الطبقة العاملة |
كتبه: عبد السلام الموذن |
1. مفهوم الطبقه العاملة
ليس كل عامل أو شغيل أو كادح، ينتمي بالضرورة إلى الطبقة العاملة، بالمعنى البروليتاري العلمي للكلمة، ماذا يعني إذن مفهوم الطبقة العاملة ؟ لننطلق من المثال التالي: إن الخياط الذي يصنع لباسا لزبون، فهو يخلق منتوجا نافعا. وهذا المنتوج النافع يتقمص شكل بضاعة يتم تبادلها بالمال، من أجل سد نفقات الخياط الخاصة ووسائل معيشته. لكن الرأسمالي الذي يجمع في معمله الخاص عددا من الخياطين، الذين يوجدون تحت أوامر وتصرف الرأسمالي، فإنه يصنع علاقة اجتماعية. وفي إطار هذه العلاقة، الاجتماعية، فإن الخياط لا ينتج الآن مجرد ألبسة، بل ينتج أشياء تتعدى بكثير الألبسة: إنه ينتج ذاته كعامل بروليتاري من جهة، وينتج مشغله كرأسمالي من جهة أخرى. وإذن ما هو الفرق بين الحالتين ؟ ما هو الفرق بين الخياط قبل الاشتغال عند الرأسمالي، والخياط بعد الاشتغال عند الرأسمال ؟ في كلتا الحالتين ليس هناك أي فرق في نوعية العمل الذي يقوم به الخياط هنا وهناك: فالخياط هو دائما يعمل ويكدح بقوة عمله من أجل إنتاج الألبسة - البضاعة. لكن الفرق، كل الفرق... إن الفرق الجوهري يكمن في أهداف ومرامي قوة عمل الخياط. في الحالة الأولى، لقد ظل الخياط خارجا عن إطار علاقات الانتاج الرأسمالية، ولذلك كان يصرف قوة عمله لحسابه الخاص. أما في الحالة الثانية، فلقد أصبح منخرطا في علاقات الإنتاج الرأسمالية، ولذلك فإن الأجرة التى يدفعها الرأسمالي للخياط، لا تعني مجرد قدر مالي يتم تبادله بعمل الخياط، بل تعني قدرا من المال يتم مبادلته بعمل الخياط، بهدف تملك القيمة التي فاضت عن مصاريف الانفاق الاصلية التي دفعها الرأسمالي في بداية عملية الانتاج، اي القيمة المستخرجة من عمل الخياط. إن هدف العمل المأجور للخياط إذن، هو الاستحواذ على فائض تلك القيمة. ولأن المال الذي يدفعه الرأسمالي للبروليتاري في شكل أجرة، مقابل قوة عمل هذا الأخير، هدفه استثمار قوة عمل العامل، فإن ذلك المال لا يبقى مجرد مال بل يصبح رأسمالا. لكن ليس كل رأسمال قادرا على إنتاج فائض القيمة. لأن الرأسمال الذي يتم انفاقه في المواد الأولية وأدوات التجهيز وما شابهها، لا يضيف أية قيمة للمنتوج النهائي، بل هو فقط يحتفظ بقيمته الأصلية. لهذا السبب فهو يسمى رأسمالا ثابتا. إن الرأسمال الوحيد الذي له قدرة إضافة قيمة جديدة على القيمة الأصلية، هو الرأسمال الذي يُدفع في شكل أجرة للعامل. ولهذا السبب فهو يسمى رأسمالا متحولا. أما سر هذه القدرة فيكمن في الخاصية التالية: إن قوة العمل تتميز بقدرتها على الاستمرار في العمل، حتى بعد أن تتجاوز حدود ما تستهلكه من مواد ضرورية لتحريكها كقوة عمل. وهذا معناه أن عمل العامل ينقسم إلى قسمين. العمل الضروري الذي يأخذ عنه العامل أجرة لسد وسائل عيشه الضرورية، والعمل الفائض الذي يذهب إلى جيب الرأسمالي في شكل فائض القيمة. والخلاصة أن الخياط بوصفه كادحا، لا يمكن أن يصبح بروليتاريا إلا بعد أن يدخل في علاقة اجتماعية مع الرأسمالي، أساسها بيع قوة عمله بالرأسمال المتحول. من هنا فنحن إذا ما طرحنا هذا التساؤل: ما هو الوضع الاجتماعي للخياط ؟ فإن هذا التساؤل لا معنى له، لأننا نتكلم في المجردات. وقديما قال هيجل (ثم كرر من بعده كل من ماركس ولينين)، بأن الحقيقة المجردة لا وجود لها... فالحقيقة هي دائما عينية. كذلك فإن الخياط المجرد لا وجود له، لأن الخياط هو دائما يعمل في شروط ملموسة محددة. وهذه الشروط هي التي تحدد وضعه الاجتماعي. فإذا كان يعمل خارج أطر العلاقات الرأسمالية، فإنه يكون كادحا مستقلا. أما إذا كان يعمل داخل ذلك الإطار، فإنه يكون عاملا بروليتاريا. يتبين إذن مما سبق بأن نفس العمل، يمكن أن تكون له مضامين متناقضة، وفق الشروط التي يتم فيها. فالنجار الذي يعمل في حانوته لحسابه الخاص، يتحول إلى نقيضه... إلى بروليتاري بمجرد أن يصبح مشتغلا في معمل لرأسمالي. والفلاح الذي كان يعمل في قطعة أرضه الخاصة، يصبح بروليتاريا في ضيعة الرأسمالي الزراعي. كذلك هناك فرق جوهري بين الميكانيكي الذي يصلح لي سيارتي في محله الخاص، وبين الميكانيكي الذي يصلحها في أحد معامل الاصلاح الرأسمالية. بين أن أحلق رأسي عند حلاق الحومة، أو أن أحلقه في إحدى صالونات الحلاقة الكبرى، في الدار البيضاء، بين أن أشتري سلعة من حانوت صغير، أو اشتريها من إحدى العاملات في أحد المحلات التجارية الكبرى في الدار البيضاء. بين أن أطلب من ابن جاري تنظيف باب شقتي في العمارة التي أسكن، وبين أن أطلب من إحدى شركات التنظيف بأن ترسل إليّ أحد عمال النظافة... الخ. إن الخياط والنجار والفلاح والتاجر الصغير والحلاق والميكانيكي، وما شابههم، ينتمون خارج إطار العلاقات الرأسمالية، إلى طبقة اجتماعية محددة هي الطبقة الوسطى أو البورجوازية الصغيرة. والخاصية الجوهرية لهذه الطبقة هي التالية: فهي لا يتم تشغيلها من طرف الرأسمال كيدٍ عاملة ماجورة، كما أنها من جهتها لا تعمل على تشغيل عمال مأجورين لصالحها، وإن فعلت، فإنما تفعل ذلك بطريقة ثانوية وهامشية. ولهذا السبب، فهي لا موقع لها في التناقض بين العمل والرأسمال. واضح إذن أن التمييز الذي وضعناه، بين الكادح البورجوازي الصغير والكادح البروليتاري، لا يقوم على أساس الدخل وإنما على أساس علاقات الإنتاج: هل هي من طبيعة رأسمالية أم لا. وهذا معناه إمكانية وجود كادحين لهم دخل أقل من دخل بعض البروليتاريين، بدون أن يترتب عن ذلك بالضرورة انتماؤهم للبروليتاريا، ماداموا كادحين مستقلين يوجدون خارج إطار العلاقات الرأسمالية. ولنتوقف الآن قليلا عند الملاحظة التالية: توجد فئة واسعة من الكادحين، الذين يعملون كخدم في بيوت الرأسماليين. في أي إطار يمكن تصينف هؤلاء الخدم ؟ هل يمكن اعتبارهم بروليتاريين ؟ بالطبع لا. والسبب هو التالي: إن الأجرة التي يدفعها الرأسمالي للخادم، لا يدفعها في شكل رأسمال متحول وإنما في شكل دخل. أي أن مال الرأسمالي، لا يتم انفاقه على قوة عمل الخادم بهدف الحصول على فائض القيمة، وبالتالي المساهة في رفع رأس المال، بل يتم إنفاقه فقط من أجل أن يقوم الخادم بانجاز الخدمات التي يعتبرها السيد الرأسمالي ضرورية لراحته. من هنا فإذ هذا الدخل الذي ينفقه الرأسمالي عل قوة عمل الخادم، لا يختلف في شيء عن الدخل الذي ينفقه نفس الرأسمالي، من أجل شراء أغذيه وألبسة وكل ما طاب له من وسائل المتعة واللهو. إنه الدخل غير المنتج، لأنه لا يصرف في شروط الإنتاج: الرأسمال الثابت أو الرأسمال المتحول. فالخادم الذي يعمل إذن في بيت الرأسمالي، والذي يتقاضى جزءا من دخل الرأسمال غير المنتج، يوجد بالتالي خارج إطار العلاقات الرأسمالية. ولذلك فهو لا يعتبر عاملا بروليتاريا، بل فقط عاملا كادحا.
2. الصيرورة التاريخية لتشكل الطبقة العاملة لقد رأينا في الفقرة السابقة، بأن النجار والفلاح مثلا، قبل أن يصبحا بروليتاريين كانا في الأصل منتجين مستقلين عن العلاقات الرأسمالية. إن الأصل التاريخي للبروليتاريا إذن، هو الطبقة الوسطى الحرفية في المدن وجماهير الفلاحين في البوادي، بشقيهم معا: الفلاحون الأحرار، والفلاحون الخاضعون لعلاقات الإنتاج الاقطاعية. وبما أن الفلاحين يشكلون الأغلبية الساحقة في المجتمع، فيمكن القول بأن الفلاحين هم الخزان الاحتياطي الضخم للأصول التاريخية للبروليتاريا. لكن لكي يمكن للفلاح والحرفي أن يتحولا إلى بروليتاريين، يجب أن يتم تجريدهما من كل وسائل انتاجهما، بحيث يصبحان لا يملكان سوى قوة عملهما، التي يضطران لبيعها إلى الرأسمالي من أجل تأمين شروط عيشهما. إن تاريخ تشكل الطبقة العاملة، هو إذن تاريخ انفصال الفلاحين والحرفيين عن وسائل انتاجهم. ومن أجل تحقيق ذلك الانفصال، عمد الرأسمال في المغرب إلى شتى الأساليب، كان أبرزها: 1، أسلوب العنف الذي استعمله الرأسمال الاحتكاري الأوربي في المرحلة الكولونيالية، من أجل تدمير علاقات الانتاج ما قبل الرأسمالية وانتزع الأراضي من الفلاحين. 2، مزاحة منتوجات الحرفيين بالمنتوجات المصنعة الرأسمالية. 3، اثقال كاهل الفلاحين بالديون الربوية والتجارية، لارغامهم على بيع أراضيهم بأبخس الأثمان. 4، انفتاح الاقطاعيين المغاربة على نمط الانتاج الرأسمالي، وتحويل فلاحيهم إلى عمال زراعيين. لقد لاحظنا في الفقرة السابقة، بأن الرأسمال ليس مجرد مال يتم مبادلته بالعمل، ولكنه مال يتم مبادلته بالعمل بهدف انتاج فائض القيمة والاستحواذ عليها من قبل مالك الرأسمال. وفي كل الحالات التي يتم فيها مبادلة المال لذلك الغرض، فإن ذلك يقود إلى خلق علاقات اجتماعية جديدة هي العلاقات الرأسمالية. وحينما تصل تلك العلاقات إلى درجة من التوسع، فإنها بدورها تقود إلى خلق الطبقات الاجتماعية، الجديدة، من هنا فإن الصيرورة التاريخية المؤدية إلى خلق المجتمع الرأسمالي، ليست شيئا آخر سوى ذلك التوسع في العلاقات الرأسمالية القائم أساسا على فصل المنتجين الصغار المباشرين عن وسائل انتاجهم، ومن ثم تعريضهم للبلترة. في البلدان الأوربية المتطورة وفي الولايات المتحدة الامريكية، لقد بلغت صيرورة التبلتر أوجها، بحيث لم يعد الفلاحون يمثلون سوى 4 % أو أقل، من مجموع السكان، زد على ذلك أن معظمهم أصبحوا عمالا زراعيين. إن هذه البلدان إذن، قد استنفذت بالكامل خزانها الاحتياطي التاريخي من اليد العاملة، الذي كان يتكون من الفلاحين. ولذلك فإن المصادر البديلة التي لجأت إليها من أجل إمداد التراكم الرأسمالي بما يحتاجه من قوة عمل، هي المصادر الثلاثة: 1) فلاحو بلدان المحيط، مثل الفلاحين في المغرب العربي وإفريقيا، والفلاحين الأمريكيين الجنوبيين وخاصة المكسيكيين والبورتوريكيين، والهنود والباكستانيين، وكذا فلاحي جنوب أوربا مثل البرتغاليين والاسبان والطليان والأتراك واليونانيين. ولقد كانت الحاجة جد ماسة لهؤلاء الملايين من الفلاحين المتبلترين، في المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتي تميزت بنمو متسارع للتراكم الرأسمالي... 2) الخزان الاحتياطي الضخم الذي تمثله النساء.. 3) الاستفادة من قانون التراكم الرأسمال نفسه: ذلك أن تطور المكننة والانتاجية، يؤدي حتما إلى الاستغناء عن جيوش هائلة من العمال، بحيث يتم تسريحهم ورميهم في الشوارع كعاطلين. إن هؤلاء العمال يمثلون إذن، جيشا احتياطيا صناعيا في خدمة الاستثمارات الرأسمالية الجديدة. وفي المغرب أيضا، لقد عرفت حركة البتلرة (بغض النظرعن طبيعتها) مستوى عاليا من التطور. فالفلاحون الذين كانوا يمثلون في مطلع القرن حوالي 90% من السكان، لم يعودوا يمثلون في الوقت الحاضرسوى 56%. وهذه النسبة نفسها حتما ستهبط بالتدريج، لأن ذلك يدخل في صلب القوانين الموضوعية التي تحرك الرأسمال التبعي، ولا أحد بمقدوره وقف ذلك الهبوط مادام ذلك الرأسمال هو المتحكم في البلاد والعباد. إن الانتقال من وضع اجتماعي إلى آخر... من علاقات ما قبل رأسمالية إلى علاقات رأسمالية، يعني عدة أشياء. إنه يعني الانتقال من العمل المستقل إلى العمل المسخر لخدمة الرأسمال، ويعني تحول الإنتاج التبادلي البسيط إلى الإنتاج التبادلي الرأسمالي، وتحول العلاقة بين الناس إلى علاقة بين الاشياء، كما يعني الانتقال من الانتاج المشتت إلى إنتاج المقاولات الرأسمالية.
3- الأشكال الاجتماعية الثلاثة للطبقة العاملة إن هذه الأشكال الثلاثة تحددها المواقع الثلاثة، التي تحتلها الطبقة العاملة في الانتاج والعمل، وهي: أ) الانتاج الصناعي والزراعي: إن هدف هذا النوع من الانتاج الرأسمال، هو انتاج بضاعة.. والبضاعة هي بضاعة لأنها قابلة للتبادل بالمال، أي أنها تملك قيمة تبادلية. لكن ليس كل بضاعة تملك بالضرورة تلك القيمة التبادلية، فلكي تملكها يتعين عليها حتما أن تكون ذات مفعول نافع، أي أن تكون لها قيمة استعمالية، والبضاعة تستمد قيمتها الاستعمالية هذه... مفعولها النافع هذا، من المفعول النافع لعمل العامل الذي أنتجها أصلا. أي أن العامل هو الذي نقل إليها قيمتها الاستعمالية. وهذا يعني أن المفعول النافع للعمل ينسلخ عن نشاط العامل لكي يتجسد في شكل الشيء بضاعة. وعندئذ يصبح المفعول النافع جزءا من وجود الشيء-البضاعة، وملازما لها أينما حلت ورحلت، ولا ينفصل عنها إلا إذا ألغت وجودها ذاته، أي في لحظة الاستهلاك. لكن ماذا يحدث حينما لا يتجسد المفعول النافع للعمل في شكل شيء-بضاعة ؟ ب) الانتاج الخدماتي: حينما لا يتجسد ذلك في شكل شيء-بضاعة، فإنه يتجسد في شكل آخر مختلف هو شكل خدمة-بضاعة. والخاصية الجوهرية لهذا الشكل الجديد، هو أن عمل العامل يتم تقديمه مباشرة للمستهلك بدون التوسط بلحظة الشيء-البضاعة. بمعنى أن الانتاج والاستهلاك يتمان في نفس اللحظة. من حيث الجوهر إذن، ليس هنالك فرق بين الانتاج الخدماتي والانتاج الصناعي-الزراعي، لأن الفرق يمس فقط أسلوب الاستهلاك، باعتبار أن كلا النشاطين معا هما أنشطة منتجة: منتجة للقيمة ولفائض القيمة. ولهذا السبب فإن ماركس يعتبر الشيء-البضاعة هي نفسها خدمة، مادامت في الأصل ليست سوى مفعولا نافعا لقيمة استعمالية. من هنا تأكيده على أن القيمة الاستعمالية هي جوهر واحد، سواء اتخذت شكل البضاعة أم شكل العمل. ولكي نجعل هذه الفكرة ملموسة أكثر، يتعين علينا مقاربتها بنوع من التفصيل. لنأخذ مثال عمال المطاعم. إن عمل هؤلاء يتوزع بين من يطبخ، ومن يهيء، ومن يغسل الصحون، ومن يقدم الوجبة إلى الزبون الجالس إلى طاولة المطعم. ما هو الفرق بين هذا النوع من العمال المتواجدين بكثرة، في معظم مطاعم المدن الكبرى وفي مطاعم الفنادق السياحية، وبين عمال صناعة السردين وصناعة المواد الغذائية المعلبة الأخرى، والمسماة بالمنتوجات المصنعة ؟ على صعيد الانتاج ليس هنالك أي فرق، فكلا النوعين ينتج بضاعة ذات مفعول نافع. وعلى صعيد العلاقة الاجتماعية ليس هناك أيضا أي فرق، لأنهما معا ينتجان قيمة وفائض قيمة. والفرق الوحيد، هو أن العمل الأول، يقدم بضاعته للاستهلاك الفوري في شكل وجبة غذائية مباشرة، بينما الثاني يتركها للاستهلاك المؤجل. ومن هذه الزاوية، فإن الفرق بينهما لا يتعدى الفرق القائم بين انتاج البرنامج التلفزي، الذي ينقل حيا للاستهلاك الفوري، وبين البرنامج الذي يتم تسجيله وتأجيل استهلاكه. لنأخذ مثالا آخر: عاملات الفنادق السياحية. من بين الأعمال التي يقمن بها، ترتيب سرير النوم في غرفة الفندق. إن هذه العملية التي تقوم على تجميع مواد السرير لاعطائها شكلا معينا، لا تختلف في شيء عن العديد من عمليات التجميع الموجودة في المعامل الصناعية، فعاملة الفندق التي ترتب السرير، تنتج هي الأخرى بضاعة ذات مفعول نافع، يستهلكها الزبون الذي ينام فوق ذلك السرير. إن الرأسماليين الذين يملكون الفنادق السياحية، يستمدون ثرواتهم من استغلالهم لقوة عمل عمال البناء الذين شيدوا الفندق من جهة، وقوة عمل عمال وعاملات الفندق الذين ينتجون خدمات يومية، من جهة أخرى. ولنأخذ الآن، مثال عمال معامل تنظيف الملابس. إن عمل هؤلاء العمال الذين ينتجون خدمات نظافة الملابس المستعملة، لا يختلف عن عمل العمال الذين يقومون بنفس الأعمال في معامل صناعة الملابس. ونفس الشيء يمكن قوله بالنسبة لعمال تنظيف العمارات الضخمة التي تتواجد فيها مكاتب الشركات، أو أية بنايات كبرى أخرى. إن عمال النظافة هؤلاء، هم أيضا عمال منتجون. إنهم ينتجون يوميا الخدمة - النظافة التي بدونها يستحيل على تلك المكاتب أن تكون قابلة للاستعمال: ومن خلال إنتاجهم لبضاعة الخدمة - النظافة، فإنهم ينتجون للرأسمالي الذي يشغلهم فائض القيمة. وإذن لا فرق بين العامل الذي يبني العمارة الضخمة، والعامل الذي ينظفها يوميا، فكلاها ينتجان فائض القيمة للرأسمالي. ولننتقل إلى الظاهرة الجديدة التالية. لقد كثر في المدة الاخيرة عدد صالونات الحلاقة للنساء، وهذه الصالونات الكبرى، يتجاوز عدد العاملين فيها عشرة عمال وعاملات. وإلى جانبها ظهرت أيضا مدارس لتكوين العمال والعاملات الحلاقين. إن العمل داخل هذه الصالونات يشبه العمل في المعامل الصناعية من حيث علاقات الانتاج، فالرأسمالي أو الرأسمالية التي تملك (أو تكتري) الصالون، تكون في نفس الوقت مالكة لوسائل الانتاج، أي كل الأدوات والمواد الضرورية للحلاقة والتجميل، إن هذه الأدوات تشكل إذن الرأسمال الثابت. والحلاقات اللواتي يشغلن تلك الأدوات، ينتجن بضاعة ذات مفعول نافع هي الخدمة - الحلاقة، لكن السعر الذي تدفعه الزبونة مقابل تلك الخدمة، لا يحتوي فقط على القيم المعوضة للرأسمال الثابت والرأسمال المتحول (أجرة العاملة الحلاقة)، وإنما أيضا على قيمة جديدة هي فائض القيمة الذي يذهب إلى جيب الرأسمالية صاحبة الصالون. ما قلناه عن هذه الأمثلة من الانتاج الخدماتي الرأسمالي، يمكن قوله أيضا عن جميع الأمثلة المشابهة مثل: العامل بواب العمارة، والعامل حارس مستودع السيارات أو الدراجات، وعامل إصلاح السيارات أو أجهزة الراديو والتلفزيون وغيرها، وعامل النقل، وعامل المقهى، والبارمان، والعاملة في قاعة السينما... الخ. ما نريد التأكيد عليه مما سبق، هو أننا في تحديدنا للطبقة العاملة، يجب ألا ننطلق من نوع العمل الذي تقوم به، أي من العمليات الخاصة لصرف قوة العمل. ذلك أن الذي يهم الرأسمال هو فقط الشكل العام لقوة العمل: قدرتها على إنتاج فائض القيمة للرأسمالي، ولا يهمه إن كان مصدر ذلك الفائض هو العاملة المضيفة في الطائرة التي تسهر على خدمة المسافرين الحجاج إلى بيت الله، أو العامل البارمان الذي يعمل في بيت الشيطان، أو العامل الصناعي الذي ينتج وسائل تقريب المؤمنين من الله ومن الشيطان معا. ما يهم الرأسمالي إذن، هو حامل الفرق بين السعر الذي يدفعه من أجل التمكن من مزج العمل ببضائع أخرى، وبين السعر الذي يجنيه من تلك البضائع، بصرف النظر عن شكل البضاعة، إن كانت شيئا-بضاعة أم خدمة-بضاعة. إن التمييز بين الشيء-البضاعة والخدمة-البضاعة، هوعمل له قيمة فقط عند رجال الاقتصاد والإحصاء، لا عند الرأسماليين "العمليين". ولنطرح الآن هذا التساؤل: هل العمال المغاربة المهاجرون الذين يعملون في مصانع أوربا، محسوبون على الانتاج الصناعي أم على الانتاج الخدماتي ؟ بالطبع هم محسوبون على الانتاج الصناعي بالنسبة للرأسمالي الذي يشغلهم في معامل سيارات رونو وبوجو. لكنهم بالنسبة للرأسمالي التجاري المغربي، فهم محسوبون على الانتاج الخدماتي لأنهم ينتجون مداخل للتجارتين الداخلية والخارجية معا، باعتبار أن دخلهم (أجرتهم) لا ينفقونه كله في بلاد الغربة، بل يحولون جزءا منه إلى الوطن، ولهذا فهم من جهة يقدمون خدمة جلى للتجارة المغربية الداخلية (عن طريق مشتريات ذويهم وأهلهم القاطنين في المغرب)، وهي خدمة جلى فعلا بالنسبة لمجتمع يتميز بضعف القدرة الشرائية لمواطنيه. ومن جهة ثانية، فعامل المهجر يتسلم دخله بالعملة الأوربية، ولذلك فهو لا يمكن أهله في الداخل من شراء حاجياتهم، إلا بتحويل العملة الأوربية إلى الدرهم المغربي، مما يسمح لخزينة الدولة عبر وظيفة الصرف، بالاحتفاظ بتلك العملة الاوربية التي تستعملها للتجارة الخارجية مع البلدان الأوربية. ج) النشاط الخدماتي غير المنتج: من المميزات الجوهرية للاقتصاد الرأسمالي الامبريالي، هو التطور الهائل لوسائل الانتاج، وبالتالي القدرة على إنتاج حجم عظيم من فائض القيمة. ولذلك فإن المهمة التي تنتقل إلى موقع الصدارة بالنسبة لهذا الاقتصاد، ليست إنتاج فائض القيمة بل تحقيق فائض القيمة المتوفر، أي تحويل البضاعة إلى مال. من هنا يبرز داخل ذلك الاقتصاد، الرأسماليون الذين لا يستثمرون رساميلهم من أجل إنتاج مزيد من فائض القيمة، بل من أجل تحقيق فائض القيمة المتوفر. وهؤلاء الرأسماليون هم الرأسماليون التجاريون. إن الوظيفة الجوهرية إذن للرأسمالي التجاري، هي تحويل القيمة وفائض القيمة إلى مال. ومن المميزات الجوهرية للاقتصاد المغربي، هو انفتاحه الكبير على الاقتصاد الامبريالي. ولذلك فإن بعض الرأسماليين المغاربة الذين يعلمون جيدا بأن الأسواق الخارجية، تغوص وتموج بما لذ وطاب من البضائع التي تبحث عن مستهلك، لا يرون الحاجة إلى تحمل عبء إعادة إنتاجها محليا، بل إنهم يفضلون استثمار رساميلهم في استيراد تلك البضائع وتسويقها في الداخل. إن هذه المهمة تتطلب فتح محل تجاري كبير، ولتشغيله لابد من العمال والعاملات. هل يمكن اعتبار هؤلاء العمال والعاملات بروليتاريين ؟ لنتمعن جيدا في هذا النوع من النشاط الاقتصادي. بالطبع إن الرأسمالي يجني أرباحا وفائض قيمة من أعماله التجارية تلك، وإلا لما اضطر إلى فتح ذلك المحل. إنه يتصرف إذن ظاهريا كأي رأسمالي صناعي أو خدماتي منتج: فهو يحول أمواله إلى رأسمال ثابت (البناية ومستلزماتها، ثم البضائع التي يراد بيعها)، وإلى رأسمال متحول (أجور العمال والعاملات) وهو أيضا ينتظر من وراء مزج العمل - البضاعة بالشيء - البضاعة، إنتاج قيمة وفائض قيمة. لكن هل حقا ينتج ذلك ؟ أبدا. إنه لا ينتج ولوجراما واحدا من القيمة أو فائض القيمة. لكن إذا كان عماله وعاملاته لا يتجون أية قيمة أو فائض قيمة، فما فائدتهم ؟ فالمسألة إذن تبقى معلقة: من أين يأتيه فائض القيمة الذي هو مبرر وجوده ؟ إنه يأتيه من فائض القيمة الذي ينتجه العامل الصناعي. وهذا معناه أن الرأسمالي التجاري المغربي، يتقاسم مع الرأسمالي الصناعي الأوروبي، فائض القيمة الذي ينتجه الأخير في معمله. كيف ذلك ؟ لو أراد الزبون المستهلك أن يشتري البضاعة مباشرة من المعمل الذي أنتجها، لاشتراها بسعر أقل من سعر التاجر الذي أضاف إليها رأسماله الثابت ورأسماله المتحول، لكي ينقلها من المعمل إلى المحل التجاري ويدخل عليها كل مغريات العرض. وبما أن وظيفة التاجر وظيفة ضرورية بالنسبة لنمط الانتاج الرأسمالي، فلذلك فإن القيمة الفعلية للبضاعة ليست هي قيمتها في المعمل، بل قيمتها وهي في المحل التجاري. لكنها حينما تصبح في المتجر، فإنها يضاف إليها العمل الفائض لعمال وعاملات ذلك المحل التجاري، وهو عمل فائض لأنهم لا يتقاضون عنه أي مقابل (باعتبار أن الأجرة تغطي فقط العمل الضروري). وإذن فإن استحواذ الرأسمالي التجاري، على فائض عمل عاملاته وعماله، هو الذي يمكنه من أخذ نصيبه من فائض القيمة المادي الفعلي الذي ينتجه العامل الصناعي (باعتبار أن هذا الأخير، لا يشتري البضاعة التي تدخل في استهلاكه وبالتالي في تحديد أجرته، بقيمة المعمل ولكن بقيمة المتجر) . من هنا يتضح بأن دور عمال المتجر، هو التوسط للرأسمالي التجاري (عبر استيلائه على فائض عملهم)، من أجل تقاسم فائض القيمة - مع الرأسمال الصناعي - الذي ينتجه العمال الصناعيون. بعبارة أخرى، إن الرأسمال التجاري المغربي يستغل العمال الأوربيين عن طريق استغلاله للعمال المغاربة. هناك إذن بالطبع اختلاف مهم، بين العامل الصناعي والعامل التجاري. فالأول منتج والثاني غير منتج. الأول مرتبط بالرأسمال المتحول، الذي هو سبب في إنتاج قيمة وفائض قيمة. والثاني مرتبط بالرأسمال المتحول، الذي هو نتيجة لقيمة وفائض قيمة موجودتين مسبقا، ويراد فقط تحقيقها. لكن رغم هذا الاختلاف المهم، فإن الاثنين يلتقيان حول نقطتين حاسمتين، تجعلان من العامل التجاري عاملا بروليتاريا شأنه في ذلك شان العامل الصناعي أو الزراعي أو الخدماتي المنتج. وهاتان النقطتان هما: أولا، إن العامل التجاري عامل مأجور يبيع قوة عمله للرأسمالي التجاري، ليس بالمال في شكل دخل من أجل خدمة خاصة (كما هو الحال مثلا في العلاقة بين الرأسمالي وخادمه في البيت)، ولكنه يبيعها للرأسمال المتحول بهدف استثمار الرأسمال المقدم في عملية الشراء. وثانيا، إن قيمة قوة عمله (أجرته)، يتم تحديدها، شأنها في ذلك شأن جميع الأجور الأخرى، انطلاقا من الحد الضروري لكلفة إنتاجها وإعادة إنتاجها، وليس انطلاقا من العمل الكلي الفعلي الذي يقدمه العامل التجاري. من هنا، فكما أن العمل المجاني للعامل الصناعي، يخلق مباشرة فائض قيمة للرأسمال المنتج، فكذلك إن العمل المجاني للعامل التجاري يجلب جزءا من ذلك الفائض للرأسمالي الغير منتج. نصل الآن إلى نوع آخر من رأسماليي القطاع الخدماتي الغير منتج. فهناك بعض السادة الرأسماليين، الذين لهم فلسفة خاصة في الوجود. إنهم لا يريدون أن يكونوا رأسماليين منتجين، لأن الساحة تعج بالمنتوجات. ولا يريدون أن يكونوا رأسماليين تجاريين، لأن هذا الصنف قد انتشر هو الآخر وفقد من مغرياته. إلا أنهم مع ذلك، يصرون على أن يكون لهم نصيب، في توزيع فائض القيمة، الذي ينتجه غيرهم. إن المسألة التي يطرحونها إذن على أنفسهم، هي التالية: كيف يمكن لهم تحويل اتجاه جزء من فائض القيمة المتوفرة داخل المجتمع (أو خارجه)، لصالحهم الخاص، بدون أن يكونوا لا من الصنف المنتج ولا من الصنف التجاري ؟ لقد أعطوا حلا لهذه المسالة، وكان حلهم هو جعل المال نفسه بضاعة. لذلك فبدل أن يفتحوا محلا تجاريا لعرض المنتوجات المصنعة، فقد فتحوا مؤسسة بنكية لعرض الأموال في وجه عشاق هذا النوع من البضائع، وما أكثرهم. إن قرض المال لطالبيه، هو إذن سلاح الرأسمال المالي لصيد جزء من فائض القيمة. لكن بأية قدرة قادر، يكون للمال المقروض سحر الرفع من قيمته، لا لشيء إلا لأنه غادر صندوقه الآمن لفترة من الوقت. إن المال في حد ذاته، ومهما كان سحره، فإنه لا يمكنه أن يضيف أي شيء لقيمته الأصلية، تماما كما يقول المثل الفرنسي، بأن أجمل امرأة لا يمكن أن تعطي إلا ما تملك. إن المال البنكي هو في حقيقته رأسمال. وبصفته تلك، فإنه كأي رأسمال آخر، ينقسم إلى رأسمال ثابت ورأسمال متحول. والرأسمال الثابت بالنسبة للبنك، هو المال نفسه المعد للقرض والبناية ومواد التجهيز، من صناديق محصنة لايداع المال، وآلات الكتابة والورق والهاتف والإنارة والماء وغيرها. والرأسمال المتحول هو أجور الموظفين البسطاء، الذين يقومون بشتى اعمال النشاط البنكي. بالطبع إن الموظف الذي يراقب ويحصي الودائع عند التسليم والتسلم، ويسجل الحسابات، فإنه لا ينتج أية قيمة أو فائض قيمة، ولا يضيف أي شيء إلى قيم البضائع الممثلة بالأوراق النقدية أو أرقام الشيكات وغيرها، التي يتداولها بين يديه صباح مساء. لكنه من ناحية أخرى، ينتج عملا فائضا مجانيا للرأسمال المالي. وهذا العمل المجاني هو أصل الفائدة التي يحصل عليها البنك من خلال عملية القرض. والتي تمثل جزءا من فائض القيمة الذي يتم إنتاجه في المكان الحقيقي المؤهل لذلك وهو المصنع. وهنا تعترضنا هذه المشكلة النظرية: هل يصح فعلا اعتبار موظف البنك الصغير أو موظفة البنك الصغيرة، عمالا بروليتاريين ؟ الحقيقة إن ماركس لما حلل وضعية هذا النوع من الموظفين في الستينات من القرن الماضي، لم يستعمل البتة عبارة العامل البروليتاري، حيث كان يطلق عليهم فقط اسم العمال المأجورين. لكن انجلز في تسعينات القرن الماضي، نعتهم بالبروليتاريين. ولقد جاء هذا النعت، في إحدى تعاليقه التي كتبها في هوامش الكتاب الثالث من رأس المال، الذي تولى مهمة إعداده ونشره بعد وفاة ماركس. وكون انجلز قد استعمل ذلك النعت بعد ثلاثة عقود من ماركس، فذاك له دلالته. إنه يعكس التدهور الحاصل في الوضع الاجتماعي لأولئك الموظفين في انجلترا. ففي معرض تعليقه على الحال التي آل إليه مآلهم، يقول: « إن هؤلاء الموظفين الذين يجيدون ثلاث أو أربع لغات، أصبحوا بدون طائل يبيعون خدماتهم لشارع المال والأعمال في لندن، بسعر 23 شيلنج للأسبوع، وهو سعر أقل بكثيرمن أجرة عامل ميكانيكي جيد ». إن وضعية موظفينا وموظفاتنا الصغار في الابناك، هي أكثر تدهورا وقساورة من زملائهم الانجليز، الذين سماهم انجلز بروليتاريين. في المغرب أدى توسع التعليم، ومأزق الاقتصاد الرأسمال التبعي، وتفاقم بطالة المتعلمين، وغلاء المعيشة، إلى إحداث زلزال في الوضع الاجتماعي لتلك الفنة من الموظفيه الصغار. إن أجرة موظف البنك، لا تمثل سوى الحد الأدنى الضروري جدا للعيش. من هنا فإن وضعية هذه الفئة من الشغيلة المأجورة، ينطبق عليها كليا الشرطان الأساسيان، اللذان يعتبرهما ماركس حاسمين في تحديد البروليتاري، وهما: 1) بيع قوة العمل بالرأسمال المتحول، وليس بالدخل... 2) وأن سعر قوة العمل لا يمثل مجموع العمل المبذول، بل فقط العمل الضروري للكلفة اللازمة لانتاج وإعادة انتاج قوة العمل. أما كون اولئك الموظفين الصغار، يقومون بأعمال ذهنية وليست عضلية، فإن ذلك لا يغير شيئا في جوهر المسألة، باعتبار ذلك يدخل في إطار قسمة العمل الرأسمالية فقط. والخلاصة مما سبق إذن، هي أنه، كما أن الرأسمال التجاري يحصل على حصته من فائض القيمة عن طريق استغلال قوة عمل المنتجين، عبر استغلال قوة عمل العمال التجاريين. فكذلك إن الرأسمال المالي يحصل على حصته من فائض القيمة عن طريق استغلال قوة عمل المنتجين، عبر استغلال قوة عمل موظفي وموظفات الأبناك. يتبين من التحليل السابق إذن، أن الرأسمال المغربي يتكون من أربعة أشكال كبرى، هي: الرأسمال الصناعي، والرأسمال الزراعي، والرأسمال الخدماتي المنتج، والرأسمال الخدماتي الغير منتج. وحول هذه الاشكال من الرساميل، تتوزع الطبقة العاملة المغربية كلها، التي يمكن بدورها تقسيمها إلى ثلاثة اشكال رئيسية انطلاقا من طبيعة الانتاج والعمل، وهي: الطبقة العاملة الصناعية والزراعية، المنتجة للسلع المادية، والطبقة العاملة الخدماتية المنتجة، التي تنتج الخدمات، السلع، والطبقة العاملة الخدماتية الغير منتجة، التي تقوم بأنشطة التجارة والمال. إن الظروف الاقتصادية الدولية والمحلية الراهنة، تسيرلصالح المزيد من التوسع الرأسمالي الخدماتي، وعلى رأسه الرأسمال الخدماتي السياحي، وهذا التوسع سيكون بالضرورة على حساب الرأسمال الصناعي. ولذلك فإن اجراءات تحرير التجارة الخارجية، وإلغاء العمل بلوائح مواد الواردات، ليس لها من هدف جوهري سوى تشجيع انتقال الرأسمال من القطاع الصناعي إلى القطاع الخدماتي. أما الخلافات التي نقرأ عنها في الصحف والنشرات الاقتصادية، بين رجال الصناعة المغاربة والدولة، فليست خلافات بين الرأسمال الصناعي والرأسمال الخدماتي، بين من يحرص على تطوير صناعة وطنية ومن يريد بها شرا، ولكنها خلافات تمس فقط المسطرة العملية للانتقال. وإن الدولة ليست أقل رغبة من الصناعيين، في الحفاظ على الصناعات التي لها قدرة المزاحمة في الأسواق الخارجية. لكن الصناعيين، ربما هم أكثر رغبة من الدولة نفسها، في نقل استثماراتهم من القطاع الصناعي إلى القطاع الخدماتي، لأنهم يعرفون أكثر من غيرهم بأن ذلك القطاع لم يعد مربحا كما كان في السابق، ومن هنا لابد من البحث عن بديل أكثر إغراءا لرساميلهم، وفي الشروط الحالية، ليس هناك ما هو أفضل من القطاع الخدماتي. إن جوهر الخلاف إذن بين الصناعيين والدولة، يكمن في كون هؤلاء يريدون في نفس الوقت الذي تتم فيه عملية الانتقال، أن ينتزعوا من الدولة أقصى التنازلات الممكنة لصالح الصناعة القائمة، وهي تنازلات تمس أساسا: رفع الضمانات القانونية لحماية الشغل لكي يصبح الرأسمال الصناعي مطلق الحرية في استغلال قوة العمل بشكل سافر، تخفيض الضرائب، وأسعار الطاقة، والنقل، وما شابهها. وهذه مطالب يراها الرأسمال الصناعي ضرورية لتخفيض كلفة الانتاج، من أجل تحسين موقعه التنافسي في السوق العالمية. إن نقل الاستثمار إلى القطاع الخدماتي، يدخل في صلب قسمه العمل الدولية، التي حكمت تطور الرأسمال الصناعي المغربي، منذ لحظة النشأة إلى الآن. ومن مميزات قسمة العمل تلك، هي أنها كانت في كل مرحلة من مراحل التاريخ، تغلب شكل الرأسمال الأكثر انسجاها مع طبيعة المرحلة. ولهذا يمكن رصد حركة الرأسمال الصناعي المغربي، منذ النشأة إلى الآن، على الشكل التالي: 1) مرحلة صناعة إحلال الواردات، التي غطت الستينات ومطلع السبعينات. (إن قسمة العمل الدولية لهذه المرحلة، كانت تعني تخصص الصناعة المغربية في انتاج منتوجات الاستهلاك الداخلي، على أن يظل الاقتصاد المغربي مرتبطا بالرأسمال الامبريالي، من أجل استيراد وسائل الانتاج ومواد التجهيز الأساسية). 2) إن هذه الصناعة ستستنفذ امكاناتها التاريخية بسبب محدودية السوق الداخلية المعاقة، ولذلك سيتم، ابتداءا من منتصف السبعينات بالخصوص، نهج استراتيجة جديدة هي استراتيجية الصناعة التصديرية. 3) إن الصناعة التصديرية بدورها، ستصطدم بمأزق حد من اندفاعاتها الطموحة. وذلك من جهة، بسبب حماية البلدان الأوربية لمنتوجاتها، الناجمة عن الأزمة العالمية، ومن جهة ثانية بسبب انضمام اسبانيا والبرتغال إلى المجموعة الأوربية. من هنا بدأ البحث عن البديل الاستراتيجي الجديد، وكل المؤشرات تؤكد أنه هو الصناعة الخدماتية السياحية. (لنلاحظ بالمناسبة، أن إحصائيات سنة 1985 للميزان التجاري، تبين أن مداخل السياحة قد فاقت كلا من مداخل الفوسفاط ومداخل الحوامض، ولم يتم تجاوزها إلا من قبل تحويلات العمال المهاجرين. ورغم ذلك فإن الرأسماليين المغاربة يصرحون، بأن السياحة لم تستخدم سوى 15 % فقط من طاقتها الايوائية الكامنة).
يقسم ماركس الفائض البروليتاري إلى ثلاثة أنوع: 1- الفائض الكامن: ويعني جماهير الفلاحين الذين مازالوا مرتبطين بالأرض، ولم يندمجوا بعد في صميم العلاقات الرأسمالية. لكنهم يشكلون بالضرورة احتياطا لتلك العلاقات، بحكم منطق التراكم الرأسمالي الذي يقود حتما إلى بلترتهم. إن هذا الفائض كان يمثل أغلبية السكان العاملين في معظم البلدان الأوربية في ذلك الوقت. والنقاشات النظرية الساخنة التي كانت في تلك المرحلة، تدور بين الاقتصاديين البورجوازيين الكلاسيكيين، كان أحد محاورها الأساسية، هو بالضبط الموقف من جماهير الفلاحين المستقلين. إذ كان الاقتصاد السياسي الكلاسيكي البورجوازي، يعتبرهم جماهير غير منتجة، لأنهم خارج إطار علاقات الانتاج الرأسمالية وبالتالي فهم لا ينتجون فائض القيمة، الذي هو أساس ""ثروة الأمم" حسب التعبير الشهير لآدام سميث. إن المنتج الحقيقي، من وجهة النظر تلك، هو الذي ينتج الربح للرأسمال. ولذلك كان نضال أولئك الاقتصاديين، يستهدف تقليص عدد الفلاحين الخارجين عن مراقبة الرأسمال إلى أقصى حد (لنلاحظ مثلا أن عمال التجارة والمال، الذين هم حقا غير منتجين، فإن الرأسمال يعتبرهم منتجين لأن وظائف التجارة والأبناك ضرورية لحركة الرأسمال). 2- الفائض العائم: ويعني جماهير العمال الذين يتم تسريحهم من المعامل، بسبب تطور المكننة والانتاجية. لكن هذا التسريح (بالنسبة للاقتصاد الاوربي)، هو بوجه عام تسريح مؤقت. إذ سرعان ما يعود الرأسمال إلى امتصاصهم من جديد. وهذا يخضع لقانون التراكم الرأسمالي التالي: إن تطور المكننة يؤدي حتما إلى البطالة، بالنسبة للجزء من العمال الذي أصبح فائضا. والبطالة تؤدي حتما إلى تخفيض سعر قوة العمل المعروضة للبيع. وهذا السعر المنخفض يشكل حافزا جديدا لاستثمارات جديدة في القطاعات الأقل تطورا من ناحية المكننة. لكن التطور اللاحق للمكننة في هذه القطاعات، يقود بدوره حتما إلى البطالة، فإلى انخفاض سعر قوة العمل، فإلى حفز الرأسماليين الجدد إلى استثمارات جديدة، ثم امتصاص الفائض البروليتاري... وهكذا تكرر الدورة، إلى أن تحدث أزمة كبرى تشل الاقتصاد الرأسمالي. وسبب الأزمة هو بالطبع، أن التطور الكبير للمكننة ينجم عنه بروز حجم ضخم من البضائع المعروضة للبيع، لا تقوى على شرائها القوة الشرائية المتوفرة، تاريخيا لقد كانت الوسيلة الأولى التي لجأت إليها الرأسمالية في البداية، من أجل حل هذه الأزمة، هي البحث عن أسواق جديدة خارج حدودها، وهذا هو دور المستعمرات الكلاسيكية. ثم في مرحلة لاحقة، أصبح التوسع الامبريالي لكل رأسمال احتكاري قومي في مناطق نفوذه الخاصة، هو الذي يقوم بدور حل الأزمة. لكن هذه الوسيلة هي الأخرى، ستستنفذ إمكاناتها الموضوعية، لذلك تم اللجوء إلى وسيلة جديدة تمثلت في إعطاء الدولة دورا اقتصاديا واجتماعيا هاما، وكذلك في رفع مداخل العمال وأجور الجماهير الشعبية عموما، من أجل خلق قوة شرائية متطورة تكون قادرة على امتصاص البضائع الرأسمالية المتكاثرة. وهذا التوجه الجديد، هو بالضبط ما عبرت عنه النظرية الكينزية التي مثلت قطيعة مع الفكر الليبرالي للاقتصاد السياسي الكلاسيكي، كما عبرت عنه بشكل أكثر تقدما سياسة الأحزاب الاشتراكية-الديمقراطية. وبالطبع إن خصوصية هذه المرحلة التاريخية، قد سمحت بترويج العديد من الأوهام والأساطير حول محاسن النظام الرأسمالي المزعومة، بل إن بعضهم ذهب إلى حد القول - عن حقد أو جهل - بأن كينز قد حفر قبر ماركس. لكن هذه المرحلة بدورها، ستصطدم مح المنطق العنيد الذي يحكم قانون التراكم الرأسمالي. لذلك إن الثورة التكنولوجية التي شهدتها مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، قد أدت إلى تطور هائل للانتاجية لم يسبق له مثيل، مما أدى إلى إغراق الأسواق بسيول ضخمة من البضائع، لم يعد بمقدور التحسينات التي أدخلتها الرأسمالية على نظام الأجور، أن تمتصها. من هنا اضطرار الرأسماليين إلى التراجع عن الاستثمارات، وتخفيضها إلى حد أدنى، ما دامت البضائع المعروضة في الأسواق لم تعد تجد من يشترها. وبالطبع لقد أدى ذلك إلى تسريح جيوش عرمرمة من العمال، وإلى تصفية العديد من المكتسبات العمالية. (إن الآلة الإعلامية الامبريالية الرهيبة، هي نفسها قد أصبحت عاجزة عن ستر عورة النظام الرأسمالي القبيحة). فلم يعد الماركسيون الأمريكيون وحدهم الذين ينتقدون الرأسمالية، بل إن صحافة رأس المال الاحتكاري الأمريكي في واشنطن ونيويورك، هي نفسها أصبحت تنشر تقارير يومية عن بؤس ملايين الأمريكيين الذي لا يختلف كثيرا عن بؤس شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية). إن نظرية ماركس لقائلة بوجود تناقض عميق بين تطور قوى الانتاج وعلاقة الانتاج... بين تمركز الثروة في قطب وتمركز البؤس في القطب الآخر، هذه النظرية لم تجد لها في أية فترة سابقة من عمر الرأسمالية المديد، من مصداقية قاطعة، أكثر من الفترة التي نعيشها اليوم. إن عصرنا شاهد على أكبر الاستقطابات تكثيفا، في تاريخ البشرية كله على وجه الاطلاق: من ناحية، هناك تمركز الثروة في القطب الشمالي وتمركز الجوع والموت في القطب الجنوبي. ومن ناحية أخرى هناك الرأسمال الاحتكاري الأمريكي الذي يملك الثروات الخيالية والأسطورية، وهناك في عقر داره تظاهرات تشابك الأيدي التي غطت مجموع الولايات المتحدة، من أجل جمع التبرعات لإغاثة ملايين العمال الأمريكيين الذين لفظتهم معامل الرأسمال الاحتكاري. (والطريف في الأمر، أن التعويضات التي كانت تدفع إلى عمال البطالة، بدأ الآن يتم التراجع عنها بسبب إرتفاع نسبة البطالة. فالرأسماليون الأمريكيون والكنديون، يناقشون اليوم المقاييس الجديدة التي يجب أن تخضع لها عملية دفع التعويضات للعاطلين. وفي رأيهم أن العامل العاطل الذي يملك بيتا أو سيارة، يجب أن يُستثنى من الاستفادة من تعويضات البطالة، لأنه، حسب زعمهم، عامل ميسور ! !). يتضح إذن مما سبق، بأن البطالة تدخل في صلب النظام الرأسمال وهذا في الحالتين معا: 1- حالة الازدهار الاقتصادي، حيث أن الاستثمارات الجديدة هي غير ممكنة بدون توفر قوة عمل رخيصة، وهذه القوة توفرها القطاعات التي تطورت فيها المكننة، مما يؤدي حتما إلى رمي الفائض العمالي إلى الشارع، قبل أن يشكل منطلقا جديدا لاستثمارات جديدة. إن قانون التراكم الرأسمال يقوم إذن، على الحركة المتكررة لعملية التعاقب بين الانتفاخ والانكماش في حجم العمال، الناجم عن التطور المستمر للمكننة... 2- ثم بطيعة الحال في حالة الأزمة الشاملة. إن هذا النوع من الفائض البروليتاري، قد أطلق عليه انجلز منذ سنة 1895، في كتابه "وضعية الطبقة الكادحة في انجلترا"، اسم الجيش الاحتياطي الصناعي. 3- أما النوع الثالث من الفائض البرولتاري، فيسميه ماركس الفائض الراكد، وهو الجزء من ترسبات العمال العاطلين بشكل دائم، الذين لا يجدون الشغل في المعامل مهما كانت الظروف. إن الأشكال الثلاثة من الفائض البروليتاري، التي حللها ماركس، وهي الفائض الكامن، والفائض العائم، والفائض الراكد، كلها موجودة والواقع المغربي. فبالنسبة للأول، لازال يمثل 56% في البادية المغربية، وبالنسبة للثاني، واضح الدور الذي تلعبه المكننة وتطور الانتاجية، في تسريح العمال، وخاصة في بعض القطاعات الاستراتيجية مثل الزراعة التصديرية، والفوسفاط (استيراد الحافرات العملاقة من الولايات المتحدة). لكن خصوصية المغرب تتعلق بالضبط، بالموقع المتميز للفائض الراكد. فإذا كان هذا الفائض، لا يلعب سوى دور ثانوي في بلدان المركز الرأسمال، بسبب هامشية حجمه، فإنه في المغرب له دور أساسي، بالنظر إلى حجمه المتعاظم باستمرار. إن الفائض الراكد في المغرب، يشبه من حيث الحجم، الفائض العائم في بلدان الغرب في ظروف الأزمة. ومن هنا يمكن القول، بأن الاقتصاد المغربي يعيش أزمة دائمة، يعكسها العدد المتزايد باستمرار للشغيلة المهمشة. لكن ما هوسبب وجود هذا الحجم الضخم من المهمشين في المغرب ؟ لمعرفته يتعين علينا، مقارنة جدلية التراكم الرأسمالي في المغرب بجدلية التراكم الرأسمالي في بلدان الغرب. إن حركة التراكم في البلدان الأخيرة، تخضع للقانون التالي: تاريخيا، لقد كان المنطلق الأصلي لنشأة الرأسمالية هو البادية. والانتاج الذي كان سائدا في البادية، وهو الانتاج الصغير بنوعيه: إنتاج الفلاحين المستقلين الذين كانوا يتحكمون في جموع محاصيل إنتاجهم، وإنتاج الفلاحين الأقنان الخاضعين للاقطاع الأوربي، الذين لم يكونوا يتصرفون سوى في جزء من إنتاجهم، وهو الجزء الضروري لمعيشتهم وإعادة إنتاج قوة عملهم، بينما فائض الانتاج كان يستحوذ عليه الاقطاعيون. إن تطور الصرع الطبقي في البادية الأوربية بين الاقطاع والأقنان، قد أدى إلى تحسين ميزان القوى لصالح الأقنان، مكنهم من تقليص حجم فائض الانتاج الذي يذهب إلى الاقطاع، وبالتالي الرفع من دخل الفلاحين الأقنان الخاص، إن تحسن دخل الفلاحين، سمح لهم بتخصيص جزء منه لتطوير الانتاجية. والنتيجة لهذه الصيرورة، هي تقوية طبقة الفلاحين المستقلين أو الطامحين للاستقلال عن الاقطاع. لكن تبلور هذه الطبقة الجديدة، سيؤدي بدوره إلى إطلاق صيرورة من الانقسامات داخل تلك الطبقة نفسها: صعود أقلية من الفلاحين الأغنياء، وتبلتر جماهير الفلاحين المفلسين (الذين انضم إلى صفوفهم أيضا، الأقنان الذين تم تسريحهم من طرف الاقطاع). إن الفلاحين المتبلترين، سينقسمون إلى قسمين: قسم تحول إلى عمال زراعيين يعملون في مزارع الفلاحين الأغنياء الجدد، والقسم الفائض سيغادر البادية إلى المدينة ليشكل الفوج الأول من العمال الصناعيين، الذين بدأت تحتاجهم الصناعة الناشئة. وفي صلب هذه العلاقة المتبادلة، بين الرأسمالية الزراعية الناشئة في البوادي، والرأسمالية الصناعية الناشئة في المدن، تكونت السوق الداخلية الوطنية: من ناحية كانت البادية تمد المدينة بالفائض البروليتاري للصناعة، وبالمنتوجات الغذائية لاطعام العمال، ومن ناحية أخرى كانت الصناعة تمد الزراعة بوسائل الانتاج، وكان العمال يشكلون قوة شرائية أساسية للمنتوجات المصنعة. وبقدرما كانت العلاقات الرأسمالية تتوسع، والصناعة تتطور، بقدر ما كانت السوق الداخلية بدورها تنمو وتتوسع. إن هذا التطور المتبادل بين الرأسمالية في الزراعة، والرأسمالية في الصناعة، سيؤدي فى النهاية إلى بلترة كاملة للفلاحين المستقلين، وبالتالي إلى تفريغ البادية من فلاحيها ونزوحهم إلى المدن، لكن الصناعة الرأسمالية التي كانت تتطور جنبا إلى جنب، مع الزراعة الرأسمالية، كانت قادرة بالتالي على امتصاص جيوش الهجرة الفلاحية، إن كون النظام الرأسمالي في أوربا، قد خضع في تطوره إلى حركة داخلية، كانت تتكامل فيها أدوار البادية والمدينة، عبر صيرورة متمركزة على الذات، هو الذي يفسر هامشية وضعف حجم الفائض البروليتاري الراكد. أي أن ضعف ذلك الحجم هو من قوة وسعة السوق الداخلية. أما في المغرب، فقد كانت هناك حلقة مفقودة أساسية، بالنسبة للطريقة التي تم بها تطور الرأسمالية هنا. وهذه الحلقة هي حلقة السوق: فمنذ المنطلق كانت الرأسمالية في المغرب، تقوم على أساس خدمة القوة الشرائية للسوق الخارجية، بشكل انتقائي، وليس على أساس السوق الداخلية المنسجمة والمتكاملة بين البادية والمدينة. والنتيجة المباشرة لغياب تلك الحلقة الحاسمة، هو التنافر الكبير في وتيرة التطور، بين قطبي التراكم الرأسمالي: البادية والمدينة. ذلك أن التراكم في البادية، القائم على تمركز الملكية العقارية، ومكننتها، وتدمير الانتاج الصغير، أدى حتما إلى فصل الفلاحين عن وسائل انتاجهم ودفعهم للهجرة إلى المدن، لكن بدون أن تكون الصناعة في المدن مهيأة لاستقبالهم أو قادرة على استيعابهم، من هنا كان لابد أن يكون ما لهم هو التهميش الدائم كفائض بروليتاري راكد.
5. نزوع الطبقة الوسطى المتعلمة إلى البلترة في مرحلة صعود البرجوازية الكبرى المغربية، كانت الرأسمالية التبعية في أمسّ الحاجة إلى الموظفين من مختلف المستويات والكفاءات لتشغيل الإدارة وتأطير الإقتصاد. لكن بالمقابل لم يكن العرض يساير الطلب، بل كان ضعيفا، بسبب ضعف انتشار التعليم الموروث عن المرحلة الكولونيالية. إن هذه الوضعية المتميزة، سمحت لموظفي الدولة آنذاك بأن تكون لهم امتيازات حقيقية: فلقد كانت رواتب الموظفين مرتفعة بالنسبة لمستوى المعيشة، كما كانت هناك قيمة للشهادات. لذلك يمكن القول، بأن راتب الموظف كان أقرب إلى الدخل الموافق للعمل المبذول (مع اقتطاع الضريبة على الراتب)، منه إلى الأجرة التي توافق قيمة كلفة قوة العمل. كما أن الحدود الفاصلة بين الطبقة الوسطى المتعلمة والبروليتاريا، كانت واضحة ومحددة. إن الإرتفاع النسبي في الداخل للطبقة الوسطى المتعلمة الكبيرة (أطر تقنية، مهندسون، أطباء، محامون، أساتذة الجامعة وغيرهم)، كان يسمح بتخصيص جزء من الدخل لأعمال استثمارية، يتمكن بواسطتها بعض أفراد تلك الشريحة الاجتماعية من التسلق الطبقي والتحول إلى صف الرأسماليين الحقيقيين. كما أن تراكم دخل الطبقة الوسطى المتعلمة الصغيرة (صغار الموظفين)، كان بدوره يسمح لبعض أفرادها من تحسين وضعهم الاجتماعي. والتحول إلى طبقة وسطى متعلمة كبيرة. وفي تلك الأيام الخوالي، كان المرء الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى المتعلمة، يعتبرحقا امرءا محظوظا. لكن هذه الوضعية ستنقلب رأسا على عقب ابتداءا من منتصف السبعينات بالخصوص. فلقد أدى مأزق البورجوازية الكبرى المغربية، وأزمة الرأسمالية العالمية، وانتشار التعليم، إلى قلب العلاقة بين العرض والطلب بالنسبة للأطر المتعلمة: لقد أصبح الطلب محدودا، بينما العرض متضخما. وهذا الخلل الناجم في الأصل، عن طبيعة النظام الرأسمالي التبعي، قاد إلى العديد من الظواهر الجديدة: انهيار قيمة الشهادات الدراسية (فالشغل الذي كان مضمونا بالشهادة الثانوية، أصبح غير مضمون بشهادة الإجازة. والباكلوريا التي كانت تسمح بالالتحاق رأسا بأية كلية أو معهد أو مدرسة عليا، فقدت قيمتها لدرجة أن الالتحاق بكليات الطب والصيدلة وجراحة الأسنان وكل المعاهد والمدارس العليا، أصبح يشترط اجتياز مباراة)، كما أن هناك تخفيضا في قيمة بعض الوظائف الحكومية (تحويل أستاذ السلك الثاني في التعليم الثانوي من السلم العاشر إلى السلم التاسع)، التراجع عن اجبارية الخدمة المدنية، تفاقم بطالة الخريجين الجامعيين حملة الاجازة (ويقدر عددهم سنة 1985 بحوالي 15000). ولعل أبرز ظاهرة رافقت ذلك، هي تدهور مداخيل الطبقة الوسطى المتعلمة، بسبب تداخل ثلاثة عوامل مباشرة: 1- اشتداد المزاحمة في سوق العمل... 2- الارتفاع الهائل في تكاليف المعيشة... 3- تجميد الأجور. إن هذه العوامل قد جعلت من دخل الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى المتعلمة، الذي كان فيما مضى يعتبر امتيازا، يتحول إلى مجرد أجرة بسيطة تكاد لا تكافئ حتى قيمة كلفة العمل نفسها. على هذا الصعيد إذن، لم يبق هناك أي فرق بين أجور الموظفين الصغار وأجور العمال البروليتاريين. لكن مع ذلك، لازال هناك فرق جوهري بين الفئتين الاجتماعيتين. فرغم أن فئة الموظفين العاملين في الوظيفة العمومية، قد انحدرت نحو التبلتر بسبب تدهور دخلها الذي أصبح مشابها أو متقاربا مع أجور العمال البروليتاريين، إلا أنها مع ذلك لم تتحول بالكامل إلى طبقة بروليتارية فعلية. والسبب في ذلك هو أنها لازالت توجد خارج إطار العلاقات الرأسمالية، بمعنى أن الدخل الذي تتقاضاه من الدولة، وهي تزاول أنشطتها الادارية في إحدى المرافق الحكومية خارج النطاق الاقتصادي، هو على أي حال دخل مهما كان تشابهه بالدخل البروليتاري، لأن الدولة تسدد للموظف الصغير بصفته دخلا فعلا وليس رأسمالا متحولا، الغرض منه إنتاج فائض القيمة والاستحواذ عليه. لكن من ناحية أخرى، هناك فئة واسعة من الموظفين الحكوميين المنخرطين حقا في العلاقات الرأسمالية. إنها الفئة المرتبطة باقتصاد القطاع العام، الذي يوجد في ملكية الدولة. والقطاع العام هو في حقيقته، قطاع الرأسمال العام، أي الرأسمال الذي لا يملكه الرأسماليون الخواص، لكنهم مع ذلك هم المستفيدون الحقيقيون من عوائده وأرباحه (في الفترة الأخيرة التي تم فيها تفويت العديد من مؤسسات القطاع العام إلى الخواص، يكون بذلك قد تحقق التطابق بين الربح والملكية، بدل الانفصال الذي كان قائما بين الملكية العمومية والربح الخاص). إن موظفي القطاع العام الصغار، الذين لا تتجاوز مرتباتهم أجور العمال، والذين هم منخرطون في العلاقات الرأسمالية، وبالتالي يساهمون جنبا إلى جنب مع العمال العضليين في إنتاج فائض القيمة، يعتبرون بدورهم من حيث الجوهر عمالا بروليتاريين، بالرغم من قسمة العمل الرأسمالية قد جعلت منهم موظفين للعمل الذهني في المكاتب.
|