محاضرات في الإقتصاد السياسي الماركسي |
يحتوي هذا الكراس على المحاضرات التي ألقاها ارنست ماندل خلال عطلة
نهاية الأسبوع، استخدمت للتأهيل الاشتراكي، ونظمها اتحاد باريس للحزب
الاشتراكي الموحد عام 1963. |
1) نظرية القيمة وفائض القيمة
2) رأس المال والرأسمالية
3) الرأسمالية الجديدة
إن مكتسبات الحضارة هي، في التحليل الأخير، رهن بتزايد إنتاجية العمل. فما دام إنتاج فئة من الناس يكفي بالكاد لاستمرار حياة المنتجين، وما دام ليس ثمة فائض يفوق هذا الناتج الضروري، فليس ثمة إمكان لتقسيم العمل، أي لظهور الحرفيين والفنانين أو العلماء. ومن باب أولى، فليس ثمة إمكان لنمو تقنيات تتطلب مثل هذا التخصص.
وما دامت إنتاجية العمل بهذه الدرجة من الانخفاض بحيث لا يكفي ناتج عمل الإنسان إلاّ لاستمراره في الحياة، لا يبقى ثمة مجال للتقسيم الاجتماعي، ولا لوجود التمايز داخل المجتمع. فالناس جميعا منتجون، وهم جميعا في سوية واحدة من الإملاق. إن أي نمو في إنتاجية العمل يفوق هذا المستوى الأدنى يخلق إمكانية ظهور فائض صغير، وما أن يوجد فائض من المنتجات، وما أن ينتج ذراعان أكثر مما يتطلبه استمرار وجود صاحبها، حتى يمكن أن يظهر إمكان الصراع من أجل توزيع هذا الفائض. وبدءا من هذه اللحظة لا يعود مجموع العمل في الجماعة عملا موجها بالضرورة وحصرا لضمان استمرار المنتجين. إن جزءا من هذا العمل يمكن أن يوجه إلى تحرير جزء آخر من المجتمع من ضرورة العمل ليحافظ على استمراره. وعندما يتحقق هذا الإمكان يمكن لجزء من المجتمع أن يكوّن طبقة مسيطرة، تتصف بأنها متحررة من ضرورة العمل لتحافظ على استمرارها. ومنذ ذلك الحين يمكن رد عمل المنتجين إلى جزئين، جزء من هذا العمل يتم كالسابق ليحافظ المنتجون على استمرارهم، ونطلق عليه العمل الضروري، ويستخدم الجزء الآخر من العمل لتأمين استمرار الطبقة الحاكمة، فنسميه فائض العمل. لنأخذ مثلا جليا واضحا، وهو الرق في المزارع، سواء في بعض المناطق وبعض العصور في الإمبراطورية الرومانية، أم في المزارع الكبيرة، اعتبارا من القرن السابع عشر، في جزر الهند الغربية أو في الجزر البرتغالية الإفريقية. وبوجه الإجمال، فإن المالك، في جميع المناطق الاستوائية، لا يقدم حتى الغذاء للرقيق، فعلى هذا الأخير أن ينتج غذاءه بنفسه، يوم الأحد، بالعمل في قطعة صغيرة من الأرض، تخصص منتجاتها لتغذيته. ويعمل الرقيق ستة أيام في الأسبوع في المزرعة، وهذا عمل لا ترتد ثماره إليه، عملا يخلق فائض إنتاج اجتماعي، يتخلى عنه الرقيق بمجرد تكونه، ويستأثر به حصرا سادة الرقيق. إن أسبوع العمل، وهو في هذه الحالة من سبعة أيام، ينقسم إذن إلى جزئين: عمل يوم واحد، يوم الأحد، هو عمل ضروري، عمل ينتج الرقيق أثناءه المنتجات التي يستلزمها استمرار بقائه، ليبقى حيا هو وعائلته، وعمل خلال ستة أيام في الأسبوع، هو فائض عمل، عمل ترتد ثماره حصرا إلى السادة، ويستخدم لإعالة السادة وتأمين استمرار بقائهم، ولاغنائهم أيضا. ومثل آخر، نستمده من الملكيات والاقطاعات الكبيرة في مطلع القرون الوسطى. إن أراضي هذه الاقطاعات كانت تنقسم إلى ثلاثة أجزاء: فهناك الأراضي المشاعة، أي الأراضي التي بقيت ملكيتها جماعية، كالغابات والمروج والمستنقعات وسواها. وهناك الأراضي التي يعمل فيها القن لإعالة أسرته وذاته. وهناك أخيرا الأرض التي يعمل فيها القن لإعالة السيد الإقطاعي. ويتكون أسبوع العمل في هذه الحالة من ستة أيام لا سبعة، ينقسم إلى جزئين متساويين: فيعمل القن ثلاثة أيام في الأسبوع في الأرض التي يمتلك ثمارها، ويعمل ثلاثة أيام في الأسبوع في أرض السيد الإقطاعي، بدون أي مقابل، أي أنه يقدم عملا مجانيا للطبقة المسيطرة. وفي وسعنا أن ندل على ناتج كل من نوعي العمل هذين الشديدي التباين باصطلاحين مختلفين. إن المنتج عندما يقوم بالعمل الضروري، إنما ينتج الناتج الضروري، وعندما يقوم بفائض عمل إنما ينتج فائض إنتاج اجتماعي. ففائض الناتج الاجتماعي هو إذن جزء من الناتج الاجتماعي، تستحوذ عليه الطبقة المسيطرة، رغم كونه نتاج طبقة المنتجين، بأي شكل كان، سواء بشكل محاصيل طبيعية، أو بشكل سلع معدة للبيع، أو بشكل مال. إذن، ففائض القيمة ليس إلاّ الشكل النقدي لفائض الناتج الاجتماعي. وعندما تتملك الطبقة المسيطرة جزءا من إنتاج المجتمع، أطلقنا عليه من قبل اسم "فائض الناتج"، بشكل مال حصرا، فإن الحديث لا ينصرف آنذاك إلى فائض الناتج، بل يطلق على هذا الجزء "فائض القيمة". ليس هذا في الواقع إلاّ تعريفا أوليا لفائض القيمة سنعود إليه فيما بعد. ما هو أصل فائض الناتج الاجتماعي ؟ إن فائض الناتج الاجتماعي يبدوا كحصيلة لتملك الطبقة المسيطرة جزءا من إنتاج الطبقة المنتجة مجانا – فهو إذن تملك دون أي مقابل في القيمة. إن الرقيق حين يعمل يومين في الأسبوع في مزرعة سادته، ويحتكر هذا المالك كل حصيلة هذا العمل دون أن يكون ثمة أية مكافئة مقابل ذلك، فإن أصل فائض الناتج الاجتماعي إنما يكون العمل المجاني، أي العمل بدون مقابل، الذي يقدمه الرقيق لمالكيه. وحين يعمل القن ثلاثة أيام في الأسبوع في أرض السيد، فإن أصل هذا الدخل، فائض الناتج الاجتماعي هذا، إنما يكون أيضا عملا بدون أجر، عملا مجانيا يقدمه القن. وسنرى فيما بعد أن أصل فائض القيمة الرأسمالي، أي دخل الطبقة البرجوازية في المجتمع الرأسمالي، هو من المنشأ ذاته تماما: إنه العمل غير المكافأ، العمل المجاني، العمل الذي يقدمه الكادح، المأجور، إلى الرأسمالي دون مقابل.
2- السلع، قيمة الاستعمال وقيمة التبادل هذه التعريفات الأساسية التي أوردناها هي أدوات سنستخدمها في الدروس الثلاثة التي تتكون منها مجموعة هذه المحاضرات. إن كل ثمرة العمل البشري ينبغي أن تقترن عادة بمنفعة، أي أن تكون قادرة على إشباع حاجة بشرية. ويمكن القول إذن إن لكل ثمرة من ثمار العمل الإنساني قيمة استعمال. على أن اصطلاح "قيمة الاستعمال" سيستخدم بمدلولين مختلفين. فنتحدث عن قيمة استعمال سلعة ما، كما سنتحدث عن قيم استعمال، فنقول إن في هذا المجتمع أو ذاك لا تنتج إلاّ قيم استعمال، أي منتجات معدة للاستهلاك المباشر من قبل الذين يتملكونها (من منتجين أو طبقة حاكمة). بيد أن ثمرة العمل البشري يمكن أن يكون لها، فضلا عن قيمة الاستعمال هذه، قيمة أخرى، قيمة تبادل، إذ يمكن أن تُنتج لا بقصد الاستهلاك الفوري من قبل المنتجين أو الطبقات المالكة، بل بقصد التبادل في السوق، بقصد البيع. ولا تكوّن كتلة المنتجات المعدة للبيع إنتاجا له قيم استعمال وحسب، بل إنتاجا لسلع. فالسلعة هي إذن ناتج لم يخلق بهدف استهلاكه مباشرة، بل ،هدف تبادله في السوق. وكل سلعة ينبغي بالتالي أن يكون لها قيمة استعمال وقيمة تبادل في آن واحد. يبقى أن يكون لها قيمة استعمال، إذ لو لم يتوافر لها ذلك، لما وجد شخص يشتريها، إذ لا تشترى سلعة إلاّ بقصد استهلاكها في النهاية، بقصد إشباع حاجة ما عن طريق هذا الشراء. وإذا وجدت سلعة ما ليس لها قيمة استعمال بالنسبة لأي شخص كان فمعنى ذلك أنها غير قابلة للبيع. لقد أنتجت عبثا، وليس لها قيمة في التبادل بالذات لأنها غير ذات قيمة في الاستعمال. وبالمقابل، ليس لكل سلعة، ذات قيمة استعمال، قيمة في التبادل. وهي لا تملك قيمة في التبادل أصلا إلاّ بقدر ما تكون منتجة في مجتمع يقوم على التبادل، في مجتمع يمارس التبادل عموما. هل توجد مجتمعات ليس للمنتجات فيها قيمة تبادل ؟ إن قيمة التبادل تقوم، كما تقوم من باب أولى التجارة والسوق، على توافر مستوى معين من تقسيم العمل. ولكي لا تستهلك المنتجات فورا من قبل منتجيها، ينبغي ألاّ ينتج كل الناس الشيء ذاته. ومن الجلي الواضح أنه لا مبرر لظهور التبادل في جماعة معينة لا وجود لتقسيم العمل فيها، أو أن تقسيم العمل فيها بدائي تماما. وفي الأحوال العادية فإن منتج القمح لا يجد ما يبادله مع منتج آخر للقمح، ولكن ما أن يوجد تقسيم العمل، ما أن يوجد اتصال بين فئات اجتماعية تنتج منتجات ذات قيم استعمال مختلفة، حتى يمكن التبادل أن يقوم بصورة عرضية أولا، ويمكن من ثم أن يعمّ. عند ذلك تبدأ في الظهور، شيئا فشيئا، إلى جانب المنتجات المعدة للإستهلاك فقط، منتجات أخرى تنتج بقصد تبادلها، أي سلع. وفي المجتمع الرأسمالي، بلغ الإنتاج التجاري، أي إنتاج قيم التبادل، ذروة انتشاره. إنه أول مجتمع في تاريخ البشر يتكون الجزء الأكبر من إنتاجه من سلع. ولو أنه لا يمكن القول إن كل الإنتاج في هذا المجتمع هو إنتاج سلع. إذ ثمة فئتان من المنتجات ما تزالان موجودتان فيه ولهما قيمة استعمال وحسب. أولهما كل ما ينتجه الفلاحون من أجل استهلاكهم الذاتي، كل ما يستهلك مباشرة في المزارع التي تنتج هذه المنتجات. وهذا الإنتاج بقصد الاستهلاك الذاتي موجود حتى في أكثر البلاد الرأسمالية تقدما كالولايات المتحدة، بيد أنه لا يكوّن إلاّ جزءا صغيرا من مجموع الإنتاج الزراعي. وبصورة عامة، بقدر ما تكون الزراعة في بلد ما متأخرة بقدر ما يكون أكبر جزء من الإنتاج الزراعي هو الجزء المعد للاستهلاك الذاتي، مما يثير صعوبات كبيرة عند حساب الدخل القومي لهذه البلاد بدقة. والفئة الثانية من المنتجات التي ما تزال ذات قيمة استعمال وحسب، وليست سلعة في النظام الرأسمالي، هي كل ما ينتج داخل المنازل. وهذا الإنتاج المنزلي كله، رغم ما يقتضيه من إنفاق كبير في عمل الإنسان، يكون إنتاجا لقيم استعمال، لا إنتاجا لقيم تبادل. إن المرء ينتج حين يعد الحساء أو يثبت أزرارا، إلاّ أنه لا ينتج ذلك من أجل السوق. إن ظهور إنتاج السلع وتنظيمه وتعميمه قد غيّر بصورة جذرية الطريقة التي يعمل بها البشر وينظمون بها المجتمع.
3- النظرية الماركسية في الاستلاب لقد سمعتم من قبل أحاديث عن النظرية الماركسية في الاستلاب. إن ظهور الإنتاج المعد للتبادل وتنظيمه وتعميمه يرتبط ارتباطا وثيقا بتوسع ظاهرة الاستلاب هذه. وليس في وسعنا أن نتبسط هنا في الحديث عن هذا المظهر من مظاهر المسألة. غير أنه أمر بالغ الأهمية أن نتفهم هذه الواقعة، لأن المجتمع السلعي لا يتطابق مع عصر الرأسمالية وحسب، بل يشمل أيضا عصر الإنتاج السلعي الصغير، الذي سنتحدث عنه بعد ظهر هذا اليوم. كما أن ثمة مجتمعا سلعيا بعد رأسمالي، هو المجتمع الإنتقالي بين الرأسمالية والاشتراكية، كالمجتمع السوفييتي الراهن، وهو مجتمع ما يزال يقوم إلى حد كبير على إنتاج قيم تبادل. وحين نحيط ببعض الخصائص الأساسية للمجتمع السلعي ندرك لِمَ لا يمكن التغلب على بعض ظاهرات الاستلاب في الفترة الانتقالية بين الرأسمالية والاشتراكية، كما هو الحال في المجتمع السوفييتي الراهن. غير أن ظاهرة الاستلاب هذه لا تظهر بصورة جلية – على الأقل بهذا الشكل – في مجتمع يجهل الإنتاج السلعي، في مجتمع يقوم على وحدة الحياة الفردية والنشاط الاجتماعي البدائي تماما. إن الإنسان يعمل، ويعمل عادة لا متفردا، بل في مجموعة جماعية ذات بنية عضوية متفاوتة. ويقوم هذا العمل على تحويل مباشر للأشياء المادية. أي أن نشاط العمل، نشاط الإنتاج، نشاط الاستهلاك، وكذلك العلاقات بين الفرد والمجتمع، ينظمها ضرب من التوازن الدائم إلى حد ما. يقينا أن ليس من مسوغ لتجميل المجتمع البدائي، الخاضع لضغوط وكوارث دورية بحكم عوزه الشديد. فالتوازن القائم فيه مهدد في أية لحظة بأن تهدمه الندرة والبؤس والكوارث الطبيعية، وما سوى ذلك. غير أن بين هاتين الكارثتين، لا سيما بدءا من مستوى معين في نمو الزراعة، ومن بعض الشروط المناخية الملائمة، فإن هذا التوازن يولد ضربا من الوحدة، ضربا من التوافق، ضربا من التوازن بين جميع وجوه النشاط الإنساني من الناحية العملية. إن الآثار المدمرة لتقسيم العمل، كالفصل التام بين كل ما هو نشاط جمالي، واندفاعة فنية، وطموح خلاق وبين وجوه النشاط الإنتاجي، الآلية تماما، التي تقوم على التكرار، مثل هذه الآثار لا وجود لها قط في المجتمع البدائي. وعلى العكس من ذلك فإن معظم الفنون، سواء أكانت الموسيقى والنحت أم الرسم والرقص، ترتبط منذ البدء بالإنتاج، بالعمل. فالرغبة في إعطاء شكل مستحب وجميل للمنتجات التي تستهلك إما فرديا أو في الأسرة أو في الجماعة من ذوي القربى أكثر اتساعا، هذه الرغبة كانت تندرج بصورة طبيعية، متوافقة وعضوية بعمل كل يوم. لم يكن الإنسان يحس بالعمل كالتزام مفروض من الخارج، أولاً لأن هذا النشاط كان أقل توترا بكثير، أقل إرهاقا بكثير من العمل في المجتمع الرأسمالي الراهن، لأنه كان أكثر خضوعا لنسق الجسم البشري ولنسق الطبيعة. فقلما يتجاوز عدد أيام العمل 150 أو 200 في السنة، بينما هو يقارب في المجتمع الرأسمالي 300 يوم تقريبا، ويتجاوزها أحيانا. ولأن الوحدة بين المنتج والناتج واستهلاكه كانت مستمرة، إذ كان المنتج إنما ينتج بصورة عامة من أجل استعماله هو أو استعمال أقاربه، فقد كان العمل يحتفظ بالتالي بمظهر وظيفي مباشر. إن الاستلاب الحديث ينشأ بصورة خاصة من الانفصام بين المنتج ونتاجه، وهو نتيجة تقسيم العمل ونتيجة إنتاج البضائع في آن واحد، أي نتيجة العمل من أجل السوق، من أجل مستهلكين مجهولين، لا من أجل استهلاك المنتج ذاته. أما الوجه الآخر للمسألة فهو أن مجتمعا لا ينتج سوى قيم استعمال، مجتمعا ينتج سلعا لاستهلاك منتجه وحسب، كان في الماضي على الدوام مجتمعا شديد الفقر. وهو بالتالي مجتمع لا يخضع لتقلبات قوى الطبيعة وحسب، بل مجتمع يقيد الحاجات البشرية إلى أقصى الحدود، تماما بقدر ما هو فقير لا يملك إلاّ تنويعا محدودا من المنتجات. إن حاجات البشر ليست شيئا فطريا في الإنسان، إلاّ في حدود ضيقة جدا. فثمة تفاعل مستمر بين الإنتاج والحاجات، بين نمو القوى الإنتاجية وتفجر الحاجات. وفي مجتمع ينمي إلى الحد الأقصى إنتاجية العمل، وينمي تنويعا غير محدود من المنتجات، في مثل هذا المجتمع فقط يمكن للإنسان أن يشهد نموا غير محدود في حاجاته، نموا لجميع إمكاناته غير المحدودة، نموا متكاملا في إنسانيته.
من جملة النتائج المترتبة على ظهور إنتاج السلع وتعميمه تدريجيا، أن العمل ذاته يأخذ في التحول بحيث يصبح منتظما، ومقاسا، أي أن العمل نفسه لا يعود نشاطا مندمجا في نسق الطبيعة، يجري وفق النسق الفيزيولوجي الخاص بالإنسان. ففي بعض مناطق أوروبا الغربية لم يكن الفلاحون حتى القرن التاسع عشر، بل وحتى القرن العشرين، يعملون بشكل منتظم، ولا يعملون في كل شهر في السنة بنفس الشدة. إنهم يبذلون في بعض فترات سنة العمل مجهودا بالغ الشدة. بيد أنه ستوجد إلى جانب ذلك فجوات كبيرة ينعدم فيها النشاط، لا سيما في الشتاء. وعندما نما المجتمع الرأسمالي، وجد في هذا الجزء الأكثر تأخرا في الزراعة في البلاد الرأسمالية احتياطيا من اليد العاملة بالغة الأهمية، بمعنى أنها يد عاملة تذهب إلى العمل لتعمل ستة شهور من السنة أو أربعة شهور، ويمكنها أن تعمل لقاء أجور أدنى بكثير، نظرا لأن الاستثمار الزراعي المستمر كان يؤمن لها جزءا من قوتها. وحين نتفحص مزارع أكثر تقدما بكثير وأكثر ازدهارا، كما هو الحال في المزارع المنتشرة حول المدن الكبرى، أي مزارع هي في الحقيقة في طريق التصنيع، نجد فيها عملا أكثر انتظاما بكثير وإنفاقا في العمل أكبر بكثير يجري بشكل منتظم طوال السنة، يلغي شيئا فشيئا فترات العطالة. إن هذا لا يصدق على عصرنا وحسب، بل إنه صحيح بالنسبة للقرون الوسطى، ولنقل اعتبارا من القرن الثاني عشر: فكلما ازداد اقترابنا من المدن، أي من الأسواق، كان عمل الفلاح أكثر اتجاها إلى العمل من أجل السوق، أي موجها نحو إنتاج السلع، وكان العمل أكثر انتظاما، عملا دائما إلى حد ما، كما لو كان عملا في مشروع صناعي. وبعبارة أخرى: بقدر ما يعمم إنتاج البضائع بقدر ما ينتظم العمل، وبقدر ما يصبح المجتمع منظما على أساس محاسبة تقوم على العمل. ولو درسنا تقسيم العمل المتقدم إلى حد ما في إحدى النواحي (كومون) في مطلع النمو التجاري والحرفي في القرون الوسطى، أو تأملنا مجتمعات في حضارات كالحضارة البيزنطية والعربية والهندوسية والصينية واليابانية فإن ما يلفت الانتباه في كل الحالات واقعُ تكامل متقدم جدا بين الزراعة ومختلف التقنيات الحرفية ، وانتظام العمل في الريف والمدينة على حد سواء، مما يجعل من المحاسبة على أساس العمل، أي من المحاسبة على أساس ساعات العمل، المحرك الذي ينظم كل نشاط الجماعة، بل وبنيتها: وقد أوردت في الفصل الخاص بقانون العمل في "النظرية الماركسية في الاقتصاد" مجموعة من أمثلة هذه المحاسبة التي تقوم على ساعات العمل. وفي بعض القرى الهندية تحتكر طبقة مغلقة معينة صناعة الحدادة، إلاّ أنها تستمر في الوقت ذاته في فلاحة الأرض لتنتج غدائها الخاص. وفيها القاعدة التالية: حين يقوم الحداد بصنع أداة من أدوات العمل أو سلاح لمزرعة ما، فإن على هذه المزرعة أن تقدم له المواد الأولية، وبينما يعالج الحداد هذه المواد لصنع الأدوات فإن على الفلاح الذي تنتج الأداة لحسابه أن يعمل في أرض الحداد. وهذا يعني أن ثمة تكافؤا في ساعات العمل يحكم المبادلات بصورة جد واضحة. وفي القرى اليابانية في الق رون الوسطى نجد في نظام الشيوع السائد في القرية محاسبة تقوم على ساعات العمل بالمعنى الحرفي للكلمة. فمحاسب القرية يمسك نوعا من الدفاتر الكبيرة يسجل فيه ساعات العمل التي عمل خلالها مختلف القرويين بالتبادل في حقول الآخرين، ذلك لأن الإنتاج الزراعي كان ما يزال يقوم إلى حد كبير على التعاون في العمل، وبشكل عام يجري الحصاد وبناء المزارع وتربية الحيوانات بجهد مشترك. وتحسب بصورة جد دقيقة عدد ساعات العمل التي قدمها أعضاء أسرة معينة لأعضاء أسرة أخرى. وفي نهاية السنة ينبغي أن يكون ثمة توازن، بمعنى أن أفراد أسرة (ب) ينبغي أن يكونوا قدموا لأسرة (أ) عددا من ساعات العمل يطابق تماما عدد الساعات التي قدمها أفراد أسرة (أ) خلال السنة ذاتها لأفراد الأسرة (ب). بل اليابانيين بلغت بهم الحداقة – منذ حوالي ألف عام ! – بحيث كانوا يأخذون في نظر الاعتبار أن الأطفال يقدمون كمية من العمل أقل من البالغين، أي أن ساعة عمل يقوم بها الأطفال لا "تكافئ" سوى نصف ساعة من عمل البالغين، وبذلك تنشأ محاسبة كلية بهذا الشكل. وهاكم مثلا آخر يتيح لنا أن ندرك مباشرة انتشار هذه المحاسبة التي قوم على اقتصاد وقت العمل: هي استبدال الريع العقاري. ففي المجتمع الإقطاعي يمكن لفائض الإنتاج الزراعي أن يتخذ أشكالا مختلفة: شكل الريع في صورة عمل أو سخرة، شكل الريع العيني، وشكل الريع النقدي. ومن الواضح أن ثمة عملية استبدال، حين ننتقل من السخرة إلى الريع العيني. فبدلا من أن يقدم الفلاح ثلاثة أيام عمل في الأسبوع للسيد، أصبح الآن يقدم كمية معينة من القمح أو الماشية وسواها في كل موسم زراعي. وتجري عملية استبدال أخرى حين ننتقل من الريع العيني إلى الريع النقدي. عمليتا الاستبدال هاتان ينبغي أن تبنيا على محاسبة بساعات العمل تكون دقيقة إلى حد ما، إذا لم يقبل أحد الفريقين أن يُضار مباشرة بهذه العملية. وفي خلال مرحلة الاستبدال الأول، أي بدلا من أن يقدم الفلاح للسيد الإقطاعي 150 يوم عمل سنويا، أصبح الفلاح يقدم كمية من القمح، فإذا كان إنتاج هذه الكمية (س) من القمح يقتضي 75 يوم عمل فقط فإن هذا الاستبدال للريع – العمل إلى ريع عيني – يؤدي إلى إفقار مفاجئ للمالك الإقطاعي وإثراء سريع جدا للأقنان. ولذلك كان المالكون العقاريون – وهم أهل للثقة ! – يسهرون أثناء عملية الاستبدال هذه ليكون ثمة تكافؤ دقيق نوعا ما بين مختلف أشكال الريع. وطبيعي أن عملية الاستبدال هذه يمكن أن ترتد في النهاية ضد إحدى الطبقتين الموجودتين، مثلا ضد المالكين العقاريين عندما يحصل انهيار مفاجئ في الأسعار الزراعية بعد تحول الريع العيني إلى ريع نقدي، بيد أن الأمر يتعلق عند ذاك بنتيجة عملية تاريخية بكاملها، لا نتيجة الاستبدال نفسه. ويبدو منشأ هذا الاقتصاد المبني على المحاسبة على أساس ساعات العمل بشكل واضح أيضا من خلال تقسيم العمل بين الزراعة والمهن الحرفية داخل القرية. وخلال حقبة بكاملها يبقى تقسيم العمل بدائيا نوعا ما. فيستمر جزء من الفلاحين في إنتاج جزء من لباسهم خلال فترة طويلة جدا، تمتد في أوروبا الغربية من نشوء المدن في القرون الوسطى حتى القرن التاسع عشر، أي حوالي ألف عام، مما يعني في الحقيقة أن تقنية إنتاج الملابس لم تكن تنطوي على كثير من الإعجاز بالنسبة للفلاح. وما أن تقوم مبادلات منتظمة بين الفلاحين والحرفيين منتجي المنسوجات حتى تنشأ تكافؤات منتظمة أيضا. مثال ذلك يتم تبادل ولنقل مترا من الجوخ مقابل خمسة كلوات من السمن، لا مقابل 50 كيلو. ومن الواضح تماما أن الفلاحين يعرفون، إنطلاقا من تجربتهم الخاصة، وقت العمل التقريبي اللازم لإنتاج كمية معينة من الجوخ. ولو لم يكن ثمة تكافؤ دقيق إلى حد ما بين زمن العمل اللازم لإنتاج كمية الجوخ التي يجري تبادلها مقابل كمية معينة من السمن، لتعدل تقسيم العمل بشكل فوري. ولو كان الفلاح يجد أن إنتاج الجوخ هو أكثر فائدة له من إنتاج السمن لغيّر فعليا إنتاجه، نظرا لأننا ما نزال في مطلع تقسيم جذري للعمل، وأن الحدود ما تزال مائعة بين التقنيات المختلفة، وإن الانتقال من نشاط اقتصادي إلى آخر ما يزال ممكنا، خاصة إذا كان ينتج فوائد مادية ظاهرة تماما. وفي داخل المدينة في القرون الوسطى نجد أيضا توازنا يقوم على فهم عميق محسوبا بين المهن المختلفة، تسجله المواثيق، يحدد بالدقة تقريبا زمن العمل الذي ينبغي بذله لانتاج مختلف المنتجات. ولا يعقل، في مثل هذه الشروط، أن يستطيع صانع الأحذية أو الحداد الحصول على نفس المبلغ من النقد مقابل حصيلة نصف زمن العمل الذي يحتاجه النساج أو أي حرفي آخر للحصول على هذا المبلغ مقابل منتجاته الخاصة. هنا أيضا ندرك جيدا آلية هذه المحاسبة المبنية على ساعات العمل، وسير هذا المجتمع المبني على اقتصاد يقوم على زمن العمل، وهو بصورة عامة سمة مميزة لكل هذه الحقبة (الطور) التي تسمى حقبة الإنتاج السلعي الصغير، التي تتداخل بين مرحلة الاقتصاد الطبيعي البحت التي لا ينتج فيها سوى قيم استخدام، والمجتمع الرأسمالي الذي يشهد إنتاج السلع فيه توسعا بلا حدود.
عندما ندرك بدقة أن إنتاج السلع وتبادلها ينتظمان ويتعممان في مجتمع كان يقوم على اقتصاد مبني على زمن العمل، على محاسبة مبنية على ساعات العمل، نفهم لماذا بني تبادل السلع، بحكم نشأته وطبيعته الخاصة، على هذه المحاسبة القائمة على ساعات العمل ذاتها وأن القاعدة العامة التي تتبع هي إذن التالية: إن قيمة تبادل سلعة ما تتحدد بكمية العمل اللازم لإنتاجها، وتقاس كمية العمل هذه بمدة العمل التي تم إنتاج السلع خلالها. هذا التعريف العام الذي يكون نظرية القيمة-العمل، وأساس الاقتصاد السياسي الكلاسيكي البرجوازي بين القرن السابع عشر ومطلع القرن التاسع عشر، من ويليام بيسي إلى ريكاردو، وأساس النظرية الاقتصادية الماركسية، التي إستندت إلى نظرية القيمة-العمل ذاتها، وعملت على تحسينها – هذا التعريف ينبغي أن يضاف إليه بعض التحديدات. التحديد الأول:إن بني البشر لا تتوافر لهم جميعا نفس القدرة على العمل، فهم لا يملكون نفس الطاقة، ولا يملكون جميعا نفس المهارة في مهنتهم. ولو أن قيمة تبادل البضائع كانت تتوقف على كمية العمل وحدها التي ينفقها الفرد، أي المبذولة فعلا من قبل كل فرد لإنتاج سلعة،لانتهينا إلى وضع غير معقول: إذ بقدر ما يكون المنتج عابثا أو عاجزا تزداد ساعات العمل التي ينفقها لإنتاج زوج من الأحذية وتكون قيمة هذا الزوج من الأحذية أكبر ! بداهة هذا مستحيل لأن قيمة التبادل ليست مكافأة معنوية على النيات ! إنها رابطة موضوعية قائمة بين منتجين مستقلين لتأمين المساواة بين جميع المهن، في مجتمع يقوم بآن واحد على تقسيم العمل وعلى اقتصاد مبني على زمن العمل. في مثل هذا المجتمع يكون تبديد العمل أمرا لا يمكن مكافأته، بل على العكس يعاقب عليه بصورة آلية. وكل من ينفق في سبيل إنتاج زوج من الأحذية عددا من ساعات العمل يفوق المتوسط الضروري – هذا المتوسط الضروري تحدده متوسط إنتاجية العمل ومسجل مثلا في مواثيق المهن – إنما يبدد عملا بشريا، لقد عمل عبثا، بخسارة بحتة، خلال عدد من ساعات العمل هذه، ولن يتلقى شيئا مقابل هذه الساعات المهدورة. وبعبارة أخرى: إن قيمة تبادل بضاعة ما تتحدد لا بكمية العمل المبذولة لإنتاج هذه السلعة من قبل كل منتج فردي، بل بكمية العمل الضرورية اجتماعيا لإنتاجها. وتعبير "الضرورية اجتماعيا" ينصرف إلى:كمية العمل الضرورية في الشروط المتوسطة لإنتاجية العمل في زمن معين وفي بلد معين. وفضلا عن ذلك فإن لهذا التحديد أهمية بالغة من حيث التطبيق عندما نتفحص عن قرب اكثر آلية المجتمع الرأسمالي. بيد أنه لابد من تحديد آخر: ماذا يعني تعبير"كمية العمل" بالضبط. هناك عمال ذوو مهارات متباينة. فهل ثمة تكافؤ كلي بين ساعة عمل كل واحد منهم، بصرف النظر عن هذا الاختلاف في المهارات ؟ ومرة أخرى ليس الأمر مسألة أخلاقية، بل مسألة منطق داخلي، في مجتمع يقوم على المساواة بين المهن، يقوم على المساواة في السوق، وأية شروط لعدم المساواة فيما بينها تخل مباشرة بالتوازن الإجتماعي. ما الذي يحدث مثلا لو أن ساعة عمل العامل اليدوي لم تكن قيمتها تقل عن قيمة ساعة عمل العامل المتخصص المؤهل، اقتضى تأهيله أربع أو ست سنوات ؟ لن يرغب أحد بطبيعة الحال في التخصص. فساعات العمل المبذولة لاكتساب التخصص (المهارة) تصبح ساعات عمل أنفقت عبثا، بخسارة بحتة، لن ينال المتمرن الذي أصبح عاملا ماهرا لقاءها أي مقابل. ولكي يرغب الأحداث بالتخصص في اقتصاد يقوم على محاسبة مبنية على ساعات العمل ينبغي أن يكافأ الزمن الذي ضيعوه في اكتساب تأهيلهم، ينبغي أن ينالوا عوضا لقاء هذا الزمن. ولهذا ينبغي إكمال تعريفنا لقيمة تبادل بضاعة ما على النحو التالي: "إن ساعة عمل لعامل مؤهل ينبغي اعتبارها عملا مركبا، أي ساعة عمل العامل اليدوي مضاعفة، ومعامل الضرب هذا ليس أمرا تعسفيا، بل يقوم ببساطة على تكاليف اكتساب المهارة. ولنقل بصورة عابرة أنه كان في الاتحاد السوفييتي في العهد الستاليني، دوما، شيء من الغموض في تفسير العمل المركب، وهو غموض قليل الشأن لم يصحح منذ ذلك الحين. وما يزال يقال في الاتحاد السوفييتي إن مكافأة العمل ينبغي أن تتم على أساس كمية العمل المبذولة ونوعيته، إلاّ أن فكرة النوعية لا تؤخذ بمدلولها الماركسي، أي نوعية يمكن قياسها كميا بواسطة معامل ضرب معين. وعلى العكس فإن هذه الفكرة تستخدم بمدلولها الأيديولوجي البرجوازي، بحيث تتحدد نوعية العمل بمنفعتها الاجتماعية المزعومة، وعلى هذا النحو يتم تبرير الدخول التي يكسبها مشير أو راقصة أولى أو مدير مؤسسة، وهي دخول تفوق عشرة أضعاف دخول العامل اليدوي. إنها نظرية دفاع لتبرير التفاوتات الكبيرة جدا في المكافآت، وهي تفاوت وجدت في العهد الستاليني وما تزال مستمرة أيضا، وإن يكن في حدود أضيق في الوقت الراهن، في الاتحاد السوفييتي. إن قيمة تبادل بضاعة ما تتحدد إذن بكمية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها، مع اعتبار العمل المؤهل كمضاعف العمل البسيط، أي مضروبا بمعامل يمكن قياسه بدرجات متفاوتة الدقة. ذلك هو قلب النظرية الماركسية في القيمة، وهو أساس النظرية الاقتصادية الماركسية كلها بشكل عام. وعلى النحو ذاته، فإن نظرية فائض الناتج الاجتماعي وفائض العمل، التي تحدثنا عنها في مستهل هذا العرض، تكوّن أساس السوسيولوجيا الماركسية كلها، والجسر الذي يربط بين تحليل ماركس السوسيولوجي والتاريخي، ونظريته في الطبقات وتطور المجتمع بشكل عام، بالنظرية الماركسية الاقتصادية، وبالأحرى بتحليل المجتمع السلعي السابق للرأسمالية والرأسمالية وما بعد الرأسمالي.
6- ما هو العمل الضروري اجتماعيا ؟ ذكرت لكم قبل قليل أن التعريف الخاص لكمية العمل الضرورية اجتماعيا لإنتاج سلعة ما يجد تطبيقا خاصا جدا وبالغ الأهمية في تحليل المجتمع الرأسمالي. ويبدو لي أن من الخير أن نعالج هذه المسألة، رغم أن مكانها هو في الحديث التالي، لو أننا اتبعنا الترتيب المنطقي. إن مجموع السلع المنتجة في بلد ما في فترة معينة إنما تم إنتاجها بقصد إشباع حاجات مجموع أعضاء هذا المجتمع. ذلك أن بضاعة لا تسد حاجات أي شخص هي أساسا لا تقبل البيع، أي لا تكون لها أية قيمة في التبادل، إنها لا تكون سلعة بل مجرد حصيلة أهواء المنتج، أو اللعب بلا رغبة في الكسب. ومن جهة أخرى فإن مجموع القوة الشرائية الموجودة في مجتمع معين وزمن معين والمعدة للإنفاق في السوق، أي غير المكتنزة، ينبغي أن توجه لشراء مجموع هذه السلع المنتجة، إذا أريد قيام توازن اقتصادي في المجتمع. هذا التوازن يستلزم إذن أن يوزع مجموع الإنتاج الإجتماعي، مجموع القوى الإنتاجية المتاحة في المجتمع، أي مجموع ساعات العمل المتوافرة لهذا المجتمع، أن يوزع مجموعها بين مختلف الفروع الصناعية على أساس نسبي، على نحو ما يقوم به المستهلكون حين يوزعون قوتهم الشرائية بين مختلف الحاجات التي يمكنهم إشباعها. وعندما لا يتطابق توزيع القوى الإنتاجية مع توزيع الحاجات هذا فإن التوازن الإقتصادي يختل، ويظهر فرط الإنتاج ونقص الإنتاج جنبا إلى جنب. لنأخذ مثلا مألوفا إلى حد ما: حوالي منتصف القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كان في مدينة مثل باريس صناعة العربات، ولصنع السلع المختلفة التي تتصل بالنقل بالعربات المجرورة، كان يعمل فيها ألوف، إن لم يكن عشرات الألوف من العمال. وفي الوقت ذاته نشأت صناعة السيارات، وهي، رغم أنها كانت ما تزال صناعة صغيرة جدا، تضم عشرات من صانعي السيارات، ويعمل فيها حوالي عشرة آلاف من العمال. ما الذي جرى في تلك الفترة ؟ بدأ عدد العربات يضمحل وعدد السيارات يتزايد. ونحن نشهد إذن أن الإنتاج المتعلق بالنقل بالعربات يتجه إلى تجاوز الحاجات الإجتماعية، أي الطريقة التي يوزع بمقتضاها مجموع الباريسيين قوتهم الشرائية، كما نشاهد من جهة أخرى أن إنتاج السيارات ما يزال دون مستوى الحاجات الإجتماعية. فما أن قامت صناعة السيارات حتى انتقلت من القلة وتصاعدت حتى ثم التوصل إلى الإنتاج الكبير. لقد كان عدد السيارات المتاح أقل من المتطلبات الموجودة في السوق. كيف نعبر عن هذه الظاهرة بمصطلحات نظرية القيمة-العمل ؟ يمكن القول إنه ينفق في قطاعات صناعة النقل بالجر من العمل أكثر مما هو ضروري اجتماعيا، وإن جزءا من العمل الذي تقوم به مجموع مشروعات صناعة النقل بالعربات هو عمل مهدور اجتماعيا، عمل لا مقابل له في السوق، عمل ينتج بالتالي سلعا لا تباع، وعندما توجد في المجتمع الرأسمالي سلع لا تباع، فمعنى ذلك أنه قد جرى تثمير عمل بشري في فرع من فروع الصناعة تكشف أنه ليس عملا ضروريا اجتماعيا، أي أن ليس ثمة قوة شرائية مقابلة له في السوق. والعمل غير الضروري اجتماعيا هو عمل مبدد، عمل لا ينتج قيمة. وهكذا نرى أن مفهوم العمل الضروري اجتماعيا يغطي مجموعة بكاملها من الظاهرات. وفيما يتعلق بمنتجات صناعة النقل بالجر، يتجاوز العرض الطلب، فتنخفض الأسعار، وتبقى السلع دون مشترٍ. ويحصل العكس في صناعة السيارات. إذ أن الطلب يتجاوز العرض، ولهذا السبب ترتفع الأسعار، ولأنه يوجد قصور في الإنتاج. إلاّ أن الوقوف عند هذه المعلومات العادية حول العرض والطلب إنما يعني التوقف عند المظهر السيكولوجي والفردي للمسألة. وعلى العكس، إذا تعمقنا في دراسة مظهرها الجماعي والاجتماعي فإننا ندرك ما يكمن وراء هذه الظواهر، في مجتمع يقوم على اقتصاد مبني على زمن العمل. فحين يتجاوز العرض الطلب إنما يعني هذا أن الإنتاج الرأسمالي، وهو إنتاج فوضوي، إنتاج غير مخطط، غير منظم، قد ثمر عشوائيا، أي أنفق في فرع من فروع الصناعة عددا من ساعات العمل أكثر مما هو ضروري اجتماعيا، أي أنه قدم مجموعة من ساعات العمل بخسارة بحتة، أي بدد عملا بشريا، وأن هذا العمل البشري المهدور لن يلقى مكافأة له من المجتمع. وبالعكس، فإن فرعا من فروع الصناعة ما يزال الطلب عليه أكبر من العرض هو، إذا صح التعبير، فرع صناعي متخلف بالنسبة للحاجيات الاجتماعية، وهو بالتالي فرع صناعي أنفق فيه من ساعات العمل عدد أقل مما هو ضروري اجتماعيا، وهو لهذا السبب بالذات يتلقى من المجتمع علاوة لزيادة هذا الإنتاج ورفعه إلى حدود التوازن مع الحاجيات الاجتماعية. ذلك هو مظهر من مظاهر مسألة العمل الضروري اجتماعيا في النظام الرأسمالي. أما المظهر الآخر فيتصل بحركة إنتاجية العمل. وهنا أيضا لا يختلف الأمر، إلاّ من حيث إغفال الحاجات الإجتماعية، وإغفال مظهر "قيمة استخدام" الإنتاج. في النظام الرأسمالي تكون إنتاجية العمل في حركة دائمة. يوجد دوما، بوجه الإجمال، أنواع ثلاث من المشروعات (أو الفروع الصناعية) النوع الأول يقف في المستوى الإجتماعي المتوسط للإنتاجية، والنوع الثاني متأخر فات أوانه، فاقد التوازن، إنتاجيتها أدنى من المستوى الإجتماعي المتوسط؛ والنوع الثالث رائد من الناحية التقنية، وإنتاجيته أعلى من المستوى الاجتماعي المتوسط. ما معنى قولنا إن فرعا أو مشروعا هو فرع أو مشروع متأخر تكنولوجيا، وإن إنتاجية العمل فيه دون متوسط إنتاجية العمل؛ يمكنكم تشبيه هذا الفرع أو المشروع بصانع الأحذية الذي تحدثنا عنه قبل قليل، أي أن فرعا أو مشروعا ينفق 5 ساعات عمل لإنتاج كمية يقتضي المتوسط الاجتماعي للإنتاجية أن تنتج في 3 ساعات عمل. فالساعتان الإضافيتان من العمل قد أنفقتا بخسارة بحتة، إنهما هذر العمل الإجتماعي، وتبديد لجزء من مجموع العمل المتاح للمجتمع، ولن يدفع المجتمع أي عوض لقاء هذا الجزء من العمل المهدور. وهذا يعني أن سعر البيع في هذه الصناعة أو المشروع التي تعمل دون متوسط الإنتاجية يقترب من سعر الكلفة أو أنه قد ينخفض إلى أقل من سعر الكلفة، أي أنها تعمل بمعدل ربح ضئيل جدا، بل وقد تعمل بخسارة. وبالمقابل، فإن مشروعا أو فرعا صناعيا يتجاوز مستوى إنتاجية المتوسط (على شاكلة صانع الأحذية الذي يستطيع إنتاج زوجي أحذية في ثلاث ساعات، بينما يكون المتوسط الإجتماعي هو زوج من الأحذية في ثلاث ساعات)، إن هذا المشروع أو الفرع الصناعي يوفر في إنفاق العمل الاجتماعي، وسينال تبعا لذلك ربحا إضافيا، أي أن الفرق بين سعر البيع وسعر التكلفة سيكون أعلى من متوسط الربح. إن السعي وراء هذا الربح الإضافي هو بالتأكيد محرك الاقتصاد الرأسمالي كله. إن كل مشروع رأسمالي يندفع بتأثير المنافسة إلى محاولة الحصول على مزيد من الأرباح، لأنه بذلك فقط يستطيع أن يحسّن باستمرار التكنولوجيا التي يتبعها، أي يحسن إنتاجية العمل لديه. إن المشروعات كلها تندفع إذن في هذا الطريق، مما يعني أن ما كان أولا إنتاجية فوق المتوسط سينتهي إلى أن يصبح إنتاجية متوسطة. وعند ذاك يتلاشى الربح الإضافي. إن كل استراتيجية الصناعة الرأسمالية تقوم على هذا الأساس، تقوم على رغبة كل مشروع في البلد في الوصول إلى إنتاجية فوق المتوسط، بغية الحصول على ربح إضافي، مما يسبب حركة تفضي إلى تلاشي الربح الإضافي بحكم الاتجاه إلى رفع متوسط إنتاجية العمل باستمرار. وبذلك نصل إلى تساوي معدل الربح.
ولنتساءل الآن عن فائض القيمة. إذا نظرنا إليه من زاوية النظرية الماركسية في القيمة يمكننا منذ الآن الرد على هذا التساؤل. إن فائض القيمة ليس سوى الشكل النقدي لفائض الإنتاج الاجتماعي. أي الشكل النقدي لهذا الجزء من إنتاج الكادح، يتخلى عنه دون مقابل لمالك وسائل الإنتاج. كيف يتم عمليا هذا التخلي في المجتمع الرأسمالي ؟ إنه يتم عبر التبادل، كما هو شأن كل العمليات الهامة في المجتمع الرأسمالي، التي هي دوما علاقات تبادل. إن الرأسمالي يشتري قوة العمل من العامل، ويتملك، مقابل هذا الأجر، كل الإنتاج الذي يحققه هذا العامل، كل القيمة الجديدة المنتجة التي تتقمص في قيمة هذا الإنتاج. وتبعا لذلك في وسعنا أن نقول أن فائض القيمة هو الفرق بين القيمة التي أنتجها العامل وقيمة قوة العمل الخاصة به. ما هي قيمة قوة العمل ؟ إن قوة العمل هذه سلعة في المجتمع الرأسمالي، وقيمتها ـ شأن قيمة أية سلعة أخرى – هي كمية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها وتجديدها، أي نفقات إعالة (صيانة) العامل بالمعنى الواسع للكلمة. إن مفهوم الحد الأدنى، من الأجر الضروري للحياة، ومفهوم الأجر المتوسط، ليس مفهوما جامدا. بل ينطوي على حاجات تتغير مع تقدم إنتاجية العمل، حاجات تتجه بصورة عامة إلى التزايد مع تقدم التقنية، ولا يمكن بالتالي المقارنة بينها في أزمان مختلفة. إذ لا يمكن إجراء مقارنة كمية بين الحد الأدنى من الأجر الضروري للحياة عام 1830 والحد الأدنى لعام 1960، وقد تعلم ذلك بعض نظريي الحزب الشيوعي الفرنسي على حسابهم. لا يمكن إجراء مقارنة صحيحة بين سعر دراجة نارية في عام 1960 وسعر عدد من كيلوات اللحم عام 1830 لنخلص إلى أن قيمة الدراجة اقل من قيمة كيلوات اللحم. بعد أن عرفنا ذلك، نعود فنكرر أن نفقات صيانة العمل تكون إذن قيمة قوة العمل، وإن فائض القيمة يكون الفرق بين القيمة التي أنتجتها قوة العمل والنفقات اللازمة لصيانتها. إن القيمة التي تنتجها قوة العمل يمكن قياسها فقط بمدة هذا العمل. وإذا عمل عامل 10 ساعات، فإنه يكون قد أنتج قيمة 10 ساعات عمل. وإذا كانت نفقات صيانة العامل تبلغ أيضا 10 ساعات عمل، فلن يكون ثمة فائض قيمة. وليس هذا إلا حالة خاصة لقاعدة أعم: ليس ثمة فائض إنتاج اجتماعي عندما يكون مجموع ناتج العمل مساويا للناتج الضروري لتغذية وبقاء المنتج. بيد أن درجة إنتاجية العمل، في النظام الرأسمالي، هي بحيث أن نفقات إدامة العمل تكون دوما أدنى من كمية العمل الجديدة المنتجة. أي أن العامل الذي يعمل 10 ساعات لا يحتاج إلى ما يقابل 10 ساعات عمل للاستمرار في الحياة، تبعا لمتوسط حاجات الفترة التي يعيش فيها. وما يقابل الأجر لا يشكل دوما إلاّ جزءا فقط من يوم العمل، وفائض القيمة هو ما يفوق هذا الجزء، أي أنه العمل المجاني الذي يبذله العامل ويتملكه الرأسمالي دون أي مقابل. وأساسا لو لم يكن هذا الفرق موجودا لما استخدم أي رب عمل عاملاً، لأن شراء قوة العمل لن يجلب له آنذاك أي ربح.
وفي الختام نورد ثلاثة براهين تقليدية على نظرية فائض القيمة.البرهان الأول تحليلي، أو، إذا شئتم، تحليل سعر كل سلعة إلى عناصرها الأساسية، الذي يبين أننا إذا تعمقنا بما يكفي فلن نجد إلاّ العمل. إن سعر جميع السلع يمكن رده إلى عدد من العناصر: اهتلاك الآلات والأبنية، وهو ما نسميه تجديد رأس المال الثابت؛ ثمن المواد الأولية والمنتجات الثانوية المساعدة؛ الأجر؛ وأخيرا كل ما هو فائض قيمة: ربح، فوائد، إيجارات، ضرائب وسواها. إننا نعلم، فيما يختص بالعنصرين الأخيرين:الأجر وفائض القيمة، أنها عمل وعمل بحت. وفيما يتعلق بالمواد الأولية، فإن معظم أثمانها يمكن رده إلى حد كبير إلى عمل خالص، وعلى سبيل المثال فإن أكثر من 60% من ثمن كلفة الفحم تتكون من أجور. وإذا حللنا، بداءة، متوسط أثمان كلفة البضائع إلى 40% أجور و20% فائض قيمة و30% مواد أولية و10% رأسمال ثابت، وافترضنا أن 60% من ثمن كلفة المواد الأولية يمكن ردها إلى عمل، يصبح 78% من مجموع أثمان الكلفة مرده إلى عمل. إن المتبقى من ثمن كلفة المواد الأولية يمكن رده إلى ثمن مواد أولية أخرى – ترتد بدورها إلى 60% عمل – وثمن اهتلاك الآلات. إن قيمة الآلات تنطوي في جزء هام منها على عمل (مثلا 40%) ومواد أولية (مثلا 40% أيضا). وبذلك ينتقل نصيب العمل في متوسط ثمن البضائع كلها على التوالي من 83% إلى 87% إلى 89.5%، الخ. ومن البديهي أننا كلما تابعنا هذا التحليل، اتجه الثمن كله إلى أن يرتد إلى عمل، وعمل وحسب. أما البرهان الثاني فبرهان منطقي، وهو الذي نجده في مستهل مؤلف "رأس المال" لكارل ماركس، وقد التبس فهمه على عدد غير قليل من القراء، لأن ماركس لم يتبع بالتأكيد الأسلوب التربوي المبسط لمعالجة المسألة. يطرح ماركس السؤال التالي: ثمة عدد كبير من السلع. هذه السلع يمكن تبادلها، مما يعني أنه ينبغي أن تتوافر فيها صفة مشتركة، لأن كل ما يمكن تبادله يمكن أن يُقارن، وكل ما يمكن أن يقارن ينبغي أن تتوافر له صفة واحدة مشتركة على الأقل. إن الأشياء، التي ليس لها صفة مشتركة هي بحكم تعريفها لا يمكن المقارنة بينها. لننظر إلى كل من هذه السلع. ما هي صفاتها ؟ إنها تنطوي أولا على جملة من الصفات الطبيعية: وزن، طول، كثافة، لون، عرض، طبيعة جزيئية، باختصار جميع الصفات الطبيعية، فيزيائية وكيماوية.. الخ. هل يمكن أن تقوم قابليتها للمقارنة باعتبارها سلعا على أساس واحدة ما من هذه الصفات المادية، هل يمكن لمثل هذه الصفة أن تكون المقياس المشترك لقيمتها في التبادل ؟ من الواضح أن الجواب بالنفي لأن قيمة كيلو من السمن ليست مماثلة لقيمة كيلو من الذهب. هل هو الحجم ؟ أم الطول ؟ إن الأمثلة تبرهن مباشرة أن لا. الخلاصة أن كل ما هو صفة طبيعية لسلعة ما، كل ما هو صفة فيزيائية أو كيماوية لهذه السلعة، يحدد فعلا قيمة استخدامها، منفعتها النسبية، ولكن لا يحدد قيمتها في التبادل. إن قيمة التبادل ينبغي أن تصرف النظر عن كل ما هو صفة طبيعية، مادية السلعة. ينبغي أن نجد في هذه السلع صفة مشتركة لا تكون مادية. ويخلص ماركس: إن الصفة المشتركة الوحيدة بين هذه البضائع، وهي صفة غير مادية، هي كونها جميعا منتجات العمل البشري، العمل البشري مأخوذا بالمعنى المجرد للكلمة. إن العمل البشري يمكن النظر إليه بأسلوبين مختلفين. يمكن النظر إليه كعمل مشخص، نوعي: عمل الخباز، عمل الجزار، عمل الحذاء، عمل النساج، وعمل الحداد وسوى ذلك. بيد أننا ما دمنا نعتبره عملا نوعيا مشخصاً، فإنما ننظر إليه على وجه التحديد كعمل لا ينتج سوى قيم استخدام. عند ذاك يؤخذ في نظر الاعتبار على وجه التحديد جميع الصفات التي هي مادية والتي لا يمكن المقارنة على أساسها بين السلع. إن الشيء الوحيد الذي تنطوي عليه السلع مما يمكن المقارنة بينها من وجهة نظر قيمة التبادل، هو أنها جميعا نتاج العمل البشري المجرد، بمعنى أنها نتاج منتجين، يرتبطون فيما بينهم بعلاقات تقوم على التكافؤ، مبنية على أنهم ينتجون جميعا سلعا من أجل التبادل. إن الصفة المشتركة بين السلع التي تمدنا بمقياس لقيمتها في التبادل، لإمكان تبادلها، هي إذن كونها حصيلة العمل البشري المجرد. إن نوعية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاج السلع هي بالتالي التي تحدد قيمة تبادلها. ولنضف مباشرة أن محاكمة ماركس هذه هي مجردة وصعبة إلى حد ما بآن واحد، وإنها تفضي إلى التساؤل حاول نقاد للماركسية، لا يقعون تحت حصر، استخدامه دون جدوى على أية حال ! هل حقا أن كون السلع نتاج العمل البشري المجرد هو الصفة المشتركة الوحيدة بينها، بصرف النظر عن صفاتها الطبيعية ؟ لقد ظن عدد غير قليل من المؤلفين أنهم اكتشفوا صفات أخرى، ولكنهم انساقوا بشكل عام إلى أن ينتهوا إما إلى صفات مادية أو إلى كون البضائع نتاج العمل المجرد. أما البرهان الثالث والأخير على صحة نظرية فائض القيمة، فهو البرهان بالاستحالة، وهو أكثر البراهين طرافة و"أحدثها". لنتخيل لحظة مجتمعا اضمحل فيه العمل البشري الحي كليا، أي أن الإنتاج كله أصبح مؤتمتا 100%. ومن المفهوم أننا ما دمنا في مرحلة انتقالية وهي التي نشهدها حاليا، والتي يوجد فيها عمل مؤتمت كليا، أي أن بعض المعامل لا تستخدم عملا قط، بينما توجد معامل أخرى يستمر استخدام البشر فيها، فليس من مشكلة نظرية خاصة مطروحة، بل مجرد مسألة انتقال فائض القيمة من مشروع إلى آخر. إنها تطبيق لقانون تساوي معدل الربح الذي سندرسه في المرحلة الثانية. ولكن لنتخيل هذه الحركة وقد وصلت إلى نتيجتها القصوى، فأصبح العمل البشري مستبعدا كليا من جميع أشكال الإنتاج، ومن جميع أشكال الخدمات. هل يمكن في هذه الشروط أن تستمر القيمة ؟ ما الذي يكون عليه مجتمع ليس فيه شخص يكتسب دخولا، ولكن البضائع تبقى ذات قيمة وتباع ؟ مثل هذا الوضع غير معقول بداهة، إذ تنتج كتلة ضخمة من المنتجات لا يولد إنتاجها أي دخل، ما دام ليس ثمة شخص يتدخل في هذا الإنتاج. ومع ذلك يراد "بيع" هذه المنتجات التي لن يوجد لها أي مشتر ! من البديهي أن توزيع المنتجات، في مثل هذا المجتمع، لن يجري بشكل بيع سلع، بيع يغدو غير معقول بسبب الوفرة التي نشأت عن الأتمتة الشاملة. وبعبارة أخرى، ان مجتمعا يلغي فيه دور العمل البشري في الإنتاج إلغاء كليا، بالمعنى الواسع للكلمة، بما فيها الخدمات، هو مجتمع تتلاشى فيه قيمة التبادل بالتبعية. إن هذا يبرهن على صحة النظرية، فحينما يتلاشى العمل البشري من الإنتاج، تتلاشى معه القيمة.
1- رأس المال في المجتمع السابق للرأسمالية بين المجتمع البدائي، الذي ما يزال يقوم على اقتصاد طبيعي، ولا تنتج فيه إلاّ قيم استخدام معدة ليستهلكها المنتجون أنفسهم، بين هذا المجتمع والمجتمع الرأسمالي تمتد فترة طويلة من تاريخ الإنسانية تشمل، في الحقيقة، كل الحضارات البشرية التي توقفت عند عتبة الرأسمالية. وتعرف الماركسية هذه الفترة بأنها مجتمع الإنتاج السلعي الصغير. فهو مجتمع يعرف إذن إنتاج السلع، سلع معدة لا ليستهلكها مباشرة منتجوها، بل معدة للتبادل في السوق، بيد أن هذا الإنتاج التجاري لم يتعمم بعد كما هو الحال في المجتمع الرأسمالي. وفي مجتمع يقوم على الإنتاج السلعي الصغير، يجري نوعان من العمليات الإقتصادية. إن الفلاحين والحرفيين إذ يذهبون إلى السوق بمنتجات عملهم، إنما يريدون بيع هذه السلع، التي لا يستطيعون الإفادة مباشرة من قيمتها في الاستخدام، بقصد الحصول على المال، أي أدوات مبادلة للحصول على سلع أخرى، يفتقدون إلى قيمة استخدامها أو هي أهم بالنسبة لهم من قيمة استخدام السلع التي يمتلكونها. إن الفلاح يرتاد السوق مع القمح، يبيع قمحه مقابل المال، ويشتري بهذا المال جوخا مثلا. إن الحرفي يرتاد السوق مع جوخه، فيبيع الجوخ مقابل المال، وبهذا المال يشتري القمح مثلا. فالعملية هي إذن: بيع من أجل الشراء، سلعة- مال- سلعة. س- م- س، تتصف بواقعية أساسية: عن قيمة الحدين في هذه المعادلة، هي بحكم تعريفها متساوية تماما. بيد أنه يظهر، في الإنتاج السلعي الصغير، إلى جانب الحرفي والفلاح الصغير، شخص آخر يقوم بعملية اقتصادية مختلفة.إنه يشتري ليبيع، بدلاً من أن يبيع ليشتري. إنه رجل يرتاد السوق دون أن يحمل بضاعة بيده، إنه مالك مال. إن المال (النقد) لا يمكن بيعه، ولكن يمكن استخدامه في الشراء، وهذا ما يقوم به هذا الشخص: إنه يقدم إلى الشراء لكي يبيع، لكي يعيد بيع السلعة: م- س- م’. إن ثمة فرقا أساسيا بين العمليتين الأولى والثانية.إذ أن العملية الثانية لا معنى لها إذا كنا في نهاية العملية أمام قيمة متساوية تماما مع القيمة في بداية العملية. فما من امرئ يشتري بضاعة ليعيد بيعها تماما بنفس السعر الذي اشتراها به. إن عملية الشراء بقصد البيع، لا معنى لها إذا لم ينتج عن البيع زيادة في القيمة، فائض قيمة. ولهذا نقول هنا أن م’ أكبر من م بحكم التعريف، وأنه مركب من م + مـ، على اعتبار أن مـ هي فائض القيمة، أي مقدار تزايد قيمة م. ونستطيع الآن أن نعرف رأس المال بأنه قيمة تتزايد بفائض قيمة سواء كان ذلك عبر تداول البضائع، كما في المثال الذي أوردناه أو عبر الإنتاج، كما هو الحال في النظام الرأسمالي. إن رأس المال هو إذن كل قيمة تتزايد بفائض قيمة. ورأس المال هذا لا يقتصر وجوده على المجتمع الرأسمالي، إنه موجود في المجتمع القائم على الإنتاج السلعي الصغير. وينبغي بالتالي أن نفرق بشكل واضح بين وجود رأس المال ووجود نمط الإنتاج الرأسمالي، في المجتمع الرأسمالي. إن رأس المال موجود في الأرجح منذ حوالي ثلاثة آلاف عام، بينما لا يتجاوز عمر نمط الإنتاج الرأسمالي المائتي عام. ما هو شكل رأس المال في المجتمع السابق للرأسمالية ؟ إنه، في جوهره، رأس مال مراب ورأسمال تجاري. والانتقال من المجتمع السابق للرأسمالية إلى المجتمع الرأسمالي هو تغلغل رأس المال في مجال الإنتاج. إن نمط الإنتاج الرأسمالي هو أول نمط إنتاج، وأول شكل في التنظيم الجماعي، لا يقتصر رأس المال فيها على دور الوسيط واستغلال أشكال إنتاج غير الرأسمالية التي تستمر مبنية على الإنتاج السلعي الصغير، بل يمتلك فيها رأس المال وسائل الإنتاج وينفذ إلى الإنتاج بمعناه الدقيق.
ما هي أصول نمط الإنتاج الرأسمالي ؟ ما هي أصول المجتمع الرأسمالي كما تطور منذ مائتي عام ؟ إنها أولا الانفصال بين المنتجين ووسائل الإنتاج. وهي من ثم تجمع وسائل الإنتاج هذه في صورة احتكار بين أيدي طبقة اجتماعية واحدة، هي الطبقة البرجوازية. وهي أخيرا ظهور طبقة اجتماعية أخرى، لم يعد لها من مورد لتعيش، بعد انفصالها عن وسائلها في الإنتاج، غير بيع قدرتها على العمل إلى الطبقة التي احتكرت وسائل الإنتاج. لنعالج كلا من أصول نمط الإنتاج الرأسمالي هذه، وهي في الوقت ذاته الخصائص الأساسية للنظام الرأسمالي ذاته. أولى هذه الخصائص: انفصال المنتج عن وسائله في الإنتاج. إنها الشرط الأساسي لوجود النظام الرأسمالي. وهي أقل الخصائص وضوحا في الأذهان. لنأخذ مثلا قد يبدو لنا ضربا من المفارقة، مجتمع مطلع القرون الوسطى، الذي يتصف بالقنانة. إننا نعلم أن جمهرة المنتجين-الفلاحين كانت في هذا المجتمع أقنانا مرتبطين بالأرض. غير أنه عندما يقال إن القن مرتبط بالأرض إنما يتضمن ذلك أن الأرض مرتبطة بالقن، فنحن أمام طبقة اجتماعية تعتمد دوما على قاعدة لسد حاجاتها، لأن القن كان يتصرف بمساحة من الأرض تكفي ليتمكن عمل يعتمد على ذراعين، ولو بمسائل بدائية، من سد حاجات أسرة. ونحن لسنا أمام أناس محكوم عليهم أن يتضوروا (يموتوا) جوعا إن لم يبيعوا قوة عملهم. في مثل هذا المجتمع ليس ثمة إكراه اقتصادي على العامل لتأجير ذراعيه، ليعرض على الرأسمالي بيع قوة عمله. وبعبارة أخرى: في مجتمع من هذا النوع لا يمكن للنظام الرأسمالي أن ينمو. وثمة تطبيق حديث لهذه الحقيقة العامة، وهو الأسلوب الذي اتبعه المستعمرون في إدخال الرأسمالية إلى إفريقيا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. كيف كانت ظروف معيشة سكان سائر البلدان الإفريقية ؟ كانوا يمارسون تربية الحيوانات وزراعة الأرض، زراعة بدائية أو غير بدائية تبعا للمنطقة، إلاّ أنها تتصف في جميع الأحوال بوفرة نسبية في الأراضي. لم يكن ثمة ندرة في الأراضي في إفريقيا، بالعكس كان هناك سكان يتصرفون، بالنسبة لمساحة الأرض، باحتياطي غير محدود عمليا. ولا شك في أن الحصول على هذه الأرض وبوسائل الزراعة البدائية جدا كان ضعيفا، ومستوى المعيشة متدنيا جدا، غير أنه لم يكن ثمة إكراه مادي يدفع هؤلاء السكان إلى الانتقال إلى العمل في مناجم أو مزارع أو معامل المعمر الأبيض. وبعبارة أخرى: لو لم يغير النظام العقاري في إفريقيا الاستوائية وإفريقيا السوداء لما كان ثمة إمكان لإدخال نمط الإنتاج الرأسمالي إليها. وكان لا بد، ليمكن إدخال نمط الإنتاج هذا، من فصل جمهرة السكان السود، بصورة جذرية وبوسائل إكراه غير اقتصادية، عن وسائل معيشتها العادية. أي أنه كان لا بد من تحويل جزء كبير من الأراضي بين عشية وضحاها إلى أرض مملوكة للدولة المستعمِرة أو إلى ملكية خاصة للشركات الرأسمالية. كان لا بد من زرْب السكان السود في أراضٍ، في محتجزات (كما سموها بوقاحة) لم تكن على سعة تكفي لتغذية سكانها. وكان لا بد أيضا من فرض ضريبة على الرأس، أي ضريبة تسدد بالنقد على كل فرد من السكان، مع ان الزراعة البدائية لم تكن تدر دخولا نقدية. عن طريق هذه الضغوط بوسائل غير اقتصادية أمكن إلزام الإفريقي بأن يعمل كمأجور، ولو لشهرين أو ثلاثة أشهر في السنة، ليكسب مقابل هذا العمل ما يستطيع أن يسدد به الضريبة ويشتري ما يسدد به نقص الغذاء، الذي لم يعد باستطاعته الاستمرار في الحياة بدونه، بسبب عدم كفاية الأراضي التي بقيت تحت تصرفه. وقد اتبعت هذه الطريق بنفس المقياس في بلاد كأفريقيا الجنوبية كما في روديسيا، كما في الكونجو البلجيكي سابقا، حيث أدخل نمط الإنتاج الرأسمالي على أوسع نطاق، واقتلع جزء كبير من السكان السود من جذورهم وطردوا ودفعوا خارج نمط العمل والحياة التقليديين. ولنشر بشكل عابر إلى النفاق الأيديولوجي الذي اقترن بهذه الحركة، وشكاوى المجتمعات الرأسمالية ورجال الإدارة البيض من أن السود تنابل، لأنهم لا يريدون أن يعملوا حتى لو أعطوا إمكانية الحصول في المنجم أو في المعمل على عشرة أضعاف ما كانوا يكسبونه بشكل تقليدي من أراضيهم. لقد سمعنا هذه الشكاوي تتكرر – بالنسبة العمال الهنود والصينيين أو العرب قبل ذلك بخمسين أو ستين عاما. كما سمعنا – وهذا ما يثبت المساواة في الجوهر بين جميع العروق البشرية – بالنسبة للعمال الأوروبيين من فرنسيين وبلجيكيين وإنجليز وألمان في القرن السابع عشر أو الثامن عشر. إن المسألة لا تعدو هذه الحقيقة: ما من إنسان يحب، في الأحوال العادية، بحكم تكوينه الطبيعي والعصبي، أن يحبس مدة ثمان أو تسع أو عشر أو أثنى عشر ساعة في اليوم في معمل أو مصنع أو منجم. ولا بد فعلا من قوة، من ضغط غير عاديين تماما واستثنائيين للوصول إلى شخص لا يعتاد هذا العمل الشاق وإجباره على القيام به. أما الأصل الثاني، أي ثانية خصائص نمط الإنتاج الرأسمالي: تركز وسائل الإنتاج في صورة احتكار بيد طبقة اجتماعية واحدة، هي الطبقة البرجوازية. إن هذا التركز ما كان يمكن أن يتحقق عمليا لو لم يكن ثمة ثورة مستمرة في وسائل الإنتاج، لو لم تصبح هذه الوسائل أكثر تعقيدا، وأغلى ثمنا باطراد، على الأقل فيما يتعلق بالحد الأدنى من وسائل الإنتاج لإمكان البدء بمشروع كبير (نفقات التأسيس الأولى). لقد كان في الطوائف (الأصناف) الحرفية ومهن القرون الوسطى استقرار كبير في وسائل الإنتاج. فأنوال النسيج تنتقل من الأب إلى الابن، ومن جيل إلى جيل. كانت قيمة أنوال النسيج هذه منخفضة نسبيا، أي أن كل عامل في المهنة كان في وسعه أن يأمل بالحصول على ما يبادل قيمة هذه بعد عمل عدد من السنوات. إن إمكانية تشكل احتكار ظهرت من الثورة الصناعية، التي حركت نموا غير منقطع، متزايد التعقيد، في المكننة، مما يعني وجوب توافر رؤوس أموال أكبر فأكبر ليمكن البدء بمشروع جديد. ومنذ ذلك الحين يمكن القول إن الوصول إلى ملكية وسائل الإنتاج يصبح مستحيلا بالنسبة للأغلبية الساحقة من المأجورين والمستخدمين، وأن ملكية وسائل الإنتاج أصبحت احتكارا في أيدي طبقة اجتماعية، تلك التي تتوافر لها رؤوس الأموال، واحتياطات من رؤوس الأموال، والتي تستطيع أن تحقق تراكم رؤوس أموال جديدة لمجرد أنها تملك رؤوس أموال. أما الطبقة التي لا تملك رؤوس أموال فمحكوم عليها بحكم وضعها هذا أن تبقى على الدوام في حالة واحدة من العوز ومكرهة على العمل لحساب غيرها. الأصل الثالث، أو ثالثة خصائص الرأسمالية: ظهور طبقة اجتماعية ليس لها من وسائل لسد حاجاتها إلا بيع قوة عملها لأنها لا تملك من الثروات إلاّ ذراعيها، وهي في الوقت ذاته حرة ببيع القوة، فتبيعها للرأسماليين مالكي وسائل الإنتاج. ويسجل ذلك ظهور الطبقة البروليتارية الحديثة. إننا أمام عناصر ثلاثة تتداخل وتتضافر. فالبروليتاريا، هي الشغيل الحر؛ إن هذا خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء بآن واحد، بالنسبة لأقنان القرون الوسطى: خطوة إلى الأمام لأن القن لم يكن حرّا (كان القن ذاته خطوة إلى الأمام بالنسبة للرقيق)، وما كان يستطيع التنقل بحرية، وخطوة إلى الوراء لأن البروليتاري، خلافا لما كان عليه القن، هو "حر" أيضا، أي أنه محروم تماما من الوصول إلى وسائل الإنتاج.
3- أصول البروليتاريا الحديثة وتعريفها ينبغي أن نذكر، بين الأسلاف المباشرين للبروليتاريا الحديثة، السكان المجتثين في القرون الوسطى، وهم سكان لم يكونوا مرتبطين بالأرض، ولا منتظمين في المهن والطوائف الحرفية في المراكز السكانية الصغيرة، فكانوا بالتالي سكانا تائهين، لا جذور لهم، أخذوا يؤجرون ذراعيهم باليوم، وحتى بالساعة. وفي عدد غير قليل من مدن القرون الوسطى، لا سيما في فلورنسا والبندقية وبروجس، بدأ يظهر "سوق العمل" اعتبارا من القرن الثامن، التاسع أو العاشر، بمعنى أن الناس الفقراء الذين ليسوا أعضاء في مهنة وليسوا صناع المعلم الحرفي، أي ليس لهم موارد رزق للمعيشة، كانوا يتجمعون صباح كل يوم في زاوية من المدينة، ينتظرون أن يستأجر بعض التجار أو المتعهدين خدماتهم لساعة أو لنصف يوم أو ليوم كامل، الخ. وأصل ثان للبروليتاريا الحديثة، أقرب إلينا، هو ما سمي انحلال الحواشي الإقطاعية، أي الانحطاط الطويل البطيء، لطبقة النبلاء الإقطاعية، الذي بدأ اعتبارا من القرنين الثالث عشر والرابع عشر وانتهى مع الثورة البرجوازية في فرنسا، حوالي نهاية القرن الثامن عشر. ففي مطلع القرون الوسطى كان يوجد أحيانا خمسون أو ستون أو مائة أسرة أو ما يزيد يعيشون مباشرة على حساب السيد الإقطاعي. وأخذ عدد هؤلاء الخدم الأفراد يتقلص، لاسيما خلال القرن السادس عشر، الذي تميز بارتفاع كبير جدا في الأسعار، وبالتالي بافتقار كبير جدا لكل الطبقات الإجتماعية ذات الدخول النقدية الثابتة، بما فيها طبقة النبلاء الإقطاعية في أوروبا الغربية التي كانت قد استبدلت بصورة عامة الريع العيني بريع نقدي. وكان من نتائج هذا الافتقار تسريح جزء كبير من الحواشي الإقطاعية بالجملة. فوجد على هذا النحو آلاف من الخدم السابقين، من كتاب النبلاء سابقا، يهيمون على الطرقات ويصبحون شحاذين..الخ. وثمة أصل ثالث للبروليتاريا الحديثة هو طرد جزء من قدماء الفلاحين من أرضهم نتيجة تحويل أراض زراعية إلى مروج. وقد كتب توماس مور، الطوباوي الإنجليزي، منذ القرن السادس عشر، هذه العبارة الرائعة: "لقد أكلت الخروف البشر" أي أن تحويل الحقول إلى مروج بغية تربية الخراف، المرتبطة بصناعة الصوف، قد أفضى إلى طرد آلاف وآلاف من الفلاحين الإنجليز من أراضيهم وحكم عليهم بالجوع. وهناك أصل رابع للبروليتاريا الحديثة كان دوره أقل أهمية في أوروبا الغربية، ولكنه لعب دورا هاما في أوروبا الوسطى والشرقية، في آسيا وفي أمريكا اللاتينية وفي إفريقيا الشمالية: هو تدمير الحرفيين السابقين نتيجة معركة المنافسة بين طبقة الحرفيين والصناعة الحديثة التي كانت تشق من الخارج طريقها إلى هذه البلاد المتخلفة. ولنلخص: إن نمط الإنتاج الرأسمالي هو نظام تصبح فيه وسائل الإنتاج احتكارا في يد طبقة اجتماعية، يكون فيه المنتجون أحرارا، ولكنه بفصلهم عن وسائل الإنتاج هذه حُرموا من أية وسيلة من وسائل العيش، وهم مكرهون بالتالي على بيع قوة عملهم إلى مالكي وسائل الإنتاج ليمكنهم الاستمرار في العيش. إن ما يميز البروليتاري ليس في الأساس انخفاض أو ارتفاع مستوى أجره، بل بالأحرى كونه مقطوعا عن وسائله في الإنتاج، أو أنه لا يملك دخولا تكفي ليعمل لحسابه الخاص. وإذا أردنا أن نعرف ما إذا كانت الظروف والشروط البروليتارية في طريقها إلى الزوال، أو أنها بالعكس في طريقها إلى التوسع، فإن ما ينبغي علينا أن نتفحصه ليس متوسط أجر العامل أو متوسط مرتب المستخدم، بل أن نجري مقارنة بين هذا الأجر ومتوسط استهلاكه، بعبارة أخرى إمكانيته للادخار مقارنة بنفقات التأسيس الأولى لمشروع مستقل. فإذا تبين لنا أن كل عامل وكل مستخدم يستطيع، بعد أن يعمل عشر سنوات، أن يدخر حولي 10 أو 20 أو 30 مليون، مما يمكنه من شراء مخزن أو ورشة صغيرة، يمكننا عند ذلك القول أن الشروط البروليتارية في طريقها إلى التقهقر وأننا نعيش في مجتمع تتجه ملكية وسائل الإنتاج فيه إلى الانتشار والتعميم. أما إذا تبين لنا، على العكس من ذلك، أن الأغلبية الساحقة من الشغيلة والعمال والمستخدمين والموظفين، يبقون بعد حياة من العمل الجاد على ما كانوا عليه سابقا، أي عمليا بلا وفورات وبلا رؤوس أموال تكفي لاكتساب وسائل إنتاج، يمكن أن نخلص إلى أن الظروف والشروط البروليتارية قد انتشرت وتعممت بدلا من أن تتقلص، وأنها اليوم أكثر اتساعا مما كانت قبل خمسين عاما، وإذا رجعنا على سبيل المثال إلى الإحصاءات المتعلقة بالبنية الاجتماعية في الولايات المتحدة يتبين لنا أن النسبة المئوية من السكان العاملين الأمريكيين الذين يعملون لحسابهم الخاص، المصنفين كأرباب عمل (منظِمين) أو كمساعدين لهم من نفس العائلة، تنخفض منذ ستين عاما مرة كل خمس سنوات بلا انقطاع، بينما تزداد بانتظام، من خمسة إلى خمسة سنوات، النسبة المئوية من هؤلاء السكان التي أصبحت مكرهة على بيع قوة عملها. وإذا تفحصنا من جهة أخرى الإحصاءات المتعلقة بتوزيع الثروة الخاصة يتبين لنا أن الأغلبية الساحقة من العمال، لعلها 95%، والأغلبية الساحقة من المستخدمين (80 أو 85%) لا تتوصل إلى تكوين ولو ثروات صغيرة أو رأسمال صغير، أي أنهم ينفقون كل دخلهم، وأن الثروات تنحصر في الواقع في جزء صغير جدا من السكان. ففي معظم البلاد الرأسمالية يملك 1%، 2%، 2,5%، 3,5% ، 5% من السكان 40%، 50%، 60% من الثروة الخاصة في البلد، ويكون الباقي في أيدي 20 أو 25% من هؤلاء السكان. إن الفئة الأولى من المالكين،هي البرجوازية الكبيرة، والفئة الثانية هي البرجوازية المتوسطة والصغيرة. وكل من هم خارج هاتين الفئتين لا يملكون عمليا سوى سلع استهلاكية (بما فيها أحيانا بيت للسكن). إن الإحصاءات المتعلقة بحقوق الإرث، والضرائب على التركات، ذات دلالة كبيرة في هذا الصدد عندما تكون صحيحة. إن دراسة دقيقة أجريت في بورصة نيو يورك من قبل مؤسسة بروكينغز Brookings (وهي مصدر لا يشك أحد أنه ماركسي) تكشف أن ليس في الولايات المتحدة إلا 1% و2% من العمال يملكون أسهما، وأن هذه "الملكية" تبلغ الألف دولار في المتوسط أي ما يعادل 5 ألف فرنك جديد. إن رأس المال بكامله تقريبا هو في أيدي البرجوازية، وهذا يكشف لنا آلة التجدد الذاتي للنظام الرأسمالي: إن من يملكون رؤوس أموال يستطيعون أن يراكموا منها أكثر فأكثر، ومن لا يملكون رؤوس أموال لا يستطيعون الوصول إلى تملكها. وهكذا يستمر انقسام المجتمع إلى طبقة مالكة وطبقة مكرهة على بيع قدرتها على العمل. وثمن قوة العمل هذه، أي الأجرة، يستهلك بكامله من الناحية العملية، بينما تملك الطبقة المالكة رأس مال يزداد باستمرار بسبب فائض القيمة. إن إثراء المجتمع برؤوس الأموال إنما يجري، إذا صح القول، لصالح طبقة واحدة من طبقات المجتمع وحسب، هذه الطبقة هي الطبقة الرأسمالية.
4- آلية الإقتصاد الرأسمالي الأساسية والآن كيف تسير الآلية الأساسية لهذا المجتمع الرأسمالي ؟ إذا ذهبتم يوما إلى بورصة القطن المصبوغ، فإنكم لن تعرفوا على وجه الدقة ما إذا كانت كمية القطن المصبوغ المتاحة مساوية للحاجات الموجودة في فرنسا في تلك الفترة أم أقل منها أو أكثر. ولن يتبين لكم الأمر إلاّ بعد مضي فترة من الوقت. أي أنه عندما يوجد فرط الإنتاج، عندما يبقى جزء من الإنتاج غير مبيع، فسترون أن الأسعار تنخفض، وعلى العكس ترتفع الأسعار عندما يوجد نقص في الإنتاج. وما دام لا يُعرف إلاّ بعد فوات الوقت ما إذا كانت كل كمية العمل المبذولة في فرع من فروع الصناعة قد استخدمت بالشكل الضروري اجتماعيا أو أنها بددت جزئيا، فإنه لن يمكن تحديد القيمة الصحيحة للسلعة إلاّ بعد فوات الوقت. فهذه القيمة هي بالتالي، إذا صح التعبير، فكرة مجردة، إنها ثابتة Constante تتقلب الأسعار حولها. ما الذي يحرك هذه الأسعار، وبالتالي، ما الذي يحرك، على المدى الطويل بالنتيجة، هذه القيم، هذه الإنتاجية (إنتاجية العمل)، هذا الإنتاج وهذه الحياة الإقتصادية في مجموعها ؟ ما الذي يحرك المجتمع الرأسمالي ؟ إنها المنافسة. ليس من مجتمع رأسمالي بدون منافسة. إن مجتمعا تلغي منه المنافسة كليا وجذريا وتماما هو مجتمع لا يكون مجتمعا رأسماليا بقدر ما لا يعود قائما فيه المحرك الاقتصادي الرئيسي لأجل مراكمة رأس المال، وبالتالي القيام ب 10/9 العمليات الاقتصادية التي يقوم بها الرأسماليون. على مَ تقوم المنافسة ؟ في أساس المنافسة نجد مفهومين لا يتطابقان بالضرورة. فهناك أولا مفهوم السوق غير المحدود، السوق غير المنغلق تماما، وهناك مفهوم تعدد مراكز البت، بصورة خاصة في مجال التثمير والأرباح. ولو وجد تركز كلي للإنتاج كله في قطاع صناعي بين يدي منشأة رأسمالية واحدة، فلا يعني ذلك إلغاء المنافسة تماما، لأن السوق غير المحدود ما يزال موجودا، وسيكون هناك على الدوام، صراع تنافسي بين هذا القطاع الصناعي وقطاعات صناعية أخرى بغية احتكار جزء كبير إلى هذا الحد أو ذاك من السوق. وثمة احتمال على الدوام في رؤية منافس جديد يعاود الظهور في هذا القطاع بالذات، متسللا من الخارج. والعكس صحيح. فلو أننا تصورنا سوقا يكون محدودا كليا تماما، ولكن فيه عددا كبيرا من المشروعات تتصارع لاحتكار جزء من هذا السوق المحدود، فمن الواضح أن المنافسة تبقى محدودة. إن المنافسة لا يمكن أن تلغي كليا إلاّ إذا ألغيت هاتان الظاهرتان في آن معا، أي إذا لم يعد يوجد إلاّ منتج واحد لكل السلع، وإلاّ إذا أصبح السوق مستقرا بشكل مطلق، متخثرا وغير قادر على التوسع. إن معنى ظهور السوق غير المحدود يتوضح تماما بالمقارنة مع عهد الإنتاج السلعي الصغير. إن المنظمات المهنية في القرون الوسطى كانت تعمل من أجل سوق محدود، بصورة عامة، في المدينة وضواحيها المباشرة، وتتبع تقنية في العمل متخثرة ومحددة تماما. إن الانتقال التاريخي من السوق المحدود إلى السوق غير المحدود يوضحه مثل "صناعة الأجواخ الجديدة" في الريف، التي حلت في القرن الخامس عشر محل صناعة الأجواخ القديمة التي كانت قائمة في المدينة. بذلك أصبح لدينا معامل الأجواخ غير مقيدة بقيود النظم الحرفية، دون قيود على الإنتاج، أي دون تقييد على التصريف، تحاول أن تتسلل بحثا عن الزبائن في كل مكان، ليس في الأمكنة المتاخمة لمراكز الإنتاج فقط، بل تحاول تنظيم التصدير حتى إلى بلاد بعيدة جدا. ومن جهة أخرى تسببت الثورة التجارية الكبرى في القرن السادس عشر في انخفاض نسبي في أسعار مجموعة من المنتجات، كانت تعتبر منتجات على جانب عظيم من الترف في القرون الوسطى، ولم يكن يقدر على شرائها سوى جزء قليل من السكان. هذه المنتجات أصبحت فجأة عند حدود تلك الثورة أقل غلاء بكثير، إن لم تكن قد أصبحت في متناول جزء هام من السكان. وأبرز مثال على ذلك هو السكر، الذي هو اليوم مادة شائعة، لا تستغني عنها اليوم بلا شك أسرة أي عامل في فرنسا وأوروبا، ولكنها في القرن الخامس عشر كانت ما تزال تعتبر منتجا بالغ الترف. إنّ مدّاحي الرأسمالية يذكرون دوما بحسنات هذا النظام التي خفضت أسعار مجموعة من المنتجات ووسعت السوق أمامها. إنها حجة صحيحة. إنها مظهر مما يسميه ماركس "المهمة التمدينية لرأس المال". ومن المؤكد أن الأمر يتعلق بظاهرة جدلية ولكنها فعلية، تعمل بحيث وإن تكن قيمة قوة العمل تنزع إلى الانخفاض بسبب أن الصناعة الرأسمالية تنتج بسرعة متزايدة السلع التي تكافئ الأجر، إلاّ أن قيمة قوة العمل هذه تنزع بالمقابل إلى التزايد، لأنها تشمل بصورة متزايدة قيمة جملة من السلع تصبح سلعا ذات استهلاك واسع بين الجماهير، بينما لم تكن في الماضي غير سلع استهلاكية لجزء صغير من السكان. والحق أن كل تاريخ التجارة بين القرن السادس عشر والقرن العشرين هو تاريخ التحول المطرد من تجارة الترف إلى التجارة الجماهيرية، تجارة سلع موجهة لجزء متوسع باطراد من السكان. ولم يتم ربط العالم بمجموعه في سوق حقيقية مفتوحة لكل منتج رأسمالي كبير إلا مع نمو السكك الحديدية، ووسائل الملاحة السريعة، والمواصلات البرقية وسواها. إن مفهوم السوق غير المحدود لا يتضمن إذن التوسع الجغرافي وحسب، بل والتوسع الاقتصادي ونمو القوة الشرائية المتاحة. لنورد مثلا حديثا، إن القفزة السريعة في إنتاج السلع الاستهلاكية المعمِّرة، في الإنتاج الرأسمالي العالمي خلال السنوات الأربع عشر الأخيرة، لم تتحقق أبدا عن طريق التوسع الجغرافي للسوق الرأسمالية، بالعكس فإنها قد اقترنت بتقلص جغرافي في السوق الرأسمالي، إذ خرجت منه مجموعة من البلاد في هذه الفترة. ليس ثمة، أو إذا وجد فعدد قليل، سيارات فرنسية أو إيطالية أو ألمانية أو بريطانية أو يابانية أو أمريكية تصدر إلى الإتحاد السوفييتي أو إلى الصين أو فيتنام أو كوبا أو كوريا الشمالية أو بلاد أوروبا الشرقية. ورغم ذلك فإن هذا التوسع قد تحقق لأن جزءا أكبر بكثير من القوة الشرائية المتاحة، المتزايدة هي أيضا، قد استخدم لشراء السلع الاستهلاكية المعمرة هذه. وليس من قبيل الصدفة أن يقترن هذا التوسع بأزمة زراعية دائمة إلى هذا الحد أو ذاك في البلاد الرأسمالية المتقدمة، حيث لم يقتصر الأمر فقط على عدم حدوث تزايد نسبي في استهلاك جملة من المنتجات الزراعية، بل أخذ هذا الاستهلاك نفسه يتناقص بصورة مطلقة، مثال ذلك استهلاك الخبز والبطاطا والفواكه والتفاح والإجاص، الخ. إن الإنتاج من أجل سوق غير محدود، في ظروف المنافسة، يؤدي إلى تزايد الإنتاج، لأن تزايد الإنتاج يتيح تخفيض أسعار التكلفة ويتيح بالتالي التغلب على المنافس عن طريق البيع بأسعار أقل منه. لا جدال في أن ثمة انخفاضا كبيرا في القيمة قد حدث، إذا نظرنا إلى تطور قيمة كل السلع المنتجة، على مقياس واسع في العالم الرأسمالي، في الأجل الطويل. ثمة بدلة أو سكين أو حداء أو دفتر الطالب – وقيمة هذه الأشياء الآن مقوّمة بساعات ودقائق عمل هي أقل بكثير مما كانت عليه منذ خمسين أو مائة عام. وينبغي بطبيعة الحال مقارنة القيمة الحقيقية في مرحلة الإنتاج لا أسعار البيع التي تشمل إمّا نفقات جسيمة للتوزيع والبيع أو أرباحا مفرطة احتكارية متضخمة. لنأخذ البترول على سبيل المثال، وبخاصة البترول الذي نستخدمه في أوروبا، البترول المصدر من الشرق الأوسط. إن نفقات الإنتاج منخفضة جدا، إذ تبلغ بالكاد 10% من سعر البيع. إن من الثابت في كل الأحوال أن هذا السقوط في القيمة قد حصل فعلا. إن تزايد إنتاجية العمل تعني انخفاض قيمة السلع، لأن هذه يتم صنعها في وقت عمل يتناقص باستمرار. تلك هي الأداة العملية التي تملكها الرأسمالية لتوسيع السوق والتغلب في المنافسة. بأي أسلوب عملي يستطيع الرأسمالي في آن واحد أن يخفض بدرجة كبيرة سعر الكلفة ويزيد بدرجة كبيرة الإنتاج ؟ عن طريق تنمية المكننة، تنمية وسائل الإنتاج،إذن تنمية وسائل الإنتاج الآلية المتزايدة التعقيد باطراد، المحركة أولا بطاقة البخار، ثم بطاقة البترول أو المازوت، وأخيرا بالكهرباء.
5- تزايد التركيب العضوي لرأس المال إن كل الإنتاج الرأسمالي يمكن تمثيله من حيث قيمته بالصيغة التالية: ف + م + ث. إن قيمة كل سلعة تنقسم إلى جزأين: جزء منها يكون قيمة محتفظا بها، وجزء هو قيمة منتجة حديثا. إن لقوة العمل وظيفة مزدوجة وقيمة استعمال مزدوجة: المحافظة على جميع القيم الموجودة لوسائل الإنتاج، من آلات وأبنية، عن طريق دمج جزء من هذه القيمة في الإنتاج الجاري، وخلق قيمة جديدة يكون فائض القيمة، أي الربح، جزءا منها. إن جزءا من هذه القيمة الجديدة يذهب إلى العامل، وهو يمثل مقابل أجره، أمّا الجزء الآخر، فائض القيمة، فيحتكره الرأسمالي بلا مقابل. إننا نرمز إلى مقابل الأجور بـ م، أي رأسمال متغير. لم هو رأسمال ؟ لأن الرأسمالي يسلف فعلا هذه القيمة، فهي إذن جزء من رأسماله، ينفقه قبل أن تتحقق قيمة السلع التي ينتجها العمال المذكورون. ونرمز إلى رأسمال المال الثابت بـ ث. إن رأس المال الثابت هو جزء رأس المال المتحول إلى آلات وأبنية ومواد أولية وسواها. والذي لا يؤدي الإنتاج إلى زيادة قيمته، بل إلى المحافظة عليها وحسب. ونسمي رأس مال متغير م الجزء من رأس المال الذي يشتري به الرأسمالي قوة العمل، لأنه الجزء الوحيد من رأس المال الذي يتيح للرأسمالي زيادة رأسماله بفائض قيمة. ما هو الآن، المنطق الاقتصادي للمنافسة، للاندفاعة نحو زيادة الإنتاجية، للاندفاعة نحو زيادة الوسائل الآلية، عمل الآلات ؟ إن منطق هذه الاندفاعة، أي الاتجاه الأساسي للنظام الرأسمالي هو زيادة أهمية ث ، أهمية رأس المال الثابت بالنسبة إلى مجموع رأس المال. ففي الكسر (ث+م)/ث يتجه ث إلى التزايد، أي أن الجزء من رأس المال المكون من آلات ومواد أولية، لا من أجور، يتجه إلى التزايد بنسبة النمو المتزايد للمكننة، حيث تكره المنافسة الرأسمالي على زيادة إنتاجية العمل أكثر فأكثر. هذا الكسر (ث+م)/ث نسميه التركيب العضوي لرأس المال: فهو إذن العلاقة بين رأس المال الثابت ومجموع رأس المال، ونقول إن هذا التركيب العضوي يتجه إلى التزايد في النظام الرأسمالي. كيف يستطيع الرأسمالي أن يحصل على آلات جديدة؛ ماذا يعني قولنا أن رأس المال الثابت يتزايد باطراد ؟ إن العملية الأساسية للاقتصاد الرأسمالي هي إنتاج فائض القيمة. ولكن ما دام الأمر مقتصرا على إنتاج فائض القيمة، فإن هذا الفائض يبقى مجمدا في سلع، ولا يستطيع الرأسمالي استخدامه. لا يمكن تحويل أحذية لم تبع إلى آلات جديدة، إلى إنتاجية أكبر. إن رجل الصناعة الذي يملك أحذية عليه أن يبيع هذه الأحذية ليستطيع شراء آلات جديدة، إن جزءا من حصيلة البيع سيفيد منه في شراء آلات جديدة، رأس مال ثابت إضافي. وبعبارة أخرى: إن تحقيق فائض القيمة هو شرط تراكم رأس المال، الذي لا يعدوا أن يكون تحويل فائض القيمة إلى رأس مال. إن تحقيق فائض القيمة هو بيع السلع بشروط بحيث يتحقق فعلا فائض القيمة الذي تتضمنه هذه السلع في السوق. إن جمع المشروعات التي تعمل في حدود متوسط إنتاجية المجتمع – التي يقابلها مجموع إنتاجها بالتالي عملا ضروريا اجتماعيا – مفروض فيها أن تحصل عن طريق بيع سلعها على مجموع القيمة وفائض القيمة المنتج في معاملها، دون زيادة أو نقصان. ونحن نعلم مما سبق أن المشروعات ذات الإنتاجية فوق المتوسطة ستحتكر جزءا من فائض القيمة الذي ينتج في مشروعات أخرى، بينما لا تحصل المشروعات التي تعمل بإنتاجية أدنى من متوسط الإنتاجية على جزء من فائض القيمة المنتج في معاملها، بل تتنازل عنه إلى معامل أخرى يرتفع مستواها التكنولوجي. إن تحقيق فائض القيمة يعني إذن بيع السلع بشروط يدفع فيها المشترون فعليا مجموع فائض القيمة الذي ينتجه عمال المعمل الذين صنعوا هذه السلع. فحينما تباع كتلة من السلع التي أنتجت في فترة معينة، يسترد الرأسمالي مبلغا من المال يكون مقابل رأس المال الثابت الذي أنفقه في الإنتاج، أي بما في ذلك المواد الأولية التي استخدمت في هذا الإنتاج وجزء من قيمة الآلات والأبنية التي اهتلكت بهذا الإنتاج. كما أنه يسترد مقابل الأجور التي سلفها لتكون عملية الإنتاج ممكنة. ويحصل فضلا عن ذلك على فائض قيمة أنتجه عماله. ما مصير فائض القيمة هذا ؟ إن جزءا منه يستهلكه الرأسمالي بصورة غير منتجة، لأنه ينبغي على المسكين أن يعيش، ويعيل أسرته وكل من هم حوله، وكل ما ينفقه في هذه الأغراض يسحب كليا من عملية الإنتاج. أمّا الجزء الثاني من فائض القيمة فيراكم، يستخدم ليحول إلى رأس مال. ففائض القيمة المتراكم هو إذن جزء فائض القيمة الذي لم يستهلك بصورة غير منتجة لسد الحاجات الخاصة للطبقة الحاكمة، والذي جرى تحويله إلى رأس مال، سواء أكان رأس مال ثابتا إضافيا، أي كمية (أو بالأحرى قيمة) إضافية من المواد الأولية والأبنية أو رأسمالا متغيرا إضافيا، أي وسائل لاستخدام عدد أكبر من العمال. نستطيع الآن أن نفهم لماذا كان تراكم رأس المال يعني تحويل فائض القيمة إلى رأس مال، أي تحويل جزء كبير من فائض القيمة إلى رأس مال إضافي. كما نفهم كيف أن عملية تزايد التركيب العضوي لرأس المال تمثل سلسلة غير منقطعة من عمليات الرسملة (التحويل إلى رأس مال) أي إنتاج فائض القيمة من قبل العمال، وتحويله من قبل الرأسماليين إلى أبنية وآلات ومواد أولية وعمال إضافيين. ليس صحيحا إذن التأكيد أن الرأسمالي هو الذي يخلق مجال الاستخدام، لأن العامل هو الذي ينتج فائض القيمة، وأن فائض القيمة هذا الذي ينتجه العامل هو الذي يحوله الرأسمالي إلى رأسمال، ويستخدمه بصورة خاصة في استخدام عمال إضافيين. وفي الواقع أن كل كتلة الثروات الثابتة التي نراها في العالم، كل كتلة المعامل والآلات والطرق والسكك الحديدية والمرافئ والحظائر وسواها – كل هذه الكتلة الضخمة من الثروات ليست سوى التجسيد المادي لكتلة من فائض القيمة خلقها العمال من العمل الذي لم يكافأوا عليه وحُوّل إلى ملكية خاصة، إلى رأس مال الرأسماليين، أي أنها برهان ساطع على الاستغلال الدائم الذي تعانيه الطبقة العاملة منذ نشوء المجتمع الرأسمالي. هل يزيد جميع الرأسماليين باطراد آلاتهم ورأسمالهم الثابت والتركيب العضوي لرأسمالهم ؟ لا. إن تزايد التركيب العضوي لرأس المال يتم بصورة تناحرية عبر صراع تنافسي يحكمه هذا القانون الذي توضحه صورة رسمها بيير برويغيل P Brueghel الرسام الكبير في بلدي: كبار السمك يلتهم صغاره. إن صراع المنافسة يقترن إذن بتركز مستمر في رأس المال، بحلول عدد أقل من المنظمين محل عدد أكبر، وتحول عدد من المنظمين المستقلين إلى تقنيين ومديرين وجهاز إداري إن لم يكن إلى مجرد مستخدمين وعمال تابعين.
6- المنافسة تؤدي إلى التركز وإلى الاحتكارات إن تركز رأس المال هو قانون دائم من قوانين المجتمع الرأسمالي، وهو يقترن بانحدار جزء من الطبقة البرجوازية إلى الطبقة البروليتارية، وبمصادرة عدد من البرجوازيين من قبل عدد أقل من البرجوازيين. ولهذا يؤكد "البيان الشيوعي" لماركس وانجلز على واقعة أن الرأسمالية، التي تدعي حماية الملكية الفردية، هي في الواقع المدمر لهذه الملكية الخاصة، وتقوم بمصادرة مستمرة ودائمة لعدد كبير من المالكين من قبل عدد قليل نسبيا من المالكين. إن ثمة فروعا صناعية يبدو فيها هذا التركز صارخا، بشكل خاص في استخراج الفحم، حيث كان يوجد في القرن التاسع عشر مئات من شركات الفحم في بلد كفرنسا(كان في بلجيكا حوالي مائتا شركة)، وصناعة السيارات التي كانت تعد، في مطلع هذا القرن، في بلاد كالولايات المتحدة أو إنجلترا مائة منشأة أو أكثر، تقلصت اليوم إلى أربع أو خمس أو ست منشآت على الأكثر. ثمة صناعات، بكل تأكيد، كان التركز فيها أقل اندفاعا، كصناعة النسيج مثلا، والصناعة الغذائية وسواها. وبصورة عامة، كلما كان التركيب العضوي لرأس المال كبيرا في فرع صناعي، كان التركز أشد قوة، وكلما كان التركيب العضوي لرأس المال أقل ارتفاعا كان تركز رأس المال أضعف، لماذا ؟. كلما كان التركيب العضوي لرأس المال أضعف، كلما قلت الحاجة إلى رؤوس الأموال في البداية للدخول في هذا الفرع وإقامة مشروع جديد فيه. إنه لأسهل كثيرا تجميع خمسين أو مائة مليون فرنك قديم اللازمة لتشييد معمل نسيج جديد من جمع عشرة مليارات أو عشرين مليارا اللازمة لتشييد مجمع الصلب ولو كان صغيرا نسبيا. لقد ولدت الرأسمالية من المنافسة الحرة، ولا يمكن تصور الرأسمالية بدون منافسة. بيد أن المنافسة الحرة تولد التركز، والتركز ينتج نقيض المنافسة الحرة أي الاحتكار. وحيث يوجد عدد قليل من المنتجين، فإن هؤلاء يستطيعون بسهولة التفاهم على حساب المستهلكين عن طريق الاتفاق لتوزيع السوق فيما بينهم، والاتفاق لوقف أي انخفاض في الأسعار. ويبدو أن الديناميكية الرأسمالية كلها قد غيرت طبيعتها خلال قرن من الزمن. كان لدينا في البداية حركة تتجه نحو الانخفاض المستمر في الأسعار عن طريق التزايد المستمر في الإنتاج، وعن طريق التضاعف المستمر لعدد المشروعات. وازدياد حدة المنافسة يفضي اعتبارا من فترة معينة من تركز المشروع إلى تقليص عدد المشروعات التي تستطيع عند ذاك التفاهم فيما بينها على عدم تخفيض الأسعار والتي لا تستطيع احترام مثل هذه الاتفاقات إلاّ بتقييد الإنتاج. بذلك حل عهد رأسمالية الاحتكارات محل رأسمالية المنافسة الحرة بدءا من الربع الأخير للقرن التاسع عشر. لا شك أنه عند الحديث عن رأسمالية الاحتكارات، لا ينبغي قط أن ينصرف الذهن إلى رأسمالية ألغت المنافسة كليا. ذلك أمر لا وجود له. وكل ما نعنيه هو رأسمالية أصبح سلوكها الأساسي مختلفا، أي رأسمالية لا تدفع بعد إلى انخفاض مستمر في الأسعار عن طريق التزايد المستمر في الإنتاج، رأسمالية تستخدم تقنية توزيع السوق وتثبيت الحصص في السوق. بيد أن هذه العملية تنتهي إلى مفارقة. لماذا يعمد الرأسماليون، الذين كانوا يتنافسون في السابق، إلى التفاهم بغية الحد من المنافسة والحد من الإنتاج ؟ لأن هذا وسيلة في يدهم لزيادة أرباحهم. إنهم لا يتفاهمون إلاّ إذا كان التفاهم يدر عليهم مزيدا من الأرباح. إن الحد من الإنتاج، إذ يتيح زيادة الأسعار، يدر مزيدا من الأرباح، ويتيح بالتالي تحقيق تراكم أكبر في رؤوس الأموال. بيد أنه لا يعود ممكنا تثمير رؤوس الأموال هذه في نفس الفرع، لأن تثمير رؤوس الأموال إنما يعني بالذات زيادة الطاقة الإنتاجية، أي زيادة الإنتاج، وبالتالي التسبب في انخفاض الأسعار. لقد وقعت الرأسمالية في هذا التناقض اعتبارا من الربع الأخير للقرن التاسع عشر. إنها تكتسب آنذاك فجأة صفة لم يتوقعها سوى ماركس وحده، وبقيت بعيدة عن فهم اقتصاديين مثل ريكاردو أوآدم سميث: إن نمط الإنتاج الرأسمالي يغير أسلوبه. إنه يأخذ في الانتشار في العالم بأسره عن طريق تصدير رؤوس الأموال، التي تنتج إقامة مشروعات رأسمالية في بلاد أو قطاعات ليس فيها احتكارات بعد. إن النتيجة المترتبة على تحول بعض الفروع إلى احتكارات وعلى توسيع رأسمالية الاحتكارات في بعض البلاد هي توالد نمط الإنتاج الرأسمالي في بعض الفروع التي لم تتحول إلى احتكارات بعد، وفي بعض البلاد التي لم تصبح رأسمالية بعد. وعلى هذا النحو انتشر الاستعمار (الكولونيالية) وكل مظاهره، بسرعة متنامية خلال عقود قليلة من السنين، في جزء صغير من الكرة الأرضية، التي انحصر فيها في السابق نمط الإنتاج الرأسمالي، إلى العالم بأسره حوالي مطلع القرن العشرين. وبذلك تحول كل بلد في العالم إلى منطقة نفوذ وميدان استثمار لرأس المال.
7- نزوع متوسط الربح إلى الانحدار رأينا منذ قليل أن فائض القيمة الذي ينتجه العمال في كل معمل يبقى "مجمدا" في السلعة المنتجة، وان معرفة ما إذا كان فائض القيمة هذا سيتحقق أم لا بالنسبة للرأسمالي مالك المعمل مسألة تفصل فيها ظروف السوق، أي إمكان هذا المعمل بيع سلعه بسعر يتيح له الحصول على فائض القيمة هذا. وفي وسعنا إذا طبقنا قانون القيمة الذي شرحناه هذا الصباح أن نضع القاعدة التالية: إن جميع المشروعات التي تنتج في مستوى متوسط الإنتاجية ستحصل بشكل عام على فائض القيمة الذي أنتجه عمالها، أي أنها ستبيع سلعها بسعر يعادل قيمتها. غير أن هذا لن يكون حال فئتين من المشروعات: المشروعات التي تعمل في مستوى يقل عن مستوى متوسط الإنتاجية، والمشروعات التي تعمل في مستوى يزيد عنه. ما معنى فئة المشروعات التي تعمل دون مستوى متوسط الإنتاجية ؟ إنها ليست سوى تعميم صورة صانع الأحذية الخامل الذي تحدثنا عنه هذا الصباح. إنها، مثلا، مجمع الصلب الذي ينتج 500 ألف طن من الصلب في 2.2 مليون ساعة عمل أو في 2.5 مليون أو 3 ملايين ساعة بينما المتوسط القومي لإنتاجها هو 2 مليون ساعة. إنه يبدد إذن من وقت العمل الاجتماعي. إن فائض القيمة الذي ينتجه عمال هذا المعمل لن يحصل عليه كاملا مالكو هذا المعمل، إنه سيعمل بربح يقل من متوسط ربح كل مشروعات البلد. بيد أن الكتلة الكلية لفائض القيمة في المجتمع هي كتلة ثابتة تتوقف في التحليل الأخير على مجموع ساعات العمل التي يبذلها مجموع العمال الذين يعملون في الإنتاج. إن هذا يعني أنه إذا وجد عدد من المشروعات لا تحصل، لأن إنتاجيتها دون مستوى متوسط الإنتاجية ولأنها بددت من وقت العمل الاجتماعي، على مجموع فائض القيمة الذي أنتجه عمالها، إلاّ أنه يبقى رصيد فائض القيمة المتاح والذي ستستحوذ عليه المعامل التي تعمل فوق مستوى متوسط الإنتاجية، والتي وفرت بالتالي وقت العمل الاجتماعي والتي يكافئها المجتمع لهذا السبب. إن هذا التفسير النظري يساعدنا على تفهم الآليات التي تحدد حركة الأسعار في المجتمع الرأسمالي. ولكن كيف تعمل هذه الآليات من الناحية العملية ؟ ما أن نكف عن تأمل عدة فروع صناعية، لتتوقف عند فرع واحد حتى تصبح الآلية جد بسيطة وشفافة. لنقل إن متوسط سعر مبيع قاطرة يبلغ 50 مليون فرنك قديم. ما الفرق في هذه الحالة بين معمل يعمل دون مستوى متوسط الإنتاجية وآخر يعمل فوق مستوى متوسط الإنتاجية ؟ إن المعمل الأول يكون قد أنفق 49 مليون من أجل إنتاج قاطرة، أي أنه لن يحصل إلاّ على مليون واحد من الأرباح. وبالعكس فإن المشروع الذي يعمل فوق متوسط إنتاجية العمل سينتج القاطرة ذاتها بإنفاق 38 مليون مثلا. إنه سيحصل تبعا لذلك على 12 مليونا من الأرباح أي على 32% من هذا الإنتاج الجاري، بينما متوسط الربح هو 10، أما المشروعات العاملة في متوسط الإنتاجية الاجتماعية للعمل فستنتج القاطرات بسعر الكلفة البالغة 45.5 مليون، ولن تحصل بالتالي إلاّ على 4.5 مليون من الأرباح، أي 10% [3]. وبعبارة أخرى، فان المنافسة الرأسمالية تحابي المشروعات الرائدة تكنولوجيا، فهذه المشروعات تحقق أرباحا إضافية تتجاوز الربح المتوسط. إن متوسط الربح هو في الحقيقة مفهوم مجرد، تماما هو شأن القيمة. إنه متوسط تتراوح حوله معدلات الربح الحقيقية في مختلف الفروع والمشروعات. إن رؤوس الأموال تتدفق نحو الفروع التي تدرّ أرباحا إضافية، وتتحسر عن الفروع التي تكون أرباحها دون المتوسط. وبسبب هذا التدفق والانحسار في رؤوس الأموال من فرع إلى آخر تتجه معدلات الربح إلى الاقتراب من هذا المتوسط، دون أن تبلغه قط بشكل مطلق وآلي. وهاكم الآن كيف يتحقق تساوي معدل الربح. ثمة طريقة جد بسيطة لتحديد متوسط معدل الربح بصورة مجردة: نأخذ مجموع كتلة فائض القيمة التي أنتجها جميع العمال، خلال سنة واحدة مثلا، في بلد معين، وننسبها إلى مجموع كتلة رأس المال المستثمر في هذا البلد. ما هي صيغة الربح ؟ إنها العلاقة بين فائض القيمة ومجموع رأس المال إذن: (ث+م)/ف. وينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار صيغة أخرى: م/ف ترمز إلى معدل فائض القيمة أو معدل استغلال الطبقة العاملة. إنها تحديد الأسلوب الذي نوزع بمقتضاه القيمة المنتجة حديثا بين العمال والرأسماليين. فإذا كانت م/ف مثلا تعادل 100%، فمعنى ذلك أن القيمة المنتجة حديثا تتوزع إلى جزئين متساويين، يكون الجز الأول من نصيب العمال بشكل أجور، والجزء الثاني من نصيب الطبقة البرجوازية بمجموعها بشكل أرباح وفوائد وريع وسواها. وحين يكون معدل استغلال الطبقة العاملة 100%، فإن يوم العمل بثماني ساعات ينقسم إذن إلى جزأين متساويين: 4 ساعات عمل ينتج العمال خلالها ما يقابل أجورهم، و4 ساعات يقدمون خلالها عملا مجانيا، عملا لا يكافئهم عليه الرأسماليون، بل يمتلكون حصيلته. ويبدو للوهلة الأولى أنه إذا كان الكسر (ث+م)/ف يزداد بينما يتزايد التركيب العضوي لرأس المال، وأن ث تصبح أكبر فأكبر بالنسبة لـ م، فإن هذا الكسر يتجه إلى النقصان، مما يعني انخفاض متوسط معدل الربح تبعا لزيادة التركيب العضوي لرأس المال، لأن ف لا تنتج إلاّ من قبل م لا من ث. بيد أن ثمة عاملا يمكن أن يشل أثر تزايد التركيب العضوي لرأس المال: إنه بالذات تزايد معدل فائض القيمة. إذا كان م/ف، أي معدل فائض القيمة يزداد، فمعنى ذلك أن البسط والمقام في الكسر (ث+م)/ف يزدادان كلاهما، وفي هذه الحالة يمكن للكسر في مجمله أن يحتفظ بقيمته، شريطة أن تتحقق الزيادة في كلا الحدين بنسبة معينة. وبعبارة أخرى: إن تزايد معدل فائض القيمة يمكن أن يشل مفاعيل تزايد التركيب العضوي لرأس المال. لنفترض أن الإنتاج ث+م+ف يزداد من 100 ث+100م +100ف إلى 200ث+ 100م +100ف. بدا يكون التركيب العضوي لراس المال قد ازداد من 50 إلى 66%، وانخفض معدل الربح من 50 إلى 33%. ولكن إذا ارتفع فائض القيمة في الوقت ذاته من 100 إلى 150، أي أن معدل فائض القيمة ينتقل من 100 إلى 150% فإن معدل الربح 300/150 يبقى 50%: ان تزايد معدل فائض القيمة قد شل مفعول تزايد التركيب العضوي لرأس المال. هل يمكن لهاتين الحركتين أن تتما تماما بالنسبة اللازمة لتشل إحداهما الأخرى ؟ إننا نلمس هنا نقطة الضعف الأساسية (عقب آخيل) في النظام الرأسمالي، إن هاتين الحركتين لا يمكن أن تتطورا على المدى الطويل بنسبة واحدة، إذ ما من حد لتزايد التركيب العضوي لرأس المال. وفي الحد الأقصى يمكن لـ م أن تنخفض إلى الصفر، عندما نصل إلى الأتمتة الكاملة. فهل يمكن لـ م/ف أن تتزايد أيضا بصورة غير محدودة، دون أي قيد ؟ لا، فلكي يوجد فائض قيمة، لابد من أن يكون ثمة عمال يعملون، وفي هذه الشروط فإن جزء يوم العمل الذي ينتج العامل خلاله ما يعادل أجره لا يمكن أن ينخفض إلى الصفر. يمكن إنقاص ساعات العمل من 8 إلى 7 ساعات، من 7 إلى 6 ساعات، من 6 ساعات إلى خمس ساعات، من خمس ساعات إلى أربعة ساعات، من أربعة ساعات إلى ثلاث ساعات، من ثلاث ساعات إلى ساعتين، من ساعتين إلى ساعة واحدة، إلى خمسين دقيقة. إنها لإنتاجية هائلة تلك التي تتيح للعامل أن ينتج في خمسين دقيقة ما يقابل كل أجره، إلاّ أنه لن يتمكن قط من إنتاج هذا المقابل من أجره في صفر دقيقة، وصفر ثانية. إن ثمة بقية لن يستطيع الاستغلال الإقتصادي قط أن يلغيها. مما يعني أن انهيار متوسط معدل الربح أمر محتوم مع الزمن، واعتقد شخصيا، خلافا لعدد لا بأس به من النظريين الماركسيين، أن هذا الانهيار أمر يمكن البرهنة عليه بالأرقام، بمعنى أن متوسط معدلات الربح في البلاد الرأسمالية الكبيرة هي اليوم أدنى بكثير مما كانت عليه منذ خمسين أو مائة أو مائة وخمسين عام. صحيح أننا إذا تأملنا فترات أقصر نجد حركات باتجاه مختلف. ذلك ان ثمة عوامل عديدة تلعب دورها (سنتحدث عنها صباح غذ عندما نتحدث عن الرأسمالية الجديدة). غير أن الحركة جد واضحة في الفترات الأكثر امتدادا، سواء في ذلك معدل الفائدة أو معدل الربح. وينبغي أن نذكر أصلا أن اتجاه التطور هذا كان هو أكثر اتجاهات تطور الرأسمالية وضوحا في نظر النظريين الرأسماليين أنفسهم. فريكاردو يتحدث عنه، وجون ستيوارت ميل يلح عليه وكينز شديد الحساسية بالنسبة له. لقد كان في إنجلترا في أواخر القرن التاسع عشر ما يشبه المثل الشعبي: إن الرأسمالية تستطيع تحمل كل شيء، إلاّ انهيار متوسط معدل الفائدة إلى 2%، لأنه يلغي الحافز إلى التثمير. من الواضح أن هذا القول السائر ينطوي على شيء من الخطأ في المحاكمة. إن لحساب النسب المئوية، ومعدلات الربح، قيمة حقيقية، إلاّ أنها قيم نسبية في النهاية بالنسبة للرأسمالي. إن ما يهمه ليس النسبة التي يربحها من رأسماله وحسب، بل هي كذلك مجموع المبلغ الذي يربحه. ولئن كانت نسبة 2% نسبة لا إلى 100 ألف بل إلى 100 مليون، فإنها تبقى مع ذلك تمثل 2 مليون، وسيفكر الرأسمالي عشر مرات قبل أن يقول أنه يؤثر أن يجمد رأسماله، بدلا من أن يكتفي بهذا الربح التافه الذي لا يتجاوز 2 مليون في السنة. ولذلك لم نشهد في فرع من فروع الصناعة توقفا كليا في نشاط الاستثمار نتيجة انهيار معدل الربح والفائدة، بل بالأحرى تباطؤا يتزايد كلما تدنى معدل الربح. وبالعكس ففي الفروع الصناعية أو في الفترات التي تتسم بتوسع أسرع ويتجه فيها معدل الربح إلى التزايد فإن نشاط الاستثمار يسترد اندفاعه وبتسارع، وعند ذاك يبدو بأن الحركة تستمد عزمها من ذاتها. ويبدو أن هذا التوسع يجري بلا حدود إلى أن ينقلب الاتجاه من جديد.
8- التناقض الأساسي في النظام الرأسمالي وأزمات فرط الإنتاج الدورية ثمة اتجاه في الرأسمالية إلى أن توسع الإنتاج بلا حدود، إلى أن توسع دائرة نشاطها ليشمل العالم بأسره، إلى اعتبار كل الكائنات البشرية كزبائن محتملين (ثمة تناقض طريف يحسن الإشارة إليه، وقد تحدث عنه ماركس من قبل: إن كل رأسمالي يرغب دوما في أن يزيد الرأسماليون الآخرون أجورهم، لأن أجور هؤلاء العمال هي قوة شرائية لسلع الرأسمالي المنوه عنه. بيد أنه لا يقبل أن تزداد أجور عماله هو لأن هذا ينقص كما هو واضح أرباحه الخاصة). فثمة ترابط بنيوي عجيب للعالم الذي يصبح وحدة اقتصادية، مع ترابط شديد الحساسية بين مختلف أطرافه. وتعرفون جميعا الدعايات التي استخدمت في هذا الشأن: لئن عطس فرد في بورصة نيو يورك، فمعنى ذلك خراب عشرة آلاف فلاح في ماليزيا. إن الرأسمالية تنشئ ترابطا عجيبا بين الدخول وتوحيدا في أذواق البشر جميعا، إن الإنسان يصبح فجأة واعيا لغنى الإمكانيات البشرية، بعد أن كان في المجتمع السابق للرأسمالية سجين الإمكانات الطبيعية المحدودة لمنطقة واحدة. في القرون الوسطى لم تكن أوروبا تأكل الأناناس، لم يكونوا يأكلون إلاّ الفواكه المحلية. أمّا الآن فيأكلون، عمليا، الفواكه التي تنتج في العالم بأسره. بل أخذوا يقدمون الآن حتى على أكل فواكه الصين والهند التي لم يكونوا قد ألفوها قبل الحرب العالمية الثانية. إن ثمة روابط متبادلة تقوم بين جميع المنتجات وجميع البشر. وبعبارة أخرى فإن الحياة الاقتصادية كلها تتسم بطابع اجتماعي متزايد إذ تصبح كلا واحدا، نسيجا واحدا. ولكن ببساطة فإن حركة الترابط هذه تتمحور كلها بشكل جنوني على المصلحة الخاصة والتملك الخاص لعدد صغير من الرأسماليين، تتناقض مصالحهم الخاصة بصورة متزايدة مع مصالح مليارات الكائنات البشرية التي ينتظمها هذا الكل الواحد. وفي أزمات اقتصادية يتفجر بأجلى صوره التناقض بين الطابع الاجتماعي المتنامي للإنتاج والتملك الفردي الذي هو منه بمثابة المحرك والأساس، ذلك أن الأزمات الإقتصادية ظاهرات رهيبة مما لم يشهد لها مثيل من قبل. إنها ليست أزمات ندرة، قلة، كما كان شأن جميع الأزمات السابقة للرأسمالية، إنها أزمات فرط إنتاج. إن العاطلين يموتون فجأة من الجوع لا لأن الأكل المتاح لهم أقل بكثير مما يجب، بل لأنه يوجد نسبيا من المنتوجات الغذائية أكثر مما ينبغي. قد يبدو هذا، للوهلة الأولى، أمرا يستعصي على الفهم، إذ كيف يمكن للمرء أن يموت جوعا بسبب وجود وفرة من الغداء، وفرة من السلع ؟ إن آلية النظام الرأسمالي تتيح لنا فهم هذه المفارقة الظاهرية. إن السلع التي لا تجد مشتريا لها، لا تحقق فائض القيمة منها، بل إنها لا تعيد تكوين (تجديد) رأس المال المستثمر فيها. إن قلة البيع تجبر المنظمين إذن على إغلاق أبواب مشروعاتهم. وهم مضطرون إذن إلى تسريح عمالهم. وما دام هؤلاء العمال المسرحون لا يملكون احتياطيات، لأنهم لا يستطيعون الاستمرار في العيش إلاّ إذا باعوا قدرتهم على العمل، فإن البطالة تحكم عليهم بالبؤس الشديد، بالذات لأن الوفرة النسبية في السلع قد سببت عدم بيعها. إن واقعة الأزمات الاقتصادية الدورية كامنة في النظام الرأسمالي، ولم يستطع التغلب عليها بعد. وسنرى بعد قليل أن هذا يبقى صحيحا في نظام الرأسمالية الجديدة التي نعيش في عهده الآن، حتى لو سمينا هذه الأزمات « فترات ركود ». إن الأزمات هي أوضح تعبير (تجلٍّ) عن التناقض الأساسي في النظام، والتذكير الدوري بأنه محكوم عليه بالموت عاجلا أو آجلا. بيد أنه لن يموت أبدا بصورة آلية. ولا بد دوما من إعطائه دفعة صغيرة واعية للإجهاز عليه نهائيا. وهذه مهمتنا نحن، الحركة العمالية.
لقد عدلت الأزمة الاقتصادية الكبرى لعام 1929 بصورة أساسية موقف البرجوازية ومنظريها من الدولة أولا، ثم عدلت موقف هذه البرجوازية ذاتها من مستقبل نظامها. منذ سنوات مضت جرت في الولايات المتحدة محاكمة انطوت على فضيحة، هي محاكمة « ألغير هيس » الذي كان نائبا لوزير خارجية الولايات المتحدة أثناء الحرب. في هذه المحاكمة أدلى صحفي يعمل في مؤسسة « لومي » اسمه « شمبرز » وهو من أصدقاء هيس الحميمين، بشهادة رئيسية ضد هيس، إذ إتهمه بأنه كان شيوعيا، وأنه سرق وثائق من وزارة الخارجية وأنه نقلها إلى الإتحاد السوفياتي. شمبرز هذا، الذي كان رجلا عصابيا نوعا ما، والذي أنهى حياته المهنية كمحرر الصفحة الدينية في المجلة الأسبوعية « التايم » بعد أن كان شيوعيا خلال عشر سنوات من حياته، ألف كتابا ضخما عنوانه « شاهد ». في هذا الكتاب توجد فقرة تتحدث تقريبا كما يلي عن فترة 1929-1939: « في أوروبا العمال اشتراكيون والبرجوازيون محافظون، أما في أمريكا فالطبقات المتوسطة محافظة، والعمال ديموقراطيون، والبرجوازيون شيوعيون ». إنه لمن السخف أن نصور الأمور بهذا الشكل المتطرف. غير أنه ما من شك في أن عام 1929 والفترة التي تلت الأزمة الاقتصادية الكبرى 1929-1932، كانت تجربة دامية بالنسبة للبرجوازية الأمريكية، وهي برجوازية كانت الوحيدة، بين كل الطبقات الرأسمالية العالمية، المفعمة بثقة كلية عمياء بمستقبل نظام « المشروع الحر ». وتلقت صدمة رهيبة أثناء أزمة 1929-1932، كانت بحق بالنسبة للمجتمع الأمريكي بداية وعي المسألة الإجتماعية وطرح النظام الرأسمالي موضع تساؤل، وهي تقابل بشكل عام الفترة التي كانت أوروبا قد عاشتها عند ولادة الحركة العمالية الإشتراكية في فترة 1865-1890 في القرن الأخير. هذا التساؤل حول النظام الرأسمالي قد اتخذ بالنسبة للبرجوازية أشكالا متباينة على الصعيد العالمي. فقد اتخذ شكل محاولة تدعيم الرأسمالية عن طريق الفاشية ومختلف التجارب الديكتاتورية في بعض بلاد أوروبا الغربية والوسطى والجنوبية. واتخذ شكلا أقل عنفا في الولايات المتحدة، في هذا المجتمع الأمريكي لأعوام 1932-1940 الذي ارتسمت فيه مسبقا ملامح ما يسمى اليوم بالرأسمالية الجديدة. لماذا كانت السمة الأساسية للرأسمالية الجديدة بالأحرى سمة « إسترخاء مثالي » للتوترات الإجتماعية، وليس التجربة الفاشية منتشرة معممة ؟ لقد كان النظام الفاشي نظام أزمة اجتماعية واقتصادية وسياسية بلغت حدها الأقصى، وتوتر حاد جدا في العلاقات بين الطبقات، نجم في التحليل الأخير عن فترة طويلة من الركود الاقتصادي، إنعدم فيها أو كاد هامش المناقشة والمفاوضة بين الطبقة العاملة والبرجوازية. كان النظام الرأسمالي قد أصبح لا يتلاءم مع استمرار حركة عمالية مستقلة إلى هذا الحد أو ذاك. يمكننا أن نميز، في تاريخ الرأسمالية، إلى جانب الأزمات الدورية، التي تقع كل خمس سنوات أو سبع أو عشر سنوات، دورات طويلة المدى، تحدث عنها لأول مرة الاقتصادي الروسي كوندراتييف، ويمكن أن نسميها موجات طويلة المدى تتراوح من 25 إلى 30 سنة. إن موجة طويلة المدى تتسم بمعدلات مرتفعة في النمو تعقبها موجة طويلة المدى تتسم بمعدل نمو أدنى. ويبدو لي واضحا أن الفترة الواقعة بين 1913 و1940 كانت واحدة من هذه الموجات الطويلة المدى من ركود الإنتاج الرأسمالي، واتسمت كل الأزمات التي تعاقبت خلالها، من أزمة 1913 إلى أزمة 1920، من أزمة 1920 إلى أزمة 1929، من أزمة 1929 إلى أزمة 1938، بكونها أزمات كساد قاسية بشكل خاص بحكم أن الاتجاه الطويل المدى كان اتجاه ركود. إن الدورة الطويلة المدى التي بدأت مع الحرب العالمية الثانية والتي ما نزال نعيش فيها – ولنقل دورة 1940-1965 أو 1940-1970 – اتسمت بالعكس بالازدهار (التوسع)، وبسببه اتسع هامش المفاوضة والمناقشة بين البرجوازية والطبقة العاملة. وهكذا وجدت إمكانية تدعيم النظام على أساس تنازلات مُنحت للعمال، وهي سياسة اتبعت على مقياس دولي في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وقد تتبع في المستقبل حتى في بلاد متعددة من أوروبا الجنوبية، وهذه السياسة هي سياسة الرأسمالية الجديدة، التي تقوم على تعاون وثيق نوعا ما بين البرجوازية الصاعدة والقوى المحافظة في الحركة العمالية، أساسه وجود نزوع لرفع مستوى معيشة العمال. بيد أن خليفة هذا التطور هي وضع النظام موضع التساؤل، والشك في مستقبل النظام الرأسمالي، ولم يعد هذا الموضوع مثار جدل محتمل. إن سائر الشرائح القادرة على التقرير والبت من البرجوازية تسيطر عليها الآن القناعة العميقة بأن آلية الإقتصاد ذاتها، إن « آليات السوق »، عاجزة عن تأمين استمرار النظام، وأنه لا يمكن الركون إلى السير الداخلي الآلي للاقتصاد الرأسمالي، وأن لابد لإنقاذ هذا النظام من تدخل واع يتزايد اتساعه وانتظامه ومنهجيته باطراد. وبقدر ما تفقد البرجوازية الثقة في قدرة الآلية الأوتوماتيكية للاقتصاد الرأسمالي على إبقاء هذا النظام، بقدر ما تحس بضرورة تدخل قوة أخرى لانقاذ هذا النظام على المدى الطويل، وهذه القوة الأخرى هي الدولة. إن الرأسمالية الجديدة تتصف قبل كل شيء بتدخل متزايد من قبل السلطات العامة في الحياة الاقتصادية. ومن هذه الزاوية فإن تجربة الرأسمالية الجديدة الراهنة في أوروبا الغربية لا تعدو أن تكون امتدادا لتجربة روزفيلت في الولايات المتحدة. غير أنه لابد لفهم أصول الرأسمالية الجديدة من أن نأخذ بعين الاعتبار عاملا ثانيا يفسر تدخل الدولة المتزايد في الحياة الإقتصادية، وهو الحرب الباردة، أو بصورة أعم التحدي الذي أطلقه مجموع القوى المعادية للرأسمالية ضد الرأسمالية العالمية. إن مناخ التحدي هذا يجعل احتمال أزمة جديدة اقتصادية خطيرة من نوع أزمة 1929-1933 أمرا لا يمكن احتماله. وحسبنا أن نتصور ما يمكن أن يحصل في ألمانيا لو وجد خمسة ملايين عاطل في جمهورية ألمانيا الاتحادية، لندرك أسباب هذه الاستحالة من وجهة النظر السياسية. ولهذا كان تدخل السلطات العامة في الحياة الاقتصادية للبلاد الرأسمالية موجها قبل كل شيء ضد التقلبات، أو إذا شئنا ضد الأزمات.
لنتوقف لحظة عند هذه الظاهرة التي لا يمكن بدونها فهم الرأسمالية الجديدة المشخصة التي نعرفها منذ خمسة عشر عاما في أوروبا الغربية، وهي ظاهرة التوسع على المدى الطويل. ينبغي أن نتذكر، لفهم هذه الظاهرة ولفهم أسباب هذه الموجة الطويلة المدى التي بدأت مع الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة، ينبغي أن نتذكر أننا نجد دوما في معظم الدورات التوسعية الأخرى، التي شهدناها في تاريخ الرأسمالية، نفس الثابتة Constante، ألا وهي الثورات التقنية. ليس من قبيل الصدفة أن موجة توسع من هذا النوع قد سبقت فترة الركود والأزمة التي امتدت من 1913 إلى 1940. إن هذه الفترة في تاريخ الرأسمالية، فترة أواخر القرن التاسع عشر، كانت فترة سلم تام، لم تحدث خلالها، أو لم تحدث تقريبا، حرب، باستثناء الحروب الاستعمارية، وبوشر خلالها بتطبيق جملة بكاملها في الأبحاث والاكتشافات التقنية التي تم الوصول إليها في المرحلة السابقة. بل إننا نشهد في فترة التوسع التي نعيشها حاليا، عملية تسارع في التقدم التقني، عملية ثورة تقنية حقيقية، حتى اصطلاح الثورة الصناعية الثانية أو الثالثة عليها ليس مطابقا تماما لحقيقتها. والحقيقة إننا أمام تحول يكاد أن يكون غير منقطع في تقنيات الإنتاج، وهذه الظاهرة ما هي إلاّ نتاج فرعي للسياق نحو التسلح الدائم، وللحرب الباردة التي فرضت علينا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وفعلا فإننا إذا تفحصنا بانتباه 99% من التحولات التي أصابت التقنيات المطبقة الإنتاج، نجد أن منشأها عسكري، إذن فأنتم ترون أننا إزاء نواتج، فرعية للتقنيات الجديدة التي تطبق الأول على الصعيد العسكري، وتجد من ثم بعد فترة تطول أو تقصر، تطبيقا لها على الصعيد الإنتاجي، بقدر ما تصبح في متناول الجميع. هذه الواقعة صحيحة بحيث يستخدمها اليوم في فرنسا حجة رئيسية أنصار القوة الضاربة الفرنسية، الذين يقولون أن فرنسا إذا لم تبن هذه القوة الضاربة فإنها لن تعرف التقنية التي ستقرر خلال خمس عشر أو عشرين عاما جزءا هاما من الأساليب الإنتاجية الصناعية، أي كل النواتج الفرعية للتقنيات الذرية والتقنيات المرتبطة بها على الصعيد الصناعي. لن أجادل هنا حول هذه النظرية التي أعتبرها غير مقبولة أصلا، كل ما أريد إبرازه هو أنها تؤكد بشكل "متطرف" تماما أن معظم الثورات التقنية التي نشهدها في مجال الصناعة والتقنية الإنتاجية بشكل عام هي نتاجات فرعية الثورات التقنية في المجال العسكري. وبقدر ما تستمر الحرب الباردة الدائمة، تتسم بالبحث الدائب عن تحويل تقني في مجال التسليح، فإننا نجد عاملا جديدا ومصدرا فوق اقتصادي إذا صح التعبير يغذي التحولات المستمرة في التقنية الإنتاجية. في الماضي حين لم يكن من وجود لهذا الإستقلال في البحث التقني، حين كان البحث التقني من شأن المنشآت الصناعية أساسا، كان ثمة سبب رئيسي لتحديد سير دوري لهذا البحث، كان يقال: ينبغي الآن التباطؤ في الاختراعات، لأن لدينا منشئات مكلفة جدا، وينبغي البدء بإطفاء كلفها، ينبغي أن تصبح مجزية، ولن نغطي تكاليف تأسيسها قبل الانطلاق في مرحلة جديدة من التحويل التقني. إن هذا صحيح، بحيث إن ثمة اقتصاديين، من أمثال شومبيتر، قد أقاموا تفسيرهم الأساسي لتعاقب موجات التوسع طويل المدى، أو موجات الركود طويلة المدى، على هذا النسق الدوري للثورات التقنية. إن هذا الحافز الاقتصادي لا يؤثر اليوم بنفس الشكل. فعلى الصعيد العسكري ليس ثمة سبب مقبول لوقف البحث أسلحة جديدة. بالعكس ثمة خطر دائم في أن يحد الخصم سلاحا جديدا قبل أن نصل نحن إليه. فهناك إذن حافز حقيقي للبحث الدائم، بلا انقطاع، وعمليا دون اعتبار العامل الاقتصادي (على الأقل فيما يخص الولايات المتحدة). مما يعني أننا نشهد مرحلة تحويل تقني غير منقطع حقا في مجال الإنتاج. وليس عليكم إلاّ أن تعيدوا إلى أذهانكم ما جرى خلال فترة الـ10-15 سنة الماضية حتى يبرز أمامكم هذا التحول، هذه الثورة التقنية غير المنقطعة: بدءا من تحرير الطاقة الذرية، وعبر الأتمتة، ونحو الآلات الحاسبة الإليكترونية، والتمنمة la miniatirisation ، وأشعة ليزر، ومجموعة أخرى من الظاهرات. بيد أن الحديث عن الثورة التقنية غير المنقطعة، هو حديث عن اختصار (اختزال)، عن تقصير فترة تجديد رأس المال الثابت. وهذا يفسر لنا توسع على المقياس العالمي، وهو يتحدد أساسا – شأنه شأن كل توسع طويل المدى في النظام الرأسمالي – بحجم الاستثمارات الثابتة، كما يفسر لنا تقصير مدة الدورة الاقتصادية الأساسية، مدة تحددها هي أيضا مدة عمل رأس المال الثابت. ويقدر ما يتجدد رأس المال الثابت هذا بتنسيق متسارع فإن مدة الدورة تقصر هي أيضا. لم نعد نواجه أزمات كل سبع أو عشر سنوات، غير أننا نواجه فترات ركود كل 4-5 سنوات، أي أننا دخلنا مرحلة تتعاقب فيها الدورات بسرعة أكبر ولمدة أقصر بكثير من الدورات السابقة لمرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية. وأخيرا، في ختام هذا التحليل للشروط التي تنمو فيها الرأسمالية الجديدة المعاصرة، فقد حدث تغير هام نوعا ما، على مقياس العالم، في الشروط التي توجد فيها وتنمو الرأسمالية. فهناك من جهة توع المعسكر المسمى اشتراكيا، وهناك من جهة أخرى ثورة المستعمرات. ولئن كانت حصيلة تعزيز المعسكر المسمى اشتراكيا هي فعليا خسارة من وجهة نظر الرأسمالية العالمية – يمكن القول خسارة مواد أولية، وجسارة منافذ التصريف، خسارة في جميع المستويات – فإن حصيلة ثورة المستعمرات – مهما بدا في ذلك من المفارقة – ليست بخسارة جوهرية لحقت بالعالم الرأسمالي. بل بالعكس، فإن أحد العوامل المتلازمة التي تفسر ضخامة التوسع الإقتصادي للبلاد الإمبريالية، الذي نشهده في هذه المرحلة، هو أن ثورة المستعمرات – (الثورة الكولونيالية) بالقدر الذي تستمر في إطار السوق العالمية الرأسمالية (باستثناء حالة نشوء دول حديثة اشتراكية) تشكل حافزا لإنتاج وتصدير سلع التجهيز ومنتجات الصناعة الثقيلة من قبل البلدان الإمبريالية. أي أن تصنيع البلاد المتخلفة، الكولونيالية الجيدة، ونمو برجوازية جديدة في البلاد الكولونيالية، هو دعامة أخرى، إلى جانب الثورة التقنية، للاتجاه التوسعي طويل المدى للبلدان الرأسمالية المتقدمة، إذ تترتب عليها في النهاية نفس النتائج، فتفضي هي أيضا إلى تزايد لنتاج الصناعات الثقيلة وصناعات التشييد الميكانيكي وصناعة مصانع الآلات. إن جزءا من هذه الآلات يستخدم من أجل التجديد المتسارع لرأس المال الثابت في البلاد الرأسمالية المتقدمة، في حين أن الجزء الآخر يستخدم في تصنيع، في تجهيز البلاد المتخلفة المستقلة حديثا. على هذا النحو نستطيع إدراك خلفية تجربة الرأسمالية الجديدة هذه التي نعيشها، خلفية توسع طويل المدى للرأسمالية، فترة أعتقد أنها محدودة في الزمن، شأنها شـأن الفترات المماثلة في الماضي (لا أعتقد أبدا أن فترة التوسع هذه ستستمر إلى ما لا نهاية وأن الرأسمالية قد وجدت الحجر السحرية التي تمكنها من توقي لا الأزمات وحسب، بل وتعاقب الدورات الطويلة المدى من توسع وركود نسبي) هي التي تطرح أمام الحركة العمالية في أوروبا الغربية المشكلات الخاصة بهذا التوسع. ولنتساءل الآن عن الخصائص الأساسية لتدخل السلطات العامة في الإقتصاد الرأسمالي ؟
إن الظاهرة الموضوعية الأولى التي تسهل إلى حد يعيد تدخل السلطات العامة بشكل متزايد في الحياة الإقتصادية للبلاد الرأسمالية، هي دوام الحرب الباردة، واستمرار سياق التسلح إذ أن من يقول بدوام الحرب الباردة، واستمرار سياق التسلح، واستمرار موازنة عسكرية مرتفعة جدا، إنما يقول رقابة الدولة على جزء هام من الدخول القومي. وإذا قارنا اقتصاد سائر البلاد الرأسمالية المتقدمة في الوقت الراهن باقتصاد تلك الدول الرأسمالية كلها لما قبل الحرب العالمية الأولى، فإننا نلاحظ مباشرة التغيير البنيوي الهام جدا الذي حصل، بصرف النظر عن أي اعتبار نظري أو أي بحث نظري، إنه نتيجة تضخم الميزانية العسكرية التي لم تكن تلهم فبل 1914 أكثر من 5%، 6%، 4%، 7%، من الدخول القومي، بينما تمثل في ميزانية الدول الرأسمالية المعاصرة 15%، 20%، 25%، بل وفي حالات معينة 30% من الدخل القومي. وهكذا منذ البدء، وبصرف النظر عن أي اعتبار على صعيد نذهب التدخل الإقتصادي، فإن الدولة تراقب إذن، بحكم تضخم نفقات التسلح الدائم، جزءا هاما من الدخل القومي. لقد ذكرت أن هذه الحرب الباردة ستستمر فترة طويلة. إنني مقتنع بذلك شخصيا إنها مستمرة لأن التناقض الطبقي بين المعسكرين المتواجهين على المقياس العالمي مستمر، لأنه ما من سبب منطقي يمكن أن يستشف منه، في أجل قصير أو متوسط، نزع سلاح طوعي تقوم به البرجوازية الدولية أمام الخصوم الذين تواجههم على المقياس العالمي، أو إتفاقا بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة يتيح فجأة تخفيض نفقات التسلح هذه بنسبة النصف أو الثلثين أو ثلاثة أرباع. إننا ننطلق إذن من هنا: نفقات تسلح دائمة، تتجه إلى التزايد حجما وأهمية بالنسبة للدخل القومي، أو أني الثبات على الأقل، أي أن تزيد بنسبة التوسع المستمر للدخل القومي في هذه المرحلة. وبحكم هذا التوسع والنفقات العسكرية يتضح المركز الهام الذي تحتله السلطات العامة في الحياة الإقتصادية. لعلكم اطلعتم على المقال الذي نشره "بيير نافيل" في "المجلة الماركسية الجديدة" منذ سنوات. لقد أثبت فيه مجموعة من الأرقام قدمها مقرر الميزانية (الفرنسية) عام 1956، تدل على الأهمية العملية للنفقات العسكرية لمجموع صناعات فرع صناعي. إن هناك فروعا صناعية عديدة من أهم الفروع، منها الفروع "الرائدة" التقدم، تعمل بشكل أساسي لتلبية طلبات الدولة، ويحكم عليها بالموت السريع إذا إنعدمت طلبات الدولة هذه: الملاحة الجوية، الإليكترون، البناء البحري، المواصلات السلكية بل والهندسة المدنية، دون أن ننسى الصناعة الذرية. ولا يختلف الأمر عن ذلك في الولايات المتحدة، ولكن بما أن الفروع الرائدة فيها هي أكثر تطورا، والاقتصاد الأمريكي أكثر اتساعا، لذا فإن اقتصاد مناطق بكاملها يتمحور على هذه الفروع. ويمكن القول أن كاليفورنيا، وهي أكبر الولايات توسعا، تعيش إلى حد كبير على الميزانية العسكرية للولايات المتحدة. وإذا كان على هذا البلد أن ينزع سلاحه ويبقى رأسماليا فإن ذلك يعني كارثة لولاية كاليفورنيا التي تقوم فيها صناعة الصواريخ وصناعة الطيران العسكري والصناعة الإليكترونية. ولا حاجة بنا لرسم لوحة لتوضيح النتائج السياسية لمثل هذا الوضع الخاص على موقف السياسيين البرجوازيين في كاليفورنيا. إنكم لن تجدوهم أبدا في طليعة المناضلين من أجل نزع السلاح ! وظاهرة ثانية تبدو للوهلة الأولى متناقضة مع الأولى: توسع ما يسمى بالنفقات الإجتماعية، لكل ما يتصل عن قريب أو بعيد بالتأمينات الإجتماعية، وهي نفقات ترتفع باستمرار في الميزانيات العامة بشكل عام، وبخاصة في الدخل القومي، منذ 25-30 عاما.
4- كيف "تُطلق" الأزمات وتُحول إلى ركود ؟ إن تزايد التأمينات الإجتماعية ينجم عن ظواهر متلازمة عديدة. هناك أولا ضغط الحركة العمالية، التي تنشد على الدوام تخفيف واحدة من أبرز خصائص الوضع البروليتاري: عدم استقرار المعيشة. فما دامت قيمة قوة العمل لا تغطي على العموم إلاّ الحاجات المتعلقة بتجديدها الجاري، فإن أي انقطاع (توقف) في بيع قوة العمل هذه، بمعنى أي حادث يمنع العامل من العمل بشكل عادي – البطالة أو المرض أو العجز والشيخوخة – يلقى بالعامل في هاوية البؤس. في بداية النظام الرأسمالي لم يكن العامل بلا عمل يستطيع أن يتوجه، عندما يعاني ضيقا، إلاّ إلى "الإحسان"، الإحسان الخاص أو العام، مع نتائج مادية ضئيلة تقترن بجرح رهيب لكرامته الإنسانية. وشيئا فشيئا فرضت الحركة العمالية مبدأ "التأمينات الإجتماعية" الطوعي أولا، ثم الإلزامية، ضد طوارئ القدر: تأمين ضد المرض، تأمين ضد البطالة، تأمين الشيخوخة. وانتهى هذا النضال أخيرا إلى مبدأ "الضمان الإجتماعي" الذي يفترض فيه نظريا أن يغطي العامل المأجور ضد كل خسارة في الأجر الجاري. وفي ذلك أيضا نوع من المصلحة للدولة. إن الصناديق التي تتجمع فيها المبالغ الهامة التي تستخدم لتمويل هذا الضمان الاجتماعي غالبا ما تملك رؤوس أموال سائلة هامة. ويمكنها أن توظف رؤوس الأموال هذه في خزينة الدولة، أي إقراضها للدولة (مبدئيا لأجل قصير). وقد طبق النظام النازي هذا النظام، ومنه انتشر إلى أغلب البلاد الرأسمالية. وفضلا عن ذلك فإن التضخم المتزايد الأهمية لأموال الضمان الإجتماعي هذه أفضى إلى وضع خاص يطرح على الحركة العمالية مسألة نظرية وعملية. إن الحركة العمالية تعتبر بحق أن مجموع الأموال المدفوعة إلى الضمان الإجتماعي – سواء من قبل أرباب العمل أو المحسومة من أجور العمال أنفسهم – يكون مجرد جزء من الأجر، "أجر غير مباشر" أو "أجر مؤجل". وهذه هي وحدها وجهة النظر المعقولة، التي تتمشى كذلك مع النظرية الماركسية في القيمة، إذ ينبغي أن نعتبر كثمن لقوة العمل مجموع المكافأة التي ينالها العامل مقابل قوة عمله، ولا يهمنا في شيء إن تدفع له فورا (الأجرة المباشرة)، أو بعد (أجر مؤجل). لهذا السبب ينبغي اعتبار الإدارة المشتركة الدائمة على المساواة والتمثيل (نقابات – أرباب عمل أو نقابات – دولة) لصناديق الضمان الإجتماعي انتهاكا لحق من حقوق العمال. فما دامت أموال هذه الصناديق ملكا للعمال وحدهم، فإن أي تدخل من قوى اجتماعية غير النقابات ينبغي رفضها. ينبغي على العمال أن لا يقبلوا بعد اليوم بـ"الإدارة المشتركة" لأجورهم، كما لا يقبل الرأسماليون بالإدارة المشتركة لحساباتهم في المصارف… بيد أن تضخم المبالغ المدفوعة للضمان الإجتماعي أدى إلى إيجاد نوع من "التوتر" بين الأجر المباشر والأجر المؤجل، إذ بلغ هذا الأخير أحيانا 40% من مجموع الأجر. إن أوساطا نقابية عديدة تعارض في أية زيادة جديدة في "الأجور المؤجلة" وتريد أن تحصر أية فائدة جديدة في الأجر المباشر وحده الذي يتلقاه العامل. ولكن علينا أن نفهم أن وراء واقعية "الأجر المؤجل" و"الضمان الإجتماعي" يختفي مبدأ التضامن الطبقي. وفعلا فإن صناديق المرض والطوارئ العمل، الخ، لا يقوم على مبدأ "الإسترداد الفردي" (بمعنى أن يسترد كل واحد في النهاية كل ما دفعه أو ما دفعه رب العمل أو الدولة من أجله) بل على مبدأ الضمان، أي المتوسط الحسابي للمخاطر. أي مبدأ التضامن: أن يدفع أولئك الذين لم يتعرضوا للطوارئ لكي يتمكن من تعرضوا للطوارئ من تغطية إنفاقهم كله. إن المبدأ الذي يكمن وراء هذا التعامل هو مبدأ التضامن الطبقي، أي مصلحة العمال في توقي قيام بروليتاريا دنيا sous-proletariat، لا تضعف نضال كتلة الشغيلة فحسب (إذ يخشى كل فرد أن يهوي آجلا أم عاجلا إلى صف البروليتاريا الدنيا) بل وتهدد بمنافستها وبالضغط على الأجور أيضا. في هذه الظروف ينبغي علينا بدلا من أن نشكو من التضخم "المفرط" في الأجر المؤجل، ان نكشف قصوره الصارخ، بحيث أن معظم العمال الشيوخ يشهدون، حتى في أكثر البلاد الرأسمالية ازدهارا، إنهيارا مريعا في مستوى حياتهم. إن الرد الفعال على مسألة "التوتر" بين الأجر المباشر والأجر غير المباشر، هو في المطالبة بإحلال مبدأ التضامن الواسع ليشمل جميع المواطنين محل التضامن المحدود القاصر على طبقة الشغيلة وحدها، أي تحويل الضمان الإجتماعي إلى خدمات قومية (الصحة والاستخدام الكامل والشيخوخة) تمويل بالضريبة التصاعدية على الدخول. على هذا النحو فقط يمكن لنظام "الأجور المؤجلة" أن تؤدي إلى رفع حقيقي هام للأجور وإلى إعادة توزيع حقيقية للدخل القومي لصالح المأجورين. وينبغي أن نعترف أن هذا لم يتحقق أبدا، حتى الآن، على مقياس واسع في النظام الرأسمالي، بل ينبغي أن نتساءل ما إذا كان تحقيق ذلك ممكنا دون أن يؤدي إلى رد فعل رأسمالي بحيث نجد أنفسنا بسرعة في مرحلة أزمة ثورية. إنه لواقع أن أهم تجارب الضمان الإجتماعي، كتلك التي تحققت في فرنسا بعد عام 1944 وبصورة خاصة الخدمات القومية الصحية في بريطانيا العظمى بعد عام 1945، قد حولت عن طريق فرض الضريبة على العمال أنفسهم أكثر بكثير من فرض الضريبة على البرجوازية (بخاصة عن طريق تشديد عبء الضرائب غير المباشرة التي تنصب على الأجور، حتى المتواضع منها، كما هو الحال في بلجيكا). لهذا السبب لم نشهد أبدا في النظام الرأسمالي توزيع حقيقية وجذرية للدخل القومي عن طريق الضريبة، وهي "أسطورة" من أساطير المذهب الإصلاحي. هناك أيضا وجه آخر للأهمية المتزايدة "للأجر المؤجل"، الضمان الإجتماعي، في الدخل القومي للبلدان الرأسمالية المصنعة: هو بالذات صفتها المضادة لاحتمالات الأزمة الدورية. إننا نجد هنا سببا آخر يجعل من مصلحة الدولة البرجوازية، من مصلحة الرأسمالية الجديدة، تضخيم حجم هذا الأجر المؤجل". ذلك أنه يلعب دور مختلف الصدمات، إذ يحول دون وقوع انهيار سريع وقوي في الدخل القومي في حالة أزمة. لقد كان العامل، في الماضي، عندما يفقد عمله ينخفض دخله إلى الصفر. وحين يكون ربع اليد العاملة في بلد ما عاطلا، فإن دخول المأجورين – المستخدمين تنخفض بصورة آلية بمقدار الربع. وكثيرا ما دُرست النتائج الرهيبة المقترنة على هذا الانخفاض في الدخول، لهذا الانخفاض في "الطلب الإجمالي"، على مجموع الإقتصاد الرأسمالي. لقد كانت تسبغ على الأزمة الرأسمالية مظهر رد فعل بتسلسل يتضخم بمنطق وحتمية رهيبين. لنفترض أن الأزمة وقعت في قطاع يصنع سلع تجهيز، وأن هذا القطاع اضطر إلى إغلاق مشروعات، وتسريح عمالها. إن الخسارة التي الحق هؤلاء بفقدان دخولهم تقلص جذريا مشروعاتهم من السلع الاستهلاكية. وتبعا لذلك تصل بسرعة إلى فرط إنتاج في القطاع الذي ينتج سلعا استهلاكية، فيجد نفسه بدوره مضطرا إلى إغلاق مشروعات وتسريح العمال. وبذلك تخفض مبيعات السلع الاستهلاكية من جديد، ويتراكم المخزون. وفي الوقت ذاته وبسبب العبء الذي تتوه به المعامل المنتجة للسلع الاستهلاكية فإنها ستقلص أو تلغي الطلبات التي عقدتها لشراء سلع تجهيز، مما سيؤدي إلى إغلاق مشروعات جديدة في الصناعة الثقيلة، أي تسريح عدد إضافي من العمال، أي انخفاض جديد في القوة الشرائية لسلع الاستهلاك، وبالتالي تفاقم الأزمة في قطاع الصناعة الخفيفة، مما يفضي بدوره إلى تسريحات جديدة، وهكذا… بيد أنه منذ أقيم نظام فعال للتأمين ضد البطالة، فإن هذه الآثار المتراكمة للأزمة يتم امتصاصها: وبقدر ما تكون فاتورة البطالة مرتفعة بقدر ما يجري امتصاص الأزمة. لنعد إلى الوصف الذي قدمنا لبداية الأزمة. إن القطاع المنتج لسلع التجهيز يشهد فرط إنتاج ومضطر إلى تسريح عمال. ولكن ما أن يرتفع علاوة البطالة إلى 60% من الأجر مثلا حتى لا يعود هذا التسريح يعني إلغاء كل دخول هؤلاء العاطلين عن العمل، بل مجرد تقليص هذا الدخول بنسبة 40%. إن وجود 10% من العاطلين في بلد لم يعد يعني إنهيار 10% من الطلب الإجمالي، بل 4% وحسب، و25% من العاطلين لا تؤدي إلاّ إلى تخفيض الدخول بنسبة 10%، كما أن الأثر التراكمي الذي يؤدي إليه هذا التخفيض (والذي يحسب في العلم الإقتصادي الجامعي بتطبيق المضاعف على التخفيض الذي يؤدي إليه في الطلب) يتقلص على نفس المتوالي، وبذلك فإن مبيعات السلع الاستهلاكية ستنخفض بنسبة أقل بكثير، ولن تمتد الأزمة بنفس القوة إلى قطاع السلع الاستهلاكية، وبالتالي يكون عدد العمال الذين يسرحهم هذا القطاع أقل بكثير، كما يمكنه أن يلاحظ على جزء من الطلبات لشراء السلع الاستهلاكية..الخ. وبكلمة مختصرة فإن الأزمة تكف عن التوسع بشكل حلزوني (لولبي)، لقد "لجمت" في منتصف الطريق. وما يسمى "ركودا" اليوم ليس سوى أزمة رأسمالي تقليدية "مكبوحة" بتأثير التأمينات الإجتماعية بشكل خاص. لقد أوردت في مؤلفي "النظرية الماركسية في الإقتصاد" مجموعة من المعطيات تتعلق بفترات الركود الأمريكية الأخيرة تؤيد بصورة تجريبية هذا التحليل النظري، ويبدو فعلا، تبعا لهذه الأرقام، أن بداية فترتي ركود 1953 و1957 كانت بادية للعيان، وبحجم يمكن مقارنته من كل الزوايا بأخطر الأزمات الرأسمالية السابقة (1929 و1938). بيد أن ركود 1953 و1957 خلافا لأزمتي ما قبل الحرب العالمية الثانية، توقف عن التضخم بعد عدد من الشهور، أي أنه كبح في منتصف الطريق ثم أخذ في الضمور. ونحن ندرك الآن واحدا من الأسباب الأساسية لتحول الأزمات إلى ركود. إن تضخم الميزانية العسكرية، إذا نظر إليه من زاوية توزيع الدخل القومي بين رأس المال والعمل، يترتب عليه مفعول مناقض لمفعول تضخم "الأجر المؤجل" إذ مهما يكن فإن جزءا من هذا الأجر مصدره دوما مدفوعات إضافية من البرجوازية. أما من زاوية المفاعيل المضادة لاحتمالات الأزمة الدورية، فإن تضخم الميزانية العسكرية (والنفقات العامة بوجه عام) وتضخم الضمان الإجتماعي يلعبان دورا واحدا في "كبح" عنق الأزمات، وفي إعطاء الرأسمالية الجديدة واحدا من مظاهرها الخاصة. إن الطلب العام يمكن تقسيمه إلى فئتين: طلب على السلع الاستهلاكية وطلب على السلع الإنتاجية (سلع التجهيز). وتضخم أموال التأمينات الإجتماعية يتيح توقي انهيار مفاجئ في نفقات (طلب) السلع الاستهلاكية، بعد بدء الأزمة. وتضمن النفقات العامة (بخاصة النفقات العسكرية) يتيح توقي انهيار مفاجئ في نفقات (طلب) سلع التجهيز. وهكذا تعمل هذه السمات المتميزة للرأسمالية الجديدة، في القطاعين، لا من أجل إلغاء تناقضات الرأسمالية – إذ تنفجر الأزمات كما في السابق، ولم تجد الرأسمالية وسيلة تؤمن بها نموا غير منقطع، متناسقا إلى حد كبير أو ضئيل – بل من أجل تقليص حجم هذه التناقضات وتخفيف خطورتها (مؤقتا على الأقل في إطار فترة طويلة المدى من النمو المتسارع وعلى حساب تضخم دائم).
إن من جملة النتائج المترتبة على كل الظاهرات التي تحدثنا عنها، والتي لها كلها مفاعيل مضادة لاحتمالات الأزمات الدورية، ما يمكن تسميته بالاتجاه إلى التضخم الدائم، الذي يتجلى بصورة واضحة في العالم الرأسمالي منذ 1940، منذ بداية الحرب العالمية الثانية أو عشيتها. إن السبب الأساسي لهذا التضخم الدائم هو أهمية القطاع العسكري، قطاع التسلح، في اقتصاد معظم البلاد الرأسمالية الكبيرة. إذ أن إنتاج الأسلحة يتصف بخاصة فريدة هي أنه يختلق قوة شرائية، مثل السلع الاستهلاكية أو السلع الإنتاجية تماما (ففي المعامل التي تصنع الدبابات أو الصواريخ تدفع أجور، كما في المعامل التي تنتج الآلات أو النسيج، ويحصل الرأسماليون المالكون لهذه المعامل على ربح، تماما كما هو حال الرأسماليين مالكي معامل الحديد والصلب أو معامل النسيج) بيد أنه لا توجد مقابل هذه القوة الشرائية الإضافية سلع إضافية يلقى بها في السوق. وبصورة موازية لخلق القوة الشرائية في القطاعين الأساسيين للاقتصاد الكلاسيكي: قطاع السلع الاستهلاكية وقطاع السلع الإنتاجية، تظهر في السوق أيضا كتلة من السلع يمكن أن تمتص هذه القوة الشرائية، أما في قطاع التسلح فعلى نقيض ذلك إذ لا يقابل خلق القوة الشرائية تزايد في كتلة السلع، لا في السلع الاستهلاكية ولا في السلع الإنتاجية، التي يمكن أن يؤدي بيعها إلى امتصاص القوة الشرائية التي ألقى بها في السوق على هذا النحو. إن الحالة الوحيدة التي لا تؤدي النفقات العسكرية فيها إلى التضخم هي تلك التي تدفع فيها هذه النفقات بكاملها عن طريق الضريبة، وبمعدلات تحافظ تماما على النسب بين القوة الشرائية لدى العمال والقوة الشرائية لدى الرأسماليين من جهة، وبين قيمة السلع الاستهلاكية وقيمة السلع الإنتاجية من جهة أخرى [4]. ومثل هذه الحالة لا توجد في أي بلد، حتى في البلاد التي يبلغ الإقتطاع الضريبي فيها ذروته. وفي الولايات المتحدة خاصة لا تغطي النفقات العسكرية قط عن طريق الضرائب، عن طريق تخفيض القوة الشرائية الإضافية، وتبعا لذلك فثمة إتجاه إلى التضخم الدائم. وهناك بالإضافة إلى ذلك ظاهرة من طبيعة بنيوية، في الإقتصاد الرأسمالي في عصر الاحتكارات، ذات أثر مماثل، هي صلابة اتجاه الأسعار نحو الانخفاض. إن كون التروستات الاحتكارية الكبرى تمارس رقابة شديدة إن لم تكن كاملة على مجموعة بكاملها من الأسواق، بخاصة أسواق السلع الإنتاجية والسلع الاستهلاكية المعمرة، يتجلى بانعدام المنافسة على الأسعار بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. وفي كل مرة يكون العرض أقل من الطلب تزداد الأسعار، بينما تبقى الأسعار مستقرة أو تنخفض بشكل غير محسوس كلما تجاوز العرض الطلب بدلا من أن تنخفض. إنها ظاهرة نلاحظها في الصناعة الثقيلة وفي صناعة السلع الاستهلاكية المعمرة منذ خمسة وعشرين عاما. إنها ظاهرة ترتبط في تحركها بمرحلة التوسع في المدى الطويل، التي كنا نتحدث عنها قبل قليل، ذلك أننا، وينبغي أن نعترف بذلك صراحة، لا نستطيع أن نتنبأ بما سيكون عليه تطور أسعار السلع الاستهلاكية المعمرة عندما تصل مرحلة التوسع الطويلة المدى هذه إلى نهايتها. وليس من المستبعد إذا ما تضخمت القدرة الإنتاجية الفائضة في صناعة السيارات أن يؤدي ذلك إلى صراع جديد في المنافسة على الأسعار وإلى انخفاضات كبيرة. ويمكن الدفاع عن نظرية أن أزمة السيارات الرهيبة التي يتوقع حدوثها في النصف الثاني من الستينات (1965، 1966، 1967) يمكن امتصاصها بسهولة نسبية في أوروبا الغربية إذا انخفض سعر مبيع السيارات الصغيرة إلى النصف، أي حين تباع سيارة أربعة أحصنة أو الحصانين بـ 200 ألف فرنك قديم أو 250 ألفا. إذ سيحصل آنذاك توسع كبير في الطلب بحيث يكون من المرجح أن تستوعب القدرة الإنتاجية الفائض بشكل طبيعي. بيد أن هذا الأمر لا يبدو ممكنا في إطار الاتفاقات الراهنة. إلاّ أنه إذا وقع صراع تنافسي حاد امتد مدة طويلة من خمس إلى ست سنوات، وهو أمر ممكن تماما في صناعة السيارات في أوروبا، تصبح الاحتمال قائما. ولنضف فورا أن ثمة احتمالا أرجح هو إلغاء القدرة الإنتاجية الفائضة عن طريق إغلاق واحتجاب مجموعة من المنشآت، وعند ذلك يحول زوال هذه القدرة الفائضة دون أي انخفاض هام في الأسعار. وهذا هو رد الفعل الطبيعي في مثل هذا الوضع في النظام الرأسمالي للاحتكارات. لا ينبغي إذن أن نستبعد رد الفعل الآخر، إلاّ أننا لم نشاهد ذلك حتى الآن في أي فرع من فروع الصناعة، ففي صناعة النفط مثلا توجد ظاهرة فرط انتاج كامنة منذ ست سنوات، غير أن تخفيضات الأسعار التي قبلت بها التروستات الضخمة التي تحقق معدلات أرباح 100% و150% كانت تافهة جدا إذ لا تتجاوز 5% أو 6% بينما في وسعها تخفيض سعر البنزين إلى النصف لو أرادت.
إن الوجه الآخر للميدالية، ميدالية الرأسمالية الجديدة، هو مجموع الظاهرات التي لخصناها بإيجاز تحت عنوان « الاقتصاد المنسق »، أو « البرمجة الاقتصادية » أو « التخطيط التوجيهي ». إنها شكل آخر من أشكال التدخل الواعي في الاقتصاد، مناقض لروح الرأسمالية التقليدية، إلاّ أنه تدخل يتميز بأنه في جوهره ليس من فعل السلطات العامة، بل بالأحرى جاء نتيجة تعاون، واندماج بين السلطات العامة من جهة والمجموعات الرأسمالية من جهة أخرى. كيف نفسر هذا الاتجاه العام إلى « التخطيط التوجيهي »، أو « البرمجة الاقتصادية » أو « الاقتصاد المقنن » ؟ ينبغي أن ننطلق من حاجة فعلية لرأس المال الكبير. وهي حاجة تنشأ بالذات من الظاهرة التي شرحناها في القسم الأول من حديثنا. لقد تحدثنا فيها عن تسارع نسق تجديد المنشآت الميكانيكية، نتيجة ثورة تكنولوجية مستمرة إلى حد ما. ولكن القول بتسارع نسق تجديد رأس المال الثابت إنما يعني القول بضرورة إطفاء نفقات الاستثمار المتزايدة باطراد في فترة زمنية تقصر باطراد. ومن المؤكد أن هذا الإطفاء يبغي أن يكون مخططا محسوبا بالدقة الممكنة، لتجنيب الاقتصاد التقلبات في المدى القصير التي تهدد بنشر الذعر والارتباك في مجموعات تعمل بمليارات الفرنكات. في هذه الواقعة الأساسية يكمن سبب التخطيط الاقتصادي الرأسمالي، سبب الاندفاعية نحو الاقتصاد المنسق. إن رأسمالية الاحتكارات الضخمة في عالم اليوم تكدس عشرات المليارات وتوظفها في استثمارات ينبغي إطفاؤها بسرعة. لم يعد في وسعها تحمل ترف التعرض لأخطار تقلبات دورية ضخمة. فثمة ضرورة إذن لضمان استرداد نفقات الإطفاء هذه، أن تكون مطمئنة إلى استمرار هذه الدخول على الأقل في الفترات المتوسطة المدى التي تقابل إلى حد ما المدة اللازمة لإطفاء رأس المال الثابت، أي فترات تمتد حاليا من أربع إلى خمس سنوات. كما أن هذه الظاهرة نشأت في داخل المشروع الرأسمالي نفسه، إذ يفترض التعقيد المتزايد باطراد في عملية الإنتاج وضع خطط بدقة متزايدة لكي يكون ممكنا تسيير المجموع معا. إن البرمجة الرأسمالية ليست، في التحليل الأخير، سوى توسيع، أو بالأحرى تنسيق، على صعيد قومي، لما كان يجري من قبل على مقياس المشروع الرأسمالي الكبير أو المجموعة الرأسمالية أو التروست أو الكارتل التي تضم مجموعة من المشروعات. ما هي الخصائص الأساسية لهذا التخطيط التوجيهي ؟ خلافا للتخطيط الاشتراكي، الذي هو بالتالي من طبيعة مختلفة جوهريا، فإن الأمر لا يتعلق بتحديد عدد من الأهداف، بشكل أرقام الإنتاج، وتأمين بلوغ هذه الأهداف فعلا، بقدر ما يتعلق بتنسيق خطط التثميرات التي وضعتها من قبل المشروعات الخاصة، والقيام بهذا التنسيق الضروري على الأكثر عن طريق اقتراح بعض الأهداف التي تعتبر ذات أولوية على صعيد السلطات العامة أي تطابق المصلحة الكلية للطبقة البرجوازية. وفي بلد مثل بلجيكا أو بريطانيا العظمى تمت هذه العملية بصورة فجة نوعا ما، أما في فرنسا حيث يجري كل شيء في مستوى فكري أذكى بكثير، وحيث يلجأ كثيرا إلى التمويه، فإن الطبيعة الطبقية للعملية أقل ظهورا. إلاّ أنها ليست أقل تماثلا مع عملية البرمجة الاقتصادية في البلاد الرأسمالية الأخرى. فنشاط « لجان الخطة » و« مكتب الخطة » و« مكاتب البرمجة » يقوم في جوهره على استشارة ممثلي مختلف جماعات أرباب العمل، والتأليف بين مشروعاتهم الاستثمارية وتنبؤاتهم عن حالة السوق، و« إقامة التناغم » فيما بين هذه التنبؤات المتعلقة بكل قطاع، مع السعي لتجنب الإختناقات أو الاستخدام المزدوج. لقد نشر جيلبرت ماتيو ثلاثة مقالات جيدة بهذا الصدد في صحيفة « لوموند » (2 و3 و6 مارس 1962)أشار فيها أنه مقابل 280 نقابي ساهموا في أعمال مختلف لجان الخطة ولجانها الفرعية كان ثمة 1280 مدير مشروع أو ممثل نقابات أرباب العمل. ويذهب فرانسوا بيرو إلى « أن الخطة الفرنسية توضح وتنفذ، عمليا، تحت النفوذ والتأثير الغالب للمشروعات الكبيرة والمؤسسات المالية الكبيرة ». وأكد ليبران ، رغم أنه قائد نقابي شديد الاعتدال، إن التخطيط الفرنسي « هو في جوهره تنسيق بين كبار ممثلي رأس المال وكبار موظفي الدولة، وللأولين بطبيعة الحال وزن أكثر من الآخرين ». إن هذا التقابل والتنسيق بين قرارات المشروعات جد مفيد للمنظمين الرأسماليين، إذ يكون نوعا من السبر للسوق على المستوى القومي، متوافقا للمدى الطويل، وهو أمر يصعب جدا تحقيقه بالتقنية الجارية. وعلى أية حال، تبقى الأرقام التي يقدمها أرباب العمل كتنبؤات أساس كل الدراسات والحسابات. فثمة إذن مظهران أساسيان يميزان هذا النوع من البرمجة أو « التخطيط التوجيهي ». فهو من جهة يرتكز بصورة وثيقة جدا على مصالح أرباب العمل الذين يشكلون نقطة إنطلاق للحساب. وعندما نقول أرباب العمل لا نقصد جميع أرباب العمل، بل المقصود الفئات المسيطرة من الطبقة البرجوازية، أي الاحتكارات والتروستات. وبقدر ما يمكن أن يحصل أحيانا تضارب مصالح بين احتكارات شديدة البأس (واذكروا التضارب الذي وقع بسبب أسعار الفولاذ في الستة الماضية بين التروستات المنتجة للفولاذ والتروستات المستهلكة له) يمكن للسلطات العامة أن تلعب إلى حد ما دور الحكم لصالح هذه المجموعات الرأسمالية أو تلك. إنها على نحو ما مجلس إدارة الطبقة البرجوازية يعمل من أجل مجموع المساهمين، من أجل مجموع أعضاء الطبقة البرجوازية، في صالح الفئة المسيطرة، لا في صالح الديموقراطية والعدد الكبير. وهناك، من جهة أخرى، عدم اليقين أو الشك، الذي تقوم عليه كل هذه الحسابات، تنجم عن الطابع التنبؤي البحث للبرمجة، وبحكم عدم وجود أدوات للتنفيذ بيد السلطات العامة، أو بيد المصالح الخاصة، ليمكن بلوغ ما جرى التنبؤ به فعليا. ففي أعوام 1956-1960 أخطأ مرتين واضعو برامج الجماعة الأوروبية للفحم والفولاذ، كما أخطأ واضعو برامج وزارة الشؤون الاقتصادية البلجيكية، فيما يتعلق بتنبؤاتهم حول استهلاك الفحم في أوروبا الغربية وبخاصة في بلجيكا. كانت المرة الأولى عشية وخلال أزمة التموين التي نشأت بسبب أزمة السويس، فقد قدروا لعام 1960 تزايدا كبيرا في الاستهلاك، وبالتالي في إنتاج الفحم، بحيث ينبغي أن يرتفع الإنتاج البلجيكي من 30 مليون طن فحم سنويا إلى حوالي 40 مليون طن، أما في الواقع فقد انخفض في عام 1960 من 30 مليون طن إلى 20 مليون طن، وبذلك أخطأ واضعو البرامج بما يعادل النصف، وهو أمر غير يسير، بيد أنهم ارتكبوا لحظة سجلوا هذا الخطأ خطأ ثانيا في الاتجاه المعاكس. كانت حركة انخفاض استهلاك الفحم جارية، فتنبأوا بأنها ستستمر، وأكدوا وجوب الاستمرار في إغلاق مناجم الفحم. بيد أن العكس هو الذي حصل بين عامي 1960 و1963: فقد ارتفع استهلاك بلجيكا في الفحم من 20 مليون طن إلى 25 مليون طن سنويا، بحيث أدى إلغاء ثلث القدرة الإنتاجية البلجيكية للفحم إلى نقص حاد في الفحم، بخاصة خلال شتاء 1962/1963، وتعين استيراد الفحم، حتى من الفيتنام. هذا المثل يسمح لنا بأن نلتقط بصورة واقعية الوسائل التقنية التي يضطر « المبرمجون » لاستخدامها على الدوام تقريبا في حساباتهم القطاعية: إنهم يسقطون فحسب، في المستقبل، الاتجاه الراهن للتطور، مع تصحيحه بمعاملات مرونة الطلب ومع الأخذ بعين الاعتبار المعدل العام للتوسع الاقتصادي.
إن لهذا « الاقتصاد المنسق » مظهرا آخر، يُبرزون خطورته على الحركة العمالية، هو فكرة أن « البرمجة الاجتماعية » أو « سياسة الدخول » تدخل ضمنا في فكرة « البرمجة الاقتصادية ». إنه يستحيل تأمين استقرار نفقات التروستات ودخولها، خلال فترة خمس سنوات، أي إلى أن يتم إطفاء جميع المنشآت الجديدة، دون تأمين استقرار نفقات الأجور. لا يمكن « تخطيط التكاليف » ما لم « تخطط » في الوقت ذاته « تكاليف » اليد العاملة، أي إذا لم تقدر معدلات ثابتة لزيادة الأجور والسعي للتمسك بها بصلابة. لقد حاول أرباب العمل والحكومات فرض هذا الاتجاه على النفقات في جميع بلاد أوروبا الغربية، وتجلت هذه الجهود بشكل خاص في تمديد مدة العقود بتشريعات تجعل الإضرابات المفاجئة أكثر صعوبة أو تحرم الإضرابات « البرية » مرفقة بدعاية رنانة لصالح « سياسة الدخول » هي في الظاهر « الضمان الوحيد » ضد « أخطار التضخم ». إن الفكرة القائلة بوجوب التوجه نحو « سياسة الدخول » هذه، بغية الوصول إلى حساب دقيق لمعدلات زيادة الأجور، وانه بذلك يمكن تجنب النفقات المهدورة الناشئة عن الإضرابات « التي لا تعود بخير على أحد، لا على العمال ولا على الأمة »، هذه الفكرة أخذت تنتشر بشكل متزايد في فرنسا. وهي تنطوي على فكرة الاندماج العميق للنقابة بالنظام الرأسمالي. ومن هذه الزاوية فإن النقابة لا تعود، في الحقيقة، أداة نضال يستخدمها العمال لتعديل توزيع الدخل القومي، بل تغدو ضمانا « للسلم الاجتماعي »، ضمانا لأرباب العمل استقرار عملية العمل وتجديد رأس المال الثابت طوال المدة اللازمة لتجديده. ونحن في غنى عن القول إن هذا شرك ينصب للعمال والحركة العمالية لأسباب كثيرة، يتعذر علي الحديث عنها بتفصيل، منها سبب جوهري ينجم عن طبيعة الاقتصاد الرأسمالي ذاتها، واقتصاد السوق بشكل عام، سلم به على أية حال السيد ماسيه المدير الحالي للخطة الفرنسية، في محاضرة ألقاها مؤخرا في بروكسيل. إن الأجر، في النظام الرأسمالي، هو ثمن قوة العمل. وهذا الثمن يدور حول قيمة قوة العمل هذه تبعا لقوانين العرض والطلب. فما هو في الأحوال العادية تطور ميزان القوى، في النظام الرأسمالي، تطور العرض والطلب فيما يتعلق باليد العاملة، خلال دورة اقتصادية ؟ في خلال فترة الركود وعودة النهوض الاقتصادي توجد بطالة تزن على الأجور، وعلى هذا فثمة صعوبات كبيرة جدا أمام العمال في كفاحهم من أجل زيادة كبيرة في الأجور. والآن أية مرحلة من مراحل دورة ما هي الأكثر ملائمة للنضال من أجل زيادة الأجور ؟ إنها، بدهيا، المرحلة التي يكون فيها الاستخدام كاملا، بل التي يوجد فيها نقص، في اليد العاملة، أي المرحلة العليا من الازدهار boom، في أعلى لحظة من لحظات تحرك وتوتر الاقتصاد القومي. ففي هذه المرحلة يكون الإضراب من أجل زيادة الأجور أيسر، ويكون أرباب العمل أكثر استعدادا لتقديم تنازلات فيما يتعلق بالأجور، حتى بدون إضرابات، وذلك تحت ضغط نقص اليد العاملة. بيد أن أي خبير رأسمالي لتلك اللحظة سيقول لكم إنه خلال هذه الفترة بالضبط ومن زاوية الاستقرار، وبقدر ما لا يطرح على بساط البحث معدل الربح الرأسمالي (لأن هذا يكمن ضمنا في أية محاكمة في هذا القبيل) تغدو الإضرابات والعمل على زيادة الأجور « أخطر ما تكون »؛ لأنكم إذا زدتم الطلب الإجمالي، عند وجود استخدام كامل لكل « عوامل الإنتاج »، فإن الطلب الإضافي يصبح تضخما بصورة آلية. وبعبارة أخرى: إن كل منطق الإقتصاد المنسق إنما هو بالضبط تفادي الاضطرابات والحركات المطلبية فقط خلال المرحلة الوحيدة من مراحل الدورة التي يكون فيها ميزان القوى بين الطبقات لصالح الطبقة العاملة، أي في الطور الوحيد من أطوار الدورة الذي يكون فيه الطلب على اليد العاملة أكبر بكثير من العرض، في الطور الوحيد من أطوار الدورة التي يمكن الأجور أن تحقق فيه قفزة إلى الأمام، في الفترة التي يكون فيها اتجاه توزيع الدخل القومي بين الأجور والأرباح إلى التدهور ممكنا تعديله لصالح الأجراء. مما يعني التفاهم لمنع الزيادات المسماة تضخمية للأجور خلال هذه المرحلة بالذات من مراحل الدورة، وإننا ننتهي بذلك ببساطة إلى تخفيض المعدل الإجمالي لزيادات الأجور بالنسبة للدورة بمجموعها، أي تحقيق دورة يكون فيها النصيب النسبي للأجور من الدخل القومي متجها إلى الانخفاض على الدوام. إن هذا النصيب يتجه أصلا إلى الانخفاض في فترة الإنتعاش الاقتصادي لأنها بحكم تعريفها فترة ارتفاع معدل الربح (ولو لم تكن كذلك لما كان ثمة انتعاش !). ولئن كان يحال دون تمكين العمال من تصحيح هذا الاتجاه في فترة ذروة الانتعاش والاستخدام الكامل، فإن هذا يعني أن الاتجاه إلى التدهور في توزيع الدخل القومي سيستمر. وثمة تأكيد عملي لنتائج سياسة توزيع الدخول جامد تماما تراقبها الدولة بمعونة النقابات: كما طبقت في هولندا منذ 1945. إن النتائج ماثلة أمامنا: تدهور صارخ للنصيب النسبي للأجور في توزيع الدخل القومي لا مثيل له في أوروبا كلها، بما في ذلك ألمانيا الغربية. وفضلا عن ذلك هناك، من الناحية « التقنية » البحتة، حجتان قاطعتان للرد على أنصار « سياسة الدخول »: إذا كنتم تطالبون، لأسباب تتعلق بالوضع الإقتصادي، بألاّ تتجاوز الزيادة في الأجور تزايد الإنتاجية في فترة الاستخدام الكامل، فلم لا تطالبون بزيادة أكبر في الأجور في فترة البطالة ؟ فمثل هذه الزيادة لها ما يسوغها من ناحية الوضع الاقتصادي في مثل هذا الوقت لأنها تعيد الانتعاش إلى الإقتصاد عن طريق زيادة الطلب الإجمالي. كيف يمكن الأخذ « بسياسة الدخول »، وإن تكن قليلة الجدوى، إذا كانت دخول الأجور هي وحدها المعروفة حقا، ألا تفترض أية سياسة للدخول مقدما الرقابة العمالية على الإنتاج وعلنية دفاتر الحسابات وإلغاء السر المصرفي بغية تحديد الدخول الصحيحة للرأسماليين وحقيقة التزايد في الإنتاج ؟ كل هذا لا يعني قط أن علينا أساسا أن نسلم بالحاجة التقنية للاقتصاديين البرجوازيين، إذ من الخطأ تماما القول إن زيادة في الأجور تفوق تزايد الإنتاجية هي تضخمية بصورة آلية في فترة الاستخدام الكامل. إن هذا القول لا يصح إلاّ بقدر ما نترك معدل الربح ثابتا لا يمس. وإذا كنا نريد تخفيض معدل الربح، عن طريق تدخل عنيف ضد الملكية الخاصة، كما يقول « البيان الشيوعي »، فلن يكون هناك تضخم على الإطلاق، إذ ننزع فقط قوة شرائية من الرأسماليين لنحيلها إلى العمال. إن الاعتراض الوحيد الذي يمكن أن يتذرع به هو أن من شأن هذا الأمر أن يبطئ الاستثمارات. بيد أنه يمكن رد حجة الرأسماليين هذه عليهم بالقول إنه ليس أمرا سيئا أن نبطئ الاستثمارات عندما نكون في فترة استخدام كامل وفي ذروة الازدهار. بل ان هذا التقليص في الاستثمارات سيكون قد بدأ يحصل فعلا في ذلك الوقت بالذات، وأن من الأفضل، من وجهة نظر سياسة مقاومة التقلبات، تخفيض الأرباح وزيادة الأجور لكي يتاح لطلب المأجورين، أي المستهلكين، الأخذ بيد الاستثمارات بقصد الحفاظ على استمرار وضع الازدهار الذي يهدده الاتجاه المحتوم للاستثمارات الإنتاجية إلى الانحدار نوعا ما اعتبارا من وقت معين. من كل هذا يمكننا أن نخلص إلى النتيجة التالية: إن تدخل السلطات العامة في الحياة الإقتصادية، والاقتصاد المنسق والبرمجة الإقتصادية، والتخطيط التوجيهي ليست أبدا سياسات محايدة من وجهة النظر الإجتماعية، إنها أدوات تدخل في الاقتصاد تستخدمها الطبقة البرجوازية أو الفئات المسيطرة من الطبقات البرجوازية. ولا تقوم بدور الحكم بين البرجوازية والبروليتاريا. إن السلطات العامة الرأسمالية إنما تقوم بدور الحكم بين مختلف الجماعات الرأسمالية داخل الطبقة الرأسمالية. إن الطبيعة الحقيقية للرأسمالية الجديدة، التدخل المتزايد من قبل السلطات العامة في الحياة الاقتصادية، يمكن تلخيصها بهذه الصفة: في نظام رأسمالي مهدد بالسير نحو الفناء إذا ما ترك لآليته الإقتصادية الخاصة يتوجب على الدولة أن تصبح الضامن لربح الرأسمالي، الضامن لربح الفئات الاحتكارية المسيطرة من الطبقات البرجوازية. وهي تضمن هذا الربح بقدر ما تحد من اتساع التقلبات الدورية. إنها تضمنه عن طريق مشتريات الدولة، العسكرية وشبه العسكرية، المتزايدة في أهميتها. وهي تضمنه باستخدام تقنيات خاصة تظهر بالذات في إطار الاقتصاد المنسق، كما هو الحال في نظام شبه العقد في فرنسا، وهي صراحة ضمانات للربح بغية تصحيح بعض اختلالات التنمية أو الاختلالات الإقليمية أو بين الفروع. إن الدولة تقول للرأسمالي: « إذا استثمرت رؤوس أموالك في هذه المنطقة أو تلك أو في هذا القطاع أو ذاك فسأضمن لك 6% أو 7% من الأرباح بالنسبة لرأسمالك في كل الأحوال، حتى لو كانت بضاعتك رديئة لا تصلح للبيع، أو تعرضت للفشل ». ذلكم هو الشكل الأخير والأكثر وضوحا لهذا الضمان الذي تقدمه الدولة لربح الاحتكارات، وهو أمر لم يبدعه التقنيون الفرنسيون واضعو الخطة لأن الألمان شاخت Schcht وفونك Funk وغورينغ Goering طبقوه من قبل في إطار اقتصاد التسلح النازي والخطة الرباعية لإعادة التسلح. إن ضمان الدولة للربح هذا يمثل في التحليل الأخير، كما هو الأمر بالنسبة لكل التقنيات المجدية حقا في مقاومة التقلبات، إعادة توزيع للدخل القومي، لصالح أرباح الجماعات الاحتكارية الحاكمة بواسطة الدولة، عن طريق توزيع معونات، بتخفيض الضرائب، بمنح قروض بمعدلات منخفضة للفائدة، تقنيات تؤدي كلها في التحليل الأخير إلى ارتفاع معدل الربح، مما يؤدي بداهة، في إطار اقتصاد رأسمالي يعمل بصورة عادية، لا سيما في فترة توسع طويلة المدى، إلى حفز الاستثمارات ويعمل في الاتجاه الذي رسمه واضعو المشروعات. إننا أمام أحد أمرين: فإما أن نضع أنفسنا بصورة منطقية تماما ومتماسكة في إطار النظام الرأسمالي، ويتعين عند ذاك عليناا الاعتراف بأن ليس ثمة سوى وسيلة واحدة لتأمين المتزايد المطرد في الاستثمارات لنهضة صناعية تقوم على زيادة الاستثمارات الخاصة، وهي زيادة معدل الربح. إما أن نرفض، بوصفنا اشتراكيين، السير في اتجاه زيادة معدل الربح، وما من وسيلة للخروج من المأزق عند ذاك إلاّ في تنمية قطاع عام قوي في الصناعة، إلى جانب القطاع الخاص، أي الخروج عمليا عن الإطار الرأسمالي والمنطق الرأسمالي، والانتقال إلى ما يسمى في بلادنا الإصلاحات البنيوية المضادة للرأسمالية. لقد شهدنا صراع الاتجاه هذا في تاريخ الحركة العمالية البلجيكية في السنوات الأخيرة، وستواجهونه في فرنسا في السنوات المقبلة، حين تشهدون أول اندفاعة نحو البطالة. إن قادة اشتراكيين، لا أريد التشكك في استقامتهم الشخصية، ذهبوا إلى حد القول بخشونة وصفاقة ما ذكرته لكم قبل هنيهة: إذ كنتم تريدون امتصاص البطالة في الأمد القصير في إطار النظام الرأسمالي، فما من وسيلة للعمل سوى زيادة معدل الربح. وطبيعي أنهم لم يذكروا أن هذا يتضمن إعادة توزيع للدخل القومي على حساب المأجورين. أي أنه لا يمكن، إلاّ بتضليل الناس، أن نبشر في آن واحد بتوسع اقتصادي أكبر سرعة، يتضمن في النظام الرأسمالي زيادة الاستثمارات الخاصة وإعادة توزيع الدخل القومي لصالح المأجورين. إن هذين الهدفين لا توافق بينهما إطلاقا في النظام الرأسمالي، على الأقل في الأمد القصير والأمد المتوسط. إن الحركة العمالية تجد نفسها إذن أمام خيار أساسي بين سياسة إصلاحات بنى الرأسمالية الجديدة، التي تتضمن اندماج النقابات في النظام الرأسمالي وتحولها إلى حراس لتأمين السلم الاجتماعي خلال فترة إطفاء الرأسمال الثابت، وسياسة مضادة بصورة جذرية للرأسمالية تتبنى إصلاحات معادية للرأسمالية في المدى المتوسط، وتهدف أساسا إلى نزع مقاليد السيطرة على الاقتصاد من المجموعات المالية والتروستات والاحتكارات، ووضعها بين أيدي الأمة، وبناء قطاع عام ذي تأثير حاسم على الأثمان والصناعة والنقل، وإقامة هذا كله على أساس الرقابة العمالية، أي قيام ازدواج السلطة في المشروع وفي الاقتصاد بمجموعه، سرعان ما ينتهي إلى إزدواج في السلطة السياسية. |