحمة كلما كان البلد الرأسمالي أكثر تحضرا – أن تكتسب وعيا اشتراكيا كاملا، وصلابة اشتراكية في القناعات والطبع، إن هذه الفكرة، في رأينا، تضلل الشغيلة أيضا. في الواقع، ليس إلاّ بعد أن تقوم الطليعة البروليتارية، تدعمها الطبقة الثورية الوحيدة أو أغلبيتها، بإطاحة المستغِلين وتحطيمهم، وتحرير المستغَلين من عبوديتهم وتحسين ظروف معيشتهم مباشرة على حساب الرأسماليين المجرد ين من الملكية، بعد ذلك فقط، ولقاء الحرب الأهلية الأشد ضراوة، يمكن أن تتم تربية أوسع الجماهير المستغَلة وتعليمها وتنظيمها حول البروليتاريا، وتحت نفوذها وقيادتها، وعندها يصبح ممكنا قهر أنانيتها، وعيوبها وافتقادها للتماسك، وهي الأمور التي يرعاها نظام الملكية الخاصة، كما يمكن تحويل تلك الجماهير إلى جمعية واسعة من الشغيلة الأحرار. * * * * * 4- إن نجاح النضال ضد الرأسمالية يتطلب ميزان قوى صحيحاً بين الحزب الشيوعي كمرشد، و البروليتاريا، الطبقة الثورية، والجماهير، أي مجمل الشغيلة والمستغَلين. إذا كان الحزب الشيوعي يشكل فعلا طليعة الطبقة الثورية ويستوعب أفضل ممثليها، وإذا كان مؤلفا من شيوعيين واعين ومتفانين، مستنيرين ومتمرسين بتجربة نضال ثوري طويلة، وإذا عرف كيف يرتبط بشكل لا فكاك منه بكامل وجود الطبقة العاملة، وعبرها بوجود كل الجماهير المستغلَة، وأن يوحي لها بالثقة التامة، فإن الحزب الوحيد الذي سيكون قادرا على قيادة البروليتاريا في النضال النهائي، الأكثر ضراوة ضد كل قوى الرأسمالية. وليس إلاّ بقيادة حزب مماثل تستطيع البروليتاريا أن تقضي على البلادة والمقاومة لدى الأريستوقراطية العمالية الصغيرة المؤلفة من قادة الحركة النقابية والتعاونية الذين أفسدتهم الرأسمالية، وأن تطور كل طاقاتها التي تفوق بما لا يقاس قوتها العددية بالنسبة إلى السكان، وذلك تبعا للبنية الاقتصادية الرأسمالية نفسها. وأخيرا لن تتمكن الجماهير، أي مجمل العمال والمستغلين المنظمين في السوفيايات، من أن تطوِّر لأول مرة في التاريخ، مبادرة عشرات الملايين من البشر الذين تخنقهم الرأسمالية وطاقتهم، إلاّ بعدما تكون قد تحررت بالفعل من نير الرأسمال والجهاز الحكومي للدولة، وبعد أن تكون قد امتلكت إمكانية التحرك بحرية. ولن تتمكن الجماهير المستغَلة سابقا من المشاركة التي كانت مستحيلة، حتى في الديموقراطيات البرجوازية الأكثر استنارة وحرية، بنسبة 95%. وفي السوفياتات يبدأ جمهور المستغَلين يتعلم، ليس في الكتب بل عبر تجربته العملية، ماهية البناء الاشتراكي وخلق انضباط اجتماعي جديد ورابطة حرة للشغيلة الأحرار. ب- على ماذا يجب أن يقوم التحضير الفوري لديكتاتورية البروليتاريا 5- يتميز التطور الحالي للحركة الشيوعية العالمية بواقع أنه في عدد كبير من البلدان الرأسمالية لم يكتمل عمل البروليتاريا التحضيري من أجل ممارسة الديكتاتورية، وفي الغالب أنه لم تبدأ بعد بشكل منظم. هذا لا يعني أن الثورة البروليتاريا ستكون مستحيلة في المستقبل القريب، بل أنها بالعكس، أكثر الأشياء احتمالا. فالوضع السياسي والاقتصادي غنيّ بالمواد الملتهبة بشكل خارق، وبالأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى اشتعالها بشكل مباغت. هناك عامل آخر من عوامل الثورة، خارج الوضع التحضيري للبروليتاريا، وهو تحديدا الأزمة العامة التي تطول كافة الأحزاب الحاكمة والأحزاب البرجوازية. ولكن ينتج عن كل ذلك أن المهمة الحالية للأحزاب الشيوعية تقوم على الإسراع بالثورة، دون إثارتها مع ذلك بشكل مصطنع قبل تحضير كاف. وينبغي أن يتكثف تحضير البروليتاريا للثورة عبر العمل. من جهة ثانية فإن الحالات المشار إليها أعلاه في تاريخ أكثر الأحزاب الاشتراكية، تفترض السهر جيدا على الأّ يبقى الاعتراف بدكتاتورية البروليتاريا مجرد اعتراف لفظي. لهذه الأسباب، فإن المهمة الرئيسية للحزب الشيوعي، من وجهة نظر الحركة البروليتارية الأممية في الوقت الحالي، هي تجميع كل القوى الشيوعية المبعثرة، وتشكيل حزب شيوعي وحيد في كل بلد (أو تعزيز الأحزاب الموجودة سابقا وتجديدها)، من أجل مضاعفة العمل التحضيري للبروليتاريا في سبيل الاستيلاء على السلطة تحت شكل دكتاتورية البروليتاريا. إن العمل الاشتراكي المألوف لدى المجموعات والأحزاب التي تعترف بديكتاتورية البروليتاريا أبعد من أن يكون قد خضع لهذا التغيير الأساسي والتجديد الجذري الضروريين للاعتراف بهذا العمل كعمل شيوعي حقا، ومنسجم مع المهام المطلوب تأديتها عشية ديكتاتورية البروليتاريا. * * * * * 6- إن استلام البروليتاريا السلطة السياسية، لا يوقف نضالها الطبقي ضد البرجوازية، بل على العكس، فهو يؤدي إلى اتساعه، ويجعله أكثر حدة وقساوة. إن كل التجمعات والأحزاب والمناضلين في الحركة العمالية الذين يتبنون كليا أو جزئيا وجهة النظر الإصلاحية و« الوسطية »، الخ.. سيقفون بشكل حتمي، بفعل احتدام الصراع، إمّا إلى جانب البرجوازية أو إلى جانب المترددين، أو (وهو الأكثر خطورة) يقعون في عداد أصدقاء البروليتاريا العديدين، غير المرغوب فيهم. لذلك فإن الاعداد لديكتاتورية البروليتاريا يتطلب ليس فقط تعزيز النضال ضد الاتجاه الاصلاحي بل تعديل طابع هذا النضال، وهذا لا يمكن أن يقتصر على إظهار الطابع المغلوط لهذه الميول، ولكن كذلك على فضح كل مناضل في الحركة العمالية يعبّر عن هذه الميول دون كلل أو رحمة. ودون ذلك لن تستطيع البروليتاريا أن تعرف مع من تسير في نضالها النهائي ضد البرجوازية. هذا النضال هو بحيث يمكن أن يتغير في كل لحظة ويحوّل سلاح النقد – كما أظهرت التجربة – إلى نقد بالسلاح. إن افتقاد روح المثابرة، أو أي تهاون في النضال ضد كل الذين يتصرفون كإصلاحيين أو وسطيين، ستكون نتيجته نموا مباشرا لخطر إطاحة سلطة البروليتاريا على يد البرجوازية التي ستستخدم إذا من أجل الثورة المضادة، ما لا يبدو اليوم بالنسبة لقصيري النظر إلاّ « اختلافا نظريا ». * * * * * 7- من المستحيل الاقتصار على الرفض المعتاد المبدئي لكل تعاون مع البرجوازية وكل « ائتلافية ». إن أبسط دفاع عن « الحرية » و« المساواة » في ظل بقاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، يمكن أن يتحول في ظروف ديكتاتورية البروليتاريا، التي لن تكون قادرة أبدا على إلغاء الملكية الخاصة كليا، دفعة واحدة، إلى « تعاون » مع البرجوازية، التي ستنسف مباشرة سلطة الطبقة العاملة، لأن ديكتاتورية البروليتاريا تعني التوطيد الحكومي والدفاع بواسطة كامل جهاز الدولة، ليس عن « الحرية » للمستغلين ليتابعوا عملهم القمعي والاستغلالي، وليس عن « المساواة » بين المالك (أي ذلك الذي يحتفظ من أجل متعته الشخصية ببعض وسائل الإنتاج التي يخلقها العمل الجماعي) والفقير. إن ما يظهر لنا قبل انتصار البروليتاريا كمجرد خلاف حول مسألة « الديموقراطية » سيصبح حتما في الغد، بعد الانتصار، مسألة ينبغي حسمها عن طريق السلاح. ودون التحويل الجذري لكل طابع النضال ضد « الوسطيين » « والمدافعين عن الديموقراطية »، فإن إعداد الجماهير حتى بشكل مسبق من أجل تحقيق ديكتاتورية البروليتاريا سيكون مستحيلا. 8- إن ديكتاتورية البروليتاريا هي الشكل الأكثر حسما والأكثر ثورية للصراع الطبقي بين البروليتاريا والبرجوازية. إن نضالا مماثلا لا يمكن أن يكون ظافرا إلاّ إذا جذبت الطليعة البروليتارية الأكثر ثورية إليها الأكثرية الساحقة العمالية. لهذه الأسباب فإن الإعداد لديكتاتورية البروليتاريا يتطلب ليس فقط فضح الطابع البرجوازي للإصلاحية ولكل دفاع عن الديموقراطية يستتبع المحافظة على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وليس فقط فضح ظهور اتجاهات تعبّر في الواقع عن الدفاع عن البرجوازية داخل الحركة العمالية، بل أيضا استبدال الزعماء القدامى بشيوعيين في جميع أشكال التنظيم البروليتاري، السياسية والنقابية والتعاونية والتربوية، الخ.. كلما كانت سيطرة الديموقراطية البرجوازية طويلة ووطيدة، في بلد محدد كلما نجحت البرجوازية بإيصال رجال تربّوا على يدها ومفاهيمها وأفكارها المسبقة، وهم في الغالب مباعون لها بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى المراكز المهمة في الحركة العمالية. ولا مفر من استبدال ممثلي الأرستقراطية العمالية هؤلاء، بحماس أكبر مائة مرة مما في السابق، بشغيلة قرويين من الجماهير المستغَلة، ولئن كانوا غير مجربين. إن ديكتاتورية البروليتاريا تفرض تعيين هؤلاء الشغيلة، الذين لا يمتلكون تجربة. في المراكز الأكثر أهمية في الحكومة، وبدون ذلك ستبقى سلطة الطبقة العاملة عاجزة ولن تحظى بدعم الجماهير. * * * * * 9- إن ديكتاتورية البروليتاريا هي التحقيق الناجز لسيطرة كل الشغيلة وكل المستغَلين، الذين تضطهدهم الطبقة الرأسمالية وتخبلهم وترهبهم وتشتتهم وتخدعهم، لكن الذين تقودهم الطبقة الاجتماعية الوحيدة التي أعدها كل تاريخ الرأسمالية لهذه المهمة القيادية. لهذا يجب أن يبدأ الإعداد لديكتاتورية البروليتاريا فورا وفي كل مكان، وذلك بالوسائل التالية: يجب تشكيل مجموعات ونوى شيوعية في كل المنظمات دون استثناء – النقابات والاتحادات الخ.. – في المنظمات البروليتارية أولا ومن تم المنظمات غير البروليتارية للجماهير الكادحة المستغَلة (سواء كانت سياسية أو نقابية أو عسكرية أو تعاونية أو بعد مدرسية، أو رياضية، الخ..). ومن المفضل أن تكون هذه المجموعات والنوى علنية، أو سرية إذا اقتضى الأمر، وهذا يصبح اضطراريا في كل مرة يكون هناك تخوف من إلغاء شرعيتها وتوقيف أعضائها. إن هذه المجموعات المرتبطة بعضها بالبعض الآخر، والمرتبطة بمركز الحزب، والتي تتبادل نتائج تجاربها، والمنصرفة إلى التحريض والدعاوة والتنظيم، تتكيف مع كل مجالات الحياة الاجتماعية وكل مظاهر الجماهير الكادحة وفئاتها. ويجب أن تعمل، عن طريق نشاطها متعدد الوجوه، على تربيتها الذاتية وتربية الحزب والطبقة العاملة والجماهير. إلاّ أن من الأهمية بمكان أن تتم عمليا بلورة طرائق عمل – في تطورها الضروري – تكون من جهة تجاه الزعماء أو الممثلين المسؤولين للمنظمات، المفسدين كليا بالأوهام الامبريالية والبرجوازية الصغيرة (هؤلاء الزعماء يجب فضحهم دون رحمة وطردهم من الحركة العمالية)، ومن جهة أخرى تجاه الجماهير التي بانت مستعدة، خاصة بعد المجزرة الامبريالية، للإصغاء للتعاليم حول ضرورة أن تلحق بالبروليتاريا، فهي وحدها القادرة على تخليصها من العبودية الرأسمالية. ويجدر التعاطي بصبر وحذر مع الجماهير من أجل فهم الخصوصيات البسيكولوجية لكل مهنة ولكل مجموعة داخل تلك الجماهير. 10- ثمة تجمع أو تكتل داخل الشيوعيين يجب أن يولى اهتماماً خاصاً ورقابة من قبل الحزب: وهو التكتل البرلماني، أو مجموعة أعضاء الحزب المنتخبين إلى البرلمان (أو البلديات، الخ..). فهذه المنابر هي، من جهة، ذات أهمية رئيسية بنظر الشرائح العميقة من الطبقة الكادحة المتخلفة أو المشبعة بالأوهام البرجوازية الصغيرة، وهذا هو السبب الذي يفرض على الشيوعيين أن يقوموا بعمل دعاوي، وتحريضي وتنظيمي من أعلى تلك المنابر، وأن يشرحوا للجماهير لماذا كان ضروريا في روسيا (كما سيتم ذلك عند الاقتضاء في كل البلدان) حل البرلمان البرجوازي بواسطة مؤتمر السوفياتات لعامة روسيا. ومن جهة ثانية فإن مجمل تاريخ الديموقراطية البرجوازية قد جعل من المنبر البرلماني، تحديدا في البلدان المتقدمة، حلبة أو إحدى الحلبات الرئيسية للغش المالي والسياسي والوصولية والخداع واضطهاد الشغيلة؛ لذلك فإن الحقد المتأصل الذي ينميه أفضل ممثلي البروليتاريا تجاه البرلمان إنما هو مبرر تماما. ولذلك على الأحزاب الشيوعية وكل الأحزاب المنتسبة إلى الأممية الثالثة (وبالأخص في حالة الأحزاب التي لم تنشأ عن انشقاق في الأحزاب القديمة)، أن تتخذ موقفا شديد الحزم تجاه تكتلاتها البرلمانية، أي أن تفرض التالي: خضوعها الكامل للجنة المركزية للحزب؛ وإعطاء الأفضلية لإدخال العمال الثوريين في تشكيلها، والتحليل الأكثر دقة في صحافة الحزب واجتماعاته لخطابات البرلمانيين من زاوية موقفهم الشيوعي؛ وتسمية برلمانيين للقيام بعمل دعاوي بين الجماهير والطرد الفوري لكل أولئك الذين قد يظهرون ميلا نحو الأممية الثانية، الخ... * * * * * 11- إن إحدى العقبات الأكثر خطورة أمام الحركة العمالية الثورية في البلدان الرأسمالية المتطورة ناجمة عن واقع أنه، بفعل الممتلكات الاستعمارية وفائض قيمة الرأسمال المالي، الخ.. قد نجح رأس المال في خلق أرستوقراطية عمالية صغيرة مستقرة وذات نفوذ كبير نسبيا، وهي تتمتع بأفضل الشروط على صعيد الأجر، وفوق كل ذلك فهي مشربة بالروح الضيقة لأهل الحرف، وبالروح البرجوازية الصغيرة والأوهام الرأسمالية. إنها تشكل « نقطة الارتكاز » الاجتماعية الفعلية للأممية الثانية والإصلاحيين « والوسطيين » وهي قريبة، في الوقت الحالي، من أن تصبح نقطة الارتكاز الأساسية للبرجوازية. إن أي تحضير، ولو مسبق، للبروليتاريا بهدف إطاحة البرجوازية لن يكون ممكنا دون الصراع المباشر المنظم والواسع والمعلن مع هذه الأقلية الصغيرة التي ستقدم دون شك (كما أثبتت التجربة تماما) عددا من أفرادها إلى الحرس الأبيض للبرجوازية بعد انتصار البروليتاريا. وعلى جميع الأحزاب المنتسبة إلى الأممية الثالثة، أن تجسد، مهما كان الثمن، هذا الشعار « فلننخرط أعمق فأعمق في الجماهير »؛ والمقصود بتعبير الجماهير مجموع الشغيلة والمستغلين على يد الرأسمال، وخاصة أقلهم تنظيما ووعيا وأكثرهم اضطهادا وأقلهم استعدادا للتنظيم. لا تصبح البروليتاريا ثورية إلاّ بالقدر الذي لا تنغلق فيه في أطر النزعة الضيقة لأهل الحرف، وبالقدر الذي تتصرف فيه في مظاهر وميادين الحياة الاجتماعية كافة كقائد لكل الجماهير الكادحة والمستغلة. إن تحقيق دكتاتوريتها سيكون مستحيلا دون إعداد، وعزم على تحمل أكبر الخسائر باسم الانتصار على البرجوازية. ومن هذه الزاوية، تتخذ التجربة الروسية أهمية عملية مبدئية، فالبروليتاريا الروسية لم تستطع أن تحقق دكتاتوريتها ولم تستطع أن تكسب التعاطف والثقة الشاملين من جانب الجماهير العمالية بأكملها لو لم تبرهن عن روح تضحية ولو لم تعان الجوع أكثر من كل فئات هذه الجماهير في أصعب ساعات الهجوم والحروب وحصار البرجوازية العالمية. إن الدعم الأكمل والأكثر إخلاصا من قبل الحزب الشيوعي والبروليتاريا الطليعية هو ضروري بشكل خاص تجاه كل حركة إضراب واسعة، عنيفة وكبيرة، وهو وحده القادر في ظل اضطهاد الرأسمال، على إيقاظ الجماهير فعلا وتحريكها وتنظيمها وإعطائها الثقة الكاملة والتامة بالدور القيادي للبروليتاريا الثورية. ودون هكذا تحضير تستحيل أي دكتاتورية البروليتاريا، ولا يعني التسامح، داخل الأحزاب المرتبطة بالأممية الثالثة مع الأشخاص الذين بوسعهم أن يقفوا قولا وفعلا ضد الإضرابات، مثل كاوتسكي في ألمانيا وتوراتي في إيطاليا. وهذا بالطبع يتعلق أكثر بالزعماء البرلمانيين والنقابيين الذين يخونون العمال في كل لحظة بتعليم هؤلاء الإصلاحية، عن طريق الإضراب، وليس الثورة (أمثلة: جوهو في فرنسا، غومبيرز في أمريكا، ج. هـ. توماس في انكلترا). * * * * * 12- لقد حانت اللحظة التي أصبح من الضرورة المطلقة فيها، بالنسبة لكل حزب شيوعي، أن يوحد العمل الشرعي وغير الشرعي، المنظمة الشرعية والمنظمة السرية، وذلك في جميع البلدان، حتى الأكثر « حرية » من بينها والأكثر « شرعية » والأكثر « سلمية » بمعنى احتدام الأضعف للصراع الطبقي. لأن الحكومات، في البلدان الأكثر تحضرا والأكثر حرية، ذات النظام البرجوازي-الديموقراطي الأكثر « استقرارا »، على الرغم من تصريحاتها الكاذبة والوقحة، قد بدأت بالفعل بوضع اللوائح السرية السوداء بأسماء الشيوعيين، وهي تخرق في كل لحظة دستورها الخاص بدعمها إلى هذا الحد أو ذاك بشكل سري الحرس الأبيض واغتيال الشيوعيين في كل البلدان، وتعد في الظل للاعتقالات بحق الشيوعيين، وتُدخل عناصر استفزازية بينهم، الخ.. وليس إلاّ الروح البرجوازية الصغيرة، مهما كان جمال العبارات « الديموقراطية » والسلمية التي تتباهى بها، يمكنها أن تنفي هذا الواقع والنتيجة الإلزامية الناجمة عنه: التشكيل الفوري من قبل كل الأحزاب الشيوعية الشرعية لمنظمات سرية من أجل العمل غير الشرعي، منظمات تكون معدة لليوم الذي تبدأ فيه البرجوازية بملاحقة الشيوعيين. إن العمل غير الشرعي في الجيش، وفي الأسطول وفي الشرطة هو في غاية الأهمية. لقد ارتعبت كل حكومات العالم بعد الحرب الإمبريالية الكبرى من الجيش الشعبي ولجأت إلى جميع الأساليب التي يمكن تصورها لأجل تشكيل وحدات عسكرية خاصة من عناصر تم اختيارها بشكل خاص في صفوف البرجوازية ومسلحة بأكثر الأسلحة الفتاكة اتقانا. من جهة أخرى، من الضروري أيضا في جميع الحالات، دون استثناء، عدم الإقتصار على العمل غير الشرعي، ولكن متابعة العمل الشرعي أيضا، بتخطي جميع الصعوبات في هذا السبيل وبتأسيس الصحف الشرعية والمنظمات الشرعية تحت مختلف التسميات، والإكثار من تغيير تسميتها عند اللزوم. وهذا ما تقوم به الأحزاب الشيوعية اللاشرعية في فنلندا والمجر وألمانيا وإلى حد ما في بولندا وليتوانيا الخ… وهذا ما يجب أن يقوم به « شغيلة العالم الصناعيون » (IWW) في أمريكا وما يجب أن تفعله كل الأحزاب الشيوعية الأخرى الشرعية إذا ما طاب للمدعين العامين أن يقوموا بملاحقتها لمجرد قبولها بقرارات مؤتمرات الأممية الشيوعية، الخ.. إن الضرورة المطلقة لتوحيد العمل الشرعي واللاشرعي لا تتحدد من حيث المبدأ بمجمل شروط الحقبة التي نمر بها، مرحلة عشية دكتاتورية البروليتاريا، بل بالحاجة إلى أن نظهر للبرجوازية أنه لا توجد ولا يمكن أن توجد مجالات وحقول للعمل لم يسيطر عليها الشيوعيون، ولأنه ما زالت توجد أيضا في كل مكان شرائح بروليتارية كبيرة وبنسب أكبر أيضا جماهير كادحة ومستغلة غير بروليتارية تثق بالشرعية البرجوازية الديموقراطية، ومن المهم جدا بالنسبة لنا أن نصرفها عنها. * * * * * 13- إن وضع الصحافة العمالية في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدما تظهر بشكل صارخ كذبة الحرية والمساواة في الديموقراطية البرجوازية، وكذلك تظهر ضرورة توحيد العمل الشرعي وغير الشرعي بشكل منهجي. وسواء في ألمانيا المهزومة أو أمريكا المنتصرة فإن كل قوى الجهاز الحكومي للبرجوازية وكل دهاء ملوك الذهب تتحرك الآن من أجل تجريد العمال من صحافتهم: ملاحقات قضائية واعتقالات (أو اغتيالات يرتكبها قتلة مأجورون) للمحررين، ومصادرة الطرود البريدية ومصادرة الورق، الخ. وكل ما هو ضروري بالنسبة لجريدة يومية من مواد إعلامية موجود بأيدي وكالات تلغرافية برجوازية، والإعلانات التي بدونها لا تستطيع صحيفة كبيرة أن تغطي نفقاتها هي تحت التصرف « الحر » للرأسماليين. وخلاصة ذلك أن البرجوازية بالكذب وضغط الرأسمال والدولة البرجوازية تسلب البروليتاريا الثورية صحافَتَها. من أجل النضال ضد هذا الواقع، على الأحزاب الشيوعية أن تخلق نمطا جديدا من الصحافة الدورية مخصصة للتوزيع بالجملة بين الشغيلة تتضمن: أ- نشرات شرعية تتعلم، دون أن تعلن شيوعيتها ودون أن تتحدث عن ارتباطها بالحزب، أن تستفيد من أدنى الإمكانات الشرعية، كما فعل البلاشفة في ظل القيصرية بعد عام 1905. ب- بيانات غير شرعية ولو ذات حجم صغير تظهر بشكل غير منتظم، ولكن يطبعها العمال في عدد كبير من المطابع (السرية، أو إذا كانت الحركة قد تعززت، عبر وضع اليد على المطابع) وتقدم للبروليتاريا إعلاما حرا ثوريا وشعارات ثورية. دون معركة ثورية تكسب الجماهير من أجل حرية الصحافة الشيوعية، سيكون الإعداد لديكتاتورية البروليتاريا مستحيلا. ج- تغيير سلوك الأحزاب المنتمية إلى الأممية الشيوعية أو الاحزاب الراغبة بذلك وبشكل جزئي تغيير تركيبها الاجتماعي 14- إن درجة إعداد البروليتاريا في البلدان الأكثر أهمية، من زاوية الاقتصاد والسياسة العالميين، لتحقيق الديكتاتورية العمالية، تتميز بأكبر قدر من الموضوعية والدقة، بواقع أن الأحزاب الأكثر تأثيرا في الأممية الثانية، كالحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني المستقل والحزب العمالي الإنكليزي المستقل والحزب الاشتراكي الأمريكي، قد خرجت من هذه الأممية الصفراء وقررت الانضمام المشروط إلى الأممية الثالثة. لقد ثبت بذلك أن الطليعة ليست وحيدة وأن أغلبية البروليتاريا الثورية بدأت بالانتقال إلى جانبنا وقد أقنعها بذلك كل مسار الأحداث. إن الجوهري الآن هو معرفة استكمال هذا الانتقال وتوطيد ما تم تحقيقه عبر التنظيم لكي يصبح ممكنا التقدم إلى الأمام على طول الخط دون أدنى تردد. * * * * * 15- إن كل نشاط الأحزاب المذكورة أعلاه (التي يجب أن يضاف إليها الحزب الاشتراكي السويسري إذا كانت البرقية التي تعلمنا بقراره الانضمام إلى الأممية الثالثة صحيحة) يثبت (وأي نشرة صادرة عن هذه الأحزاب تؤكد ذلك بشكل أكيد) أنه لم يصبح نشاطا شيوعيا بعد، ويتجه في الغالب خلافا للمبادئ الأساسية للأممية الثالثة باعترافه بالديموقراطية البرجوازية بدل دكتاتورية البروليتاريا والسلطة السوفياتية. لهذه الأسباب يعلن المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية أنه لا يعتبر الاعتراف الفوري بتلك الأحزاب ممكناً. ويؤكد المؤتمر جواب اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية على المستقلين الألمان، وموافقته على الدخول في محادثات مع كل حزب يخرج من الأممية الثانية ويعبر عن رغبته في التقرب من الأممية الثالثة؛ ويمنح صوتا استشاريا لمندوبي هذه الأحزاب إلى جميع مؤتمراته واجتماعاته الموسعة؛ ويضع الشروط التالية من أجل الاتحاد الكامل بين هذه الأحزاب (والأحزاب المماثلة) والأممية الشيوعية: أ- نشر جميع قرارات مؤتمرات الأممية الشيوعية واللجنة التنفيذية في جميع نشرات الحزب الدورية. ب- بحث هذه القرارات في اجتماعات خاصة لكل المنظمات المحلية للحزب. ج- الدعوة بعد هذا البحث لمؤتمر خاص للحزب من أجل إقصاء العناصر التي تستمر في العمل بروحية الأممية الثانية. ويجب أن يدعي إلى هذا المؤتمر بأقصى سرعة ممكنة خلال مهلة لا تتعدى الأربعة أشهر بعد المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية. د- طرد جميع العناصر التي تستمر في العمل بروحية الأممية الثانية من الحزب. هـ- انتقال كل النشرات الدورية للحزب إلى أيدي محررين شيوعيين فقط. و- إن الأحزاب التي تريد الانتساب الآن إلى الأممية الثالثة والتي لم تعدِّل جذريا بعد من تكتيكها السابق، عليها أن تعمل مسبقا على أن يكون ثلثا أعضاء لجنتها المركزية ومؤسساتها المركزية الأكثر أهمية من الرفاق الذين أعلنوا تأييدهم العلني لانضمام الحزب إلى الأممية الثالثة، ويمكن أن تحصل بعض الاستثناءات بموافقة اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية. وتحتفظ اللجنة التنفيذية أيضا بحقها في الاستثناء بما يتعلق بممثلي الاتجاه الوسطي المشار إليه في الفقرة السابعة. ز- إن أعضاء الحزب الذين يرفضون الشروط والموضوعات التي وضعتها الأممية الشيوعية يجب أن يطردوا من الحزب، وينطبق الشيء نفسه على المندوبين للمؤتمر الاستثنائي. * * * * * 16- فيما يتعلق بموقف الشيوعيين الذين يشكلون الأقلية الحالية بين المناضلين المسؤولين في الأحزاب المذكورة سابقا أو المماثلة لها، يقرر المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية أنه بسبب الوتيرة السريعة للتطور الحالي للروح الثورية للجماهير فإن خروج الشيوعيين من هذه الأحزاب ليس مرغوب فيه، طالما كان بإمكانهم أن يقوموا داخلها بعمل باتجاه الاعتراف بدكتاتورية البروليتاريا والسلطة السوفياتية ونقد الانتهازيين والوسطيين الذين مازالوا فيها. مع ذلك، وما أن يكتسب الجناح اليساري لأي حزب وسطي قوة كافية، بإمكانه، إذا ان يعتبر ذلك مفيدا لتطور الشيوعية، أن يترك الحزب ككتلة ويشكل حزبا شيوعيا. وفي الوقت نفسه، يؤيد المؤتمر الثاني للأممية الثالثة أيضا انضمام مجموعات وتنظيمات شيوعية أو متعاطفة مع الشيوعية إلى حزب العمال الانكليزي على الرغم من أن هذا الأخير لم يخرج بعد من الأممية الثانية، طالما أن هذا الحزب يترك لمنظماته حريتها الحالية في النقد، والعمل والدعاوة والتحريض والتنظيم من أجل ديكتاتورية البروليتاريا والسلطة السوفياتية، وطالما حافظ على طابعه كاتحاد لكل المنظمات النقابية للطبقة العاملة. وعلى الشيوعيين أن يقوموا بكل المحاولات وصولا إلى بعض التسويات بهدف امتلاك إمكانية تأثير على أوسع جماهير الشغيلة وفضح زعمائها الانتهازيين من أعلى المنابر التي في متناول الجماهير، والإسراع بنقل السلطة السياسية من أيدي الممثلين المباشرين للبرجوازية لأيدي ممثلين عمال للطبقة العاملة، من أجل تخليص الجماهير من آخر الأوهام حول هذا الموضوع بأسرع وقت ممكن. * * * * * 17- في ما يتعلق بالحزب الاشتراكي الإيطالي. إن المؤتمر الثاني للأممية الثالثة، إذ يعترف بأن المراجعة البرنامجية التي أقرها الحزب في مؤتمره في بولونيا العام الماضي تشكل مرحلة شديدة الأهمية في تحوله نحو الشيوعية، وأن الاقتراحات التي تقدم بها فرع تورين إلى المجلس العام للحزب، المنشورة في صحيفة الـ« أورديني نووفو » L’Ordine Nuovo في 8 ماي 1920، تنسجم مع جميع المبادئ الأساسية للأممية الثالثة، ويتمنى على الحزب الاشتراكي الإيطالي أن يبحث في مؤتمره القادم، الذي ستتم الدعوة إليه بموجب الأنظمة الداخلية للحزب والإجراءات العامة بشأن القبول في الأممية الثالثة، الاقتراحات المذكورة آنفا وكل قرارات المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية خاصة في موضوع التكتل البرلماني، والنقابات والعناصر غير الشيوعية في الحزب. * * * * * 18- يعتبر المؤتمر الثاني للأممية الثالثة أن المفاهيم حول علاقات الحزب بالطبقة العاملة والجماهير حول المشاركة الاختيارية للأحزاب الشيوعية بالعمل البرلماني والعمل داخل النقابات الرجعية غير ملائمة. وكانت هذه المفاهيم قد دحضت بشكل واسع في القرارات الخاصة للمؤتمر الحالي، بعد أن كان قد جرى الدفاع عنها من قبل « حزب العمال الشيوعي الألماني » بشكل خاص، وبعض الشيء من قبل « الحزب الشيوعي السويسري » وصحيفة مكتب الأممية الشيوعية لأوروبا الشرقية في فيينا (كومونيسموس)، وبعض الرفاق الهولنديين وبعض التنظيمات الشيوعية في انكلترا – من بينها « الاتحاد العمالي الاشتراكي »، الخ. وكذلك منظمة « شغيلة العالم الاشتراكيين » الأمريكية و« لجان الممثلين النقابيين للمؤسسات » الإنكليزية الخ. الخ… بيد أن المؤتمر الثاني للأممية الثالثة يعتقد أنه من الممكن والمرغوب فيه أن تنضم إلى الأممية الثالثة كل من تلك التنظيمات التي لم تنتسب إليها رسميا بعد، لأننا في الحالة الراهنة، وخاصة إزاء « لجان الممثلين النقابيين للمؤسسات » الإنكليزية، نجد أنفسنا أمام حركة بروليتارية عميقة، تقف في الواقع على أرضية المبادئ الأساسية للأممية الشيوعية. إن المفاهيم الخاطئة حول المشاركة في العمل داخل البرلمانات البرجوازية في تنظيمات كهذه، لا تعود بشكل أساسي إلى دور العناصر ذات الأصل البرجوازي التي تُحمّل مفاهيمها، بالحقيقة، روحية برجوازية صغيرة، كما هي في الغالب مفاهيم الفوضويين، بل إلى فقدان التجربة السياسية للبروليتاريين الثوريين حقا والمرتبطين بالجماهير. لهذه الأسباب، يتمنى المؤتمر الثاني للأممية الثالثة على كل التنظيمات والتجمعات الشيوعية في البلدان الأنكلو-ساكسونية أن تواصل، حتى في حال عدم انضمام « شغيلة العالم الصناعيين » (IWW) و« لجان الممثلين النقابيين للمؤسسات » مباشرة إلى الأممية الثالثة، سياسة علاقات أكثر ودية مع هذين التنظيمين، وتقارب معهما ومع الجماهير المتعاطفة معهما، عبر افهامهما بشكل ودي، من زاوية تجربة جميع الثورات الروسية في القرن العشرين، الطابع الخاطئ لمفاهيمهما، وتكرار محاولات الاندماج معهما في حزب شيوعي وحيد. * * * * * 19- يلفت المؤتمر انتباه كل الرفاق، وخاصة في البلدان اللاتينية والأنكلو-ساكسونية إلى هذا الواقع: لقد حصل منذ الحرب انقسام عميق في الأفكار بين الفوضويين في العالم أجمع حول موضوع الموقف الواجب اتخاذه إزاء ديكتاتورية البروليتاريا والسلطة السوفياتية. في هذه الظروف، نلاحظ في صفوف العناصر البروليتارية التي كانت مدفوعة في الغالب إلى الفوضوية بسبب حقدها، المبرر تماما، على انتهازية الأممية الثانية وإصلاحيتها، تفهما صحيحا بشكل مميز لهذه المبادئ، يتسع بشكل متزايد، كلما أصبحت تجربة روسيا وفنلندا وهنغاريا وليتوانيا وبولندا وألمانيا، معروفة بشكل أفضل. لهذه الأسباب يعتبر المؤتمر أن من واجب جميع الرفاق أن يدعموا بكل الوسائل انتقال جميع العناصر البروليتارية ضمن الجماهير من الفوضوية إلى الأممية الثالثة. ويعتبر المؤتمر أن نجاح نشاط الأحزاب الشيوعية حقا يجب أن يُقوَّم في بعض جوانبه، بالقدر الذي تنجح فيه باجتذاب العناصر البروليتارية حقا ضمن الفوضوية.
قرار حول دور الحزب الشيوعي في الثورة البروليتارية تقف البروليتاريا العالمية على عتبة نضال حاسم، فالحقبة التي نعيشها هي حقبة عمل مباشر ضد البرجوازية. إن الساعة الحاسمة تقترب، وقريبا سيكون على الطبقة العاملة في كل البلدان حيث توجد حركة عمالية واعية أن تخوض سلسلة معارك ضارية مسلحة. الآن أكثر من أي وقت مضى تحتاج الطبقة العاملة إلى تنظيم صلب، وعليها أن تعد نفسها من الآن وصاعدا، دون كلل، لهذا النضال، دون إضاعة ساعة واحدة من الوقت الثمين. لو كانت الطبقة العاملة تملك، خلال كومونة باريس (1871) حزبا شيوعيا متين التنظيم، ولئن قليل العدد، لكانت الانتفاضة الأولى للبروليتاريا الفرنسية البطلة أكثر قوة، ولكانت تفادت الكثير من الأغلاط والكثير من الأخطاء. إن المعارك التي سيكون على البروليتاريا أن تخوضها الآن في ظروف تاريخية مختلفة تماما، ستكون ذات نتائج أخطر بكثير منها 1871. إن المؤتمر الثاني العالمي للأممية الشيوعية يظهر للعمال الثوريين في العالم أجمع أهمية ما يلي: 1- إن الحزب الشيوعي هو جزء من الطبقة العاملة، وهو يشكل بالطبع الجزء الأكثر تقدما ووعيا وإخلاصا ووضوح رؤية. ليس للحزب الشيوعي مصالح مختلفة عن مصالح الطبقة العاملة، ولا يختلف عن أوسع جماهير الشغيلة إلاّ في تبصره للرسالة التاريخية لمجموع الطبقة العاملة، ولا يختلف عن أوسع جماهير الشغيلة إلاّ في تبصره للرسالة التاريخية لمجموع الطبقة العاملة، وهو يجهد، عند كل منعطفات الدرب، للدفاع ليس عن مصالح بعض المجموعات أو بعض المهن، بل عن مصالح الطبقة العاملة بمجملها. إن الحزب الشيوعي يشكل القوة التنظيمية والسياسية، التي يقود بواسطتها الجزءُ الأكثر تقدما من الطبقة العاملة جماهير البروليتاريا وأنصاف البروليتاريا، في الطريق الصحيح. 2- طالما أن البروليتاريا لم تستول بعد على السلطة الحكومية، وطالما أنها لم ترسخ سيطرتها نهائيا بعد، ولم تحتط لكل محاولة لإعادة إحياء البرجوازية، فإن الحزب الشيوعي لن يضم في صفوفه المنظمة إلاّ أقلية عمالية. ويستطيع الحزب الشيوعي، بفعل ظروف ملائمة، إلى أن يستلم السلطة وخلال المرحلة الانتقالية، أن يمارس تأثيرا أيديولوجيا وسياسيا أكيدا على كل شرائح البروليتاريا وأنصاف البروليتاريا من السكان، ولكنه لا يستطيع أن يجمعهم منظمين في صفوفه. ولا يبدأ جميع العمال أو على الأقل معظمهم بالدخول في صفوف الحزب الشيوعي، إلاّ عندما تحرم دكتاتورية البروليتاريا البرجوازية من وسائل النشاط الأكثر فعالية مثل الصحافة والبرلمان والكنيسة والإدارة الخ.. عندما تصبح هزيمة النظام البرجوازي أمرا بديهيا أمام الجميع. 3- يجب التمييزبين مفهومي الحزب والطبقة بأكبر دقة ممكنة. إن أعضاء النقابات « المسيحية » والليبرالية في ألمانيا وانكلترا وفي بلدان أخرى ينتمون دون شك إلى الطبقة العاملة، كذلك التجمعات العمالية الضخمة إلى هذا الحد أو ذاك التي ما زالت تتبع شيدمان وغومبيرز وشركاءهما. وفي شروط تاريخية مماثلة من المحتمل جدا أن تظهر تيارات رجعية عديدة داخل الطبقة العاملة.وليست مهمة الشيوعيين التكيف مع هذه العناصر المتخلفة من الطبقة العاملة، بل أن يرفعوا مجمل الطبقة العاملة إلى مستوى الطليعة الشيوعية. ويمكن أن يؤدي الالتباس بين هذين المفهومين للحزب والطبقة إلى أخطاء والتباسات شديدة الخطورة. فمن البديهي، مثلا، أنه كان على الأحزاب العمالية، على الرغم من أوهام وعقلية قسم من الطبقة العاملة خلال الحرب، أن تحارب، بأي ثمن كان، هذه الأوهام وهذه العقلية، باسم المصالح التاريخية للبروليتاريا التي تلزم حزبها بإعلان الحرب على الحرب. وهكذا مثلا لم تتوان الأحزاب الإشتراكية في كل البلدان، في بداية الحرب الإمبريالية عام 1914 بدعمها لبرجوازيتها الخاصة، عن تبرير سلوكها بالتذرع بإرادة الطبقة العاملة. إنها تنسى بذلك، حتى لو كان الأمر على هذه الشاكلة، بأن مهمة الحزب البروليتاري هي في أن يحارب العقلية العمالية العامة وأن يدافع عن جميع المصالح التاريخية للبروليتاريا. وهكذا كان المناشفة في بداية القرن العشرين (وكانوا يسمون أنفسهم بـ« الاقتصاديين » آنذاك) يرفضون النضال العلني ضد القيصرية لأن الطبقة العاملة بمجملها، كما كانوا يقولون، لم تكن مستعدة بعد لفهم ضرورة النضال السياسي. وهكذا كان المستقلون اليمينيون في ألمانيا يبررون دائما أنصاف إجراءاتهم قائلين إنه يجب فهم رغبات الجماهير قبل كل شيء، ولم يفهموا هم أنفسهم بأنه مقضي على الحزب أن يسير في مقدمة الجماهير وأن يدلها على الطريق. 4- إن الأممية الشيوعية مقتنعة تمام الإقتناع أن هزيمة أحزاب الأممية الثانية « الاشتراكية-الديموقراطية » القديمة، لا يمكن أن تعتبر بأي حال من الأحوال كهزيمة للأحزاب البروليتارية بشكل عام. إن عصر النضال المباشر من أجل دكتاتورية البروليتاريا يخلق حزبا بروليتاريا عالميا جديدا – الحزب الشيوعي. 5- ترفض الأممية الشيوعية رفضا قاطعا الرأي القائل بأن على البروليتاريا أن تنجز ثورتها دون أن تمتلك حزبا سياسيا. فكل نضال طبقي هو نضال سياسي. وهد ف هذا النضال الذي يتجه بشكل حتمي للتحول إلى حرب أهلية، هو استلام السلطة السياسية. لهذا لايمكن الإستيلاء عليها،وتنظيمها وقيادتها إلا بواسطة هذا الحزب السياسي أو ذاك. وليس إلاّ عندما يقود البروليتاريا حزب منظم ومجرَّب، يتبع أهدافا محددة بوضوح، ويمتلك برنامج عمل قابلا للتنفيذ في السياسة الداخلية كما في السياسة الخارجية، ليس إلاّ في هذه الحالة، يمكن اعتبار استلام السلطة السياسية نقطة انطلاق لعمل مستمر لبناء شيوعي للمجتمع تقوم به البروليتاريا، لا مجرد حادثة عرضية. إن النضال الطبقي عينه يتطلب أيضا المركزية والقيادة الواحدة للأشكال المختلفة للحركة البروليتارية (النقابات، التعاونيات، لجان المصانع، التعليم والانتخابات الخ..) والمركز المنظم والقيادي لا يمكن أن يكون إلاّ حزبا سياسيا، فإن رفض العمل على إنشائه وتوطيده والخضوع له إنما يعادل رفض القيادة الواحدة لقوى البروليتاريا العاملة على جبهات مختلفة. ويتطلب النضال تحريضا مركزا ينير مراحل النضال المختلفة من وجهة نظر واحدة ويجتذب في كل لحظة كل انتباه البروليتاريا إلى المهام التي تعنيها بمجملها. ولا يمكن تحقيق ذلك دون جهاز سياسي مركزي أي دون حزب سياسي. إن دعاوة بعض النقابوين الثوريين والمنتسبين إلى الحركة الصناعية في العالم أجمع (IWW) ضد ضرورة حزب سياسي قائم بذاته، لم تساعد ولا تساعد – إذا أردنا الكلام بموضوعية – إلاّ البرجوازية و« الاشتراكيين-الديموقراطيين » المعادين للثورة. فبدعاوتهم ضد الحزب الشيوعي الذي يريدون استبداله بنقابات أو اتحادات عمالية ذات أشكال غير واضحة المعالم وشديدة الاتساع، إنما يتقاطعون في عدد من النقاط مع انتهازيين حقيقيين. لقد ظل المناشفة الروس خلال عدة سنوات بعد هزيمة ثورة 1905 ينشرون فكرة مؤتمر عالمي (هكذا كانوا يسمونه) من المفترض أن يحل محل حزب الطبقة العاملة الثوري؛ ويريد « العماليون الصفر » على اختلافهم في انكلترا وأمريكا استبدال الحزب السياسي باتحادات عمالية مائعة، ويختلقون في الوقت نفسه تكتيكا سياسيا برجوازيا على الإطلاق. أمّا النقابيون الثوريون و« الصناعيون » فيريدون محاربة دكتاتورية البرجوازية، لكنهم لا يعرفون كيف يقومون بذلك، ولا يلاحظون أن طبقة عاملة دون حزب سياسي هي جسد بلا رأس. إن النقابوية الثورية و« الصناعوية » لا تشكلان خطوة إلى الأمام إلاّ بالنسبة لإيديولوجية الأممية الثانية الخاملة والمعادية للثورة. ولكنهما تشكلان خطوة إلى الوراء بالنسبة للماركسية الثورية، أي للشيوعية. إن إعلان شيوعيي « اليسار الألماني KAPD » (البرنامج الذي صاغه مؤتمرهم التأسيسي في أبريل الماضي) بأنهم يشكلون حزبا، إنما « ليس بالمعنى الشائع لكلمة حزب » (Keine Partei überlieferten sinne)، هو تراجع أمام الرأي النقابوي و« الصناعوي » يشكِّل واقعةً رجعية. لكن الطبقة العاملة لن تتمكن من إحراز النصر على البرجوازية عن طريق الاضراب العام، وتكتيك الأيدي المكتوفة، بل يجب أن تحقق ذلك عن طريق الانتفاضة المسلحة. ومن فهم ذلك عليه أن يفهم أيضا أن حزبا سياسيا منظما هو أمر ضروري، وأن الاتحادات العمالية المائعة لا تستطيع أن تحل محله. يتحدث النقابيون الثوريون في الغالب عن الدور الكبير الذي يجب أن تلعبه أقلية ثورية موطدة العزم. والحال أن هذه الأقلية العازمة من الطبقة العاملة التي يطلبونها، هذه الأقلية الشيوعية، والتي تمتلك برنامجا وتريد أن تنظم النضال الجماهيري، إنما هي في الواقع الحزب الشيوعي بالذات. 6- إن البقاء على اتصال دائم بالتنظيمات البروليتارية الأشد اتساعا هو المهمة الأكثر أهمية لحزب شيوعي حقا، ومن أجل تحقيق ذلك يستطيع الشيوعيون ويجب عليهم أن يشاركوا في مجموعات تضم جماهير بروليتارية واسعة دون أن تكون مجموعات حزبية. هذه هي مثلاً حالة التنظيمات المعروفة باسم تنظيمات المصابين بالعجز في البلدان مختلفة، وجماعات « ارفعوا أيديكم عن روسيا »، والاتحادات البروليتارية للمستأجرين، الخ.. ولدينا هنا المثال الروسي لمجالس العمال والفلاحين التي تعلن أنها « غريبة » عن الأحزاب. وسيجري قريبا تنظيم جمعيات مماثلة في كل مدينة وكل حي عمالي أوسع الجماهير التي تضم شغيلة متخلفين أيضا. وتشارك في هذه الجمعيات أوسع الجماهير التي تضم شغيلة متخلفين أيضا، وهي تضع على جدول أعمالها المسائل الأكثر أهمية: التموين، السكن، مسائل عسكرية، التعليم، المهمة السياسية في اللحظة الراهنة، الخ.. وعلى الشيوعيين أن يمتلكوا تأثيرا داخل الجمعيات، وسيكون لذلك أكثر النتائج أهمية بالنسبة للحزب. يعتبر الشيوعيون أن مهمتهم الرئيسية داخل هذه التنظيمات هي العمل التثقيفي والتنظيمي المنهجي. ومن أجل أن يكون هذا العمل مثيرا وكي لا يتمكن أعداء البروليتاريين الثورية من السيطرة على هذه التنظيمات، يجب أن يكون للشغيلة المتقدمين وللشيوعيين حزبهم ذو النشاط المنظم الذي يعرف الدفاع عن الشيوعية في كل الظروف وأمام جميع الاحتمالات. 7- لا ينفصل الشيوعيون أبدا عن المنظمات العمالية المحايدة رسميا، حتى لو ارتدت طابعا رجعيا واضحا (اتحادات صفراء، اتحادات مسيحية، الخ…)، فالحزب الشيوعي يواصل داخل تلك المنظمات عمله الخاص بثبات، مظهرا للعمال دون كلل أن الحياد السياسي إنما تزرعه البرجوازية وعملاؤها بينهم عن تبصر، من أجل الانحراف بالبروليتاريا عن النضال من أجل الاشتراكية. 8- إن التقسيم الكلاسيكي القديم للحركة العمالية إلى ثلاثة أشكال (أحزاب، نقابات، تعاونيات) قد مضى عليه الزمن. لقد أوجدت الثورة البروليتارية في روسيا الشكل الأساسي لديكتاتورية البروليتاريا، السوفياتات. فالتقسيم الجديد الذي ننميه في كل مكان هو التالي: 1- الحزب، 2- السوفيات، 3- النقابة. غير أن العمل في السوفياتات كما في النقابات الصناعية التي أصبحت ثورية يجب أن تتم قيادته بثبات ومنهجية من قبل الحزب البروليتاري، أي الحزب الشيوعي. الحزب الشيوعي، كطليعة منظمة للطبقة العاملة، يعكس أيضا الحاجات الاقتصادية، والسياسية والروحية للطبقة العاملة بمجملها، ويجب أن يكون روح النقابات والسوفياتات وكذلك روح كل الأشكال الأخرى للتنظيم البروليتاري. إن ظهور السوفياتات، الشكل التاريخي الرئيسي لديكتاتورية البروليتاريا، لا يضعف إطلاقا الدور القيادي للحزب الشيوعي في الثورة البروليتارية. عندما يعلن الشيوعيون الألمان « اليساريون » (أنظر بيانهم إلى البروليتاريا الألمانية في 14 أبريل 1920 الموقع من « حزب العمال الشيوعي الألماني ») أن « على الحزب الشيوعي، هو أيضا، أن يتكيَّف أكثر فأكثر مع الفكرة السوفياتية وأن يتبلتر (Kommunistische Arbeiterzeitung N. 54)، فنحن لا نجد هنا إلاّ تعبيرا من طرف خفي عن الفكرة القائلة بوجود ذوبان الحزب الشيوعي في السوفياتات، وبإمكانية هذه الأخيرة أن تحل محله. هذه الفكرة خاطئة ومغرقة في الرجعية. لقد أظهر لنا تاريخ الثورة الروسية، في وقت ما، أن السوفياتات قد خالفت الحزب البروليتاري ودعمت عملاء البرجوازية، وقد لاحظنا الشيء نفسه في ألمانيا، وهو ممكن أيضا في البلدان الأخرى. من أجل أن تتمكن السوفياتات من تأدية رسالتها التاريخية، فإن وجود حزب شيوعي من القوة بحيث لا « يتكيف » مع السوفياتات، بل يمارس عليها تأثيرا حاسما ويجبرها على « عدم التكيف » مع البرجوازية والاشتراكية-الديموقراطية الرسمية، ويقودها بواسطة هذا الجناح الشيوعي، إنما هو، على العكس، أمر ضروري. 9- إن الحزب الشيوعي ليس ضروريا بالنسبة للطبقة العاملة قبل الاستيلاء على السلطة وأثناء ذلك وحسب، بل أيضا بعد ذلك. ويظهر تاريخ الحزب الشيوعي الروسي، الذي يمسك بالسلطة منذ ثلاثة أعوام، أن دور الحزب الشيوعي، بعيدا عن أن يكون تضاءل منذ استلام السلطة، قد ازداد بشكل ملحوظ. 10- يوم تستولي البروليتاريا على السلطة لا يشكل الحزب الشيوعي، مع ذلك، إلاّ أحد أجنحة طبقة الشغيلة، ولكنه الجناح الذي نظم الانتصار. خلال عشرين عاما، كما رأينا في روسيا، ومنذ سنوات متلاحقة كما رأينا في ألمانيا، يناضل الحزب الشيوعي ليس فقط ضد البرجوازية، ولكن أيضا ضد كل أولئك الاشتراكيين، الذين لا يقومون في الواقع إلاّ بالتعبير عن تأثير الأفكار البرجوازية على البروليتاريا. لقد استوعب الحزب الشيوعي المناضلين الأكثر صلابة ووضوح رؤية وتقدما من الطبقة العاملة. إن وجود تنظيمات بروليتارية مماثلة يسمح بتخطي كل الصعاب التي يصطدم بها الحزب الشيوعي غذاة الانتصار. إن تنظيم جيش أحمر بروليتاري جديد، والقضاء على الآلية الحكومية البرجوازية بشكل حقيقي وخلق الملامح الأولى للجهاز الحكومي البروليتاري، والنضال ضد الاتجاهات الحرفية لدى بعض التجمعات العمالية، والوطنية الاقليمية والعقلية الضيقة، والجهود الرامية لإيجاد انضباط جديد في العمل – كلها ميادين حيث على الحزب الشيوعي، الذي يجتذب أعضاؤه بمثالهم الحي الجماهير العمالية، أن يقول كلمة الفصل. 11- لا تنتفي ضرورة حزب سياسي للبروليتاريا إلاّ باختفاء الطبقات الاجتماعية. ففي مسيرة الشيوعية نحو النصر النهائي، من الممكن أن تتغير العلاقة المميزة القائمة بين الأشكال الأساسية الثلاثة للتنظيم البروليتاري المعاصر (أحزاب، سوفياتات، نقابات، مصانع) وأن يتبلور شيئا فشيئا نموذج وحيد توليفي من التنظيم العمالي، غير أن الحزب الشيوعي لن يذوب كليا داخل الطبقة العاملة إلاّ عندما تتوقف الشيوعية عن أن تكون رهان الصراع الاجتماعي، وعندما تصبح الطبقة العاملة بمجملها شيوعية. 12- ليس على المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية أن يدعم الحزب في رسالته التاريخية وحسب بل أن يحدد للبروليتاريا العالمية، على الأقل، الخطوط العريضة للحزب الذي نحتاجه. 13- ترى الأممية الشيوعية أن على الحزب الشيوعي، خاصة في مرحلة دكتاتورية البروليتاريا، أن يكون قائما على مركزية بروليتارية راسخة. ومن أجل قيادة الطبقة العاملة، بشكل فعال، خلال الحرب الأهلية الطويلة والمتواصلة، التي أصبحت وشيكة، على الحزب الشيوعي أن يقيم داخله نظام طاعة حديديا، نظام طاعة عسكريا. لقد أظهرت تجربة الحزب الشيوعي الروسي خلال ثلاث سنوات قاد أثناءها الطبقة العاملة بنجاح، عبر تقلبات الحرب الأهلية، أن انتصار الشغيلة سيكون مستحيلا دون أكثر الانضباط قوة، ودون مركزية كاملة ودون ثقة المنتسبين المطلقة بالمركز القيادي للحزب. 14- يجب أن يقوم الحزب الشيوعي على المركزية الديموقراطية. فتشكيل اللجان الفرعية عن طريق الانتخاب، وخضوع جميع اللجان الإلزامي للجنة التي تعلوها، ووجود مركز يتمتع بالصلاحيات المطلقة، ويملك سلطة لا جدال فيها خلال الفترة الفاصلة بين مؤتمرين، هذه هي المبادئ الرئيسية للمركزية الديموقراطية. 15- لقد وُضعت سلسلة من الأحزاب الشيوعية في أوربا وأمريكا خارج الشرعية بفعل الأحكام العرفية. ومن المناسب أن نتذكر أن المبدأ الانتخابي يمكن أن يتعرض في هذه الظروف لبعض الخروقات، من الممكن أن يكون ضروريا منح الهيئات القيادية في الحزب حق تعيين أعضاء جدد، وهذا ما حدث سابقا في روسيا. فالحزب الشيوعي لا يستطيع بالطبع أن يلجأ إلى الاستفتاء الديموقراطي كلما انطرحت مسألة خطيرة (كما أرادت مجموعة من الشيوعيين الأمريكيين)؛ عليه، على العكس، أن يمنح مركزه القيادي إمكانية وحق التقرير السريع في اللحظة المناسبة، عن كل أعضاء الحزب. 16- إن مطلب « الاستقلالية » الواسعة للمجموعات المحلية للحزب لا يمكن في هذه المرحلة إلاّ أن تضعف صفوف الحزب الشيوعي، ويقلل من قدرته على النشاط، ويشجع نمو الاتجاهات الفوضوية والبرجوازية الصغيرة المناقضة للمركزية. 17- في البلدان حيث ما زالت السلطة بيد البرجوازية أو الاشتراكية-الديموقراطية المعادية للثورة، على الأحزاب الشيوعية أن تتعلم الجمع بين العمل الشرعي والعمل السري بشكل منظم، بحيث يشرف الثاني دائما بشكل فعلي على الأول. ويجب أن تكون المجموعات البرلمانية الشيوعية كما التكتلات الشيوعية العاملة في مختلف مؤسسات الدولة خاضعة كليا للحزب الشيوعي – أكان وضع الحزب، شرعيا أو غير شرعي. إن المنتدبين الذين لا يخضعون للحزب بشكل أو بآخر يجب أن يُطردوا منه. إن الصحافة الشرعية (الصحف، والمنشورات المختلفة) يجب أن تخضع لمجمل الحزب ولجنته المركزية خضوعا تاما. 18- إن حجر الزاوية في كل نشاط تنظيمي للحزب أو للشيوعيين يجب أن يوضع عبر تنظيم نواة شيوعية في كل مكان يوجد فيه بعض البروليتاريين وأشباه البروليتاريين. يجب على الفور تنظيم نواة شيوعية في كل مؤسسة يوجد فيها ثلاثة أشخاص يناصرون الشيوعية. إن التنظيم الشيوعي هو الوحيد الذي يسمح لطليعة الطبقة العاملة بأن تجتذب إليها كل الطبقة العاملة. ويجب أن تخضع كل الأنوية الشيوعية الناشطة بين التنظيمات السياسية المحايدة، بشكل مطلق للحزب، سواء كان شرعيا أو سريا. ويجب أن تُنظَّم الأنوية الشيوعية ضمن تبعية متبادلة صارمة، ينبغي تحديدها بأكبر قدر من الدقة. 19- يولد الحزب الشيوعي، على الدوام تقريبا في المراكز الكبيرة، بين شغيلة الصناعة المدينية. ومن أجل ضمان الانتصار الأكثر سهولة والاسرع للطبقة العاملة لا ينبغي أن يكون الحزب الشيوعي حزبا مدينيا وحسب، بل يجب أن يمتد أيضا إلى الأرياف، وأن يتفرغ، من أجل هذه الغاية، للدعاوة بين المياومين الزراعيين الفقراء والمتوسطين ولتنظيمهم، كما على الحزب الشيوعي أن يتابع تنظيم الأنوية الشيوعية في القرى بعناية خاصة. لا يمكن التنظيم الأممي للبروليتاريا أن يكون قويا إلاّ إذا اعتُمد هذا الشكل من تصور دور الحزب في كل البلدان حيث يعيش الشيوعيون ويناضلون. إن الأممية الشيوعية تدعو كل النقابات التي تقبل بمبادئ الأممية الثالثة للقطع مع الأممية الصفراء. وستنظم الأممية فرعا أمميا للنقابات الحمراء يقف على أرضية الشيوعية. ولن ترفض الأممية الشيوعية مؤازرة أي تنظيم عمالي محايد سياسيا يرغب بمحاربة البرجوازية، غير أن الأممية الشيوعية لن تتوقف، مع ذلك، عن أن تثبت لبروليتاريي العالم أجمع: أ- أن الحزب الشيوعي هو السلاح الأساسي والضروري من أجل تحرر البروليتاريا، ويجب أن نمتلك الآن في كل بلد حزبا شيوعيا وليس تجمعات واتجاهات. ب- ينبغي ألا يكون في كل بلد أكثر من حزب شيوعي واحد ووحيد. ج- أن يكون الحزب الشيوعي قائما على مبدأ المركزية الأكثر صرامة وأن يرسي داخله، في مرحلة الحرب الأهلية، انضباطا عسكريا. د- يجب أن يمتلك الحزب الشيوعي نواته المنظمة في كل مكان يوجد فيه بروليتاريون أو أشباه بروليتاريين وإن لم يتعدوا العشرة. هـ- في كل منطقة غير مسيسة يجب أن توجد نواة شيوعية خاضعة تماما للحزب بكامله. و- يجب أن يبقى الحزب على الدوام، فيما يدافع دفاعا مستميتا وبتفان مطلق عن البرنامج والتكتيك الثوريين للشيوعية، على علاقات وثيقة مع تنظيمات أوسع الجماهير العمالية، وأن يتفادى العصبوية بقدر تفادي انعدام المبادئ.
الحركة النقابية، لجان المعامل والمصانع
موضوعات وإضافات حول المسألة القومية ومسألة المستعمرات
أولا - موضوعات 1- إن الطرح المجرد والشكلي لمسألة المساواة – ومن ضمنها المساواة بين القوميات – هو طرح خاص بالديموقراطية البرجوازية، تحت شكل المساواة بين الأفراد بشكل عام؛ فالديموقراطية البرجوازية تطالب بالمساواة الشكلية أو الحقوقية للبروليتاري، المساواة بين المستغِل والمستغَل، مضللة بذلك الطبقات المضطهدة أكبر تضليل. إن فكرة المساواة التي ليست سوى انعكاس للعلاقات الناتجة عن الانتاج من أجل التبادل، تصبح سلاحا بيد البرجوازية ضد إزالة الطبقات، هذه الإزالة التي يجري قتالها باسم المساواة المطلقة بين الشخصيات الإنسانية. أمّا في ما خص المعنى الحقوقي لمطلب المساواة، فهو لا يكمن إلاّ في إرادة إزالة الطبقات. 2- ينبغي على الحزب الشيوعي، انسجاما مع هدفه الأساسي – النضال ضد الديموقراطية البرجوازية، التي يجب فضح ريائها – وكونه المعبّر الواعي عن البروليتاريا في نضالها ضد نير البرجوازية، أن يعتبر أن ما يشكل حجر الزاوية في المسألة القومية، ليس المبادئ المجردة والشكلية بل الأمور التالية: أ- مفهوم واضح للظروف التاريخية والاقتصادية. ب- الفصل الدقيق لمصالح الطبقات المضطَهَدة، والشغيلة، والمستغَلين عن المفهوم العام لما يسمى بالمصالح القومية، التي تعني بالواقع مصالح الطبقات المسيطرة. ج- الفصل بالوضوح والدقة نفسيهما بين الأمم المضطَهدة والتابعة والمحمية، والأمم المضطهِدة والمستغِلة التي تتمتع بكل الحقوق. وذلك على عكس الخداع البرجوازي والديموقراطي، الذي يخفي بعناية استعباد الأغلبية العظمى من سكان الكرة الأرضية الخاص بحقبة رأس المال المالي من الامبريالية على يد أقلية من أغنياء البلدان الرأسمالية، عن طريق القدرة المالية والاستعمارية. 3- لقد كشفت الحرب الامبريالية (1914-1918) أمام أمم العالم كافة وطبقاته المضطَهدة تضليل العبارات الديموقراطية والبرجوازية الرنانة – فمعاهدة فرساي التي أملتها الديموقراطيات الغربية ذائعة الصيت، لم تقم سوى بإقرار أعمال تعسف أكثر حقارة ووقاحة من أعمال اليونكرز والقيصر (الألماني) في بريست-ليتوفسك. ولا تقوم عصبة الأمم وسياسة الحلفاء، بمجملها، إلاّ بتأكيد هذا الواقع وتطوير العمل الثوري للبروليتاريا في البلدان المتقدمة وللجماهير العمالية في البلدان المستعمَرة أو الخاضعة، مسرّعتين بذلك إفلاس الأوهام القومية للبرجوازية الصغيرة بصدد إمكانية تجاوز هادئ ومساومة حقيقية بين الأمم في ظل النظام الرأسمالي. 4- ينتج عما سبق أن حجر الزاوية في سياسة الأممية الشيوعية بشأن المسألة القومية ومسألة المستعمرات يجب أن يقوم على التقارب بين بروليتاريي وشغيلة كل القوميات والبلدان من أجل النضال المشترك ضد المالكين والبرجوازية، لأن هذا التقارب هو الضمانة الوحيدة لانتصارنا على الرأسمالية، وبدونه لا يمكن إزالة كل اضطهاد قومي ولا عدم المساواة. 5- إن الوضع السياسي العالمي الحالي يضع ديكتاتورية البروليتاريا على جدول الأعمال. وتتركز كل أحداث السياسة العالمية، بشكل حتمي، حول مركز ثقل واحد: صراع البرجوازية العالمية ضد جمهورية السوفياتات، التي يجب أن تجمع حولها، من جهة، الحركات السوفياتية للشغيلة المتقدمين في شتى البلدان، وحركات التحررالقومية للمستعمرات والقوميات المضطهدة من جهة ثانية،والتي تيقنت بفعل تجربة مرة أن لا خلاص لها خارج التحالف مع البروليتاريا الثورية، والسلطة السوفياتية المنتصرة على الإمبريالية العالمية. 6- لم يعد بإمكاننا، إذن، أن نقف عند حدود الاعتراف بتقارب الشغيلة في البلدان كافة، أو الدعوة إلى ذلك. لقد أصبح من الضروري، من الآن وصاعدا، تحقيق الوحدة الأشد وثوقا بين مختلف الحركات التحررية الوطنية والحركات التحررية في المستعمرات وبين روسيا السوفياتية، بإعطاء هذه الوحدة أشكالها الملائمة لدرجة تطور الحركة البروليتارية وسط بروليتاريا كل بلد، وتطور حركة التحرر الديموقراطية البرجوازية بين العمال والفلاحين في البلدان المتخلفة أو ضمن القوميات المتخلفة. 7- يبدو لنا أن المبدأ الفيدرالي هو الشكل الانتقالي نحو الوحدة الكاملة لشغيلة كل البلدان. لقد كان هذا المبدأ قد أظهر بشكل عملي انسجامه مع الهدف المقتفى، سواء أثناء العلاقات بين الجمهورية الاشتراكية الاتحادية للسوفياتات الروسية والجمهوريات السوفياتية الأخرى (في هنغاريا – وفنلندا وليتوانيا في السابق، وفي أذريبجان وأوكرانيا حاليا) أو داخل الجمهورية الروسية نفسها، تجاه القوميات التي لم تكن تملك دولة ولا وجودا مستقلا في السابق (مثال: جمهورية البشكير والتتار المستقلتان، اللتان أنشئتا في روسيا السوفياتية عام 1919 و1920). 8- تقوم مهمة الأممية الشيوعية على دراسة تجربة هذه الفيدرالية المستندة إلى الشكل السوفياتي والحركة السوفياتية (وتطورها اللاحق)، وعلى التحقيق منها. وإذ نأخذ في الاعتبار أن الفيدرالية هي الشكل الانتقالي نحو الوحدة الكاملة، ومن الضروري بالنسبة لنا أن نتجه إلى اتحاد فيدرالي أكثر فأكثر وثوقا، آخذين بالحسبان المسائل التالية: أ- استحالة الدفاع عن الجمهوريات السوفياتية المحاطة بأعداء إمبرياليين متفوقين عليها بقوتهم العسكرية أشد تفوق، دون الاتحاد الأشد وثوقا فيما بينها. ب- ضرورة الاتحاد الاقتصادي الوثيق بين الجمهوريات السوفياتية، الذي لا يمكن بدونه أن يتحقق ضمان بناء القوى المنتجة التي دمرتها الإمبريالية، ولا أمن رخاء الشغيلة. ج- الاتجاه نحو تحقيق خطة اقتصادية عالمية يشرف على تطبيقها المنتظم بروليتاريو شتى البلدان، وقد ظهر هذا الاتجاه بوضوح في ظل النظام الرأسمالي، ويجب بالتأكيد أن يستمر بالتطور ويصل إلى الكمال عن طريق النظام الاشتراكي. 9- أمّا في مجال العلاقات الاجتماعية داخل الدولة المتشكلة، فلا يمكن أن تكتفي الأممية الشيوعية بالاعتراف الشكلي، الرسمي المحض ودون نتائج عملية، بالمساواة بين الأمم التي يكتفي بها الديموقراطيون البرجوازيون الذين يحملون لقب اشتراكيين. ولا يكفي الإصرار في دعاوة الاحزاب الشيوعية وتحريضها – من على المنبر البرلماني كما من خارجه – على رفض الخروقات المستمرة لمبدأ المساواة بين القوميات ولحقوق الأقليات القومية في البلدان الرأسمالية كافة (على الرغم من « دساتيرها الديموقراطية ») بل يجب أن تُظهر أيضا، دون توقف، أن حكومة السوفياتات وحدها تستطيع تحقيق المساواة بين القوميات بتوحيدها للبروليتاريين في البداية، ومجموع الشغيلة في ما بعد في النضال ضد البرجوازية، ويجب أن تبين أيضا أن نظام السوفياتات يؤمن مساندة مباشرة، عن طريق الحزب الشيوعي، لكل الحركات الثورية في البلدان التابعة أو المهضومة حقوقها (مثال ايرلندا والسود الأمريكيين، الخ..) وفي المستعمرات. ودون هذا الشرط ذي الأهمية الخاصة للنضال ضد اضطهاد البلدان المستعبَدَة أو المستعمرَة، فإن الاعتراف الرسمي بحقها في الاستقلال ليس بالنسبة لنا سوى إعلان كاذب، كما نرى من جانب الأممية الثانية. 10- تلك هي الممارسات المألوفة، ليس فقط لأحزاب الوسط في الأممية الثانية بل أيضا لأولئك الذين تركوا هذه الأممية ليعترفوا بالروح الأممية قولا، وليستبدلوها، فعلا، في الدعاوة والتحريض والممارسة، بالنزعتين القومية والسلمية للبرجوازيين الصغار. وهذا ما يظهر أيضا بين الأحزاب التي تسمى بالشيوعية الآن. إن النضال ضد هذا المرض وضد الأفكار المسبقة للبرجوازية الصغيرة الأعمق رسوخا (التي تظهر بأشكال مختلفة، مثل الحقد العنصري، والعداء القومي والعداء للسامية) يكتسب أهمية أكبر كلما أصبحت أكثر راهنية مشكلةُ التحول من ديكتاتورية البروليتاريا الوطنية (التي لا توجد إلاّ في بلد واحد والتي تكون عاجزة، بالتالي، عن ممارسةأي تأثير على السياسة العالمية) إلى ديكتاتورية البروليتارياالعالمية (التي تحققها، على الأقل، عدة بلدان متقدمة والتي تكون قادرة على ممارسة تأثير حاسم على السياسة العالمية). إن القومية البرجوازية-الصغيرة، تختزل النزعة الأممية إلى الإعتراف بمبدأ المساواة بين الأمم (دون الالحاح زيادة على الطابع اللفظي المحض لهذا الاعتراف)، ولا تمس الأنانية القومية، بينما تفترض الأممية البروليتارية التالي: أ- إخضاع مصالح النضال البروليتاري في أحد البلدان لمصلحة هذا النضال في العالم أجمع. ب- ارتضاء الأمم التي انتصرت على البرجوازية أعظم التضحيات القومية من أجل إطاحة الرأسمال العالمي؛ فالنضال ضد التشويهات الإنتهازية والسلمية للأممية، هو إذن من أهم الواجبات المباشرة، في البلدان التي بلغت فيها الرأسمالية تطورها الكامل وحيث توجد الأحزاب العمالية التي تشكل طليعة البروليتاريا. 11- أمّا في ما خصّ الدول والبلدان الأكثر تخلفا حيث تهيمن مؤسسات إقطاعية أو بطريركية-قروية، من المناسب أخذ الأمور التالية بالاعتبار: أ- ضرورة أن تقدم كل الأحزاب الشيوعية العون للحركات الثورية التحررية في هذه البلدان، هذا العون يجب أن يكون دعما نشطا وأن يحدد شكله الحزب الشيوعي في البلد المعني، إذا ما وجد حزب شيوعي فيه. إن واجب الدعم النشط لهذه الحركة يقع بالدرجة الأولى بشكل طبيعي على عاتق الشغيلة في الحاضرة الاستعمارية، أو في البلد الذي يكون الشعب المعني تابعا له تبعية مالية. ب- ضرورة محاربة التأثير الرجعي والقروسطوي لرجال الدين، والإرساليات المسيحية والعناصر الأخرى. ج- ومن الضروري أيضا محاربة الجامعتين الإسلامية والآسيوية وشتى الحركات المشابهة، التي تعمل على استخدام النضال التحرري ضد الإمبريالية الأوربية والأمريكية من أجل تعزيز قوة الإمبرياليتين التركية واليابانية، وقوة النبلاء وكبار الملاكين العقاريين، ورجال الدين، الخ… د- من الأهمية بمكان مساندة الحركة الفلاحية في البلدان المتخلفة ضد الملاكين العقاريين، وضد بقايا الروح الإقطاعية اوتجلياتها،وينبغي العمل على إعطاء الحركة الفلاحية طابعا ثوريا وتنظيم الفلاحين و المضطهدين كافة في سوفياتات حيثما يكون ذلك ممكنا، وكذلك خلق ارتباط وثيق جدا بين البروليتاريا الشيوعية الأوربية والحركة الثورية الفلاحية في الشرق والمستعمرات والبلدان المتخلفة بشكل عام. هـ- من الضروري أن تُحارب بعنف محاولات الحركات التحررية، التي ليست شيوعية في الواقع، ولا ثورية، لرفع راية الشيوعية؛ وعلى الأممية الشيوعية ألاّ تدعم الحركات الثورية في المستعمرات والبلدان المتخلفة إلاّ بشرط أن تكون عناصر أنقى الأحزاب الشيوعية – والشيوعية بالفعل – مجمَّعة ومُعْلَمَةً بمهامها الرئيسية، المتمثلة بمحاربة الحركةالبرجوازية والديموقراطية. على الأممية الشيوعية أن تدخل في علاقات ظرفية مع الحركات الثورية في المستعمرات والبلدان المتخلفة وأن تشكل اتحادات معها أيضا دون أن تندمج بالرغم من ذلك مع هذه الحركات، وأن تحافظ دائما على طابعها المستقل كحركة بروليتارية ولئن بشكلها الجنيني. و- من الضروري أن تُفضح دون هوادة الخديعة التي تنظمها الدول الامبريالية –بمساعدة الطبقات صاحبة الامتياز – في البلدان المضطَهدة التي تتظاهر بالدعوة لوجود دول مستقلة سياسيا ليست في الواقع سوى دول تابعة من الناحية الاقتصادية والمالية والعسكرية، ينبغي أن تفضح أمام الجماهير الكادحة في شتى البلدان وخاصة في البلدان والأمم المتخلفة. وكمثال صارخ على الخدع التي تمارسها الدول الإمبريالية المتحالفة والبرجوازية في هذا البلد أو ذاك عبر جهودها المشتركة ضد طبقة الشغيلة في البلدان التابعة، يمكننا أن نذكر قضية الصهاينة في فلسطين، إذ قامت الصهيونية بإخضاع السكان الساخطين من الشغيلة العرب للاستغلال الانكليزي وذلك تحت حجة إنشاء دولة يهودية في هذا البلد حيث عدد اليهود لا يذكر. ففي الوضع العالمي الراهن، لا خلاص للشعوب الضعيفة والمستعبدة خارج اتحاد الجمهوريات السوفياتية. 12- إن اضطهاد الدول الامبريالية للأمم الصغيرة وللمستعمرات منذ عدة قرون، قد خلق لدى الجماهير الكادحة في البلدان المضطهَدة ، ليس فقط شعورا بالحقد تجاه الأمم المضطهِدة بشكل عام بل كذلك شعورا بالريبة تجاه البروليتاريا في البلدان المضطهِدة. إن الخيانة الشائنة للقادة الرسميين للأغلبية الاشتراكية بين عامي 1914-1919، فيما كانت الاشتراكية الشوفينية تطلق اسم « الدفاع الوطني » على الدفاع عن « حقوق برجوازيتها » في استعباد المستعمرات وفرض الخوة على الدول التابعة ماليا، لم تكن إلاّ لتزيد من هذا للإرتياب المشروع تماما. إن هذه الأفكار المسبقة لا يمكن أن تزول إلاّ بعد زوال الرأسمالية والامبريالية في البلدان المتقدمة وبعد التحول الجذري للحياة الاقتصادية في البلدان المتخلفة. وسيكون استئصالها بطيئا، لذلك من واجب البروليتاريا الواعية في شتى البلدان أن تكون حذرة بشكل خاص تجاه رواسب الشعور القومي في البلدان المضطهَدة منذ فترة طويلة وأن تنظر أيضا في بعض التنازلات المفيدة بقصد تعجيل اختفاء تلك الأفكار المسبقة وتلك الريبة. فالانتصار على الرأسمالية مرهون بإرادة التفاهم لدى البروليتاريا أولاً، ومن ثم لدى الجماهير الكادحة في جميع بلدان العالم وجميع الأمم.
ثانيا: موضوعات إضافية 1- إن التعيين الصحيح لعلاقات الأممية الشيوعية بالحركة الثورية في البلدان التي تسيطر عليها الامبريالية الرأسمالية، خاصة في الصين، هو إحدى أهم المسائل المطروحة على المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية، فالثورة العالمية تدخل مرحلة من الضروري فيها أن تكون هناك معرفة صحيحة بهذه العلاقات. لقد أظهرت الحرب الأوربية ونتائجها بوضوح أن الجماهير في البلدان الخاضعة خارج أوربا مرتبطة بشكل مطلق بالحركة البروليتارية الأوربية، وأن هذه هي إحدى النتائج التي لا مفر منها للرأسمالية العالمية الممركزة. 2- تشكل المستعمرات أحد أهم مصادر قوة الرأسمالية الأوروبية. فلولا امتلاك الأسواق الكبيرة ومناطق الاستثمار الكبرى في المستعمرات، لما استطاعت الدول الرأسمالية الأوربية الصمود طويلا. فإنكلترا، قلعة الإمبريالية، تعاني من فيض في الإنتاج منذ أكثر من قرن. ولم تنجح إنكلترا في الحفاظ على نظامها الرأسمالي، بالرغم من أعبائه، لولا سيطرتها على أراض مستعمرة وأسواق إضافية لبيع منتجات فيض الإنتاج المتزايدة. فباستعباد مئات الملايين من السكان في آسيا وأفريقيا استطاعت الإمبريالية الإنكليزية إبقاء البروليتاريا البريطانية حتى الوقت الحاضر تحت السيطرة البرجوازية. 3- إن فائض القيمة الناتج عن استغلال المستعمرات هو إحدى ركائز الرأسمالية الحديثة. وطالما أنه لم يتم إلغاء مصدر الأرباح هذا، فسيكون من الصعب على الطبقة العاملة أن تهزم الرأسمالية. وبفضل إمكانية استغلال اليد العاملة والمصادر الطبيعية للمواد الأولية في المستعمرات أشد الاستغلال، سعت الأمم الرأسمالية الأوربية، ليس دون نجاح، إلى تفادي إفلاسها الوشيك عن طريق تلك الوسائل. وقد نجحت الامبريالية الأوربية في بلدانها بأن تقوم بتنازلات متزايدة باستمرار للأرستوقراطية العمالية. وبينما تسعى، من جهة، للحفاظ على مستوى منخفض جدا للظروف المعيشية للعمال في البلدان المستعبدة، فإنها لا تتوانى عن القيام بأي تضحية، وترضى بالتضحية بفائض القيمة في بلدانها، فيبقى لها فائض القيمة في المستعمرات. 4- إن إزالة القوة الاستعمارية في أوربا بواسطة الثورة البروليتارية ستطيح الرأسمالية الأوربية، ويجب أن تسهم الثورة البروليتارية والثورة في المستعمرات، إلى حد ما، في النهاية الظافرة للنضال. لذلك يجب أن توسع الأممية الشيوعية من دائرة نشاطها، وأن تعقد علاقات مع القوى الثورية العاملة من أجل تدمير الامبريالية في البلدان التابعة اقتصاديا وسياسيا. 5- تركز الأممية الشيوعية إرادة البروليتاريا العالمية. وتقوم مهمتها على تنظيم الطبقة العاملة في العالم أجمع من أجل إطاحة النظام الرأسمالي وإقامة الشيوعية. إن الأممية الشيوعية هي أداة النضال، التي تقع عليها مهمة تجميع كل القوى الثورية في العالم. لم تعر الأممية الثانية، التي تقودها مجموعة من السياسيين والمشبعة بالمفاهيم البرجوازية، أدنى اهتمام لمسألة المستعمرات. فلم يكن العالم يوجد بالنسبة لها إلاّ في حدود أوربا، ولم تر ضرورة الحركة الثورية في القارات الأخرى. وبدل أن يقوم أعضاء الأممية الثانية بتقديم الدعم المادي والمعنوي للحركة الثورية في المستعمرات، أصبحوا هم أنفسهم إمبرياليين. 6- إن الامبريالية الأجنبية، التي ترزح بثقلها على الشعوب الشرقية، منعت هذه الأخيرة من أن تتطور اجتماعيا واقتصاديا بالتزامن مع الطبقات في أوربا وأمريكا. وبفعل السياسة الإمبريالية التي أعاقت التطور الصناعي في المستعمرات، لم تستطع أن تبرز في هذه الأخيرة طبقة بروليتارية بالمعنى الحقيقي للكلمة، في حين أنه تم مؤخرا تدمير الحرف المحلية عبر منافسة منتجات الصناعات الممركزة في البلدان الإمبريالية. وكانت النتيجة أن الأغلبية العظمى من الشعب وجدت نفسها مبعدة إلى الريف ومجبرة على الانصراف هناك إلى العمل الزراعي وإنتاج المواد الأولية المعدة للتصدير. وكانت النتيجة تركزا سريعا للملكية الزراعية سواء بأيدي كبار الملاكين العقاريين أو الرأسمال المالي أو الدولة. وهكذا نشأت كتلة ضخمة من الفلاحين الذين لا يملكون أرضا، فيما بقيت الكتلة الكبرى من السكان غارقة في الجهل. كانت نتيجة هذه السياسة أن الروح الثورية التي ظهرت في بعض تلك البلدان لم تجد تعبيرا عنها إلاّ داخل الطبقة المتوسطة المثقفة. إن السيطرة الأجنبية تعيق التطور الحر للقوىالاقتصادية. لذا فإن تدميرها هو الخطوة الأولى للثورة في المستعمرات، ولذا فإن الدعم المقدم لتدمير السيطرة الأجنبية في المستعمرات ليس في الواقع دعما مقدما للحركة القومية للبرجوازية المحلية، بل لفتح الطريق أمام البروليتاريا المضطهَدة نفسها. 7- هناك حركتان في البلدان المضطهَدة، تتباعدان يوما بعد يوم، بشكل متزايد: الأولى هي الحركة البرجوازية الديموقراطية القومية التي تحمل برنامج استقلال سياسي ونظام برجوازي؛ والأخرى هي حركة الفلاحين والعمال الأميين والفقراء من أجل تحررهم من شتى أنواع الاستغلال. تحاول الأولى أن تقود الثانية وقد نجحت غالبا في ذلك إلى حدما. ولكن على الأممية الشيوعية والأحزاب المنتسبة لها أن تحارب هذا الاتجاه وتسعى لتطوير الشعور الطبقي المستقل بين الجماهير العمالية في المستعمرات. إن إحدى كبرى المهام لتحقيق هذا الهدف هي تشكيل أحزاب شيوعية تنظم العمال والفلاحين وتقودهم إلى الثورة وإلى بناء الجمهورية السوفياتية. 8- لا تقتصر قوى حركة التحرر في المستعمرات على الحلقة الضيقة للقومية البرجوازية الديموقراطية. ففي أغلب المستعمرات، وُجدت حركة اشتراكية-ثورية أو أحزاب شيوعية على ارتباط وثيق بالجماهير العمالية. وينبغي أن تخدم علاقات الأممية الشيوعية بالحركة الثورية في المستعمرات هذه الأحزاب أو المجموعات، لأنها تشكل طليعة الطبقة العاملة. ولئن كانت ضعيفة اليوم، فإنها مع ذلك تمثل إرادة الجماهير، والجماهير الامبريالية بالارتباط مع الأحزاب البروليتارية في المستعمرات وأن تقدم لها الدعم المادي والمعنوي. 9- لا يمكن للثورة في المستعمرات أن تكون، في مرحلتها الأولى، ثورة شيوعية، ولكن إذا كانت القيادة، منذ بداية الثورة، بين أيدي طليعة شيوعية، فلن تُضلَّل الجماهير ولن تنفك تكبر تجربتها الثورية في مختلف المراحل. وبالتأكيد سيكون خطأ فادحا أن يتم اللجوء إلى تطبيق المبادئ الشيوعية فورا على المسألة الزراعية في البلدان الشرقية. ينبغي أن يكون للثورة، في مرحلتها الأولى، برنامجا يتضمن إصلاحات ذات طابع بورجوازي صغير، كتوزيع الأراضي. غير أنه لا يترتب على ذلك بالضرورة أن تترك قيادة الثورة للديموقراطية البرجوازية. بل على العكس ينبغي على الحزب البروليتاري أن يطوِّر دعاوة قوية ومنهجية لصالح السوفياتات، وأن ينظم سوفياتات الفلاحين والعمال. يجب على هذه السوفياتات أن تعمل بتعاون وثيق مع الجمهوريات السوفياتية في البلدان الرأسمالية المتقدمة من أجل الوصول إلى الانتصار النهائي على الرأسمالية في العالم أجمع. وهكذا، فبقيادة البروليتاريا الواعية في البلدان الرأسمالية المتطورة، ستصل الجماهير في البلدان المتخلفة إلى الشيوعية دون المرور بمختلف مراحل التطور الرأسمالي.
1- إن البروليتاريا الصناعية في المدن، بقيادة الحزب الشيوعي، هي وحدها القادرة على تحرير الجماهير الكادحة في الأرياف من نير الرأسماليين والملاكين العقاريين ومن الفوضى الاقتصادية والحروب الامبريالية، التي ستتجدد حتما إذا ما استمر النظام الرأسمالي. ولا يمكن أن تتحرر الجماهير الكادحة في الأرياف، إلاّ شرط أن تناصر البروليتاريا الشيوعية وأن تدعمها دون تحفظ في نضالها الثوري من أجل إطاحة نظام الاضطهاد، نظام كبار الملاكين العقاريين والبرجوازية. من جهة أخرى، لا تستطيع البروليتاريا الصناعية أن تنجز رسالتها التاريخية العالمية، وهي تحرر الإنسانية من نير الرأسمالية والحروب، إذا ما انغلقت ضمن حدود مصالحها الخاصة والنقابية، وإذا ما ركنت إلى المساعي والجهود الرامية إلى تحسين وضعها البرجوازي المرضي جدا في بعض الأحيان. هكذا تسير الأمور في عدد من البلدان المتقدمة حيث توجد « أريستوقراطية عمالية »، سند أحزاب الأممية الثانية، المسماة اشتراكية، بيد أنها في الواقع العدو اللدود للاشتراكية، الخائنة لمبدئها، وهي برجوازية شوفينية وعميلة للرأسماليين في أوساط الشغيلة. ولا تستطيع البروليتاريا أبدا أن تكون قوة ثورية نشطة، وطبقة تعمل لمصلحة الاشتراكية، إذا لم تتصرف كطليعة للشعب الكادح الذي يتعرض للاستغلال، وإذا لم تسلك سلوك قائد الجيش الذي يقع على عاتقه مهمة قيادة الهجوم للإطباق على المستغِلين، ولكن هذا الهجوم لن ينجح إذا لم تشارك الأرياف في الصراع الطبقي، وإذا لم ينضم جمهور الفلاحين الكادحين إلى الحزب الشيوعي البروليتاري في المدن وإذا لم يقم هذا الأخير بتكوين هذا الجمهور. 2- إن جمهور الفلاحين الكادحين المستغَل والذي يجب على بروليتاريا المدن أن تقوده إلى المعركة أو على الأقل أن تكسبه إلى قضيتها، ممثل في جميع البلدان الرأسمالية بـ: أ- البروليتاريا الريفية المؤلفة من المياومين أو خدم المزارع المستأجرين لمدة سنة، أو لأجل، أو يوميا، والذين يكسبون معيشتهم عن طريق العمل المأجور في مختلف المشاريع الرأسمالية للإقتصاد الزراعي والصناعي. وتقوم المهمة الأساسية للأحزاب الشيوعية في جميع البلدان على تنظيم هذه البروليتاريا في فئة متميِّزة ومستقلة عن بقية مجموعات سكان الأرياف (من وجهة النظر السياسية والعسكرية والمهنية والتعاونية الخ..)، والقيام بدعوة واسعة في هذا الوسط، الذي تسعى إلى جلبه في اتجاه السلطة السوفياتية وديكتاتورية البروليتاريا. ب- أنصاف البروليتاريين أو الفلاحين الذين يعملون بصفتهم عمالا مستأجرين في مختلف المشاريع الزراعية أو الصناعية أو الرأسمالية أو الزارعين لقطعة الأرض التي يملكونها أو المستأجرة، والتي لا تعود عليهم إلاّ بالحد الأدنى الضروري لتأمين معيشة عائلاتهم. إن هذه الفئة من الشغيلة الزراعيين كبيرة العدد في البلدان الرأسمالية. ويسعى ممثلو البرجوازية و« الاشتراكيون » الصفر في الأممية الثانية إلى تمويه الشروط المعيشية الحقيقية لهؤلاء الشغيلة وخاصة وضعهم الاقتصادي، تارة بخداع مقصود للعمال وتارة بفعل عماهم الخاص (أي الشغيلة)، المتأتي من الأفكار الروتينية البرجوازية؛ فيخلطون، بطيبة خاطر، هذه المجموعة مع جمهور « الفلاحين » الواسع. وتمارس هذه المناورة، البرجوازية للغاية، بشكل خاص في ألمانيا وفرنسا وأمريكا، وفي بعض البلدان الأخرى، بهدف خداع العمال. وبالتنظيم الجيد لعمل الحزب الشيوعي، يمكن هذه المجموعة أن تصبح سندا أمينا للشيوعية، لأن وضع أنصاف-البروليتاريين هؤلاء غير ثابت، ولأن الانضمام إلى الحزب الشيوعي يعود عليهم بمكاسب ضخمة ومباشرة. وفي بعض البلدان، لا يوجد تمييز واضح بين هاتين الفئتين، فمن الجائز، إذن، تبعا للظروف، منحهما تنظيما مشتركا. ج- صغار الملاكين، وصغار المزارعين الذين يملكون أو يستأجرون قطعا صغيرة من الأراضي، ويستطيعون تلبية حاجات منازلهم وعائلاتهم دون استئجار شغيلة مأجورين، ولدى هذه الفئة من الريفيين الكثير لتكسبه من انتصار البروليتاريا، ويمنح انتصار الطبقة العامل، في الحال، كل ممثل لهذه الفئة المنافع والمكاسب التالية: - عدم دفع بدل الإيجار وإلغاء المزارَعَة (وهذا ما سيحصل في فرنسا، وإيطاليا، الخ…) اللذين ما زال يستوفيهما حتى الوقت الحاضر كبار الملاكين العقاريين. - إزالة الديون الرهنية. - انعتاق من الاضطهاد الاقتصادي الذي يمارسه كبار الملاكين العقاريين، والذي يظهر بأشكال متنوعة (حق استخدام الغابات والأحراج والأراضي البور الخ…) - مساعدة زراعية خاصة ومالية فورية من السلطة البروليتارية، ولا سيما المساعدة بالأدوات الزراعية؛ ومنح المباني الموجودة على أرض الملكيات الرأسمالية الواسعة التي صادرتها البروليتاريا والتحويل الفوري من قبل الحكومة البروليتارية لكل التعاونيات الريفية والشركات الزراعية، التي لم تكن مُجْزية في ظل النظام الرأسمالي، إلاّ لصالح الفلاحين الأغنياء والميسورين، إلى منظمات اقتصادية هدفها أن تساعد، بالدرجة الأولى، السكان الفقراء، أي البروليتاريين وأنصاف – البروليتاريين والفلاحين الفقراء. ينبغي أن يفهم الحزب الشيوعي أيضا أنه خلال مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية، أي خلال ديكتاتورية البروليتاريا، ستُظهر هذه الفئة من السكان الريفيين، ترددا ظاهرا إلى هذا الحد أو ذاك، ونوعا من الميل إلى حرية التجارة والملكية الخاصة، لأن العديد ممن يشكلون هذه الفئة المشتغلين، ولئن بقدر ضئيل، في تجارة السلع ذات الضرورة الأولية، قد أُفسدوا بفعل المضاربة وعادات الملكية لديهم. ولكن مع ذلك، إذا حققت الحكومة البروليتارية بصدد هذه المسألة سياسة صارمة وصلبة، وإذا سحقت البروليتاريا المنتصرة دون رحمة كبار الملاكين العقاريين والفلاحين الميسورين، فإن هذا التردد لن يدوم طويلا ولن يستطيع تغيير هذا الواقع الثابت المتمثل في أن الفئة المعينة تتعاطف بالنهاية مع الثورة البروليتارية. 3- تشكل هذه الفئات الثلاث، مأخوذة بمجملها، أغلبية السكان في البلدان الرأسمالية كافة. لذلك يمكن أن يعتبر أي انقلاب بروليتاري، في المدن كما في الأرياف، أمرا محسوما ولا جدال فيه، لكن الرأي المواجه يتمتع مع ذلك بتأييد كبير في المجتمع الحالي. وهذه هي الأسباب: إنه لا يستطيع الاستمرار إلاّ بفعل الكثير من الأعمال الخادعة المستندة إلى العلم: أ- الإحصاء البرجوازي الذي يسعى بمختلف الوسائل التي يملكها إلى حجب الهوة العميقة التي تفصل هذه الطبقات الريفية عن مستغليها، الملاكين العقاريين والرأسماليين، والتي تفصل أنصاف البروليتاريين والفلاحين الفقراء عن الفلاحين الميسورين. ب- يحافظ هذا الرأي على استمرارية بفعل رعونة أبطال الأممية الثانية الصفراء و« الأريستوقراطية العمالية » المفسدة بالامتيازات الإمبريالية، والتقاعس عن القيام بدعاوة بروليتارية وثورية قوية وبعمل تنظيمي جيد بين الفلاحين الفقراء. كان الانتهازيون ولا يزالون يستخدمون جهودهم كافة، من أجل تخيل مختلف أنواع الاتفاق العملي والنظري مع البرجوازية، ومن ضمنها الفلاحون الأغنياء والميسورون، وهم لا يفكرون إطلاقا بإطاحة الحكومة البرجوازية والبرجوازية نفسها ثوريا. ج- أخيرا، يحافظ الرأي المعني على استمراريته حتى الآن بفعل فكرة مسبقة راسخة، لا تزعزع إذا جاز القول، لأنها تتحد بشكل وثيق مع كل الأفكار المسبقة الأخرى حول البرلمانية والبرجوازية الديموقراطية. وتقوم هذه الفكرة المسبقة على عدم فهم حقيقة أثبتتها الماركسية النظرية كليا، وأثبتتها تجربة الثورة البروليتارية الروسية بشكل كاف، هي أن الفئات الثلاث من السكان الريفيين التي تحدثنا عنها، المبلدة والمشتتة والمضطهدة والمحكوم عليها، حتى في البلدان الأكثر تحضرا، بأن تعيش حياة شبه همجية، لها، بالتالي، مصلحة اقتصادية، واجتماعية وفكرية بانتصار الاشتراكية. لكنها لا تستطيع، مع ذلك، أن تدعم البروليتاريا الثورية دعما حازما إلاّ بعد استلام السلطة السياسية، وبعد أن تحاكم البروليتاريا كبار الملاكين العقاريين والرأسماليين، ملزمة بذلك الجماهير الريفية بأن ترى فيها قائدا ومدافعا منظما، قادرا بما فيه الكفاية على قيادتها وإظهار الطريق الصحيح لها. 4- « الفلاحون المتوسطون »، وهم من وجهة النظر الاقتصادية ملاكون ريفيون صغار يملكون أو يستأجرون لأجل محدد، هم أيضا، قطع أرض قليلة الأهمية بالطبع لكنها تتيح لهم مع ذلك في ظل النظام الرأسمالي، ليس فقط إعالة عائلاتهم وتعهد ملكياتهم الزراعية الصغيرة بحالة جيدة، بل تحقق فائض من الأرباح أيضا، يمكن أن يتحول، على الأقل في غضون سنوات من المحصول الجيد، إلى إدخار هام نسبيا. وغالبا ما يستخدم هؤلاء الفلاحون عمالا (عاملين أو ثلاثة لكل مشروع، مثلا) هم بحاجة إليهم في شتى أنواع الأعمال. يمكننا أن نذكر هنا المثال الملموس لـ« الفلاحين المتوسطين » في بلدرأسمالي متقدم هو ألمانيا. فقد كان يوجد في ألمانيا، تبعا لتعداد 1907، فئة من الملاكين الريفيين، يملك كل واحد منهم خمسة إلى عشرة هكتارات في الملكيات التي يصل عدد العمال المستخدمين فيها إلى حوالي ثلث الرقم الكلي للشغيلة في الحقول تقريبا(*). وفي فرنسا، حيث المزروعات الخاصة أكثر تطورا كالكرمة وحيث تتطلب الأرض جهدا أكبر وعناية أكبر، فمن المحتمل أن تستخدم الملكيات الريفية من هذه الفئة عددا أكبر من الشغيلة المأجورين. لا يمكن للبروليتاريا الثورية، في مستقبلها الأقرب، وعلى امتداد المرحلة الأولى من دكتاتوريتها، أن تضع لنفسها مهمة كسب تلك الفئة الريفية، وعليها أن تكتفي بتحييدها في الصراع الذي يدور بين البروليتاريا والبرجوازية. إن ميل هذه الشريحة من السكان تارة نحو حزب سياسي،وتارة نحو حزب سياسي آخر أمر لا مفر منه، وربما كانت في بداية الحقبة الجديدة، وفي البلدان الرأسمالية للغاية ميالة إلى البرجوازية، وهو ميل طبيعي جدا، بما أن روح الملكية الخاصة تلعب دورا مهيمنا لديها. وستحسُّن البروليتاريا المنتصرة الوضع الاقتصادي لهذه الشريحة من السكان فورا، بإلغائها نظام التأجير والديون الرهنية، وبادخالها استخدام الآلات واستعمال الكهرباء في الزراعة. إلاّ أنه لا يجب أن تلغي السلطة البروليتارية في مختلف البلدان الرأسمالية، على الفور وكليا، الحق بالملكية الخاصة، بل يجب أن تحرر هذه الطبقة من شتى الالتزامات والضرائب التي يخضعها لها الملاكون العقاريون. إن السلطة السوفياتية ستؤمن للفلاحين الفقراء ومتوسطي الحال امتلاك الأراضي، حتى أنها ستسعى لزيادة مساحتها، بتمليك الفلاحين الأراضي التي كانوا يستأجرونها في السابق (إلغاء المزارعة). ستؤمن جميع هذه الإجراءات، يليها نضال دون رحمة ضد البرجوازية، النجاح الكامل لسياسة التحييد. ولا يجب أن تنتقل السلطة البروليتارية إلى الزراعة الجماعية إلاّ بأكبر حذر، تدريجيا، وبواسطة العديد من الأمثلة ودون أدنى إجراء إكراهي إزاء الفلاحين « المتوسطين ». 5- إن الفلاحين الأغنياء والميسورين هم المقاولون الرأسماليون في الزراعة، وهم يزرعون أراضيهم، عادة، بمعونة الشغيلة المأجورين، ولا يرتبطون بطبقة الفلاحين إلاّ بتطورهم الفكري الضيق جداً. وحياتهم الريفية والعمل الشخصي الذين يقومون به بشكل مشترك يستخدمونهم. هذه الشريحة من السكان الريفيين كبيرة العدد وتشكل في الوقت نفسه الخصم الأعند للبروليتاريا الثورية. ولهذا يجب أن يتركز كل العمل السياسي للأحزاب الشيوعية في الأرياف على النضال ضد هذا العنصر من أجل تحرير أغلبية السكان الريفيين الكادحين والمستغَلين من التأثير الفكري والسياسي، المؤذي جدا، هؤلاء المستغِلين الريفيين. ومن المحتمل جدا أن تلجأ هذه العناصر، ما أن تنتصر البروليتاريا في المدن، إلى أعمال تخريب وأعمال مسلحة معادية للثورة بشكل ظاهر. لهذا سيتوجب على البروليتاريا الثورية أن تشرع فورا بالاعداد الفكري والتنظيمي لكل القوى التي ستحتاج إليها من أجل نزع سلاح هذه العناصر وإطلاق رصاصة الرحمة عليها، في حين تطيح النظام الرأسمالي والصناعي. ومن أجل ذلك سيكون على البروليتاريا الثورية في المدن أن تسلح حلفاءها الريفيين وتنظم سوفياتات في كل القرى، لا يُقبل داخلها أيُّ مستغِل، ويكون البروليتاريون وأنصاف البروليتاريين مدعوين إلى لعب الدور المهيمن فيها. وحتى في هذه الحالة، لا يجب أن تتضمن المهمة المباشرة للبروليتاريا المنتصرة مصادرة الملكيات الفلاحية الكبرى، لأن الشروط المادية وإلى حد ما، التقنية والاجتماعية، الضرورية من أجل تشريك الملكيات الكبرى لا تكون، حتى في هذه اللحظة، قد تحققت بعد. كل شيء يحمل على الاعتقاد، بأنه في عدد من الحالات الفردية ستتم مصادرة أراض مستأجرة أو شديدة الضرورة للفلاحين الفقراء في الجوار. وسيُمنح هؤلاء أيضا حق الاستخدام المجاني، مع بعض الشروط رغم ذلك، لجزء من المعدات الزراعية للملاكين الريفيين الأغنياء أو الميسورين. ولكن على السلطة البروليتارية، كقاعدة عامة، أن تترك للفلاحين الأغنياء أو الميسورين أراضيهم وألاّ تستولي عليها إلاّ في حالة معارضة واضحة لسياسة سلطة الشغيلة وتعليماتها. هذا السلوك ضروري،إذ بينت تجربة الثورة البروليتارية الروسية حيث يطول النضال ضد الفلاحين الأغنياء والميسورين في شروط معقدة جداً، أن هذه العناصر من السكان الريفيين التي وًجهت إليها ضربات أليمة بسبب كل محاولات المقاومة من جانبها، حتى الأضعف منها، هي مع ذلك قادرة على القيام بإخلاص بالأعمال التي تكلفها بها الدولة البروليتارية، وتبدأ حتى، ولو ببطء شديد، تتشبّع باحترام السلطة التي تدافع عن كل شغيل وتسحق دون شفقة كل غني عاطل عن العمل. إن الشروط الخاصة التي أدّت إلى تعقيد نضال البروليتاريا الروسية المنتصرة على البرجوازية ضد الفلاحين الأغنياء وإلى تأخيره، نجمت فقط عن واقع أنه بعد حدث 25 أكتوبر 1917، مرت الثورة الروسية بمرحلة « ديموقراطية » – أي بالواقع، مرحلة برجوازية ديموقراطية – من نضال الفلاحين ضد الملاكين العقاريين. وتعود هذه الشروط الخاصة أيضا إلى الضعف العددي لبروليتاريا المدن ووضعها المتخلف وأخيرا إلى مساحة البلد الشاسعة وخراب طرق مواصلاته. لكن البلدان المتقدمة في أوربا وأمريكا تجهل كل أسباب التأخير هذه، لذلك يتوجب على البروليتاريا الثورية فيها أن تحطم مقاومة الفلاحين الأغنياء والميسورين، بحزم أكبر وبسرعة أكبر، وبتصميم أقوى ونجاح أكبر بكثير، وأن تحرمهم من كل إمكانية معارضة في المستقبل. إن هذا الانتصار لجماهير البروليتاريين وأنصاف البروليتاريين والفلاحين، لا غنى عنه إطلاقا، وطالما لم يتم إحرازه، فإن السلطة السوفياتية لا يمكن أن تعتبر نفسها سلطة مستقرة وصلبة. 6- يجب على البروليتاريا الثورية أن تصادر في الحال ودون تحفظ كل الأراضي العائدة إلى كبار الملاكين العقاريين، أي كل الأشخاص الذين يستغلون منهجيا، في البلدان الرأسمالية، الشغيلة المأجورين والفلاحين الفقراء وحتى، في أغلب الأحيان، الفلاحين المتوسطين في المنطقة، سواء بطريقة مباشرة أو بواسطة مستأجري المزارع، وكل الملاكين الذين لا يشاركون أبدا بالعمل الجسدي – وهم في أغلب الحالات، يتحدرون من الأعيان الإقطاعيين (نبلاء روسيا وألمانيا والمجر، ونبلاء فرنسا الذين عادوا إلى الحكم واللوردات الإنكليز وقدامى مالكي العبيد في أمريكا) وكبار أقطاب المال أو، أخيرا، أولئك المتحدرين من هاتين الفئتين من المستغلين والخاملين. وينبغي على الأحزاب الشيوعية أن تعارض بقوة فكرة التعويض على كبار الملاكين العقاريين الذين صودرت ملكياتهم، وأن تناضل ضد كل دعاوة بهذا المعنى، ولا يجب أن تنسى الأحزاب الشيوعية أن دفع مثل هذا التعويض سيكون خيانة للاشتراكية وضريبة جديدة تُفرض على الجماهير المستغلة، الرازحة تحت عبء الحرب، التي ضاعفت من عدد أصحاب الملايين وزادت ثرواتهم. ترى الأممية الشيوعية أنه سيكون من المستحسن والعملي ألاّ تُنس الملكيات الزراعية الكبيرة في البلدان الرأسمالية المتقدمة وأن يتم استثمارها بالطريقة نفسها التي يتم فيها استثمار « الملكيات السوفياتية » في روسيا.(**) وفي ما يتعلق بزراعة الأراضي التي انتزعتها البروليتاريا المنتصرة من كبار الملاكين العقاريين في روسيا، فقد كانت حتى الآن موزعة بين الفلاحين، لأن البلاد المتخلفة جدا من الناحية الاقتصادية. وفي حالات نادرة جدا أبقت الحكومة البروليتارية الروسية تحت سيطرتها الملكيات الريفية المسماة « سوفياتية » والتي تستغلها الدولة البروليتارية نفسها. محوّلة العمال المأجورين السابقين إلى « مندوبي عمل » أو أعضاء سوفياتات. إن الحفاظ على الأملاك الكبيرة تخدم بشكل أفضل مصالح العناصر الثورية من السكان وبشكل خاص المزارعين الذين لا يملكون أي قطعة أرض وأنصاف البروليتاريين وصغار الملاكين الذين يعيشون من عملهم في المشاريع الكبرى. فضلا عن ذلك فإن تأميم الملكيات الكبرى يجعل من السكان المدينيين اقل تبعية إزاء الأرياف من ناحية التموين. أمّا حيث ما زالت توجد مخلّفات للنظام الإقطاعي أو حيث تولّد امتيازات الملاكين العقاريين أشكالا خاصة من الاستغلال، وحيث ما زلنا نشهد « الرق » و« المزارعة »، فمن الضروري تسليم الفلاحين جزءا من أراضي الملكيات الكبرى. وفي البلدان حيث عدد الملكيات الكبرى غير ذي أهمية، وحيث يطالب المزارعون الصغار بالحصول على أراض، فإن توزيع الملكيات الكبرى حصصا ربما كان الوسيلة الأكثر ضمانا من أجل كسب الفلاحين إلى الثورة، فيما لن تعود المحافظة على هذه الأملاك الكبيرة بالفائدة على المدن من ناحية التموين. إن المهمة الأولى للبروليتاريا والأكثر أهمية هي أن تضمن لنفسها انتصارا دائما. ولا ينبغي أن تخشى من أي انخفاض في الإنتاج، إذا كان هذا ضروريا من أجل نجاح الثورة. ولن يكون من الممكن ضمان الوجود الدائم للسلطة البروليتارية إلاّ بالحفاظ على حياد طبقة الفلاحين المتوسطة وضمان مساندة أغلبية بروليتاريي الأرياف إن لم يكن كاملهم. وكلما تم توزيع أراضي كبار الملاكين العقاريين، يجب أن تقدم مصالح البروليتاريا الزراعية على سواها. ويجب أن تصادر جميع المعدات الزراعية والتقنية لكبار الملاكين العقاريين والريفيين وأن تُسلّم للدولة، بشرط أن يستطيع الفلاحون الصغار، بعد أن يتم توزيع هذه المعدات بعدد كاف على ملكيات الدولة الريفية الكبرى، الاستفادة منها مجانا، وطبقا للأنظمة التي تضعها السلطة البروليتارية بهذا الشأن. وإذا كان من الضروري بشكل مطلق، في بداية الثورة البروليتارية، أن تتم مصادرة الملكيات العقارية الكبيرة مباشرة وكذلك طرد مالكيها زعماء الثورة المضادة ومضطهدي كل السكان الريفيين دون رحمة، أو اعتقالهم – ينبغي أن تتجه السلطة البروليتارية، بشكل منهجي، كلما تعزز موقعها في المدن والأرياف، إلى استخدام قوى من هذه الطبقة، تملك تجربة قيّمة من المعارف والإمكانات التنظيمية، من أجل خلق زراعة سوفياتية واسعة بمساندتها وتحت إشراف شيوعيين سبق اختبارهم. 7- لن تنتصر الاشتراكية على الرأسمالية بشكل ناجز، ولن تتوطد أبدا، إلاّ عندما تكون السلطة الحكومية البروليتارية قد قمعت كل مقاومة من جانب المستغلين وأمنت سلطتها ونظمت الصناعة بمجملها على قاعدة إنتاج جماعي جديد وعلى أساس تقني جديد (استخدام شامل للطاقة الكهربائية في جميع فروع الزراعة والاقتصاد الريفي). إن إعادة التنظيم هذه تستطيع وحدها إعطاء المدن إمكانية منح الأرياف المتخلفة مساعدة تقنية واجتماعية قادرة على إحداث نمو هائل لانتاجية العمل الزراعي والريفي وإلزام الفلاحين الصغار عن طريق القدوة بأن ينتقلوا بشكل تدريجي وبما يخدم مصلحتهم الخاصة إلى زراعة جماعية ممكْننة. إن إمكانية النضال الظافر من أجل القضية الاشتراكية، تتطلب، من جانب الأحزاب الشيوعية، تحديدا في الأرياف، جهدا لتثير لدى البروليتاريا الصناعية الشعور بضرورة تقديم التضحيات، التي يجب أن ترتضيها من أجل إطاحة البرجوازية وتوطيد السلطة البروليتارية. وهو أمر ضروري على الإطلاق لأن دكتاتورية البروليتاريا، تعني أن البروليتاريا تعرف كيفية تنظيم الشغيلة المستَغلين وقيادتهم، وأن تكون طليعتها مستعدة دائما من أجل الوصول إلى هذا الهدف لبذل أقصى الجهود البطولية والتضحيات. فضلا عن ذلك، تفترض الاشتراكية من أجل إحراز الانتصار الناجز أن ترى الجماهير الكادحة الأكثر تعرضا للاستغلال في الأرياف، ما أن ينتصر العمال، أن وضعها قد تحسن على الفور تقريبا على حساب المستغِلين. وإذا لم يكن الأمر كذلك فإن البروليتاريا الصناعية لن تتمكن من الاعتماد على دعم الأرياف ولن تتمكن، انطلاقا من هذا الواقع، من تأمين التموين للمدن. 8- إن الصعوبات الجمة التي يطرحها تنظيم الشغيلة الريفيين وإعداده للنضال الثوري، هذا الجمهور الذي أرهقه النظام الرأسمالي وشتته واستعبده كما في القرون الوسطى تقريبا، تتطلب من جانب الأحزاب الشيوعية، إيلاء اهتمام كبير لحركة الإضراب الريفية، وتقديم الدعم الأقوى لإضرابات جماهير البرويتاريين وأنصاف-البروليتاريين لتطويرها بقوة. إن تجربة الثورات الروسية عام 1905 و1917، التي أثبتتها تجربة الثورة الألمانية والثورات في البلدان الأخرى المتقدمة واستكملتها، برهنت على أن حركة الإضراب وحدها، المتصاعدة دون توقف (مع مشاركة « الفلاحين الصغار » في بعض الظروف) يمكنها أن تخرج القرى من سباتها، وتوقظ الوعي الطبقي لدى الفلاحين والشعور بضرورة منظمة طبقية للجماهير الريفية المستغَلة، وتظهر لسكان الريف بوضوح الأهمية العملية لاتحادهم مع شغيلة المدن. من وجهة النظر هذه، يتخذ إنشاء نقابات عمالية زراعية وتعاون الشيوعيين في منظمات العمال الزراعيين وعمال الأحراج أهمية عظمى؛ وينبغي على الشيوعيين أن يدعموا بشكل خاص المنظمات المشكلة من السكان الزراعيين المرتبطين بقوة بالحركة العمالية الثورية، ويجب أن تتم دعاوة قوية بين الفلاحين البروليتاريين. إن مؤتمر الأممية الشيوعية يفضح ويدين بشدة الاشتراكيين الغادرين والخونة الذين نجدهم، للأسف، ليس داخل الأممية الثانية الصفراء وحسب، بل أيضا وسط الأحزاب الثلاثة الأوربية الأكثر أهمية، التي خرجت من هذه الأممية. إن المؤتمر يصم بالعار الاشتراكيين الذين لا يستطيعون فقط أن ينظروا بعين اللامبالاة لحركة الإضراب الريفية بل يقاومونها أيضا (مثل كارل كاوتسكي)، خوفا من أن تؤدي إلى انخفاض التموين. إن كل البرامج وكل التصريحات الأكثر احتفالية لا قيمة لها إطلاقا إذا لم يكن من الممكن أن يثبت الشيوعيون والقادة العمال عمليا أنهم يعرفون كيف يضعون تطور الثورة البروليتارية وانتصارها فوق كل شيء، وكيف يرتضون لأنفسهم أكبر التضحيات، لأنه لا حلول أخرى ولا وسائل أخرى لقهر المجاعة والفوضى الاقتصادية، ولتجنب حروب إمبريالية جديدة. 9- على الأحزاب الشيوعية أن تفعل كل ما في وسعها من أجل الشروع بأسرع وقت ممكن في تنظيم السوفياتات في الأرياف. وبالدرجة الأولى السوفياتات التي تمثل الشغيلة المأجورين وأنصاف البروليتاريين. ولن تتمكن السوفياتات من الاضطلاع بمهمتها ولن تصبح من القوة بحيث تخضع لتأثيرها « صغار الفلاحين » (وتجندهم بعد ذلك) إلاّ بالتعاون الوثيق مع حركة الإضراب الجماهيرية، ومع الطبقة الأكثر اضطهادا. أمّا إذا لم تكن حركة الإضراب متطورة بشكل كاف، وإذا كانت قدرة التنظيم لدى البروليتاريا الريفية ضعيفة جدا، سواء بسبب اضطهاد الملاكين العقاريين والفلاحين الأغنياء، أو لعدم كفاية الدعم الذي يقدمه العمال الصناعيون ونقاباتهم، فسيتطلب إنشاء السوفياتات في الأرياف إعدادا طويلا، وينبغي أن يتم ذلك عبر خلق بؤر شيوعية، ودعاوة نشطة، بعبارات واضحة وصريحة، بصدد التطلعات الشيوعية التي سيجري شرحها بالكثير من الأمثال التي توضح مختلف طرق الاستغلال والاضطهاد، وأخيرا بواسطة جولات دعاوية منهجية يقوم بها الشغيلة الصناعيون في الأرياف.
بيان المؤتمر العالم الرأسمالي والأممية الشيوعية
1- العلاقات الدولية بعد معاهدة فرساي تتذكر برجوازية العالم أجمع الأيام الغابرة بمرارة وحسرة، فكل أسس السياسة العالمية أو الداخلية قد تزعزعت أو اهتزت. والغد عاصف بالنسبة لعالم المستغِلين. لقد استكملت الحرب الامبريالية تدمير نظام الأحلاف والضمانات المتبادلة القديم، الذي كان يرتكز عليه التوازن العالمي والسلم المسلّح. ولم ينتج عن سلم فرساي أي توازن جديد. لقد رُميت روسيا أولاً، ومن ثم النمسا-المجر وألمانيا خارج الحلبة. وأصبحت هذه الدول، صاحبة المقام الأول بالذات، ضحية النهب وعرضة للتجزئة بعد أن احتلت الصدارة بين قراصنة الامبريالية العالمية. وانفتح أمام امبريالية الدول الحليفة المنتصرة حقل غير محدد للاستغلال الاستعماري، بدءا من الراين، شاملا كل أوربا الوسطى والشرقية وصولا إلى المحيط الهادي. هل يمكن أن تقارن الكونغو، وسوريا ومصر والمكسيك مع سهوب روسيا وغاباتها وجبالها، ومع القوى العمالية والعمال المتخصصين في ألمانيا ؟ لقد كان البرنامج الكولونيالي الجديد للمنتصرين بسيطا جدا: إطاحة الجمهورية البروليتارية في روسيا، ونهب موادنا الأولية، والاستئثار باليد العاملة الألمانية والفحم الألماني، وفرض دور الخفير على المقاول الألماني، وحيازة السلع التي تم الحصول عليها على هذا الشكل وكذلك عائدات المشاريع. وقد استعادت الدول الحليفة المنتصرة مشروع « تنظيم أوربا » الذي وضعته الامبريالية الألمانية أثناء حقبة انتصاراتها العسكرية. إن حكومات الدول الحليفة عندما تضع أوغاد الامبراطورية الألمانية في قفص الإتهام فإنما تعتبرهم أندادا لها. لكن ثمة مغلوبين حتى في معسكر الغالبين. فالبرجوازية الفرنسية وقد أسكرتها الشوفينية وأسكرتها انتصاراتها ترى نفسها سيدة أوربا. والواقع أن فرنسا لم تكن يوما، من مختلف النواحي، في تبعية أشد عبودية تجاه أخصامها الأكثر قوة، إنكلترا وأمريكا، مما هي عليه الآن. فهي تفرض على بلجيكا برنامجا اقتصاديا وعسكريا، وتحوّل حليفتها الضعيفة إلى مقاطعة ملحقة. لكنها تلعب إزاء إنكلترا، وعلى نطاق واسع، دور بلجيكا. وحاليا يترك الإمبرياليون الإنكليز للمرابين الفرنسيين مهمة الاقتصاص في الحدود القارية المرسومة لهم، ملقين بذلك على فرنسا سخط الشغيلة في أوربا وفي إنكلترا نفسها. إن جبروت فرنسا المدمّاة والمهدمة ليس إلاّ ظاهريا ومزيفا، فعاجلا أو آجلا سيضطر الاشتراكيون الوطنيون الفرنسيون إلى ملاحظة ذلك. أمّا إيطاليا فقد خسرت أكثر أيضا من وزنها في العلاقات الدولية، والبرجوازية الإيطالية إذ تفتقر إلى الفحم، وتفتقر إلى الخبز، وتفتقر إلى المواد الأولية، وقد اختل توازنها اختلالا كليا بفعل الحرب، ليست قادرة، بالرغم من كل سوء نيتها، على ممارسة النهب وأعمال العنف التي تعتبرها من حقها، حتى في زوايا المستعمرات التي تخلّت لها عنها إنكلترا بطيبة خاطر. واليابان التي تفترسها التناقضات الملازمة للنظام الرأسمالي في مجتمع لا يزال إقطاعيا، هي على أعتاب إحدى الأزمات الثورية الأشد عمقا. وقد شلّت هذه الأزمة اندفاع اليابان الإمبريالي، على الرغم من ظروف ملائمة لها في السياسة الدولية. ولا يبقى على الصعيد العالمي سوى قوتين عظميين فقط، بريطانيا العظمى والولايات المتحدة. لقد تخلصت الامبريالية الإنكليزية من خصمها الأسيوي، القيصرية، ومن المنافسة الألمانية الخطيرة، وبلغ سلطان بريطانيا العظمى على البحار أوجه، فهي تحيط القارات بسلسلة من الشعوب الخاضعة لها. وقد وضعت يدها على فنلندا واستونيا وليتوانيا، وانتزعت من السويد والنروج بقايا استقلالهما، وحوّلت بحر البلطيق إلى خليج من نطاق المياه البريطانية، ولا يقاومها أحد في بحر الشمال. وبامتلاكها للكاب ومصر والهند وإيران وأفغانستان جعلت من المحيط الهندي بحرا داخليا يخضع كليا لسيطرتها، وكونها سيدة المحيطات، فإنها تسيطر على القارات. وكسيدة للعالم لا تجد حدودا لسلطانها إلاّ جمهورية الدولار الأمريكية وجمهورية السوفياتات الروسية. أجبرت الحرب الولايات المتحدة على التخلي كليا عن نزعتها المحافظة الإقليمية. واستبدلت، بعد اتساع ازدهارها، برنامج رأسماليتها الوطنية – « أمريكا للأمريكيين » (نظرية مونرو) – ببرنامج الامبريالية « العالم أجمع للأمريكيين ». وإذا لم تعد تكتفي باستغلال الحرب عن طريق التجارة والصناعة، وعمليات البورصة فإنها تسعى إلى مصادر جديدة للثروة غير تلك التي امتصتها من الدم الأوربي عندما كانت محايدة. لقد دخلت أمريكا في الحرب ولعبت دورا حاسما في هزيمة ألمانيا وتدخلت في حل جميع قضايا السياسة الأوربية والعالمية. لقد حاولت الولايات المتحدة، تحت راية عصبة الأمم، أن تنقل التجارة التي كانت قامت بها في بلادها إلى الجانب الآخر من المحيط، تجربة التجمع الفيدرالي لشعوب كبيرة تنتمي إلى أعراق مختلفة، وأرادت أن تربط إلى عربتها المنتصرة شعوب أوربا وشعوب الأجزاء الأخرى من العالم عبر إخضاعها لحكومة واشنطن. إن عصبة الأمم ليست بالنهاية سوى شركة تتمتع باحتكار عالمي تحت اسم: « يانكي وشركاه ». لقد نزل رئيس الولايات المتحدة، أحد أكبر أنبياء الأفكار المبتذلة، من سينائه لأجل الاستيلاء على أوربا، حاملا معه بنوده الأربعة عشر. لكن رجال البورصة والوزراء ورجال الأعمال البرجوازيين لم ينخدعوا للحظة حول المعنى الحقيقي للوحي الجديد. بالمقابل، أصيب « الاشتراكيون » الأوربيون، الذين فعلت فيهم خميرة كاوتسكي فعلها، بنشوة دينية وراحوا يرقصون كالملك داود وهم يواكبون سفينة ويلسون المقدسة. وعندما لزم حل مسائل عملية، رأى الرسول الأمريكي بوضوح أنه على الرغم من الارتفاع الهائل لسعر الدولار، فإن بريطانيا العظمى ما زالت تهيمن على جميع الطرق البحرية التي تصل بين الأمم وتفصل في ما بينها، لأن انكلترا تمتلك الأسطول الأقوى والكابل الأطول، ولها تجربة عريقة في القرصنة الدولية. بالإضافة إلى ذلك اصطدم ويلسون بالجمهورية السوفياتية وبالشيوعية. وأحس المسيح الأمريكي بجرح عميق، فتنصل من عصبة الأمم، التي جعلتها انكلترا إحدى مستشارياتها الديبلوماسية، وأدار ظهره لأوربا. مع ذلك، فمن السذاجة الاعتقاد أن الامبريالية الأمريكية ستنطوي على نفسها بمجرد ما تلقت أول ضربة من انكلترا. هل هذا يعني القول إنها ستتقيد من جديد بنظرية مونرو ؟ كلا. ستستمر في إخضاع القارة الأمريكية بشكل أكثر عنفا، محوّلة بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية إلى مستعمرات. فالولايات المتحدة تستعد، ممثلة بحزبيها القياديين، الديموقراطي والجمهوري، لتضليل عصبة الأمم التي أنشأتها إنكلترا، وتشكيل عصبة خاصة بها حيث تلعب أمريكا الشمالية دور مركز عالمي. ومن أجل أن تحرز النجاح، فإنها تنوي أن تجعل من أسطولها، خلال السنوات الثلاث أو الخمس القادمة، أداة صراع أقوى من الأسطول البريطاني، وهذا ما يجبر إنكلترا الامبريالية على طرح السؤال التالي: نكون أو لا نكون ؟ ويضاف إلى هذه المنافسة المستعرة بين هذين الجبارين في مجال الإنشاءات البحرية صراع ليس أقل ضراوة على امتلاك النفط. أمّا فرنسا التي كانت تنوي أن تلعب دور الحكم بين انكلترا والولايات المتحدة، فقد وجدت نفسها تدور في فلك بريطانيا العظمى، مثل كوكب تابع من الدرجة الثانية. وتشكل عصبة الأمم بالنسبة لها عبئا لا يحتمل، وهي تسعى للتخلص منه بتسعير العداء بين انكلترا والولايات المتحدة. وهكذا تعمل أقوى الدول العظمى على تحضير مبارزة عالمية جديدة. لقد جلب برنامج تحرير الأمم الصغيرة، الذي وضع في الصدارة أثناء الحرب، الهزيمة الكاملة والاستعباد المطلق لشعوب البلقان، المهزومة أو المنتصرة، وأدى إلى بلقنة جزء هام من أوربا. إن المصالح الامبريالية للدول المنتصرة قد دفعتها لسلخ بعض الدول الصغيرة التي تمثل قوميات متمايزة عن الدول الكبرى التي هزمتها. ولا يتعلق الأمر هنا بما يسمى بمبدأ القوميات: فالامبريالية تقوم على تحطيم الأطر القومية حتى بالنسبة للدول العظمى. وليست الدول البرجوازية الصغرى المنشأة حديثا سوى فُضالة الامبريالية. وإذ تنشئ الامبريالية سلسلة كاملة من الأمم الصغيرة المضطهدة علنا أو المحمية رسميا ولكنها في الواقع ملحقة بها كي تجد فيها سندا مؤقتا (النمسا والمجر وبولونيا ويوغوزلافيا وبوهيميا وفنلندا وليتوانيا وليتونيا وليستونيا وأرمينيا وجورجيا الخ.) وإذ تسيطر عليها عن طريق البنوك وسكك الحديد واحتكار الفحم، إنما تحكم عليها بمعاناة صعوبات اقتصادية وقومية لا تحتمل، وصراعات دائمة وشجارات دامية. وأي سخرية بشعة في التاريخ ! فبعد أن كانت إعادة بناء بولندا جزءا من برنامج الديموقراطية الثورية ومن أولى تجليات البروليتاريا العالمية، تولت الامبريالية تحقيق ذلك بقصد إعاقة الثورة ! وبولندا « الديموقراطية »، التي مات المبشرون بها على متاريس أوربا بكاملها، هي في هذه اللحظة أداة قذرة ودامية بين أيدي قطاع الطرق الأنكلو-فرنسيين الذين يهاجمون أول جمهورية بروليتارية عرفها التاريخ. وإلى جانب بولندا، تقدم تشيكوسلوفاكيا « الديموقراطية »، المباعة للرأسمال الفرنسي، حرسا أبيضا ضد روسيا السوفياتية وضد المجر السوفياتية. إن المحاولة البطولية التي قامت بها البروليتاريا المجرية للتخلص من الفوضى السياسية والاقتصادية في أوربا الوسطى وولوج طريق الفدرالية السوفياتية، – التي هي فعلا طريق الخلاص الوحيدة –، قد خنقتها الرجعية الرأسمالية المتحدة، في وقت كانت فيه بروليتاريا الدول الأوربية العظمى، وقد خدعتها الأحزاب التي تقودها، عاجزة عن تأدية واجبها نحو المجر الاشتراكية ونحو نفسها بالذات. لقد تمت إطاحة حكومة بودابست السوفياتية بمساعدة اشتراكيين خونة، الذين بعد أن استمروا في الحكم ثلاث سنوات ونصفا، ألقي بهم أرضا الأوغاد المسعورون المعادون للثورة، الذين فاقت جريمتهم الدامية جرائم كولتشاك ودينيكين ورانغل وبقية عملاء الدول الحليفة... لكن المجر السوفياتية على الرغم من هزيمتها إلى حين، لا تزال تنير شغيلة أوربا الوسطى، كمنارة ساطعة. لم يكن الشعب التركي يريد الخضوع للسلام المخجل الذي فرضه عليه طغاة لندن. وكي تُجبر انكلترا تركيا على تنفيذ المعاهدة قامت بتسليح اليونان وأطلقتها ضدها. وهكذا قضي على شبه الجزيرة البلقانية وآسيا الصغرى وعلى الأتراك واليونانيين بخراب كامل ومجازر متبادلة. وقد سُجلت أرمينيا في برنامج صراع الحلفاء ضد تركيا، وبلجيكا في برنامج الصراع ضد ألمانيا، والصرب في الصراع ضد النمسا-المجر. وبعد إنشاء أرمينيا دون حدود معينة –ودون إمكانية استمرار – رفض ويلسون الانتداب على أرمينيا الذي اقترحته عليه « عصبة الأمم »: لأن أرض أرمينيا لا تحتوي لا على نفط ولا على بلاتين. إن أرمينيا « المحررة » عزلاء أكثر من أي وقت مضى. ويكاد يكون لكل من الدول « القومية » المنشأة حديثا انضماميتها(***)، أي دملتها الوطنية الكامنة. في الوقت نفسه، بلغ النضال الوطني في المناطق التي يسيطر عليها المنتصرون ذروة احتدامه. فالبرجوازية الإنكليزية التي أرادت وضع شعوب العالم بأكمله تحت وصايتها، عاجزة عن حل المسألة الايرلندية حلاً مرضيا، وهي التي تقع في جوارها مباشرة. أمّا المسألة الوطنية في المستعمرات فتحبل بمخاطر أكبر أيضا، فالانتفاضات تهز مصر والهند وإيران، فيما ينقل البروليتاريون المتقدمون في أوربا وأمريكا إلى شغيلة المستعمرات شعار الاتحاد السوفياتي. إن أوربا الرسمية والحكومية والوطنية والمتحضرة والبرجوازية، – كما خرجت من الحرب ومن سلم فرساي، – توحي ببيت للمجانين. فالدول الصغرى المصطنعة، والمجزأة، والمختنقة من الناحية الاقتصادية ضمن الحدود التي رُسمت لها يأخذ بعضها بخناق بعض وتتخاصم لانتزاع مرافئ ومقاطعات ومدن صغيرة، ودونما سبب. وتطلب حماية الدول الأقوى التي يزداد تناحرها يوما بعد يوم. فإيطاليا تقف موقفا عدائيا من فرنسا، وهي على استعداد لمساندة ألمانيا ضدها إذا ما وجدت هذه الأخيرة نفسها قادرة على النهوض. ويسمم فرنسا الحسد الذي تحمله إزاء إنكلترا، وهي مستعدة لأن تشعل النار في زوايا أوربا الأربع كي تحصِّل إيراداتها. وبمساندة فرنسا، تبقي انكلترا أوربا في حالة فوضى وعجز، مما يطلق يديها كي تقوم بعملياتها الدولية الموجهة ضد أمريكا. أمّأ الولايات المتحدة فتترك اليابان تتورط في سيبريا الشرقية كي تضمن لأسطولها، في هذه الأثناء، التفوق على أسطول بريطانيا العظمى قبل عام 1925، إلاّ إذا قررت إنكلترا أن تتبارى معها قبل هذا التاريخ. وكي تكتمل هذه اللوحة كما يجب، فإن وسيط الوحي العسكري للبرجوازية الفرنسية، المارشال فوش، يخطرنا بأن الحرب القادمة ستنطلق من حيث وقفت الحرب السابقة: سنشهد أولا ظهور الطائرات والدبابات، البندقية الأوتوماتيكية والرشاشات بدل البندقية النقالة، والقنبلة بدل الحربة. يا عمال وفلاحي أوربا وأمريكا وآسيا وافريقيا وأستراليا ! لقد ضحيتم بعشرة ملايين نسمة وعشرين مليون جريح ومشوه. الآن تعرفون على الأقل ماذا نلتم لقاء هذا الثمن !
2- الوضع الاقتصادي في الوقت نفسه يستمر دمار الإنسانية. لقد دمرت الحرب، بشكل آلي، الروابط الاقتصادية التي كان تطورها يشكل أحد أهم إنجازات الرأسمالية العالمية. فانفصلت انجلترا وفرنسا وإيطاليا انفصالا كليا عن أوربا الوسطى والشرق الأوسط منذ عام 1914، وعن روسيا منذ عام 1917. وعلى امتداد عدة سنوات من حرب دمّرت ما أنجزته عدة أجيال، سُخّر العمل البشري بشكل أساسي، وبعد تقليصه إلى حده الأدنى، لتحويل احتياطي المواد الأولية إلى سلع، هذه المواد التي كانت في المتناول منذ وقت طويل، والتي تحوّلت إلى أسلحة وأدوات دمار بشكل خاص. أمّا في المجالات الاقتصادية، حيث يدخل الإنسان في صراع مباشر مع الطبيعة الشحيحة والجامدة، مستخرجا من أحشائها الوقود والمواد الأولية، فقد استحال العمل تدريجيا إلى عدم، بل غيّرا طرقه وأشكاله وحسب. فحصار روسيا السوفياتية والحرب الأهلية التي أفتعلت على طول حدودها الخصبة سببت وما زالت تسبب أضرارا هائلة جدا، – والأممية تؤكد ذلك أمام العالم كله، – لاستطاعت، بفضل الأشكال السوفياتية للاقتصاد، أن تقدم لأوربا ضعفي أو ثلاثة أضعاف ما كانت تقدمه روسيا القيصرية في السابق من منتجات غذائية. بدلا من ذلك تكره الإمبريالية الأنكلو-فرنسية جمهورية الشغيلة على استخدام كل طاقاتها وجميع مواردها من أجل الدفاع عن نفسها. ومن أجل حرمان العمال الروس من الوقود، تحتفظ إنكلترا بين مخالبها بمنطقة باكو التي بقي نفطها بسبب ذلك دون استخدام تقريبا، لأنها لم تنجح في استيراد أكثر من قسم ضئيل منه. أمّا حوض الدون العظيم، الغني بالفحم الحجري، فقد دمّرته العصابات البيضاء المأجورة للحلفاء، في كل مرة نجحت فيها في القيام بهجوم على ذلك القطاع. وانصرف المهندسون والنقابون الفرنسيون أكثر من مرة إلى تدمير جسورنا وسككنا الحديدية، بينما لم تكف اليابان حتى الآن عن نهب سيبريا الشرقية وتدميرها. إن العامل الصناعي الألماني والإنتاجية المرتفعة جدا لليد العاملة الألمانية، هذان العاملان اللذان يتخذان أهمية قصوى في عملية إحياء الحياة الاقتصادية الأوربية، تشلها بنود سلام فرساي أكثر مما شلتها الحرب. ويجد الحلفاء أنفسهم أمام مأزق: فمن أجل فرض دفع التعويضات يجب توفير مجالات العمل، ومن أجل توفير هذه الأخيرة يجب تأمين المعيشة. وأن يتاح لألمانيا المهدمة والمجزأة والمستنزفة أن تجدد حياتها، إنما يعني تمكينها من الانتفاض محتجة. إن فوش خائف من ثأر ألمانيا، وهذا الخوف ينضح من كل ما يقوم به، مثلا في الشكل الذي تُشد به، أكثر فأكثر كل يوم، الملزمة العسكرية التي ينبغي أن تمنع ألمانيا من النهوض. الجميع يفتقر إلى شيء ما، الجميع في عوز. وليست موازنة ألمانيا فقط هي الوحيدة التي تؤشر إلى ديون، بل أيضا موازنة فرنسا وانكلترا. فالدين الفرنسي يبلغ 300 مليار فرنك، حيث أن ثلثيه على الأقل، حسب تأكيد السناتور الرجعي غودان دو فيلان، هما نتاج جميع أنواع الإختلاسات والإسراف والفوضى. فرنسا بحاجة إلى الذهب، فرنسا بحاجة إلى الفحم. ويرجع البرجوازي الفرنسي إلى القبور التي لا تحصى للجنود الذين قتلوا أثناء الحرب، للمطالبة بفوائد رساميله. على ألمانيا أن تدفع: أليس عند الجنرال فوش عدد كافٍ من السنغاليين من أجل احتلال المدن الألمانية ؟ على روسيا أن تدفع ! ومن أجل أن تقنعنا الحكومة الفرنسية بذلك فإنها تنفق من أجل تخريب روسيا المليارات المنتزعة من دافعي الضرائب لأجل إعادة بناء المحافظات الفرنسية. إن الوفاق المالي الدولي الذي كان من المفترض أن يخفف عبء الضرائب الفرنسية، لم يحصل: فقد ظهرت الولايات المتحدة غير مستعدة كثيرا لتقديم هدية مقدارها عشرة مليارات من الجنيهات الستيرلينية إلى أوربا. ويستمر إصدار العملة الورقية، بالغاً كل يوم رقما أضخم. وفي روسيا، حيث يوجد تنظيم اقتصادي موحد وتوزيع منظم للمواد الغذائية، وحيث يتجه الأجر النقدي أكثر فأكثر لأن يُستبدل بالدفع العيني، ليس الإصدار المستمر للعملة الورقية والهبوط السريع في قيمتها، سوى تأكيد لانحطاط النظام المالي والتجاري القديم. لكن الكمية المتزايدة من سندات الخزينة في السوق هي في البلدان الرأسمالية علامة اضطراب اقتصادي عميق وإفلاس وشيك. وتسافر الكونفرنسات التي يدعو إليها الحلفاء من مكان إلى آخر، باحثة عن الوحي على هذا الشاطئ أو ذاك تبعا للموضة. كل واحد يطالب بفوائد الدم الذي جرى إهراقه أثناء الحرب، تعويضا متناسبا مع عدد قتلاه. ويكرر هذا الشكل من البورصة النقالة، كل أسبوعين، السؤال نفسه، وهو إذا كان يجب أن تنال فرنسا 50 أو 55 % من تعويض ليست ألمانيا قادرة على دفعه أصلا. لقد أُعدت هذه الاجتماعات بشكل جيد لتتويج « تنظيم » أوربا الشهير والذي طاب لهم امتداحه كثيرا. لقد أدت الحرب إلى تطور في الرأسمالية. فالعصر المنهجي لفائض القيمة الذي كان في السابق المورد الوحيد لدخل أصحاب المشاريع، يبدو حاليا عملا تافها بالنسبة للسادة البرجوازيين، الذين اعتادوا زيادة حصصهم إلى الضعفين أو العشرة أضعاف في مدى عدة أيام عن طريق المضاربات البارعة القائمة على اللصوصية الدولية. وقد طرحت البرجوازية بضعة أوهام كانت تزعجها، وكسبت سطوة كانت تفتقر إليها حتى الآن. عوّدتها الحرب، كما لو أن ذلك من أكثر الأفعال عادية، تجويع بلدان بأسرها عن طريق الحصار، وقصف المدن والقرى المسالمة وحرقها، وتلويث الينابيع والأنهار بزرع جراثيم الكوليرا فيها، ونقل الديناميت في الحقائب الديبلوماسية، ولإصدار الأوراق المصرفية المزيّفة التي تقلِّد أوراق العدو، واللجوء إلى الإفساد والتجسس والتهريب بنسب لم تكن معروفة قبل الآن. واستمرت أساليب العمل نفسها المطبّقة في الحرب معمولا بها في العالم التجاري بعد اتفاق السلام. وتجري العمليات التجارية التي تتسم ببعض الأهمية تحت إشراف الدولة. وقد أصبحت هذه الأخيرة أشبه بجمعية من الأشقياء المسلحين حتى العظم. فيما يضيق مجال الإنتاج العالمي كل يوم ويصبح الاستيلاء على الإنتاج بالتالي أكثر سعارا وكُلْفته أغلى فأغلى. المنع: هذه هي آخر كلمة للسياسة الرأسمالية، الشعار الذي يحل محل الحماية والتبادل الحر ! إن العدوان الذي كانت المجر ضحيته من قبل الأوغاد الرومانيين الذين نهبوا منها كل شيء وقع تحت أيديهم دون تمييز بين عربات القطارات والحلي، هذا العدوان هو ما يميز الفلسفة الاقتصادية للويد-جورج وميللران. ولا تعرف البرجوازية، في سياستها الاقتصادية الداخلية، بأي شيء تتشبث؛ هل بنظام تأمين وتنظيم وإشراف من قبل الدولة قد يكون من أشد سياساتها فعالية، أم بالاحتجاجات التي تدوّي ضد استيلاء الدولة على الشؤون الاقتصادية من جهة أخرى ؟ فالبرلمان الفرنسي يبحث عن مساومة تسمح له بحصر إدارة جميع السكك الحديدية داخل الجمهورية في يد واحدة دون أن تضر مع ذلك بمصالح الرأسماليين المساهمين في شركات السكك الحديدية الخاصة. وفي الوقت نفسه تقوم الصحافة الرأسمالية بحملة مسعورة ضد « الدولنة » (l’étatisme) التي تشكل الخطوة الأولى في تدخل الدولة، وكابحا للمبادرة الحرّة. وقد وقعت سكك الحديد الأمريكية التي كانت الدولة تشرف عليها أثناء الحرب والتي دُمرت، في وضع أكثر صعوبة عندما أزيل عنها إشراف الدولة. بيد أن الحزب الجمهوري يعِدُ في برنامجه بتحرير الحياة الاقتصادية من التدخل الحكومي. ويناضل زعيم النقابات الأمريكية صموئيل غوةمبيرز، هذا الحارس الشرس للرأسمال، ضد تأميم سكك الحديد الذي يقترحه السذج والانتهازيون الإصلاحيون على فرنسا كترياق عالمي. والواقع أن التدخل الفوضوي للدولة لايمكن أن يحصل إلالدعم نشاط المضاربين التخريبي ، ولإتمام إدخال الفوضى الأعم في الاقتصاد الرأسمالي، في اللحظة التي يعيش فيها هذا الأخير حقبة انحطاطه. فأن تنتزع من التروستات وسائل الإنتاج والنقل لتُسلم إلى « الأمة » أي الدولة البرجوازية، أي أقوى تروستات الرأسماليين وأكثرها شرهاً، إن هذا ليس محوا للبلبلة، بل جعلها قانونا عاما. وليس انخفاض الأسعار وارتفاع قيمة العملة سوى مؤشرين خادعين، لا يمكنهما أن يخفيا الخراب الوشيك. وعبثا تنخفض الأسعار، فذلك لا يعني حصول زيادة في المواد الأولية، ولا أن العمل أصبح أكثر إنتاجية. وبعد محنة الحرب الدامية، لم يعد الجمهور العمالي قادرا على العمل بالنشاط نفسه والشروط نفسها. إن تدمير القيم، التي تطلّب خلقها عدة سنوات، خلال بضع ساعات، والمضاربة الوقحة برهانات تبلغ عدة مليارات من قبل زمرة مالية، وإلى جانب ذلك أكوام عظام الموتى والخراب – تلك الدروس التي قدمها التاريخ لم يكن من شأنها أن تعزز لدى الطبقة العاملة نظام الطاعة الآلي الملازم للعمل المأجور. ويحدثنا الاقتصاديون البرجوازيون وواضعو الروايات المسلسلة عن « موجة كسل » تجتاح أوربا، حسب رأيهم، وتهدد مستقبلها الاقتصادي.ويسعى الإداريون لكسب الوقت لكنهم يضيعون جهدهم سدى. فمن أجل إعادة تجديد إنتاج العمل وتطويره، من الضروري أن تثق الطبقة العاملة بأن كل ضربة مطرقة ستؤدي إلى تحسين وضعها وتسهيل تثقيفها وتقريبها من سلام عالمي. والحال أن تلك الثقة لا يمكن أن تقدمها لها سوى ثورة اجتماعية. وينشر ارتفاع أسعار المأكولات الاستياء والتمرد في جميع البلدان. ولا تجد بجد برجوازيات فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبقية البلدان سوى مسكنات تواجه بها ويلات غلاء المعيشة وموجة الإضرابات المهددة. وكي تكون الدولة قادرة على أن تدفع للمزارعين ولو جزءا من تكاليف الإنتاج، فإنها تدخل، مثقلة بالديون، في مضاربات مشبوهة وتسرق نفسها بنفسها من أجل تأجيل ساعة وفاء الدين. وإذا صحّ أن بعض فئات العمال يعيش حاليا في شروط أفضل حتى من قبل الحرب، فإن ذلك لا يعني شيئا بالواقع فيما يتعلق بالحالة الاقتصادية للبلدان الرأسمالية. ويتم الحصول على نتائج مؤقتة بالاعتماد على الغد من أجل الاكتتاب بقروض مشعوذين؛ فسيحمل الغد البؤس وكل أنواع الآفات. وماذا نقول عن الولايات المتحدة ؟ « أمريكا أمل الإنسانية »: يقول ميللران. يردد هذا البورجوازي الفرنسي حكمة تورغو، وهو يأمل تأجيل ديونه، هو الذي لا يؤجل ديون أحد. لكن الولايات المتحدة ليست قادرة على إنقاذ أوربا من المأزق الذي تتخبط فيه. فقد استنفذت خلال السنوات الست الأخيرة مخزونها من المواد الأولية. فيما قلّص تكيف الرأسمالية الأمريكية مع متطلبات الحرب قاعدتها الصناعية. وكف الأوربيون عن الهجرة إلى أمريكا. وأفقدت موجة من العودة إلى الوطن الصناعة الأمريكية آلاف الألمانيين والايطاليين والبولنديين والصربيين والتشيكيين الذين كان يدعوهم إلى أوربا إمّا الاستنفار أو سراب وطن مستعاد. إن جمهورية ما وراء الأطلنطي ترزح تحت وطأة الافتقار إلى المواد الأولية واليد العاملة، الأمر الذي تدخل بسببه البروليتاريا الأمريكية مرحلة جديدة من النضال الثوري. فأمريكا تصبح أوربية بشكل سريع. ولم يفلت المحايدون من نتائج الحرب والحصار. وأشبه بسائل محتجز في أوعية متصلة، يتجه اقتصاد الدول الرأسمالية المرتبطة فيما بينها بشكل وثيق إلى اتخاذ مستوى واحد، مستوى البؤس والمجاعة والتلف، أكانت هذه الدول كبرى أو صغرى، محاربة أو محايدة، منتصرة أو مهزومة. فسويسرا تعيش كفاف يومها، وكل احتمال يهدد بطرحها خارج كل توازن. وفي اسكندنافيا لا يمكن أن يحل مشكلة التموين التصدير الواسع للذهب. كما تضطر إلى طلب الفحم من انكلترا بكميات ضئيلة وذلك بعد تملّق شديد. وبرغم المجاعة في أوربا يتعرض صيد السمك في النروج لأزمة مذهلة. ولا يمكن لإسبانيا التي جلبت منها فرنسا رجالا وخيولا وأطعمة، أن تتخلص من صعوبات جمة على الصعيد التمويني، تؤدي بدورها إلى إضرابات عنيفة وتظاهرات من جانب الجماهير التي يجبرها الجوع على النزول إلى الشارع. تعتمد البرجوازية اعتمادا قويا على الأرياف. ويؤكد اقتصاديوها أن رخاء الفلاحين إزداد ازديادا هائلا. إن هذا وهم. فصحيح أن الفلاحين الذين يحملون منتجاتهم إلى السوق قد جمعوا ثروة إلى هذا الحد أو ذاك، في كل مكان أثناء الحرب. باعوا منتجاتهم بأسعار عالية، ودفعوا ديونهم، التي ترتبت عليهم عندما كان سعر العملة مرتفعا، بعملة بخسة الثمن. لكن استثماراتهم سقطت، أثناء الحرب، في الفوضى وانخفاض مردودها. وكانوا بحاجة إلى أدوات مصنّعة، وقد تضاعفت سعر تلك الأدوات بقدر ما قلّت قيمة النقود. وأصبحت متطلبات مصلحة الضرائب هائلة، تهدد بابتلاع الفلاح من منتجاته وأراضيه. هكذا، بعد فترة انتعاش مؤقت من الرخاء، وقع فلاحو الطبقة الصغيرة أكثر فأكثر في صعوبات مستعصية. وازداد استياؤهم من نتائج الحرب. إن الفلاح، ممثلا بجيش دائم، يعد قدرا غير قليل من المفاجآت المزعجة للبرجوازية. إن ترميم أوربا اقتصاديا، الذي يتحدث عنه الوزراء الذين يحكمونها، ليس سوى كذبة. فأوربا تتهدم ومعها يتهدم العالم أجمع. فما من خلاص على أسس الرأسمالية. ولا يمكن سياسة الامبريالية أن تزيل العوز، فهي لا تستطيع إلاّ جعله أكثر إيلاما بتشجيعها تبديد المدخرات الباقية. أمّا مسألة الوقود والمواد الأولية فمسألة دولية لا يمكن أن تحل إلاّ على أساس إنتاج مخطط وجماعي واشتراكي. يجب إلغاء ديون الدولة. يجب تحرير العمل وثماره من الجزية الضخمة التي يدفعها للطغمة المالية العالمية. يجب إطاحة الطغمة المالية. يجب إسقاط الحواجز الحكومية التي تجزئ الاقتصاد العالمي. يجب استبدال المجلس الاقتصادي الأعلى لامبرياليي الدول الحليفة بالمجلس الاقتصادي الأعلى للبروليتاريا العالمية من أجل الاستثمار الممركز لجميع موارد البشرية. يجب القضاء على الامبريالية من أجل أن يستطيع الجنس البشري الاستمرار في البقاء.
3- النظام البرجوازي بعد الحرب تتركز كل طاقات الطبقات الثرية حول المسألتين التاليتين: البقاء في السلطة ابّان الصراع الدولي وعدم السماح للبروليتاريا بأن تصبح سيدة البلاد. وفقا لهذا البرنامج، اختفت المجموعات السياسية البرجوازية القديمة في روسيا، حيث أصبحت راية الحزب الدستوري الديموقراطي (الكاديت)، خلال الفترة الحاسمة من الصراع راية جميع الأغنياء المنتصبين ضد ثورة العمال والفلاحين، لكن أيضا في البلدان صاحبة الثقافة السياسية الأعرق والجذور الأعمق، واختفت معها البرامج السابقة التي كانت تُفرق مختلف الأجنحة البرجوازية، دون أن تترك أي أثر تقريبا. وذلك قبل الهجوم المعلن الذي قامت به البروليتاريا الثورية بوقت طويل. إن لويد جورج يجعل من نفسه المبشر باتحاد المحافظين والوحدويين والليبراليين في سبيل النضال المشترك ضد خطر سيطرة الطبقة العاملة. ويضع هذا الديماغوجي العجوز الكنيسة المقدسة في أساس نظامه، مقارنا إياها بمحطة كهرباء مركزية تزود جميع أحزاب الطبقات الثرية بتيار متساو. وفي فرنسا تبدو الفترة الصاخبة لمعاداة الاكليركية، والتي ما زالت قريبة العهد، وكأنها رؤيا من عالم آخر: فالراديكاليون والملكيون والكاثوليك يشكلون حاليا كتلة للنظام الوطني ضد البروليتاريا التي ترفع رأسها. وتمد الحكومة الفرنسية يدها إلى جميع القوى الرجعية، مقدمة دعمها لعضو عصابة المائة السود، رانغل، وتعيد علاقاتها الديبلوماسية مع الفاتيكان. ويمسك المحايد المقتنع بحياده، المشايع للألمان، جيوليتي، بدفة الدول الإيطالية بصفته القائد العام للمتدخليين والمحايدين والاكليريكيين والماتزينيين:222 وهو مستعد لأن يتحايل في المسائل الثانوية الخاصة بالسياسة الداخلية والخارجية كي يصد بحيويته أقوى هجوم البروليتاريين الثوريين في المدن والقرى. وتعتبر حكومة جيوليتي نفسها، بحق، الورقة الأخيرة للبرجوازية الإيطالية. وتتجه سياسة جميع الحكومات الألمانية والأحزاب الحكومية، بعد هزيمة عائلة هوهنزولرن، بالاتفاق مع الطبقات الحاكمة للبلدان المتحالفة، إلى إقامة أرضية مشتركة من الحقد ضد البلشفية، أي ضد الثورة البروليتارية. وبينما يخنق شيلوك(****) الأنكلو-فرنسي الشعب الألماني بوحشية متزايدة، تطلب البرجوازية الألمانية من العدو، دون تمييز بين أحزابها، أن يحلّ العقدة التي تخنقها بالقدر الذي يسمح لها فقط بذبح طليعة البروليتاريا الألمانية بيدها. وهذا بالإجمال ما تدور حوله دائما الاجتماعات الدورية التي تعقد، والاتفاقات التي توقع بشأن نزع الأسلحة وتسليم الآليات الحربية. وفي أمريكا لم يعد ثمة فرق بين جمهوريين وديموقراطيين. وقد أظهرت هاتان المنظمتان السياسيتان القويتان للمستغِلين والمكيفتان وفق الدائرة الضيقة للمصالح الأمريكية، أظهرتا بوضوح تام كم كانتا مجردتين من الحزم عندما دخلت البرجوازية الأمريكية ميدان اللصوصية العالمية. لم يحدث أبدا أن برهنت دسائس القادة وعصاباتهم – في المعارضة كما في الوزارات – عن مثل هذه الصفاقة، وأن تحركت بمثل هذه العلنية. بيد أن كل القادة وزمرتهم الأحزاب البرجوازية في كل البلدان، يشكلون جبهة موحدة ضد البروليتاريا الثورية. وبينما يستمر أغبياء الاشتراكية-الديموقراطية بمواجهة أعمال عنف الطريق الديكتاتوري بطريق الديموقراطية، تداس آخر آثار الديموقراطية بالأقدام وتعدم في جميع دول العالم. وبعد حرب كانت مجالس الممثلين خلالها، رغم أنها لا تتمتع بالسلطة، تستخدم من أجل تغطية نشاط العصابات الحاكمة الامبريالية بصرخاتها الوطنية، سقطت البرلمانات في انحطاط كامل. فجميع المسائل الجدية تُحل خارج البرلمانيات، ولا يعبّر بطابع الأمر شيئا التوسيع الوهمي للصلاحيات البرلمانات الذي يعلنه بأبهة مشعوذو الامبريالية في ايطاليا وبقية البلدان. وكأسياد فعليين للموقف، ومتحكمين بمصير الدول، فإن لورد روتشيلد، ولورد فير، ومورغان وروكفببر، وشنايدر ولوثور، وهوغوستينز وفيليكس دوتش، وريزيللو وآنيللي، – ملوك الذهب والفحم والنفط والمعادن،– يتحكمون خلف الكواليس مرسلين صغار موظفيهم إلى البرلمانات من أجل تصريف أعمالهم. أمّا البرلمان الفرنسي الذي ما زال يتسلى بأصول قراءة مشاريع القوانين التافهة ثلاث مرات، البرلمان الفرنسي الذي تحط من شأنه أكثر من غيره الخطابة المفرطة والكذب والصفاقة التي يبيع نفسه بها، فهو يكتشف فجأة أن الأربع مليارات التي خصصها للترميم في الأقاليم المخربة من فرنسا قد أنفقها كليمنصو لأهداف مختلفة كليا، وبشكل رئيسي لمواصلة أعمال التخريب الجارية في المقاطعات الروسية. والأغلبية الساحقة من نواب البرلمان الانكليزي، المزعوم أنه كلي القدرة، لا تعرف من النوايا الفعلية للويد جورج ولكرسن، فيما يتعلق بروسيا السوفياتية وحتى بفرنسا، أكثر مما تعرف عنها النسوة العجائز في قرى البنغال. أمّا البرلمان في الولايات المتحدة فيشكل جوقة طيّعة أو أنه أحيانا تحت عصا الرئيس. وهذا البرلمان ليس سوى خادم للآلة الانتخابية التي تشكل جهازا سياسيا للتروستات – وبقدر أوسع بكثير الآن، بعد الحرب، مما كان الأمر عليه في السابق. والبرلمانية الألمانية المتأخرة، طِرْحُ الثورة البرجوازية التي ليست هي نفسها سوى طرْحُ التاريخ، كانت منذ طفولتها عرضة لجميع الأمراض التي تصيب الكلاب الهرمة. إن رايخ جمهورية إييبرت « الأكثر ديموقراطية في العالم » يبقى عاجزا ليس أمام العصا التي يلوح بها المارشال فوش وحسب، بل أيضا أمام دسائس رجال بورصته، ,امثال ستين لديه، كما أمام المؤامرات العسكرية لزمرة من الضباط. فالديموقراطية البرلمانية الألمانية ليست سوى فراغ بين ديكتاتوريتين. لقد حدثت تغيرات عميقة في تكوين البرجوازية نفسه، أثناء الحرب. فبوجه الافقار الشامل للعالم بأجمعه، قفز تمركز الرساميل قفزة كبيرة إلى الأمام، وبرزت بيوت تجارية إلى الصدارة كانت قد بقيت في الظل سابقا. إن الصلابة والتوازن والميل إلى المساومات « العقلانية »، والحفاظ على بعض اللياقة في الاستغلال كما في استعمال المنتجات – كل هذا جرفه سيل الامبريالية. إنهم أثرياء جدد تصدروا الواجهة: ممونو جيوش، مضاربون من الدرجة الدنيا، محدثو نعمة، أغنياء مشبوهون، نهابون، مجرمون سابقون يغطيهم الماس، أوغاد دون إيمان ولا شريعة، شرهون إلى الترف، مستعدون لأقصى الفضائع من أجل إعاقة الثورة البروليتارية التي لا يمكن أن تعدهم إلاّ بأنشوطة. إن النظام الحالي، كونه نظام سيطرة الأغنياء، ينتصب بوجه الجماهير بكل صلافته. وفي أمريكا وفرنسا وإنكلترا، اتخذ الترف بعد الحرب طابعا جنونيا. وباريس المزدحمة بطفيليي الوطنية الدولية، تشبه حسب اعتراف « الزمن »، بابل عشية كارثة. حسب رغبة هذه البرجوازية، تنتظم السياسة والعدالة والصحافة والفن والكنيسة. كل الكوابح وكل المبادئ طُرحت جانبا. ولا يتوانى ولسون وكليمنصو وميللران ولويد جورج وتشرشل عن القيام بأوقح الخدائع وأفحش الأكاذيب، وعندما يفاجؤون أثناء قيامهم بالأعمال الساقطة، يتابعون بهدوء مآثرهم التي يجب أن تقودهم إلى محكمة الجنايات. ولم تعد القواعد الكلاسيكية للانحراف السياسي التي صاغها العجوز مكيافللي سوى حِكَم سادجة لغبي ريفي، بالمقارنة مع المبادئ التي يسير عليها حكام اليوم البورجوازيين. لقد راحت المحاكم التي كانت في السابق تغطي جوهرها البرجوازي برداء ديموقراطي برّاق، تهين البروليتاريا علنا وتقوم بعمل استفزازي معادٍ للثورة. ودون تردد، يطلق قضاة الجمهورية الثالثة قاتل جوريس وتشجع محاكم ألمانيا، التي كانت قد أُعلنت جمهورية اشتراكية، قتلة ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ وكثير من بقية شهداء البروليتاريا. إن محاكم الديموقراطيات البرجوازية تعمل على جعل كل جرائم الإرهاب الأبيض، جرائم قانونية بشكل رسمي. إن الصحافة البرجوازية تبيع نفسها علنا، وتحمل دمغة البيع على جبينها مثل الماركة التجارية. فالصحف القيادية للبرجوازية العالمية هي فبارك أكاذيب ضخمة وافتراءات وسجون روحية. إن استعدادات البرجوازية ومشاعرها عرضة للصعود والهبوط العصبي كأسعار أسواقها. وطوال الأشهر الأولى التي تلت الحرب، اصطكّت أسنان البرجوازية العالمية، وخاصة الفرنسية أمام الشيوعية المتهدّدة. وجعلت من الخطر المحدق فكرة مرتبطة بالجرائم الدامية التي ارتكبتها، لكنها عرفت كيف تصد الهجوم الأول. لقد قدّمت لها الأحزاب الاشتراكية ونقابات الأممية الثانية، المرتبطة بها بسلاسل مسؤولية مشتركة، خدمة أخيرة، إذ أدارت ظهرها لأولى الضربات التي سددها غضب الشغيلة. ونالت البرجوازية قسطا من الراحة لقاء غرق الأممية الثانية بالكامل. وقد تطلب الأمر عددا من التصويتات المعادية للثورة حصل عليها كليمنصو في الانتخابات البرلمانية، وبضعة أشهر في التوازن غير المستقر، وفشل إضراب ماي، حتى استطاعت البرجوازية الفرنسية أن تنظر بأمان إلى صلابة نظامها الراسخة. وبلغت غطرسة هذه الطبقة المستوى الذي كانت قد بلغته مخاوفها في السابق. لقد أصبح التهديد الحجة الوحيدة للبرجوازية، فهي لا تؤمن بالأقوال وتطالب بالأفعال: اعتقلوا، فرقوا التظاهرات، صادروا، أرموا بالرصاص ! ويعمل الوزراء والبرلمانيون البرجوازيون على خداع البرجوازية بالتظاهر بأنهم رجال فولاذ. فينصح لويد جورج، بخشونة، الوزراء الألمان بإعدام « الكومونيين » لديهم، كما حصل في فرنسا عام 1871. ويمكن موظفا من الدرجة الثالثة أن يعتمد على التصفيق الصاخب للمجلس إذا عرف كيف يضع في نهاية تقرير تافه بضع تهديدات موجهة إلى العمال. وبينما تتحول الإدارة إلى منظمة وقحة أكثر فأكثر، معدة لممارسة قمع دموي إزاء الطبقات الكادحة، تعمل منظمات أخرى معادية للثورة، مشكلة تحت إشرافها، وموضوعة تحت تصرفها، على منع الإضرابات بالقوة، والقيام بالاستفزازات والادلاء بشهادات كاذبة وتدمير المنظمات الثورية والاستيلاء عن المؤسسات الشيوعية، وارتكاب المجازر والحرائق، واغتيال الأسر الثورية، واتخاذ إجراءات أخرى من النوع نفسه في سبيل الدفاع عن الملكية الخاصة والديموقراطية. ويشكل أبناء كبار الملاكين وكبار البرجوازيين، والبرجوازيون الصغار الذين لا يعرفون من يهاجمون، وبشكل عام العناصر الفاقدة لهويتها الطبقية، وبالدرجة الأولى المذكورون آنفا من مختلف فئات الروس المهاجرين، كوادر احتياط لا تنضب للجيوش غير النظامية المعادية للثورة، وعلى رأسهم ضباط نشأوا في مدرسة الحرب الامبريالية. ويشكل العشرين ألف ضابط من جيش هوهنزولرن، خاصة بعد انتفاضة كاب-لوتفيتز، نواة ثورة مضادة صلبة، لا تقوى الديموقراطية الألمانية على التخلص منها مباشرة، إذا لم تقم مطرقة ديكتاتورية البروليتاريا بتحطيمها. وتكتمل هذه المنظمة الممركزة من إرهابيي النظام السابق بفصائل الأنصار المشكلة من قبل كبار الجلادين البروسيين. وفي الولايات المتحدة، تشكل الاتحادات مثل عصبة الأمن الوطني وفرسان الحرية طليعة الرأسمال، وتعمل على ضفافها عصابات اللصوص الممثلة بـ وكالة التحري للتجسس الخاص. وفي فرنسا ليست العصبة المدنية شيئا آخر سوى منظمة متقنة من « الثعالب »، بينما جرى حل اتحاد العمال، على الرغم من كونه إصلاحيا. أمّا مافيا الضباط البيض في هنغاريا، التي ما زالت تحتفظ بوجود سري مع أن حكومتهم المؤلفة من الجلادين المعادين للثورة تستمر تبعاً لرغبة انكلترا، فقد أظهرت أمام بروليتاريا العالم بأسره، كيف تمارس هذه الحضارة وهذه الإنسانية اللتين يتبناهما ويلسون ولويد جورج، بعد أن لعنا سلطة السوفيات وأعمال العنف الثوري. وتجهد الحكومات « الديموقراطية » في فنلندا وجيورجيا وليتوانيا واستونيا من أجل الوصول إلى مستوى كمال مثالها الهنغاري. وفي برشلونة، لدى الشرطة عصابات من المجرمين تأتمر بأوامرها، وكذلك الحال في كل مكان. وحتى في بلد مهزوم ومهدم كبلغاريا، يجتمع الضباط الذين لا عمل لهم في جمعيات سرية مستعدة لدى أول إشارة للبرهنة عن وطنيتها على حساب العمال البلغاريين. هكذا يوضع برنامج التوفيق بين المصالح المتناقضة والتعاون الطبقي والإصلاحية البرلمانية والتشريك التدريجي والاتفاق المتبادل داخل كل أمة، موضع التنفيذ في النظام البرجوازي لما بعد الحرب. إن كل هذا لا يمثل سوى تهريج مشؤوم. وقد رفضت البرجوازية نهائيا توفيق مصالحها الخاصة مع مصالح البروليتاريا عن طريق إصلاحات بسيطة. وهي تفسد أولئك الذين ينالون الصدقات من الطبقة العاملة، وتُخضع البروليتاريا لقاعدة لا تلين، عن طريق الحديد والنار. ما من مسألة هامة تقرّر بغالبية الأصوات، ولم يبق من المبدأ الديموقراطي سوى ذكرى في أدمغة الإصلاحيين الضبابية. وتصر البرجوازية كل يوم، بشكل متزايد، على تجنيد ما يشكل العصب الأساسي للحكومات، أي أفواج الجنود. ولم تعد البرجوازية تضيع وقتها في « عدّ الإجاصات على الشجرة » فهي تعدّ البنادق والرشاشات والمدافع التي ستكون بمتناولها عندما تحين الساعة التي لا تعود فيها مسألة السلطة والملكية تحتمل أي تأجيل. من يأتي ليحدثنا عن التعاون أو الوساطة ؟ إن ما ينبغي لخلاصنا هو دمار البرجوازية، والثورة البروليتارية وحدها هي التي تستطيع أن تحدث هذا الدمار.
4- روسيا السوفياتية تتلاطم الشوفينية والجشع والنزاع في رقصة جامحة، فيما يبقى المبدأ الشيوعي وحده، في مواجهة العالم، حيويا وخلاقا. ورغم أن السلطة السوفياتية قد قامت، كبداية، في بلد متخلف خربته الحرب، ومحاط بأعداء أقوياء، فقد أظهرت أنها تتمتع ليس بصلابة نادرة فحسب، بل أيضا بنشاط مذهل. لقد برهنت بالفعل عن قوة الشيوعية الكامنة. ويشكل تطور السلطة السوفياتية وتوطيدها نقطة الذروة في تاريخ العالم منذ إنشاء الأممية الشيوعية. حتى الآن، كانت دائما القدرة على تشكيل جيش هي المقياس لكل نشاط اقتصادي أو سياسي. وقوة الجيش أو ضعفه هما المؤشر الذي يخدم في تقدير قوة الدولة أو ضعفها من الناحية الاقتصادية. لقد خلقت سلطة السوفياتات، على دوي المدافع، قوة عسكرية من الدرجة الأولى، وبفضلها تغلبت بتفوق لا جدال فيه ليس على أبطال روسيا القديمة الملكية والبرجوازية وحسب، وعلى جيوش كولتشاك ودينكين ويدونتش وفرانجل وآخرين، بل أيضا على الجيوش الوطنية للجمهوريات « الديموقراطية » التي دخلت الحرب وفقا لرغبة الامبريالية العالمية (فنلندا واستونيا وليتوانيا وبولندا). من الناحية الاقتصادية، فإن صمود روسيا السوفياتية هذه السنوات الثلاث الأولى، هو معجزة كبيرة، بل إنها قامت بأفضل من ذلك، لقد تطورت بما أنها إذ امتلكت طاقة انتزاع أدوات الاستغلال من بين أيدي البرجوازية، جعلت منها أدوات إنتاج صناعي ووضعتها في العمل بشكل منهجي. ولم يمنعها ضجيج المدفعية على طول الجبهة التي تحيط بروسيا من جميع الجوانب من اتخاذ إجراءات في سبيل إعادة تنظيم الحياة الاقتصادية والثقافية المزعزعة. إن احتكار الدولة الاشتراكية للمواد الغذائية الأساسية، والنضال الذي لا يرحم ضد المضاربين، هما وحدهما اللذان انقذا المدن الروسية من مجاعة قاتلة، وأتاحا إمكانية التموين للجيش الأحمر. أمّا جمع المصانع والمشاغل وسكك الحديد والطرق البحرية تحت رقابة الدولة فهو وحده الذي سمح بجعل الإنتاج منتظما وبتنظيم النقل. ويؤدي تمركز الصناعة والنقل بين أيدي الحكومة إلى تبسيط الأساليب التقنية، بخلق أنماط واحدة لمختلف القطع، أنماط تستخدم كنموذج لكل إنتاج لاحق. فالاشتراكية وحدها تجعل من الممكن التقدير الدقيق لكمية المسامير الكبيرة للقاطرات والعربات والسفن البخارية الواجب إنتاجها وإصلاحها. ويمكن كذلك توقّع الإنتاج الإجمالي الضروري لقطع الآلات المطابقة للنموذج دوريا، الأمر الذي يمثل مكاسب جمة لزيادة وتيرة الإنتاج. ولم تعد تواجه التقدم الاقتصادي والتنظيم العملي للصناعة وتطبيق نظام تايلور مطهرا من جميع الميول إلى الاستغلال الفظ « Sweating »، أية عوائق إلاّ تلك التي يعمل على إثارتها الامبرياليون الأجانب. وبينما تشكل مصالح القوميات، التي تصطدم بمطامع الامبرياليين، مصدرا دائما للتبرعات العالمية والتمردات والحروب، أظهرت روسيا السوفياتية أن حكومة عمالية هي القادرة على التوفيق بين الحاجات الوطنية والحاجات الاقتصادية، مطهّرة الأولى من كل شوفينية والثانية من كل امبريالية. وتهدف الاشتراكية إلى ربط جميع الأقاليم وجميع المقاطعات وجميع القوميات بوحدة النظام الاقتصادي نفسه. إن المركزية الاقتصادية لن تقبل بعد الآن باستغلال طبقة لأخرى وأمة لأخرى، وكونها، انطلاقا من هذا بالذات، في مصلحة الجميع على السواء، فإنها لا تشلّ أي شكل من التطور الحر للاقتصاد الوطني. إن مثال روسيا السوفياتية يسمح لشعوب أوربا الوسطى وجنوب شرق البلقان والممتلكات الاستعمارية لبريطانيا العظمى، وجميع الأمم والشعوب الصغرى المضطهدة، وللشعب المصري والإيرلندي والبلغاري، بإدراك أن تضامن جميع قوميات العالم ليس ممكن التحقيق إلاّ باتحاد جمهوريات سوفياتية. لقد جعلت الثورة من روسيا القوة البروليتارية الأولى. منذ ثلاث سنوات على وجودها، لم تتوقف حدودها عن التغير. وبعد أن أصبحت أكثر ضيقا بسبب هجوم الامبريالية العالمية، كانت تسترجع اتساعها عندما تخف وطأة الهجوم. أصبح النضال من أجل السوفياتات نضالا ضد الرأسمالية العالمية، وغدت مسألة روسيا السوفياتات المحك لجميع المنظمات العمالية. فالخيانة الثانية الدنيئة للاشتراكية-الديموقراطية الألمانية، بعد خيانة الرابع من أغسطس عام 1914، تمثلت، بعد اشتراكها في الحكومة، بطلب نجدة الامبريالية الغربية، بدل التحالف مع ثورة الشرق، ولو أن ألمانيا السوفياتية تحالفت مع روسيا السوفياتية، لكانتا، وحدهما فقط، أقوى من كل الدول الرأسمالية مجتمعة. لقد جعلت الأممية الشيوعية من قضية روسيا السوفياتية قضيتها. ولن تعيد البروليتاريا العالمية سيفها إلى الغمد إلاّ عندما تكون روسيا السوفياتية قد أصبحت إحدى حلقات اتحاد جمهوريات سوفياتية تشمل العالم.
5- الثورة البروليتارية والأممية الشيوعية إن الحرب الأهلية على جدول الأعمال في العالم أجمع، وشعارها: « السلطة للسوفياتات ». لقد جعلت الرأسمالية من البروليتاريا الأكثرية الساحقة من الانسانية. وأخرجت الامبريالية الجماهير من بلادتها ودفعتها إلى الحركة الثورية. والذي نعنيه الآن بكلمة « جمهور » ليس هو ما كنّا نعنيه بها منذ بضع سنوات. فما كان جمهورا في عصر الإمبريالية، في عصر البرلمانية والنقابية، أصبح النخبة في أيامنا. إن ملايين الرجال وعشرات الملايين منهم الذين عاشوا حتى الآن خارج كل سياسة يتحولون إلى جمهور ثوري. لقد أيقظت الحرب العالم كله، وأيقضت الحس السياسي لدى أكثر الأوساط تخلفا، لقد أعطتهم الأوهام والآمال وخيبتها جميعا. انضباط نقابي ضيق، وبالإجمال، بلادة البروليتاريين الأكثر وعيا، من جهة، وخمول الجماهير الذي لا شفاء منه من جهة أخرى – هذه السمات المميزة للأشكال القديمة من الحركة العمالية قد سقطت في النسيان إلى الأبد. ودخل ملايين من المتطوعين الجدد على الخط. فيما تسهم النساء، اللواتي فقدن أزواجهن وآباءهن، وكان عليهن أن يعملن مكانهم، مساهمة واسعة في الحركة الثورية. واستقبل عمال الجيل الجديد الذين اعتادوا دوي الحرب ووميضها منذ الطفولة، استقبلوا الثورة وكأنها عنصر طبيعي بالنسبة لهم. يمر النضال من مراحل مختلفة تبعا للبلد. لكن هذه المعركة هي المعركة الأخيرة. ويحدث أنَّ تدفق الموجات الثورية على طرح منظمة بالية يهب تلك المنظمة حياة جديدة. هنا وهناك على سطح الأمواج، تطفو رايات قديمة وشعارات نصف ممحوّة. الأدمغة مليئة بالاضطراب والظلمات والأفكار المسبقة والأوهام. لكن الحركة الثورية بمجملها تمتلك طابعا ثوريا بالعمق. لا يمكن إضعافه أو إيقافه، إنه يمتد، ويترسّخ ويتطهر ويلفظ كل ما مرّ عليه الزمن. ولن يتوقف ما لم تصل البروليتاريا العالمية إلى السلطة. إن الإضراب هو الوسيلة الأكثر اعتيادا لدى الحركة الثورية. والذي يتسبب به في الغالب، وبشكل لا يقهر، هو ارتفاع أسعار المواد الغذائية ذات الضرورة الأولية. وغالبا ما ينبثق الإضراب عن نزاعات إقليمية. وهو صرخة احتجاج من الجماهير التي عيل صبرها من تآمر الاستراكيين البرلماني، ويعبر عن التضامن بين المستغَلين في البلد الواحد أو في بلدان مختلفة. وشعاراته ذات طابع اقتصادي وسياسي في آن. وغالبا ما تختلط فيه شعارات الثورة الاجتماعية مع نتف إصلاحية. وهو يغضب البرجوازية لأنه يغتنم كل فرصة ليعبر عن تعاطفه مع روسيا السوفياتية، ولا تخدعه هواجس المستغلين. هذا الإضراب المشوَّش ليس في الواقع سوى استعراض للقوى الثورية، واستنفار للبروليتاريا الثورية كي تحمل السلاح. إن التبعية الوثيقة التي تربط كل البلدان الواحد بالآخر والتي تظهر بشكل كارثي أثناء الحرب، تعطي أهمية خاصة لفروع العمل التي تربط بين البلدان، وتضع عمال سكك الحديد في الصدارة، وعمال النقل عموما: لقد أتيحت الفرصة لبروليتاريا النقل لتظهر جانبا من قوتها بمقاطعة هنغاريا البيضاء وبولندا البيضاء. واكتسب الإضراب والمقاطعة، وهما أسلوبان كانت الطبقة العاملة تطبقهما في بداية نضالها النقابي، أي عندما لم تكن قد بدأت بعد باستخدام البرلمانية، اكتسبا في أيامنا الأهمية نفسها والدلالة نفسها الخطيرتين كما عند إعداد المدفعية قبل الهجوم الأخير. إن العجز الذي يجد المرء نفسه إزاءه قد صغر أمام الاندفاعة العمياء للأحداث التاريخية. لا يُكره مجموعات جديدة فقط من العمال والعاملات على دخول صفوف المنظمات النقابية، بل أيضا المستخدمين والموظفين والمثقفين البرجوازيين الصغار. وقبل أن يفرض مسار الثورة البروليتارية إنشاء سوفياتات تحلق فوق كل المنظمات العمالية الهرمة، يتجمع الشغيلة في نقابات ويتحملون في هذه الأثناء التركيبة القديمة لها في النقابات وبرنامجها الرسمي ونخبتها القيادية، لكنهم في الوقت نفسه يحملون إلى هذه المنظمات العمالية الطاقة الثورية المتنامية للجماهير، التي لم تكن قد تكشفت بعد. إن الفئات الدنيا، البروليتارين في الريف والعمال اليدويين، ترفع رأسها. وفي إيطاليا وألمانيا والبلدان الأخرى، نشهد نموا رائعا لحركة العمال الزراعيين الثورية وتقاربهم مع بروليتاريا المدن. وينظر الفلاحون الفقراء بعين الاستحسان إلى الاشتراكية. وإذا كانت دسائس الإصلاحيين البرلمانية، التي تسعى إلى استغلال الأفكار المسبقة حول الملكية لدى الموجيك،222 بقيت دون جدوى، فإن حركة البروليتاريا الثورية حقا ونضالها العنيد ضد المضطهدين، يولدان بصيص أمل في قلب الشغيل الأكثر تواضعا، والأشد إرهاقا، والأكثر بؤسا. إن هوة البؤس البشري والجهل لا قرار لها. وكل شريحة نهضت للتوّ تترك وراءها شريحة أخرى تكاد تحاول أن تنهض. لكن ليس للطليعة أن تنتظر جمهور المؤخرة الكثيف كي تبدأ المعركة. فإن مهمة إيقاظ الفئات الأكثر تخلفا وحثها وتربيتها، ستتولاها البروليتاريا عندما تكون قد وصلت إلى السلطة. لقد استيقظ شغيلة المستعمرات والبلدان شبه المستعمرة. وفي المساحات اللامتناهية للهند ومصر وإيران، حيث يتمدد أفعوان الامبريالية الأمريكية ذو الرؤوس السبعة، في هذا البحر البشري الذي لا قرار له، يتم عمل مستتر، غير منقطع، يثير أمواجا ترتعد لها أسهم البورصة والأفئدة في « السيتي ». وفي حركة الشعوب المستعمرة، يختلط العنصر الاجتماعي بجميع أشكاله مع العنصر الوطني، لكن كليهما موجهان ضد الامبريالية، وبدءا بالمحاولات الأولى، وصولا إلى الأشكال المتقنة، يتواصل طريق النضال في المستعمرات والبلدان المتخلفة بخطى حثيثة، حيث ضغط الامبريالية وبقيادة البروليتاريا الثورية. إن التقارب المثمر الذي يجري بين الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية التي توحدها السلالة المشتركة للسيطرة الانكليزية والسيطرة الأجنبية عموما، كما أن التطهير الداخلي للحركة، والتضاؤل المستمر في نفوذ رجال الدين والرجعية الشوفينية، والنضال الذي يقوم به السكان المحليون في آن واحد ضد الغزاة وضد ملاكيهم الإقطاعيين، كهنة ومرابين، كل ذلك يجعل من جيش الانتفاضة المتعاظم في المستعمرات قوة تاريخية من الطراز الأول، واحتياطا لا ينضب للبروليتاريا العالمية. المنبوذون ينهضون، ويتجه فكرهم الذي يستيقظ نحو روسيا السوفياتية، نحو المتاريس المقامة في شوارع مدن ألمانيا، نحو النضال المستميت للعمال المضربين في انكلترا، نحو الأممية الشيوعية. إن الاشتراكية التي تدافع عن الوضع المتميز لبعض الأمم على حساب الأخرى، دفاعا مباشرا أو غير مباشر، وتتكيف مع العبودية الاستعمارية وتقبل اختلافا في الحقوق بين البشر من أعراق وألوان مختلفة، وتساعد البرجوازية في الحواضر في الإبقاء على سيطرتها على المستعمرات، بدل تشجيع الانتفاضة المسلحة لتلك المستعمرات؛ إن الاشتراكية الانكليزية التي لا تدعم بكل قوتها انتفاضة إيرلندا ومصر و الهند ضد سلطة الأغنياء اللندنية – تلك « الاشتراكية »، بعيدا عن أن تطمح لتمثيل البروليتاريا وتكسب ثقتها، تستحق، إن لم يكن الرصاص فوصمة العار على الأقل. والحال فإن البروليتاريا في جهودها الرامية إلى تحقيق الثورة العالمية، تصطدم ليس فقط بخطوط الأسلاك الشائكة نصف المدمرة التي ما زالت تنتصب بين البلدان منذ الحرب، بل على الأخص بأنانية المنظمات الحزبية والنقابية الهرمة، ونزعتها المحافظة وعماها، هذه المنظمات التي عاشت على حساب البروليتاريا في الحقبة السابقة. إن الخيانة التي أصبحت الاشتراكية-الديموقراطية العالمية معتادة عليها، ليست لها نظير في تاريخ النضال ضد العبودية. وتظهر أكثر آثارها فضاعة في ألمانيا، فهزيمة الامبريالية الألمانية كانت في الوقت نفسه هزيمة للنظام الاقتصادي الرأسمالي. وباستثناء البروليتاريا، لم تكن توجد أية طبقة تستطيع أن تطمح إلى سلطة الدولة. وكان تحسين التقنية وعدد الطبقة العاملة الألمانية ومستواها الثقافي ضمانات أكيدة لنجاح الثورة الاجتماعية. وللأسف اعترضت الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية الطريق. وبفعل مناورات معقدة اختلطت فيها الحيلة بالغباء، شلت طاقة البروليتاريا، من أجل حرفها عن الاستيلاء على السلطة، التي كانت هدفها الطبيعي والضروري. لقد اجتهدت الاشتراكية-الديموقراطية، خلال عشرات السنين، لكسب ثقة العمال، كي تضع كل نفوذها، فيما بعد، في خدمة المستغِلين، في اللحظة الحاسمة التي كان مصير المجتمع البرجوازي خلالها في خطر. إن خيانة الليبرالية وافلاس الديموقراطية البرجوازية حادثتان تافهتان بالمقارنة مع خيانة الأحزاب الاشتراكية البشعة. ويشحب دور الكنيسة نفسها، تلك المحطة الكهربائية المركزية للنزعة المحافظة، كما حددها لويد جورج، أمام دور الأممية الثانية المعادي للاشتراكية. لقد أرادت الاشتراكية تبرير خيانتها للثورة، خلال الحرب، بصيغة الدفاع الوطني، وهي تغطي سياستها المعادية للثورة، بعد اتفاق السلام، بصيغة الديموقراطية. دفاع وطني وديموقراطية، هاتان هما الصيغتان الرسميتان لاستسلام البروليتاريا أمام إرادة البرجوازية. لكن الانهيار لا يقف عند هذا الحد. فالاشتراكية-الديموقراطية، إذ تواصل سياستها في الدفاع عن النظام الرأسمالي، مجبرة على أن تدوس بالأقدام « الدفاع الوطني » و« الديموقراطية »، سائرة في ركب البرجوازية. فيقبّل شيدمان وأيبرت أيدي الامبريالية الفرنسية التي يطالبان دعمها ضد الثورة السوفياتية. ويجسد نوسكه الإرهاب الأبيض والثورة المضادة البرجوازية. أمّا ألبرت توماس فتحول إلى سمسار لعصبة الأمم، هذه الوكالة الشائنة للامبريالية، وأصبح فاندرفلد، الصورة المعبّرة عن هشاشة الأممية الثانية التي كان زعيما لها، وزيرا للملك، وزيميلاً لدولاكروا رجل الدين، ومدافعا عن رجال الدين الكاثوليك البلجيكيين، ومحاميا للفضاعات الرأسمالية المرتكبة ضد زنوج الكونغو. وهندرسون الذي يقلد كبار رجال البرجوازية، والذي يمثل على التوالي دور وزير الملك وممثل المعارضة العمالية لجلالته، وتوم شو الذي يطالب الحكومة السوفياتية ببراهين لا تدحض حول كيف أن حكومة لندن مؤلفة من نصابين ولصوص وحانثين باليمين، من هم أولئك السادة جميعا، إن لم يكونوا الأعداء اللدودين للطبقة العاملة ؟ رينير وسيتز، نيمتس وتوزار، ترولسترا وبرانتينغ، دزاينسكي وتشكيدزه، كل منهم يعبر عن لغة برجوازيته الصغيرة غير الشريفة، يعبر عن إفلاس الأممية الثانية. وأخيرا كال كاوتسكي المنظر السابق للأممية الثانية والماركسي السابق، يصبح المستشار المتلعثم، المعتمد رسميا لدى الصحافة الصفراء في جميع البلدان. إن العناصر الأكثر مرونة ضمن الاشتراكية الهرمة، تحت تأثير اندفاع الجماهير ودون أن تغيّر من طبيعتها أو من أسلوبها ولونها، تنفصل أو تستعد للانفصال عن الأممية الثانية، المتقهقرة كما هي دائما أمام كل تحرك جماهيري وثوري، وحتى أمام كل بداية جدية للتحرك. ومن أجل تعيين الممثلين في هذا الحقل التنكري، وكشفهم في الوقت نفسه، يكفي القول بأن الحزب الاشتراكي البولندي الذي يتزعمه دازينسكي وشفيعه بيلسودسكي، حزب الصلافة البرجوازية والتعصب الشوفيني، يعلن انسحابه من الأممية الثانية. وتبقى، في الواقع، النخبة البرلمانية القيادية للحزب الاشتراكي الفرنسي التي تقترع الآن ضد الموازنة وضد معاهدة فرساي، إحدى دعائم الجمهورية البرجوازية. ومن وقت لآخر، تذهب معارضتها إلى مدى أبعد. وذلك بالضبط كي لا تتزعزع نصف-الثقة التي تمنحها أكثر أوساط البروليتاريا محافظة. وفي القضايا الأساسية للصراع الطبقي، تستمر الاشتراكية البرلمانية الفرنسية في خداع إرادة الطبقة العاملة، بالإيحاء لها أن اللحظة الراهنة ليست مناسبة للاستيلاء على السلطة، لأن فرنسا مفقرة جدا، كما كانت بالأمس غير مهيأة بسبب الحرب، وكما كان الازدهار الاقتصادي عشية الحرب هو العائق، وقبله الأزمة الصناعية. وإلى جانب الاشتراكية البرلمانية وعلى المستوى نفسه تقف النقابة الثرثارة والمراوغة، نقابية جوهو وشركاه. إن إنشاء حزب شيوعي قوي ومفعم بروح الوحدة-الإنضباط في فرنسا، هو مسألة حياة أو موت بالنسبة للبروليتاريا الفرنسية. يتلقى الجيل الجديد من العمال الألمان تربيته من الإضرابات والانتفاضات ويستمد قوته منها. وستكلفه تجربته عددا متزايدا من الضحايا بقدر ما يستمر الحزب الاشتراكي المستقل بالخضوع لتأثير المحافظين الاشتراكيين-الديموقراطيين والروتينيين الذين يتذكرون الاشتراكية-الديموقراطية من عهد بيبل، والذين لا يفهمون شيئا عن الطابع الثوري للمرحلة، ويرتجفون أمام الحرب الأهلية والإرهاب الثوري، وينجرفون مع تيار الأحداث بانتظار المعجزة التي يجب أن تأتي لإنقادهم من عجزهم. لكن حزب روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت يعلّم العمال الألمان تحت نار المعركة، أين يوجد الطريق الصحيح. أمّا داخل الحركة العمالية الانكليزية، فيسيطر الروتين على الحركة، بحيث أن انكلترا لم تشعر بعد بحاجة إلى نقل البندقية من كتف إلى آخر: فزعماء الحزب العمالي البريطاني يصرّون على البقاء ضمن أطر الأممية الثانية. وبينما جعل مجرى أحداث السنوات الأخيرة الجماهير الكادحة قادرة على استيعاب البرنامج الثوري على أحسن ما يكون، إذ زعزع استقرار الحياة الاقتصادية في انكلترا المحافظة، فإن الآلية الرسمية للأمة البرجوازية بسلطتها الملكية ومجلس لورداتها ومجلس عمومها وكنيستها ونقاباتها وحزبها العمالي وجورج الخامس وأسقف كنتربري وهندرسون بقيت دون أن تمسّ، كابحا تلقائيا قويا ضد التطور وليس إلاّ الحزب الشيوعي، المتحرر من الروتين ومن الروح العصبوية والمرتبط ارتباطا حميما بالمنظمات العمالية الكبرى، من يستطيع مجابهة هذه النخبة الرسمية بالعنصر البروليتاري. وفي إيطاليا، حيث تعترف البرجوازية صراحة بأن مصير البلاد من الآن وصاعدا بين أيدي الحزب الاشتراكي، تعمل سياسة الجناح اليميني الممثل بتوراتي على إعادة سيل الثورة البروليتارية إلى مجرى الإصلاحات البرلمانية. وهذا ما يكمن الآن في التخريب الداخلي، أكثر من أي شيء آخر. يا بروليتاريي إيطاليا، فكروا بالمجر التي دخل مثالها في التاريخ من أجل أن يُذكر، مع الأسف، بأنه في النضال من أجل السلطة كما أثناء ممارستها، على البروليتاريا أن تبقى جريئة وتلفظ جميع العناصر المترددة وتقتصّ دون رحمة من جميع محاولات الخيانة. في الولايات المتحدة، وفي بقية بلدان القارة الأمريكية، تدشّن الكوارث العسكرية التي تتبعها أزمة اقتصادية مخيفة فصلا جديدا من فصول الحركة العمالية. إن تصفية الدجل والوقاحة الويلسونية، هي بالتالي تصفية لهذه الاشتراكية الأمريكية، التي تشكل مزيجا من الأوهام السلمية والنشاط المركنتيلي، والتي تشكل نقابة غومبرز وشركاه تتويجا لها. إن الاتحاد الوثيق بين الأحزاب العمالية الثورية والمنظمات البروليتارية في القارة الأمريكية، وشبه جزيرة ألسكا، ورأس هورن، في فرع أمريكي متراص للأممية، بوجه الامبريالية الجبارة والمتهدّدة، امبريالية الولايات المتحدة، هذه هي المشكلة التي يجب أن تُحل في النضال ضد كل القوى التي يعبئها الدولار للدفاع عن نفسه. لقد كان للاشتراكيين الحكوميين وشركائهم في جميع البلدان، الكثير من الأسباب ليتهموا الشيوعيين بأنهم استفزوا بتكتيكهم المتصلب نشاط الثورة المضادة، التي يساهمون برصّ صفوفها. هذه التهمة السياسية ليست شيئا آخر سوى طبعة جديدة متأخرة لشكاوى الليبرالية. وقد كانت هذه الأخيرة، بالتحديد، تؤكد أن النضال العفوي للبروليتاريا يدفع بأصحاب الامتيازات إلى معسكر الرجعية. إنها حقيقة لا جدال فيها. فلو أن الطبقة العاملة لم تكن تهاجم أسس السيطرة البرجوازية، لما كانت هذه الأخيرة احتاجت إلى أعمال القمع، بل إن فكرة الثورة المضادة لم تكن لتوجد لو لم يعرف التاريخ الثورة. وإذا كانت انتفاضات البروليتاريا تقود حتما إلى اتحاد البرجوازية للدفاع والهجوم المضاد، فإن هذا لا يبرهن إلاّ على شيء واحد، وهو أن الثورة هي صراع بين طبقتين لا يمكن التوفيق بينهما، ولا يمكن إلاّ أن يؤدي إلى الانتصار النهائي لإحداهما على الأخرى. إن الشيوعية تستنكر بازدراء السياسة التي تقوم على إبقاء الجماهير في حالة ركود، بتخويفها من هراوة الثورة المضادة. إن الأممية الشيوعية تواجه عدم تماسك العالم الرأسمالي وفوضاه، هذا العالم الذي تهدد جهوده الأخيرة بابتلاع كل الحضارة الإنسانية، بالنضال المركب للبروليتاريا العالمية، من أجل تدمير الملكية الخاصة كأداة للإنتاج، ومن أجل إعادة بناء اقتصاد وطني وعالمي على أساس خطة اقتصادية واحدة، يضعها ويحققها مجتمع المنتجين المتضامن. والأممية الشيوعية إذ تجمع ملايين الشغيلة في جميع أنحاء العالم تحت راية ديكتاتورية البروليتاريا والنظام السوفياتي للدولة، تناضل بعناد من أجل تنظيم عناصرها وتطهيرها. إن الأممية الشيوعية هي حزب انتفاضة البروليتاريا العالمية الثورية. وهي تلفظ جميع المنظمات والأحزاب، التي تعمل بشكل علني أو مقّنع على تنويم البروليتاريا وإحباطها وتحطيم أعصابها، بحثها على الانحناء أمام الأصناف التي تتباهى بها ديكتاتورية البرجوازية: الشرعية، والديموقراطية والدفاع الوطني، الخ... لا يمكن الأممية الشيوعية أن تقبل بعد الآن في صفوفها المنظمات التي على الرغم من إدخالها مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا في برنامجها، تصرّ على ممارسة سياسة تجهد للبحث عن حل سلمي للأزمة التاريخية. فالاعتراف بالنظام السوفياتي لا يعني حلاّ للمسألة. إن التنظيم السوفياتي لا يحمل فضيلة عجائبية. فهذه الفضيلة الثورية تكمن في البروليتاريا بالذات. وينبغي ألاّ تتردد البروليتاريا في أن تنتفض لتستلم السلطة، وعندها فقط سيُظهر التنظيم السوفياتي ميزاته وسيبقى بالنسبة لها السلاح الأكثر فعالية. إن الأممية الشيوعية تطالب بطرد جميع القادة المرتبطين بشكل مباشر أو غير مباشر بتعاون سياسي مع البرجوازية، من صفوف الحركة العمالية. إن من نحتاج إليهم هم القادة الذين لا يكنّون للمجتمع البرجوازي إلاّ الحقد القاتل والذين ينظمون البروليتاريا من أجل نضال لا رحمة فيه، والمستعدون لقيادة جيش المتمردين إلى المعركة، والذين لا يتوقفون في منتصف الطريق مهما حصل، ولا يخافون اللجوء إلى إجراءات قمع لا رحمة فيها ضد جميع أولئك الذين سيحاولون التصدي لهم بالقوة. إن الأممية الشيوعية هي الحزب العالمي لانتفاضة البروليتاريا وديكتاتوريتها. وبالنسبة لها ليست هناك أهداف سوى أهداف البروليتاريا ولا مشاكل سوى مشاكل البروليتاريا. إن ادعاءات الشّلل الصغيرة التي تريد كل منها إنقاذ الطبقة العاملة على طريقتها الخاصة، غريبة عن روح الأممية الشيوعية ومتعارضة معها، فهذه الأخيرة لا تملك الترياق العالمي، الدواء الذي لا يخطئ لجميع الأوجاع؛ إنما تستخلص الدرس من تجربة الطبقة العاملة في الماضي وفي الحاضر، وتستخدم هذه التجربة من أجل إصلاح أخطائها وسهواتها؛ وتستخلص منها خطة شاملة، وهي لا تعترف ولا تقرّ إلاّ بالصيغ الثورية التي هي صيغ العمل الجماهيري. تنظيم مهني، إضراب اقتصادي وسياسي، مقاطعة، انتخابات وبلدية، منبر برلماني، دعاوة شرعية وغير شرعية، منظمات سرية في الجيش، عمل تعاوني، متاريس، من كل ذلك لا ترفض الأممية الشيوعية أي شكل تنظيمي أو نضالي ينشأ في مجرى الحركة العمالية، لكنها كذلك، لا تكرّس أيّا منها كترياق عالمي. ليس نظام السوفياتات مبدأ مجرداً يريد الشيوعيون أن يجابهوا به النظام البرلماني فحسب، فإن السوفياتات هي جهاز سلطة بروليتارية يجب أن يحل محل البرلمانية، بعد النضال وأثناء هذا النضال فقط. وفي الوقت نفسه الذي تناضل فيه الأممية الشيوعية النضال الأكثر تصميما ضد إصلاحية النقابات، وضد وصولية البرلمانات وغباوتها، فإنها لا تنسى أن تدين تزمّت أولئك الذين يدعون البروليتاريين إلى ترك صفوف المنظمات النقابية التي تضم ملايين الأعضاء، وإدارة ظهورهم للمؤسسات البرلمانية والنيابية؛ فالشيوعيون لا يهملون بأي شكل من الأشكال الجماهير التي يخدعها الإصلاحيون و« الوطنيون » ويبيعونها، لكنهم يقبلون النضال معها داخل المنظمات الجماهيرية والمؤسسات نفسها التي أنشأها المجتمع البرجوازي، بحيث يتمكنون من إطاحة هذا المجتمع بشكل سريع وأكيد. وبينما وجدت الأجهزة التنظيمية الطبقية ووسائل النضال الشرعية بصورة شبه حصرية، بينما وجدت نفسها، تحت قيادة الأممية الثانية، خاضعة كليا لرقابة البرجوازية وقيادتها في نهاية المطاف، وبينما كان العملاء الإصلاحيون قد لجموا الطبقة الثورية، فإن الأممية الشيوعية، على العكس تماما تنتزع من أيدي البرجوازية كل الأعنة التي كانت قد استولت عليها، وتأخذ على عاتقها تنظيم الحركة العمالية، وتجمعها تحت قيادة ثورية، وبمساعدة هذه الحركة تحدد للبروليتاريا هدفا واحدا: استلام السلطة من أجل تدمير الدولة البرجوازية وبناء المجتمع الشيوعي. وينبغي على الشيوعي، في مجرى نشاطه، أكان محرضا على إضراب احتجاج أو قياديا في منظمة سرية، أو أمين سر نقابة، أو داعية في الاحتفالات الجماهيرية أو نائبا في البرلمان، رائدا للتعاون، أو جنديا وراء المتارس، أن يبقى أمينا، أي خاضعا لانضباط الحزب، مناضلا لا يكل، عدوا لدودا للمجتمع الرأسمالي ولقواعده الاقتصادية وأشكاله الإدارية وكذبه الديموقراطي ودينه وأخلاقه؛ ينبغي أن يكون المدافع المتفاني عن الثورة البروليتارية وبطل المجتمع الجديد، الذي لا يكل ولا يملّ. أيها العمال، أيتها العاملات ! لا يوجد على الأرض سوى راية واحدة تستحق النضال والموت في ظلها، إنها راية الأممية الشيوعية. الإمضاء:
روسيا: ن. لينين، ج. زينوفييف، ن. بوخارين، ل. تروتسكي.
(*) هذه بعض الأرقام الدقيقة: ألمانيا: ملكيات ريفية
من 5 إلى 10 هكتارات، تستخدم عمالا مستأجرين – 652798 (من أصل
5736082)، عمالا مأجورين – 487764، عمالا متزوجين – 2003633. النمسا
(تعداد عام 1910) – 383351 ملكية ريفية، منها 126136 تستخدم شغيلة
مستأجرين؛ عمالا مأجورين – 146044، عمال متزوجون 1265969. يبلغ العدد
الكلي للمزارع في النمسا 2856349.
(**) سيكون من المستحسن تشجيع إنشاء مزارع تديرها
جماعات (كومونات)
(***) بالأجنبية irredentisme وتعبيرها انضمامية وهي
نظرية سياسية نادى بها الوطنيون الإيطاليون بعد عام 1870، غايتها ضم
المناطق التي يسكنها أبناء جنسهم ولغتهم، والخاضعة لدول أجنبية
(المعربة)
(****) شخصية في المسرح الشيكسبيري ترمز إلى
اليهودي الجشع (المعربة) |