الإرث الاشتراكي |
حوار لـ: جانوس كورناي (حاوره إريك
إسرائيلوفيتش ) |
إريك إسرائيلوفيتش: مع سقوط جدار برلين أصبحت الإنتقالوجيا Transitologie (علم الانتقال) وبعنف مبحثا جديدا من مباحث علم الاقتصاد. و أنتم تعملون على بناء نظرية عامة عن النظام الاشتراكي. . أليس ذلك عديم النفع نسبيا ومسألة فات أوانها ؟ جانوس كورناي: لقد كانت الاشتراكية إحدى الرهانات التاريخية الكبرى للقرن العشرين، وأعتقد أن هنالك ثلاثة أسباب على الأقل تجعل اليوم مسألة تفهم النظام الاشتراكي مسألة لا محيد عنها. الأول أنه كانت هنالك دائما في العالم بلدان تتواجد بالسلطة بها أحزاب شيوعية، ومن ثمة لازالت الاشتراكية قائمة بها؛ تلك حالة الصين خاصة، إحدى أكبر القوى بالعالم. السبب الثاني وهي أنه من أجل فهم أو التأثير الفعلي على الانتقال تعتبر معرفة نقطة الانطلاق مسألة ضرورية. و لا يكفي امتلاك إدراك معين للهدف (الرأسمالية)، والمسار والمقصد الذي نقصده (اقتصاد السوق)؛ فمعرفة من أين أتينا (الاشتراكية) مسألة واجبة. السبب الثالث هو أن نظرية الاشتراكية تمكن أيضا من فهم بعض رهانات الرأسمالية الحالية. إريك إسرائيلوفيتش: إن التحرير الاقتصادي الممارس منذ 15 سنة بالصين مكنها من إقلاع حقيقي، فهل ما زالت الصين بلدا اشتراكيا ؟ جانوس كورناي: رغم عودة مكثفة للسوق في مجال الاقتصاد فإن الصين تظل بلدا اشتراكيا. وقبل الاقتصاد، فإن التنظيم السياسي هو المحدد الفعلي، وما يعرف نظاما اشتراكيا كلاسيكيا هو أولا بنية سياسية، الاحتكار الخاص الذي يمارسه الحزب الشيوعي وإيديولوجية مسيحية النزوع والرسم الماركسي. وباعتبار الحزب مقتنعا بأنه وحده الذي يعرف ما هو صالح للشعب فإنه يستحوذ على السلطة بأكملها وينخرط في بناء نظام شيوعي. الباقي كله أي ملكية الدولة، التنسيق البيروقراطي، التخطيط. . الخ ينحدر من ذلك بتماسك كبير. وحتى مجيء دينغ كسياوبينغ عاشت الصين على نظام اشتراكي كلاسيكي، أي على نظام وصفه البعض بأنه "سوفياتي" أو "ستاليني". وابتداء من نهاية الستينيات تم إدخال إصلاحات اقتصادية بتوسيع الملكية الخاصة في مجال الفلاحة. إنها عمليات ذهاب وإياب تقليدية بالمقارنة مع النظام الاشتراكي الكلاسيكي؛ فلا شيء تغير حقيقة بشكل جذري على المستوى السياسي؛ إذ حافظ الحزب الشيوعي على احتكاره للسلطة، ورغم تغييرات في الاقتصاد فقد ظلت الصين بدون تعددية؛ فالسوق غير متنافر مع نظام سياسي سلطوي، ومثال سنغافورة برهان على ذلك، لكن نظاما سياسيا شيوعيا مسيرا من طرف إرادة لمحو الرأسمالية لن يكون متلائما، على المدى البعيد، مع اقتصاد السوق؛ فالأمر شبيه بكنيسة كاثوليكية تزعم إقامتها لنظام ملحد. إن من الممكن بالنسبة للصين، وتلك فرضية أخرى، أن يحتفظ الحزب الشيوعي باسمه، لكن مع تحوله تدريجيا في الواقع إلى حزب "بورجوازي" مناصر للرأسمالية وتخليه عن الملامح الأخيرة لحزب بولشفيكي سيكون حينها متوافقا مع بروز وتطور الرأسمالية. إريك إسرائيلوفيتش: ليس لـ"اقتصاد السوق الاشتراكي"، وهو المثل الأعلى لبكين، أي مستقبل. أليس كذلك ؟ جانوس كورناي: لا. وقناعتي هي أنه إذا كانت الاشتراكية الكلاسيكية فظة وقاسية وعديمة الفعالية فهي على الأقل نظام متماسك ومتلاحم. إن مختلف الكتل التي تشكله تستند لبعضها وتكمل بعضها البعض بشكل يتسم بالكمال: سيطرة الحزب، الإيديولوجيا الماركسية اللينينية، النظام والقمع، المركزية، ملكية الدولة، التنسيق البيروقراطي، نمو إرغامي، أشكال خصاص مزمنة. لقد أدخلت الإصلاحات بداخل النظام عناصر خارجية من شأنها أن تلغم التماسك والتلاحم. وبدل تحسين فعالية الاقتصاد فإن هذه الإصلاحات تقود نحو تآكل النظام وانهياره في الأخير. إريك إسرائيلوفيتش: إن بلدان أوربا الوسطى مطالبة من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوربي بالبرهنة على أنها تتوفر ببلدانها على "اقتصاد للسوق منجز بشكل تام". فأين هي من ذلك اليوم ؟ جانوس كورناي: يتعلق الأمر هناك بمسألة عملية وسياسية ليس لدينا عنها أي جواب يمكن أن نقيمه على معايير ومقاييس علمية صارمة. إن الانتقال سيرورة، مثلها في ذلك مثل البلوغ، تمكن من الانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ، من الاشتراكية إلى الرأسمالية. وليس هناك معيار وحيد يمكن من القول بأن الطفل أضحى راشدا، ونفس الأمر في محال الاقتصاد؛ فهناك أبعاد متعددة: حرية الأسعار، نظام الملكية، الولوج للسوق، وجود حالات إفلاس. إريك إسرائيلوفيتش: ألا يكفي اختفاء سيطرة واحتكار الحزب الشيوعي للسلطة ؟ جانوس كورناي: هناك نمطان من التحول الشمولي، الأول تمثل في التحول الذي قاد من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وذلك في 26 بلدا. وفي كل مرة فإن السيرورة انطلقت من خلال الإمساك بالسلطة من طرف الحزب الشيوعي وإقامة مونوبول حزبي. لم يكن ذلك فقط شرطا ضروريا وإنما أيضا شرطيا كافيا لإقامة الاشتراكية. لقد جلب الحزب الشيوعي معه "برنامجا جينيا" استهدف إلغاء الملكية الخاصة واختفاء السوق وخلق تراتبية بيروقراطية. وبالنسبة للحظة الراهنة فنحن لا نعرف بعد كل سمات الانتقال المعاكس من الاشتراكية إلى الرأسمالية. إن إلغاء مونوبول الحزب الشيوعي ربما هو شرط كاف وذلك لأنه يلغي العائق الرئيسي أمام اقتصاد السوق. إن سؤالك يحيل مع ذلك على مشكلة جد محددة: أية علامات تمكن من تقدير المسافة المقطوعة لحد الآن في ما بين الاشتراكية والرأسمالية ؟ وهناك في ما وراء إقامة نظام ديمقراطي متعدد الأحزاب تغيران كبيران لا محيد عنهما: فيجب الانتقال من وضعية تهيمن فيها ملكية الدولة إلى وضعية تحل فيها الملكية الخاصة محل ملكية الدولة، ويجب أن يحل التنسيق من طرف السوق محل التنسيق البيروقراطي. ومتى تحققت هذه القطائع الثلاث فإنني سأجدني مقتنعا حينها أن الانتقال يقود لا محالة نحو اقتصاد السوق. إن حكومات متيقظة يمكن أن تسرع من وثيرة هذه السيرورة، وإن حكاما عديمي الفعالية متذبذبون أو أغبياء يمكن أن يبطئوا حركتها، لكنهم في كل الأحوال لا يستطيعون تغيير مجرى التاريخ . أعتقد أن بولونيا والجمهورية التشيكية وسلوفاكيا وسلوفينيا والمجر تعرض من زمان كل السمات الأساسية لاقتصاد السوق، لكنها لا تشتغل بعد كاقتصادات توفر لديها تقليد عريق واحتكاك بميكانيزمات السوق. إريك إسرائيلوفيتش: لقد قيل في بداية الانتقال إن الاشتراكية عمقت لدى الإنسان سلوكات خاصة: الكسل، الكذب، التحايل على القانون. فهل النظام هو الذي أنتج هذه السلوكات ؟ وهل كان هناك مقابل الإنسان-الاقتصادي homo-oeconomicus إنسان-سوفياتي homo-sovieticus . جانوس كورناي: ليست لمفاهيم الإنسان الاقتصادي والإنسان السوفياتي أية أهمية كبرى. إنك من خلال نموذج إنساني نظري تستطيع أن تفسر كل شيء ونقيضه في نفس الآن. وأنا أعتقد أن سلوكات الناس تنمط من طرف النظام، ولكن أيضا بتأثير المهنة التي يمارسونها وكذا بتأثير وضعهم الاجتماعي والسياسي والتقاليد الوطنية وعوامل أخرى كثيرة. ولقد حاولت كثيرا بالفعل وضع يدي على ثوابث السلوك الإنساني وتفسيرها، فقد درست عهلى سبيل المثال سلوكات المدبرين في النظام الاشتراكي، إن لديهم حوافز عديدة، ولا تتمثل هذه الحوافز فقط في الخوف من العقاب الإداري أو الأمل في الربح في حالة إنجاز المخطط. إنهم يسعون أيضا لكسب الاحترام اجتماعيا ويحبون القيام بأعمالهم ولديهم أهداف تتعلق بالترقي الوظيفي كما لديهم انشغالات مالية. وهذا كله نجده في الرأسمالية أيضا، لكن بجرعات وفي شروط جد مغايرة. إن لدى مسيري المقاولات في النظام الاشتراكي تعطشا دائما للاستثمار الدائم، وهم يبحثون بشكل دائم عن وسائل جديدة ويسخرون كل طاقاتهم لإقناع رؤسائهم بأهمية مشاريعهم وجدواها. أما في النظام الرأسمالي فإن الرؤساء المدراء العامون حوافز متناقضة؛ فهم منشدون من جهة نحو التوسع الدائم والبحث عن موارد إضافية لتحسين منتجاتهم أو تكنولوجيتهم، لكنهم يتخوفون دائما من جهة أخرى من أن لا تكون استثماراتهم مربحة وأن تكون عرضة للمخاطر. وهذا يقود نحو الدورات التي نعرفها في البلدان الرأسمالية . إريك إسرائيلوفيتش: لقد قتلت الاشتراكية ـ كما قيل ـ "الروح الحيوانية": روح المقاولة، المبادرة والخيال. جانوس كورناي: كلمة "القتل" كلمة عنيفة. إنها ربما هدأت أو رصنت هذه "الروح الحيوانية" بقوة. أو أنها حولتها أحيانا. لقد استعمل الناس غالبا قدراتهم ومميزاتهم لأغراض شخصية. كثير منهم كانوا كسلاء في وظائفهم الرسمية، لكنهم كانوا نشيطين في الاقتصاد الثانوي أو الهامشي، وقد توجبت أيضا جرعة كبيرة من الخيال وروح المبادرة من أجل القدرة على التزود بالحاجات الضرورية في اقتصاد يتسم بالكفاف. ومن هناك نرى بوضوح اليوم بأوربا الوسطى أنه لا زال هناك دائما مقاولون. إريك إسرائيلوفيتش: فيم يمكن أن يفيد اقتصاد سياسي للاشتراكية في فهم بعض مشاكل الرأسمالية ؟ جانوس كورناي: هناك أولا في ما بين الاشتراكية والرأسمالية بعض أوجه الشبه، وما يسم الاشتراكية هو إكراه الميزانية "الرخوة": فالمقاولات تستطيع أن تراكم الخسارات علما منها بأنه سيتم دائما إنقاذها من طرف الدولة. في الرأسمالية "الخالصة" إكراه الميزانية إكراه "صلد": فالخسارات تقود نحو الإفلاس والاختفاء. وفي الواقع، فإن الرأسمالية لم تكن أبدا خالصة: فإكراه الميزانية كان بها أيضا أحيانا "رخوا": وتلك هي الحال في بعض القطاعات؛ في الفلاحة منذ زمن بعيد أو في القطاع البنكي اليوم. ونفس الشيء بالنسبة للتعويضات عن بعض الممتلكات الجماعية: الصحة، التعليم، الخ. فالأسعار في هذه القطاعات جد منخفضة لأنها مدعومة، ونلاحظ على هذه القطاعات العلامات النموذجية للاشتراكية: خصاص مزمن، صفوف الانتظار، نوعية ضعيفة، امتهان المستهلك من طرف البائع. وهذا لايعني أنه توجب فرض إكراه صلب للميزانية في كل مكان، إلا أنه مكن من توضيح الاختيارات. يمكن أيضا أن نفهم الرأسمالية بشكل أفضل بالنظر إلى نقيضها، أي الاشتراكية، أحد الأمثلة هو البطالة؛ فمن الممكن أن ندرك جيدا طبيعتها من خلال دراسة أوضاع التشغيل الزائد الذي برز في النظام الاشتراكي. في الرأسمالية نجد البطالة في الشارع وأمام ابواب وكالات التشغيل. أما في النظام الاشتراكي فتظل البطالة بداخل المعمل، والتشغيل بها ثابت ومضمون كليا، غير أن هذه الوضعية تقود نحو تراخ في عادات الشغل ونحو غياب للنظام وإنتاجية جد ضعيفة. |