اليهود، إسرائيل والهولوكوست |
بقلم: توني كليف Tony Cliff |
لقد حررت الثورة الفرنسية اليهود. بين عام 1789 وتوحيد ألمانيا وإيطاليا بعد ما يقارب القرن اختفى الغيتو (ghetto) بوجوده المادي، الاقتصادي والفكري. مندلسون Mendelssohn، هاين Heine وماركس، كلهم من اليهود، كانوا شخصيات بارزة في الثقافة الألمانية. لم تظهر معاداة واسعة النطاق للسامية، ولا حتى المجازر الموجهة ضد اليهود، لكن حدث هذا في روسيا القيصرية حيث ما تزال ترزح تحت نير الإقطاعية وليس للرأسمالية المعاصرة بالكاد موطئ قدم. عندما أصبحت الرأسمالية قديمة ومتداعية، خاصة بعد الكساد الكبير في الثلاثينيات، أدارت ظهرها لكل إنجازاتها الديمقراطية في شبابها. عندها لم يدفع باليهود ببساطة إلى الغيتو بل أبعد، إلى غرف الغاز. بين هاتين المرحلتين انفجرت حالة مريعة من معاداة السامية في فرنسا. في العام 1895 اتهم ضابط يهودي، دريفوس Dreyfus بأنه جاسوس ألماني. محاكمة على غرار مطاردة الساحرات أدت إلى هستيريا الغوغاء ضد اليهود. هذه الموجة من معاداة السامية كانت نتيجة تالية للمعركة بين الامبريالية الفرنسية الصاعدة والامبريالية الألمانية. في ذلك الوقت في باريس عاش صحفي معروف من فيينا هو تيودور هيرتزل Theodor Herzl. توصل هيرتزل إلى استنتاج من هذا الجو الحماسي أن معاداة السامية طبيعية ومحتومة. كتب في حزيران 1895: في باريس كما قلت تبنيت موقفا أكثر حرية تجاه معاداة السامية حيث بدأت الآن بفهمها تاريخيا وأن أعذرها. فوق كل شيء اكتشفت فراغ وعبث محاولة مقاومة معاداة السامية. انتقد هيرتزل أميل زولا Emile Zola وسائر الفرنسيين، بشكل أساسي الاشتراكيين، الذين تصدوا للدفاع عن دريفوس. اشتكى أن اليهود « يطلبون الحماية من الاشتراكيين ومدمري النظام المدني السائد... هم لم يعودوا يهودا حقيقيين بعد الآن. وللتأكيد فهم ليسوا فرنسيين أيضا. من المحتمل أنهم سيصبحون قادة الفوضوية الأوروبية ». لقد حاجج أن الجواب على معاداة السامية أن يترك اليهود البلاد التي لم يعودوا مرغوبين فيها ويؤسسوا دولتهم الخاصة. في هذا المسعى أعلن « أن معادي السامية سيكونون أكثر أصدقائنا الموثوقين... وحلفائنا ». لهذا السبب ذهب لمقابلة وزير داخلية القيصر، بليفهي Plevhe، الرجل الذي نظم المجزرة المضادة لليهود في كيشينييف Kishinev في عام 1903. لقد لوح له بالطعم بأن طرد اليهود من روسيا سيضعف الحركة الثورية، أعداء بليفهي. إذا كان العداء بين اليهود وغير اليهود طبيعيا وحتميا فينتج عن هذا بالطبع أن العداء بين اليهود والعرب في فلسطين طبيعي ومحتوم. في البدء عرف هيرتزل الصهيونية بـ « إعطاء أرض بدون شعب لشعب بدون أرض ». وعندما لفت انتباهه حقيقة وجود العرب في فلسطين اعتبر هيرتزل من المسلم به أن العمل ببساطة هو التخلص منهم. كتب في 12 حزيران 1895 : « علينا أن نحاول أن نرسل السكان المعدمين خلف الحدود بتدبير عمل لهم في بلاد العبور فيما نمنع عنهم أي عمل في بلادنا ». أي تعبير شنيع عن نوايا التطهير العرقي !
إن اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين منذ نهاية القرن 19 لم يرغبوا بإنشاء اقتصاد مشابه للذي أقامه البيض في جنوب أفريقيا. هناك كان البيض هم الرأسماليين بينما كان السود هم العمال. أراد الصهاينة أن يكون كامل الشعب من اليهود. مع مقاييس الحياة المنخفضة جدا للعرب مقارنة بالأوروبيين، ومع الانتشار الواسع جدا للبطالة، الظاهرة والمقنعة، فالطريقة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف يكون بإغلاق سوق العمل اليهودي في وجه العرب. استخدمت مجموعة من الطرق لتحقيق ذلك: الصندوق القومي اليهودي. الذي يملك جزءا كبيرا من الأرض التي يملكها اليهود بما في ذلك مثلا جزء كبير من تل أبيب، لديه نظام أساسي يصر على أن اليهود فقط يمكن تشغيلهم على هذه الأرض. بالإضافة إلى أن اتحاد النقابات الصهيوني، الهستدروت Histadrut، يفرض على كل أعضائه ضريبتين : واحدة للدفاع عن العمل اليهودي والأخرى للدفاع عن المنتج اليهودي. ينظم الهستدروت خفارات ضد أصحاب البساتين الذين يستعملون العمال العرب، مجبرينهم عل صرفهم من الخدمة. أيضا من الشائع مشاهدة شبان يسيرون في الأسواق اليهودية بين النساء اللواتي يبعن الخضراوات أو البيض وفي حالة اكتشفوا أن أحدهم من العرب يصبون الكيروسين على خضارهم ويحطمون البيض. أذكر أنه في 1945 تعرضت قهوة في تل أبيب للهجوم وحطمت بشكل كامل تقريبا بسبب شائعة عن وجود عربي يعمل في المطبخ بجلي الصحون. كما أذكر عندما كنت في الجامعة العبرية بين عامي 1936 و1939 المظاهرات المتكررة ضد نائب رئيس الجامعة : د. ماغنوس Magnus. وهو يهودي أمريكي ثري وليبرالي، وكانت جريرته أنه قد استأجر عند مالك عربي.
متيقنون بأنهم سيواجهون مقاومة من قبل الفلسطينيين كان الصهاينة واضحين على الدوام بأنهم بحاجة إلى مساعدة القوى الامبريالية التي تملك النفوذ الرئيسي في فلسطين وقتها. في 19 تشرين الأول 1898 ذهب هيرتزل إلى القسطنطينية ليجري مقابلة مع القيصر فيلهلم Wilhelm. في ذلك الوقت كانت فلسطين جزء من الإمبراطورية العثمانية التي كانت شريكا أصغر لألمانيا. أبلغ هيرتزل القيصر أن استيطانا صهيونيا في فلسطين سيعزز النفوذ الألماني حيث كان مركز الصهيونية في النمسا التي كانت شريكا للإمبراطورية الألمانية. وقد لوح له أيضا بجزرة أخرى : « لقد أوضحت أننا نبعد اليهود عن الأحزاب الثورية ». حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما أصبح من الجلي أن بريطانيا ستتولى السلطة في فلسطين، زعيم الصهاينة في ذلك الوقت حاييم وايزمان Chaim Weitzmann، اتصل بوزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور Arthur Balfour متحصلا منه في الثاني من نوفمبر-تشرين الثاني 1917 على إعلان (تصريح) يعد فيه اليهود بوطن قومي في فلسطين. السير رونالد ستورز Sir Ronald Storrs، الحاكم العسكري البريطاني الأول للقدس أوضح أن « المؤسسة الصهيونية قد باركته وأعطته كل ما يحتاجه بتشكيلها لصالح إنكلترا أوليستر Ulster(*) يهودي موالي صغير في بحر من العرب المحتملي العداء ». سيصبح الصهاينة رجال الأورانج Orangemen(**) في فلسطين. مع الحرب العالمية الثانية أصبح واضحا أن القوة الكبرى في الشرق الأوسط لن تستمر لتكون بريطانيا وأنها ستكون الولايات المتحدة. بن غوريون Ben Gurion، الزعيم الصهيوني في ذلك الوقت، اندفع لذلك إلى واشنطن ليثبت الصفقات مع الولايات المتحدة. إسرائيل الآن التابع الأكثر موثوقية للولايات المتحدة. ليس مجانا تحصل إسرائيل على دعم اقتصادي أكثر من أي دولة أخرى بالرغم من أنها صغيرة جدا. كما أنها تحصل على دعم عسكري أكثر من أية دولة أخرى في العالم.
متفهما الطبيعة البربرية للنازية تنبأ تروتسكي بإبادة اليهود. كتب في 22 كانون الأول 1938: من الممكن تصور ماذا ينتظر اليهود عند مجرد اندلاع الحرب المستقبلية. ولكن حتى بدون حرب فالتطور التالي للرجعية العالمية يهم بشكل خاص بالإبادة المادية لليهود.... وحدها التعبئة الجريئة للعمال ضد الرجعية، تشكيل ميليشيا العمال والمقاومة المادية المباشرة لعصابات الفاشيين، تعزيز الثقة بالنفس والفعالية والجرأة من قبل المضطهًدين يمكنها أن تحدث تغييرا في موازين القوى، توقف الموجة العالمية للفاشية وتفتح صفحة جديدة في تاريخ البشرية. حتى الحرب العالمية الثانية لم تكن الغالبية الساحقة من اليهود، خاصة يهود الطبقة العاملة، من أنصار الصهيونية. هكذا في بولندا حيث تواجد أكبر تجمع لليهود في أوروبا في ذلك الوقت، بدأ انتخاب المجالس في كانون الأول 1938 وكانون الثاني 1939 في وارسو Warsaw، لودز Lodz، كراكوف Cracow، لفوف Lvov، فيلنا Vilna وسائر المدن. البوند Bund، منظمة العمال الاشتراكية اليهودية المعادية للصهيونية، حصل على 70% من أصوات المناطق اليهودية. فاز البوند بـ17 مقعدا في وارسو بينما حصل الصهاينة على مقعد واحد فقط. كل هذا تغير بصورة جذرية بسبب الهولوكوست. يكاد لا يوجد يهودي في أوروبا لم يفقد أفرادا من عائلته فيها. أذكر بفترة قصيرة قبلها عمة لي من دانزينغ جاءت لزيارتنا في فلسطين. لم ألتق ببقية أفراد أسرتها لكنها مع الباقي اختفت في الهولوكوست. عم لي أعرفه جيد المعرفة انتقل إلى أوروبا مع زوجته وأطفاله الخمسة مباشرة قبل الحرب وقد قتلوا أيضا في غرف الغاز. الآن الغالبية الساحقة من اليهود هم من الصهاينة وهذا مفهوم تماما.
إنها العبارة التي يستخدمها الفلسطينيون ليشيروا بها إلى تأسيس دولة إسرائيل في 1948. منذ ذلك الحين وخلال ثلاثة حروب بين العرب وإسرائيل جرى تطهير عرقي جماعي للفلسطينيين. اليوم يوجد 3,4 مليون لاجئ فلسطيني ما يفوق عدد الفلسطينيين الذين بقوا في الأراضي التي عاشوا فيها من قبل. أرقام ملكية الأرض تشهد على إزالتهم: في 1917 امتلك اليهود 2،5% من الأرض في الريف وزادت هذه النسبة في 1948 إلى 5,7% واليوم هي حوالي 95% من حدود ما قبل الـ67 فيما يملك العرب 5% فقط. في واحدة من أكثر الحالات مأساوية في التاريخ أن شعبا مضطهدا كاليهود الذين عانوا من بربرية النازيين يمارس الاضطهاد والبربرية على شعب آخر – الفلسطينيين، شعب لم يكن له أي دور في حدوث الهولوكوست.
ليس لدى الفلسطينيين القوة لتحرير أنفسهم. إنهم حتى لا يملكون القوة لتحقيق إصلاحات جدية. إنهم ليسوا مثل السود في جنوب أفريقيا، الذين أنجزوا إصلاحات هامة للغاية. فقد تخلصوا من الأبارثيد، فازوا بحق التصويت وانتخبوا رئيسا أسود. صحيح أن الأبارتيد الاقتصادي ما يزال موجودا. ما تزال الثروة متركزة بيد مجموعة صغيرة من البيض تشاركها الآن مجموعة صغيرة من الأغنياء السود. ما تزال الغالبية الساحقة من السود في فقر مدقع. السود في جنوب أفريقيا أقوى بشكل متعارض مع الفلسطينيين. أولا هناك سود أكثر ب 5-6 مرات من البيض في جنوب أفريقيا فيما عدد الفلسطينيين هو تقريبا مساو لعدد الإسرائيليين (أغلبية الفلسطينيين من اللاجئين). ثانيا العمال السود هم في قلب الاقتصاد الجنوب أفريقي بينما الفلسطينيين في موقع هامشي للغاية بالنسبة للاقتصاد. إن كوساتو النقابة الجنوب أفريقية هي نقابة جماهيرية ولعبت دورا حاسما في تحطيم الأبارتيد. فيما لا يملك الفلسطينيون منظمات نقابية مماثلة. إذا كان هناك وضع تنطبق عليه نظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة بشكل مثالي فهو وضع الفلسطينيين. تطرح نظريته أن لا يمكن تحقيق المطالب الديمقراطية ولا التحرر الوطني بدون الثورة البروليتارية. إن المفتاح لمصير الفلسطينيين وكل فرد آخر في الشرق الأوسط هو بيد الطبقة العاملة العربية التي توجد مراكز قوتها الرئيسية في مصر وبشكل أقل في سوريا، العراق، لبنان وبقية الدول. بشكل فاجع لم تتحقق الإمكانيات الكامنة في الطبقة العاملة العربية بسبب التأثير الضار للستالينية التي سيطرت على اليسار في الشرق الأوسط لفترة طويلة. إنهم الستالينيون الذين فتحوا الأبواب لحزب البعث وصدام حسين في العراق، الذين جاؤوا بالأسد وحزب البعث إلى السلطة في سوريا، الذين فتحوا الباب لناصر ومن بعده الإسلاميين في مصر. إن ثورة الطبقة العاملة العربية ستضع نهاية الامبريالية والصهيونية. إنه نفاق بحت الإدعاء أن هذه الثورة ستهدد اليهود في المنطقة. عندما كان نظام الأبارتيد يهيمن على جنوب أفريقيا زعم مؤيدوه أن المؤتمر الوطني الأفريقي يؤيد سفك دماء البيض. لم يحدث أي من هذا قط.
ولد توني كليف في فلسطين عام 1917 وقدِم إلى بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
(*) أوليستر: مجموعة مؤيدة للاحتلال أو الوجود
الإنكليزي لايرلندة الشمالية.
(**)رجال الأورانج: تسمية لمجموعات مناهضة لاستقلال
ايرلندة الشمالية ومعادية للجيش الجمهوري الايرلندي المنادي باستقلال
الإقليم عن إنكلترا. |