إن كتاب برنشتاين على جانب عظيم من الأهمية للحركة العمالية الألمانية
والعالمية. فهو أول محاولة لإعطاء التيارات الانتهازية في الاشتراكية
الديموقراطية أساسا نظريا.
يمكن القول أن هذه التيارات قد وجدت في حركتنا منذ زمن طويل، إذا أخذنا
بعين الاعتبار تلك التجليات المتفرقة للانتهازية مثل مسألة اعتمادات
الأسطول. ولكننا لا نجد اتجاها انتهازيا ذا طابع محدد إلاّ منذ حوالي
العام 1890 عند القضاء على القوانين المضادة للاشتراكية. إن « اشتراكية
الدولة » التي نادى بها فولمار والتصويت على الميزانية البافارية
و« الاشتراكية الزراعية » في جنوب ألمانيا وسياسة هاين في التعويضات
وموقف شيبل من التعرفة والظاهرة العسكرية هي العلاقات الفارقة في تطور
ممارستنا الانتهازية.
ما الذي يميز هذه الممارسة قبل ما عداه ؟ إنه العداء لـ« النظرية ». وهذا
أمر طبيعي، ذلك أن نظريتنا، أي مبادئ الاشتراكية العلمية، تضع حدودا
مميزة للنشاط العلمي –فيما يتعلق بأهداف هذا النشاط و الوسائل التي
تستخدم في الوصول إلى هذه الأهداف والنهج الذي يستخدم في هذا النشاط.
ولذا فإن من الطبيعي أن يحاول الذين يركضون خلف « النتائج » المباشرة
تحرير أنفسهم من حدود كهذه ليجعلوا ممارستهم مستقلة عن نظريتنا.
بيد أن هذه النظرة تدحضها كل محاولة لتطبيقها على الواقع. فقد كانت
اشتراكية الدولة والاشتراكية الزراعية وسياسة التعويضات ومسألة الجيش
جميعا هزائم للانتهازية. ولذا فإن من الواضح أن يتعين على هذا الاتجاه
كي يستطيع البقاء والاستمرارأن يحاول تحطيم مبادئ نظريتنا ليقيم نظرية
خاصة به. وكتاب برنشتاين هو بالضبط جهد في هذا السبيل. وهذا ما جعل كل
العناصر الانتهازية في حزبنا في شتوتغارت تجتمع سريعا تحت راية
برنشتاين. إذا كانت التيارات الانتهازية في الممارسة العملية لحزبنا
ظاهرة طبيعية تماما يمكن تفسيرها على ضوء الظروف الخاصة بنشاطنا، فإن
نظرية برنشتاين محاولة طبيعية لتكتيل هذه التيارات في تعبير نظري عام،
ومحاولة من هذه التيارات لتضع شروطها النظرية الخاصة بها وتفترق عن
الاشتراكية العلمية. وهذا هو السبب في أن التعبير المنشور على أفكار
برنشتاين يجب أن يعتبر امتحانا نظريا للانتهازية وأول مشروعية علمية
لها.
فماذا كانت نتيجة هذا الامتحان ؟ لقد رأينا النتيجة: إن الانتهازية ليست
قادرة على وضع نظرية إيجابية تصمد أمام النقد: فكل ما تستطيعه هو شن
الهجوم على موضوعات ماركسية متنوعة مقطوعة. ولأن النظرية الماركسية
تشكل صرحا متماسكا، فإن الانتهازية تأمل بهذه الطريقة أن تهز الصرح من
الأساس حتى الرأس.
إن هذا يبين أن الممارسة الانتهازية لا تتفق أساسا مع الماركسية. كما
يثبت أن الانتهازية لا تتفق مع الاشتراكية (الحركة الاشتراكية) عموما،
وأنها تميل داخليا إلى دفع الحركة العمالية إلى السبل البورجوازية
وأنها تميل إلى شل الصراع الطبقي البروليتاري تماما. ومن الواضح أن
الصراع الطبقي من وجهة نظر تاريخية لا يمت إلى النظرية الماركسية، وذلك
لأن حركات عمالية ونظريات اشتراكية عدة وجدت قبل ماركس وباستقلال منه،
وكان كل منها بطريقته الخاصة التعبير النظري بما يتفق مع ظروف العصر عن
صراع الطبقة العاملة من أجل انعتاقها. ولقد وجدت من قبل كل مفاهيم
برنشتاين الجميلة: نظرية استناد الاشتراكية على المفهوم الأخلاقي
للعدالة وعلى النضال ضد نمط التوزيع بدلا من النضال ضد نمط الانتاج،
فهم الصراع الطبقي على أنه تعاد بين الغني والفقير، محاولة حفر « المبدأ
التعاوني » على جسم الاقتصاد الرأسمالي. ولقد كانت كل هذه النظريات في
زمنها نظريات فعالة للصراع الطبقي البروليتاري على الرغم من عدم
كفايتها. لقد كانت هذه النظريات احذية الاطفال التي تعلمت البروليتاريا
بفضلها أن تمشي على مسرح التاريخ.
ولكن بعد أن أدى تطور الصراع الطبقي وانعكاسه في الظروف الاجتماعية إلى
التخلي عن هذه النظريات وتطوير مبادئ الاشتراكية العلمية، لم يعد ثمة
اشتراكية – على الأقل في ألمانيا – خارج الاشتراكية الماركسية، ولا
يمكن أن يكون ثمة صراع طبقي اشتراكي خارج الاشتراكية الديمقراطية. منذ
ذلك الحين أصبحت الاشتراكية هي الماركسية وأصبح النضال البروليتاري هو
الاشتراكية الديمقراطية. وهذا هو السبب في أن العودة إلى نظريات
اشتراكية قبل-ماركسية لا تمثل عودة إلى أحذية البروليتاريا في طفولتها
بل إلى الأحذية البرجوازية المهترئة.
لقد كانت نظرية برنشتاين أول وآخر محاولة لاعطاء الانتهازية أساسا
نظريا. إنها الأخيرة لأن الانتهازية ذهبت في نظريته إلى أقصى ما تستطيع
– سلبيا بالتنكر للاشتراكية العلمية وايجابيا بتجميع كل قطعة ممكنة من
حطام التشوش النظري. لقد توجت الانتهازية تطورها بكتاب برنشتاين (تماما
كما أتمت تطورها العلمي بالموقف الذي اتخذه شيبل من مسألة العسكرية)
ووصلت نتيجتها النهائية.
تستطيع الماركسية أن تدحض الانتهازية نظريا، وليس ذلك فحسب فهي أيضا
الوحيدة القادرة على تفسير الانتهازية كظاهرة تاريخية في تطور الحزب.
إن مسيرة البروليتاريا إلى الأمام على النطاق التاريخي العالمي نحو
النصر النهائي ليست بالفعل « أمرا بسيطا ». إن الصفة المميزة لحركة
البروليتاريا يكمن بالضبط في أن الجماهير الشعبية تقوم أول مرة في
التاريخ بفرض إرادتها ضد الطبقات الحاكمة، ولكن على البروليتاريا أن
تفعل ذلك خارج المجتمع القائم، متخطية المجتمع القائم. ولا تستطيع
الجماهير الشعبية بهدف يتخطى النظام الاجتماعي القائم واتحاد النضال
اليومي بالتحويل العظيم للعالم هو المهمة الملقاة على الاشتراكية
الديمقراطية التي ينبغي عليها أن تتحسس طريقها عبر صخرتين: التخلي عن
الطابع الجماهيري للحزب أو التخلي عن الهدف النهائي، الوقوع في
الاصلاحية البورجوازية أو في الفئوية، في الفوضوية أو الانتهازية.
لقد وضعت الماركسية في جعبتها النظرية منذ أكثر من نصف قرن أسلحة فعالة
ضد هذين الحدين المتقابلين. لكن الماركسية لا تستطيع أن تقينا سلفا
وإلى الأبد من الاتجاهات الفوضوية والانتهازية وذلك لأن حركتنا حركة
جماهيرية ولأن الأخطار التي تتهددها ليست ناتجة عن العقل البشري بل عن
ظروف اجتماعية ولا يمكن التغلب على هذه الاتجاهات إلاّ عندما ننتقل من
مجال النظرية إلى مجال الممارسة، وذلك غير ممكن بغير الاستعانة
بالأسلحة التي زودنا بها ماركس.
كتب ماركس قبل نصف قرن يقول « إن الثورة البورجوازية، كثورات القرن
الثامن عشر، تندفع من نصر إلى نصر، لتسبق آثارها بعضها بعضا، فيبدو
الناس والأشياء وكأنهم يحترقون من لهب لألاء، وتكون النشوة الروح
المخيمة. لكن قصيرة هي هذه الثورات، فهي تصل أوجها سريعا، ليرتد
المجتمع إلى نوبة رد فعل عصيبة قبل أن يتعلم كيف يقطف ثمار فترة الهياج
المحموم. أما الثورات البروليتارية، كثورات القرن التاسع عشر، فهي على
العكس من ذلك تمارس نقد نفسها باستمرار، وباستمرار تتوقف خلال سيرها،
تعود إلى ما كان يبدو منجزا لتبدأ من جديد، تهزأ بشمول قاس من كل نقاط
ضعف محاولتها الأولى وحقارتها واجراءاتها المجزوءة، فتبدو وكأنها ما
تطرح خصمها ليستمد من الأرض عزما جديدا فينهض ثانية ضدها وقد اتخذ
قواما عملاقيا، تتردد باستمرار فزاع من الحجم الهائل غير المحدد
لأهدافها ذاتها – إلى أن يخلق في النهاية وضع يجعل كل تراجع مستحيلا،
وترفع الظروف ذاتها عقيرتها بالصياح: « هنا الوردة ، وهنا علينا أن
نرقص ! »
ظل هذا صحيحا حتى بعد أن طورت النظرية الاشتراكية العلمية. فالحركة
البروليتارية لم تصبح كلها اشتراكية-ديمقراطية حتى في ألمانيا. ولكنها
تصير اشتراكية ديمقراطية أكثر فأكثر فتتغلب باستمرار على الانحرافات
الانتهازية والفوضوية المتطرفة، التي لا تعدو كونها مراحل محددة في
تطور الاشتراكية الديموقراطية منظورا إليها كعملية.
لهذه الأسباب، ينبغي علينا أن نقول أن الشيء المدهش هنا ليس ظهور تيار
انتهازي بل ضعف هذا التيار. فطوال ظهور الانتهازية في حالات منعزلة من
النشاط العملي كان المرء يستطيع أن يفترض أن لها أساسا جديا، ولكن
المرء لا يملك الآن وبعد ظهور كتاب برنشتاين إل أن يصرخ بدهشة « ماذا ؟
أهذا كل ما لديكم من قول ؟ » لا ظل من فكرة أصيلة ! لا فكرة واحدة لم
تدحضها الماركسية وتسحقها وتحيلها غبارا قبل عدة قرون !
كان يكفي الانتهازية أن تتكلم لتبرهن أنه ليس لديها ما تقول. هذه هي
أهمية كتاب برنشتاين الوحيدة في تاريخ حزبنا.
فليشكر برنشتاين نمط تفكير البروليتاريا الثورية والدياليكتيك والمفهوم
المادي للتاريخ، وهو يتخلى عنها جميعا، لأنها أوجدت ظروفا مخففة لردته.
ذلك أن الديالكتيك والمفهوم المادي للتاريخ هما وحدهما اللذان يستطيعان
في شهامتهما أن يجعلا برنشتاين يبدو أداة لا واعية مسيرة تعبر بها
الطبقة البروليتارية الصاعدة عن ضعفها الآني، أداة تلتقي بها
البروليتاريا جانبا باحتقار وكبرياء عندما تتفحصها بقدر أكبر من الدقة. |