إذا كان صحيحا أن النظريات ليست إلاّ صورا منعكسة
لظاهرات العالم الخارجي في الوعي الإنساني، فيجب أن يضاف فيما يتعلق
بموضوعة برنشتاين أن النظريات أحيانا صور مقلوبة. أليس ذلك ما تبينه
نظريته في إقامة الاشتراكية بواسطة الإصلاحات الاجتماعية في وجه الركود
الكامل لحركة الإصلاحات في إنكلترا ونظريته في رقابة النقابات على
الانتاج في وجه هزيمة عمال المعادن في انكلترا و نظريته في كسب أغلبية
في البرلمان بعد تعديل دستور سكسونيا وبالنظر إلى المحاولات الحديثة
العهد ضد حق الاقتراع العام. بيد أن النقطة المحورية في موضوعة
برنشتاين ليست مفهومه للمهام العملية للاشتراكية الديموقراطية، بل هي
موقفه من مسار التطور الموضوعي للمجتمع الرأسمالي، هذا الموقف الوثيق
الصلة بمفهومه للمهام العملية للاشتراكية الديموقراطية.
يرى برنشتاين أن إمكانية الانحطاط العام للرأسمالية تبدو في تناقض شيئا
فشيئا. فالرأسمالية من جهة تبدي قدرة أعظم على التكيف، ومن جهة أخرى
يزداد الإنتاج الرأسمالي تنوعا أكثر فأكثر. يقول
برنشتاين أن قدرة الرأسمالية على تكييف نفسها تتبدى أولا في اختفاء
الأزمات العامة نتيجة تطور نظام التسليف وتنظيمات أصحاب الأعمال واتساع
وسائل المواصلات والإعلام. وهي تتبدى ثانيا في تماسك الطبقات الوسطى
الناجم عن التمايز المتنامي في فروع الانتاج وارتفاع شرائح واسعة من
البروليتاريا إلى مصاف الطبقات الوسطى. ويمضي برنشتاين إلى القول بأن
ما يثبت هذا أكثر من ذلك هو تحسن الوضع السياسي والاقتصادي
للبروليتاريا بفضل النشاط النقابي (التريديونيوني).
ومن هذا الموقف النظري يشتق برنشتاين النتيجة العامة التالية المتعلقة
بالمهام العملية للاشتراكية الديموقراطية: يجب على الاشتراكية
الديموقراطية أن لا توجه نشاطها اليومي إلى الاستيلاء على السلطة
السياسية، بل إلى تحسين وضع العمال ضمن إطار النظام القائم. ويجب عليها
أن لا تتوقع إقامة الاشتراكية نتيجة أزمة سياسية واجتماعية، بل ينبغي
عليها أن تبني الاشتراكية بواسطة التوسع المتنامي للرقابة الاجتماعية
والتطبيق التدريجي لمبدأ التعاون. ولا يرى برنشتاين
ذاته في نظرياته جديدا. بل هو على العكس من ذلك يرى أنها تتفق مع بعض
تصريحات ماركس وانجلز. ولكن يبدو لنا على الرغم من ذلك أن من العسير
نفي أنها على تناقض تام مع مفاهيم الاشتراكية العلمية.
إذا كانت تحريفية برنشتاين تقتصر على التأكيد أن مسيرة التطور
الرأسمالي أبطأ مما كان يظن سابقا، فإنه بذلك إنما يقول أن من الواجب
تأجيل استيلاء البروليتاريا على السلطة، وهذا ما يتفق عليه الجميع حتى
الآن. والنتيجة الوحيدة لذلك هو ابطاء خطي النضال فحسب.
لكن الأمر ليس كذلك. فما يضعه برنشتاين موضع تساؤل ليس سرعة تطور
المجتمع الرأسمالي، بل مسار هذا التطور ذاته، وبالتالي امكانية التحول
إلى الاشتراكية ذاتها. لقد أعلنت النظرية الاشتراكية
حتى الآن أن نقطة انطلاق التحويل إلى الاشتراكية ستكون أزمة عامة
كارثية. إلاّ أننا ينبغي أن نميز في هذا بين أمرين: الفكرة الأساسية
وشكلها الخارجي. الفكرة الأساسية هي التأكيد أن
الرأسمالية تتحرك نتيجة تناقضاتها الداخلية ذاتها إلى نقطة تكون فيها
غير متوازنة، فتصبح عندئذ وببساطة مستحيلة. ولقد كان هناك من الأسباب
ما يدفع إلى تصور هذا المنعطف على شكل أزمة تجارية عامة كارثية. ولكن
هذا لا يرتدي سوى أهمية ثانوية بالنسبة إلى الفكرة الأساسية.
يعتمد الأساس العلمي للاشتراكية كما هو معروف جيدا على ثلاث نتائج
رئيسية للتطور الرأسمالي هي: 1- فوضى الاقتصاد
الرأسمالي المتنامية، التي تقود بالضرورة إلى دماره.
2- التشريك المتزايد للعملية الإنتاجية، التي تخلق بذور النظام
الاجتماعي المقبل. 3- التنظيم والوعي المتنامي
للطبقة العاملة، وهذا ما يشكل العامل الفعال في الثورة القادمة.
يقوم برنشتاين بهدم أولى دعائم الاشتراكية العلمية الثلاث الأساسية.
فهو يقول أن التطور الرأسمالي لا يؤدي إلى الانهيار الاقتصادي الشامل.
وهو لا يرفض شكلا معينا لهذا الإنهيار، بل يرفض إمكانية الانهيار
ذاتها. إذ أنه يقول بالنص: « يمكن للمرء أن يدعي أن انهيار المجتمع
الراهن يعني امرا غير الأزمة التجارية العامة. أي أنه يعني ما هو أسوأ:
الانهيار التام للنظام الرأسمالي نتيجة تناقضاته الخاصة ». ويجيب
برنشتاين على هذا قائلا « مع التطور المتنامي للمجتمع، تقل أكثر فأكثر
إمكانية الانهيار التام والانهيار الشامل لنظام الإنتاج الراهن. وذلك
لأن التطور الرأسمالي يزيد من جهة قدرة الرأسمالية على التكيف، ويزيد
من جهة أخرى وفي الوقت ذاته تمايز الصناعة » (نيوزايت (الأزمنة الحديثة)
1897-1898، المجلد 18، ص 555). هنا يبرز السؤال
التالي: كيف ولماذا نحقق الهدف النهائي في هذه الحالة ؟ طبقا للاشتراكية
العلمية، تتجلى الضرورة التاريخية للثورة الاشتراكية قبل كل شيء في
فوضى الرأسمالية المتزايدة التي تقود النظام إلى مأزق. ولكن إذا اعترف
المرء مع برنشتاين أن التطور الرأسمالي لا يتحرك باتجاه دماره ذاته،
فإن الاشتراكية تكف عن أن تكون ضرورية موضوعيا. يبقى
هناك الدعامتان الرئيسيتان الأخريان للتقسيم العلمي للاشتراكية، وهما
دعامتان يقال أنهما نتيجتان للرأسمالية ذاتها: تشريك العملية الإنتاجية
ووعي البروليتاريا المتنامي. وهاتان هما المسألتان اللتان يقصدهما
برنشتاين عندما يقول: « إن التخلي عن نظرية الانهيار لا يحرم النظرية
الاشتراكية بأي شكل من الأشكال من قدرتها على الإقناع. فإذا ما تفحصنا
المسألة بتعمق، وجدنا أن جميع العوامل التي عددناها والتي تعمل على
القضاء على الأزمة السابقة أو تعديلها، ليست في الواقع غير شروط أو حتى
بذور تشريك الإنتاج والتبادل » (المصدر السابق ص 554).
إننا لا نحتاج سوى القليل من التفكير لنفهم أننا هنا أيضا نواجه نتيجة
خاطئة. فما هي أهمية كل الظاهرات التي يقول برنشتاين انها وسائل التكيف
الرأسمالي: الكارتلات ونظام التسليف وتطور وسائل المواصلات وتحسين وضع
الطبقة العاملة… ألخ ؟ من الواضح أن أهمية هذه جميعا هي في أنها تخمد،
أو على الأقل توهن، التناقضات الداخلية للاقتصاد الرأسمالي، وتوقف تطور
أو تفاقم هذه التناقضات. هكذا فإن إخماد الأزمات لا يعني سواء إخماد
العداء بين الإنتاج والتبادل على الأساس الرأسمالي. ولا يمكن أن يعني
تحسين وضع الطبقة العاملة وتسلل أجزاء من هذه الطبقة إلى الشرائح
الوسطى سوى إضعاف العداء بين رأس المال والعمل. ولكن إذا كانت العوامل
المذكورة تخمد التناقضات الرأسمالية وبالتالي تنقذ النظام الرأسمالي من
الدمار، وإذا كانت تمكن الرأسمالية من الإبقاء على نفسها – ولهذا
يدعوها برنشتاين « وسائل تكيف » – فكيف يتسنى لهذه العوامل (الكارتلات
ونظام التسليف واتحادات العمال الخ) أن تكون في الوقت ذاته « شروط وإلى
حد ما بذور » الاشتراكية ؟ من الواضح أن ذلك ممكن بمعنى أنها تعبر بأوضح
صورة عن الطابع الجماعي للإنتاج. ولكن هذه العوامل
ذاتها في شكلها الرأسمالي تجعل تحويل الانتاج المستشرك إلى انتاج
اشتراكي أمرا لا حاجة له. وهذا ما يمكن أن يجعلها بذور أو شروط النظام
الاشتراكي بمعنى نظري وليس بمعنى تاريخي. إنها ظاهرات نعلم في ضوء
مفهومنا للاشتراكية أنها تنتسب إلى الاشتراكية، ولكنها في الواقع لا
تؤدي إلى الثورة الاشتراكية. ليس ذلك فحسب بل انها أيضا وعلى العكس من
ذلك تلغي الحاجة إلى هذه الثورة. لم يتبق من قوى
الاشتراكية سوى واحدة، هي وعي البروليتاريا الطبقي. ولكن هذه أيضا، في
هذه الحالة، ليست الانعكاس الفكري البسيط لتناقضات الرأسمالية
المتزايدة وهبوطها الوشيك، بل هي لا تعدو كونها مثالا يستمد قوة إقناعه
من الكمال الذي يعزى إليه.
باختصار، نجد هنا تفسير البرنامج الاشتراكي بواسطة « العقل المحض ».
ولنستعمل لغة أبسط فنقول أننا هنا نجد تفسيرا مثاليا للاشتراكية. أمّا
الضرورة الموضوعية للاشتراكية وتفسير الاشتراكية على انها نتيجة التطور
المادي للمجتمع فيلقيان أرضا. هكذا تضع النظرية
التحريفية نفسها في معضلة. فاما أن يكون التحويل الاشتراكي، كما هو
منعارف عليه حتى الآن، نتيجة التناقضات الداخلية للرأسمالية، ويكون نمو
الرأسمالية عاملا على تطوير تناقضاتها الداخلية، مما يؤدي بالضرورة إلى
انهيار عند حد ما (وفي هذه الحالة وسائل التكيف ليست فعالة ونظرية
الانهيار صحيحة). وأمّا أن توقف « وسائل التكيف » انهيار النظام
الرأسمالي بالفعل، فتتمكن الرأسمالية بذلك من الحفاظ على نفسها بإخماد
تناقضاتها. وفي هذه الحالة تكف الاشتراكية في أن تكون ضرورة تاريخية،
وتصبح ما أرادت ولكنها لا تبقى نتيجة التطور المادي للمجتمع.
وتقود المعضلة إلى أخرى. أمّا أن تكون التحريفية محقة في موقفها من
مسار التطور الرأسمالي، ليكون التحويل الاشتراكي للمجتمع مجرد يوتوبيا،
أو لا تكون الاشتراكية يوتوبيا، وتكون نظرية « وسائل التكيف » خطلا. هذه
هي المسألة باختصار. |