الفصل السابع |
|||
1- التصنيع الرأسمالي وقانون التطور المتفاوت والمركب ولدت الرأسمالية الصناعية الحديثة في بريطانيا العظمى. وامتدت تدريجيا، خلال القرن التاسع عشر، إلى معظم بلدان أوروبا الغربية والوسطى وإلى الولايات المتحدة، ولاحقا إلى اليابان. وقد بدا أن وجود بعض البلدان ذات التصنيع الأولي لم يكن حائلا دون دخول الرأسمالية الصناعية وتوسعها في سلسلة متتالية من البلدان السائرة على درب التصنيع. على العكس، فقد دمرت الصناعة الكبيرة البريطانية والبلجيكية والفرنسية، دمرت في تلك البلدان وبدون رحمة أشكال الإنتاج ما قبل الصناعية (الصناعة الحرفية والصناعة المنزلية). لكن الرساميل البريطانية والبلجيكية والفرنسية كانت لا تزال لديها حقول واسعة للتوظيفات مفتوحة أمامها في بلدانها الخاصة. وهكذا فقد حلت إجمالا صناعة حديثة قومية تدريجيا محل الصناعة الحرفية التي دمرتها مزاحمة البضائع الأجنبية الرخيصة. هذا ما حصل بالأخص بالنسبة لإنتاج المنسوجات في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والنمسا وبوهيميا وروسيا القيصرية (بما فيها بولندا) والبلدان الواطئة، الخ. ومع ولادة العصر الإمبريالي ورأسمالية الاحتكارات، تبدل هذا الوضع تبدلا كليا. فمنذ ذلك التاريخ، لم يعد سير السوق الرأسمالية العالمية يسهل التطور الرأسمالي « العادي »، ولاسيما التصنيع في العمق، للبلدان المتخلفة، بل أصبح بالعكس يعرقله. وتفقد عبارة ماركس القائلة أن كل بلد متقدم يدل بلدا اقل تطورا على صورة مستقبله الخاص، تفقد هذه العبارة صحتها التي حافظت عليها طوال عصر الرأسمالية المزاحمة الحرة. ثلاثة عوامل رئيسية (وعوامل إضافية عديدة لن نذكرها) تحدد هذا التغير الأساسي في سير الاقتصاد الرأسمالي الدولي: أ- اتساع الإنتاج بالجملة للعديد من بضائع البلدان الإمبريالية التي تغرق السوق العالمية وتحوز على تقدم في الإنتاجية وسعر الكلفة بالنسبة لكل إنتاج صناعي أولي في البلدان المتخلفة إلى حد أن هذا الإنتاج الأخير لا يعود يستطيع أن ينطلق فعلا على صعيد واسع ويصمد جديا في وجه مزاحمة الإنتاج الأجنبي. فتصبح الصناعة الغربية (ولاحقا الصناعة اليابانية أيضا) هي التي تستفيد أكثر فأكثر بعد تلك المرحلة من الإفلاس التدريجي للصناعة الحرفية والصناعة المنزلية والمانيفكتورة في بلدان أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا. ب- أن فائض الرساميل، الذي يظهر بصورة دائمة إلى هذا الحد أو ذاك في البلدان الرأسمالية المصنعة التي تسيطر الاحتكارات عليها تدريجيا، يطلق حركة واسعة من تصدير الرساميل نحو البلدان المتخلفة ويطور فيها فروع إنتاج مكملة وليست منافسة بالنسبة للصناعة الغربية. هكذا فإن الرساميل الأجنبية التي تهيمن على اقتصاد هذه البلدان تفرض عليها التخصص في إنتاج المواد الأولية المعدنية والنباتية وفي إنتاج المؤن. علاوة على ذلك، ففي هذه البلدان التي تنحدر تدريجيا إلى وضع البلدان المستعمرة أو شبه المستعمرة، تدافع الدولة قبل كل شيء عن مصالح الرأسمال الأجنبي. فهي لا تتخذ بالتالي حتى الإجراءات البسيطة لحماية الصناعة الجنينية ضد مزاحمة المنتجات المستوردة. ج- تخلق هيمنة الرساميل الأجنبية على اقتصاد البلدان التابعة وضعا اقتصاديا واجتماعيا تحافظ فيه الدولة على مصالح الطبقات السائدة القديمة وتدعمها، بربطها بمصالح الرأسمال الإمبريالي، بدل إزالتها بصورة جذرية إلى هذا الحد أو ذاك كما جرى خلال الثورات الديموقراطية-البرجوازية الكبرى في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. إن مجمل هذا التطور الجديد للاقتصاد الرأسمالي الدولي في عصر الإمبريالي يمكن تلخيصه بقانون التطور المتفاوت والمركب. فالبنية الاجتماعية والاقتصادية في البلدان المتخلفة -أو في جملة من هذه البلدان على الأقل- ليست في سماتها الأساسية بنية مجتمع إقطاعي صرف ولا بنية مجتمع رأسمالي صرف. تحت تأثير هيمنة الرأسمال الإمبريالي، تدمج هذه البنية بصورة استثنائية سمات إقطاعية وشبه إقطاعية وشبه رأسمالية ورأسمالية. إن القوة الاجتماعية السائدة هي قوة الرأسمال -لكنه إجمالا الرأسمال الأجنبي. فالبورجوازية المحلية لا تمارس بالتالي السلطة السياسية. ولا تتألف غالبية السكان بالتالي من الأجراء، ولا من الأقنان بوجه عام، بل من فلاحين يخضعون بدرجات متفاوتة لابتزاز الملاك العقاريين شبه الإقطاعيين وشبه الرأسماليين والتجار- المرابين وجباة الضرائب. وبالرغم من أن هذا الجمهور الكبير يعيش جزئيا خارج الإنتاج البضاعي بل خارج الإنتاج النقدي، فإنه يصاب بالنتائج الكارثية لتذبذبات أسعار المواد الأولية في السوق الإمبريالية العالمية من خلال النتائج الإجمالية التي تجرها هذه التذبذبات على الاقتصاد القومي.
2-استغلال البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة من قبل الرأسمال الإمبريالي إن تدفق الرساميل الأجنبية نحو البلدان التابعة، المستعمرة وشبه المستعمرة، قد تسبب طوال عقود متعاقبة بالنهب والاستغلال والاضطهاد لأكثر من مليار إنسان من قبل الرأسمال الإمبريالي، الأمر الذي يشكل إحدى الجرائم الرئيسية التي تقع مسئوليتها على النظام الرأسمالي في تاريخه. وإذا ظهرت الرأسمالية على الأرض وهي تنضح الدم والعرق من جميع مسامها كما قال ماركس، فإن هذا التعريف لا ينطبق في مكان بالدقة التي ينطبق بها في البلدان التابعة. يندرج العصر الإمبريالي في المقام الأول تحت شعار الفتح الاستعماري. طبعا، إن الاستعمار أقدم من الإمبريالية. فقد سبق أن أحل الفاتحون الإسبان والبرتغاليون الحرق والقتل في الجزر الخضراء والرأس الأخضر وكذلك في بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية، مبيدين في كل مكان تقريبا قسما كبيرا من السكان المحليين، إن لم يكن جميعهم. ولم يتصرف المستعمرون البيض بطريقة أكثر إنسانية إزاء هنود أمريكا الشمالية. وترافق فتح إمبراطورية الهند من قبل بريطانيا العظمى بسلسلة من الفضاعات، وكذلك بالنسبة لفتح الجزائر من قبل فرنسا. ومع ولادة العصر الإمبريالي، امتدت هذه الفضاعات إلى قسم كبير من إفريقيا وآسيا وأوقيانيا. فتعاقبت على نطاق واسع المجازر ونقل السكان وطرد الفلاحين من أراضيهم وإدخال العمل الإجباري، إن لم يكن القنانة بالفعل. إن العنصرية « تبرر » هذه الممارسات اللا إنسانية بتأكيدها على تفوق العرق الأبيض و« رسالته التاريخية الحضارية ». وبصورة أكثر حذاقة، تجرد العنصرية الشعوب المستعمرة من ماضيها الخاص وثقافتها الخاصة وعزتها العرقية، لا بل تجردها من لغتها في الوقت نفسه الذي تنتزع فيه منها ثرواتها القومية وقسما هاما من ثمار عملها. وإذا تجرأ العبيد المستعمرون على التمرد ضد السيطرة الاستعمارية، جرى قمعهم بوحشية أفظع من أن توصف. نساء وأطفال هنود ذهبوا ضحية المجازر في حرب الهنود في الولايات المتحدة، « متمردون » هنديون وضعوا أمام مدافع أطلقت النار، قبائل في الشرق الأوسط قصفها الطيران الملكي البريطاني بلا رحمة، عشرات الآلاف من الجزائريين المدنيين ذهبوا ضحية المجازر « انتقاما » من الانتفاضة الوطنية في ماي 1945: كل ذلك ينذر بأوحش فظاعات النازية، بما فيها الإبادة الجماعية الصريحة، بل يكررها تماما. وإذا سخط برجوازيو أوروبا وأمريكا على هتلر سخطا شديدا، فلأنه ارتكب جريمة انتهاك العرق الأبيض عندما طبق على شعوب أوروبية، لحساب الإمبريالية الألمانية، ما أصاب شعوب آسيا وأمريكا وأفريقيا على يد الإمبريالية العالمية. إن اقتصاد البلدان التابعة خاضع برمته لمصالح الرأسمال الأجنبي وما يفرضه. ففي معظم هذه البلدان، تصل السكك الحديدية مراكز الإنتاج العاملة من أجل التصدير بالموانئ، لكنها لا تصل المراكز المدينة الرئيسية بعضها ببعض. ويخدم البناء التحتي المؤمَّن نشاطات الاستيراد والتصدير، أمّا الشبكات المدرسية والصحية والثقافية فتعاني من تخلف مخيف. إن القسم الأعظم من السكان يعاني من الأمية والجهل والبؤس. أكيد أن دخول الرأسمال الأجنبي قد سمح بتطور معين للقوى المنتجة وخلق بعض المدن الصناعية الكبيرة وطوّر جنينا متفاوت الأهمية من البروليتاريا في الموانئ والمناجم والمزارع والسكك الحديدية والإدارة العامة. بيد أننا نستطيع أن نقول بدون مبالغة أن مستوى معيشة السكان المتوسطين في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية (عدا بعض البلدان صاحبة الامتيازات) قد راوح مكانه أو تراجع خلال ثلاث أرباع القرن التي تفصل بين بداية الاندفاع نحو الاستعمار الشامل للبلدان المتخلفة وانتصار الثورة الصينية.
3-« الكتلة الطبقية » الحاكمة في البلدان شبه المستعمرة لكي نفهم فهما أكثر تعمقا الطريقة التي « جمدت » بها السيطرة الإمبريالية البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة في تطورها وحالت دون تصنيع تدريجي « عادي » فيها على النمط الرأسمالي الغربي، يجب أن نوسع الشرح أكثر حول طبيعة « كتلة الطبقات الاجتماعية » الحاكمة في هذه البلدان خلال العصر الإمبريالي « الكلاسيكي » وما تستتبعه هذه « الكتلة » بالنسبة للتطور الاقتصادي والاجتماعي. عندما يدخل الرأسمال الأجنبي بكثافة إلى البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، تكون الطبقة السائدة المحلية مؤلفة إجمالا من ملاك عقاريين (شبه إقطاعيين وشبه رأسماليين بمقادير تختلف حسب البلد المعني) متحالفين مع الرأسمال التجاري والمصرفي أوالمرابي. أمّا في البلدان الأكثر تخلفا كبلدان أفريقيا السوداء، فإننا نجد مجتمعات قبلية في طور التفكك تحت التأثير المديد لتجارة العبيد. ويتحالف إجمالا الرأسمال الأجنبي مع هذه الطبقات السائدة المحلية ويعاملها كوسيطات لاستغلال الفلاحين والشغيلة المحليين ويدعم علاقاتها الاستغلالية مع شعوبها الخاصة. حتى أنه يرفع أحيانا بصورة هامة درجة الاستغلال هذا بشكله ما قبل الرأسمالي ويدمجه مع إدخال أشكال جديدة من الاستغلال الرأسمالي. ففي البنغال، حوّل الاستعمار البريطاني الزمندار، الذين كانوا في الأمس مجرد جباة ضرائب في خدمة الأباطرة المغول، حولهم إلى ملاك كاملي الحقوق للأراضي التي كانوا يجبون الضرائب عليها. هكذا تظهر ثلاث طبقات اجتماعية هجينة في مجتمع البلدان المتخلفة، تطبع بطابعها تجميد تطور هذه البلدان الاقتصادي والاجتماعي: طبقة البرجوازية الكومبرادورية، وهي برجوازية محلية تتكون في البدء من مجرد شركاء تعينهم المؤسسات الأجنبية للاستيراد والتصدير، ويغتنون من ثم ويتحولون تدريجيا إلى مقاولين مستقلين. غير أن منشآتهم تنحصر بصورة رئيسية في دائرة التجارة (و« الخدمات ») أمّا أرباحهم فتوظف إجمالا في التجارة والربا وشراء الأراضي والمضاربة العقارية. طبقة التجار-المرابين ( أو التجار-المرابين-الكولاك). إن الدخول البطيء للاقتصاد النقدي يفكك تقاليد التعاون داخل المشاعة القروية. ومع تعاقب المحاصيل السيئة والجيدة، على أراض خصبة إلى هذا الحد أو ذاك، يتقدم التفاضل الاجتماعي في القرية بدون رحمة. ويتواجه الفلاحون الأغنياء والفلاحون الفقراء، ويخضع هؤلاء أكثر فأكثر لأولئك، حيث يضطر الفلاحون الفقراء إلى الاستدانة لشراء البذور والمؤن عندما لا يكفي المحصول حتى لتغطية الحاجات الأكثر أولية. فيقعون تحت تبعية التجار-المرابين- الفلاحين الأغنياء الذين يصادرون منهم تدريجيا ملكية حقولهم ويخضعونهم لإبتزازات لا تحصى. طبقة شبه البروليتاريا الريفية (التي شملت لاحقا « الهامشيين » المدينيين). إن الفلاحين المفقرين والمطرودين من أراضيهم لا يجدون عملا في الصناعة، نظرا لتخلفها. فيضطرون إلى البقاء في الريف أو يؤجرون سواعدهم للفلاحين الأغنياء أو يستأجرون قطع أرض لكي يحصلوا منها على عيشة بائسة لقاء ريع عقاري (أو حصة من المحصول في نظام المحاصصة) أكثر فأكثر بهظا. وكلما زاد بؤسهم ونقص استخدامهم قوة، كان الريع الذي هم على استعداد لدفعه لاستئجار حقل أكثر ارتفاعا. وكلما كان الريع العقاري أكثر ارتفاعا، تراجعت مصلحة أصحاب الرساميل في توظيفها في الصناعة بل يستخدمون رساميلهم بالأحرى لشراء الأرض. وكلما كان بؤس جمهور الفلاحين أكبر، ضاقت السوق الداخلية للسلع الاستهلاكية وبقيت الصناعة متخلفة وبقي نقص الاستخدام قويا. ليس التخلف إذا نتيجة لنقص مطلق في الرساميل أو الموارد. بل بعكس ذلك، غالبا ما تشكل حصة النتاج الاجتماعي الفائض من الدخل القومي حصة أكبر في البلدان المتخلفة مما في البلدان المصنعة. إن التخلف نتاج بنية اجتماعية واقتصادية، ناجمة عن السيطرة الامبريالية، تجعل تراكم الرساميل النقدية لا يتجه بصورة رئيسية نحو التصنيع ولا حتى نحو التوظيف المنتج، الأمر الذي يتسبب في نقص استخدام (كمي ونوعي) ضخم إذا ما قورن بالبلدان الإمبريالية.
كان محتما مع مرور الزمن ألا يخضع مئات الملايين من البشر لنظام استغلال واضطهاد كانت تفرضه عليهم حفنة من كبار رأسماليي البلدان الإمبريالية بواسطة الأجهزة الإدارية والقمعية لتي في خدمتها. فمدت حركة تحرر قومي جذورها تدريجيا في صفوف المثقفين الشباب في بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، حركة تبنت أفكارا ديموقراطية-برجوازية بل شبه اشتراكية واشتراكية من أفكار الغرب، لتعارض السيطرة الأجنبية على بلادها. إن النزعة القومية ذات التوجه المعادي للإمبريالية، تتمحور في البلدان التابعة حول المصالح المختلفة لثلاث قوى اجتماعية: يتم تبنيها قبل كل شيء من قبل البرجوازية القومية الصناعية الفتية، في كل مكان تحوز فيه هذه الأخيرة على قاعدة مادية خاصة تجعل مصالحها تتزاحم مع مصالح الدول الإمبريالية المسيطرة. إن المثال الأكثر نموذجية في هذا الصدد هو مثال حزب المؤتمر الهندي الذي قاده غاندي والذي دعمته بقوة المجموعات الصناعية الهندية الكبيرة. بحفز من الثورة الروسية، يمكن أن يتم تبني النزعة القومية من قبل الحركة العمالية الناشئة التي سوف تجعل منها على الأخص أداة تعبئة للجماهير المدينية والقروية ضد السلطة القائمة. إن المثال الأكثر نموذجية في هذا الصدد هو مثال الحزب الشيوعي الصيني منذ العشرينات ومثال الحزب الشيوعي في الهند الصينية في العقود اللاحقة. يمكن أن تحفز النزعة القومية انفجار تمردات للبرجوازية الصغيرة المدينية وللفلاحين، تتخذ كشكل سياسي شكل النزعة الشعبية القومية. إن ثورة 1910 المكسيكية هي النموذج الأخص لهذا الشكل من الحركة المناهضة للإمبريالية. بوجه عام، فإن تأزم النظام الإمبريالي الذي عرف تمزقات داخلية متتالية -هزيمة روسيا القيصرية في الحرب ضد اليابان في سنتي 1904-1905، ثورة عام 1905 الروسية، الحرب العالمية الأولى، ثورة عام 1917 الروسية، ظهور الحركة الجماهيرية في الهند والصين، أزمة سنوات 1929-1932 الاقتصادية، الحرب العالمية الثانية، هزائم الإمبريالية الغربية على يد الإمبريالية اليابانية في سنتي 1941-1942، هزيمة الإمبريالية اليابانية في سنة 1945- تأزم النظام الإمبريالي هذا قد حفز حركة التحرر القومي في البلدان التابعة حفزا قويا. وقد تلقت هذه الحركة دفعها الرئيسي عند انتصار الثورة الصينية عام 1949. إن المشكلات التكتيكية والاستراتيجية التي تنجم عن ظهور حركة التحرر القومي في البلدان المستعمَرة والشبه المستعمَرة، بالنسبة للحركة العمالية العالمية (والمحلية في البلدان التابعة)، سوف يتم تناولها بصورة أكثر تفصيلا في الفصل العاشر، النقطة 4، والفصل الثالث عشر، النقطة 4. أما هنا فنكتفي بالتأكيد على أن الواجب الخاص للحركة العمالية في البلدان الإمبريالية هو أن تؤيد بلا شروط كل حركة وكل عمل فعلي تقوم بهما جماهير البلدان المستعمَرة والشبه المستعمَرة ضد الاستغلال والاضطهاد اللذين تعاني منهما على يد الدول الإمبريالية. هذا الوالجب يقتضي تمييزا صارما بين الحروب الإمبريالية، وهي حروب رجعية، وحروب التحرر القومي التي هي حروب عادلة بصرف النظر عن القوة السياسية التي تقود الشعب المضطهد في هذه المرحلة من النضال أو تلك، وينبغي على البروليتاريا العالمية في هذه الحروب أن تعمل لأجل انتصار الشعوب المضطهدة.
إن ازدهار حركة التحرر القومي غداة الحرب العالمية الثانية قد جر الإمبريالية إلى تعديل أشكال سيطرتها على البلدان المتخلفة. فقد تحولت هذه السيطرة تدريجيا من سيطرة مباشرة إلى غير مباشرة. وقد تقلص بسرعة عدد المستعمرات بحصر المعنى، التي تديرها الدول الاستعمارية مباشرة. وانتقل هذا العدد، في غضون عقدين، من حوالي السبعين إلى بعض الوحدات فقط. وانهارت بمعظمها الإمبراطوريات الاستعمارية الإيطالية والبريطانية والهولندية والفرنسية وأخيرا البرتغالية والإسبانية. لم يحصل طبعا زوال الإمبراطوريات الاستعمارية هذا دون مقاومة دموية ومضادة للثورة من قبل قطاعات هامة من الرأسمال الإمبريالي. تشهد على ذلك الحروب الاستعمارية الدموية التي خاضتها الإمبريالية الهولندية في أندونيسيا، والإمبريالية البريطانية في ماليزيا وفي كينيا، والإمبريالية الفرنسية في الهند الصينية وفي الجزائر، كما تشهد عليه « الحملات » الأقصر مدة لكن التي لا تقل دموية لحملة السويس سنة 1956 ضد مصر. غير أن هذه الأعمال المشؤومة تبدو تاريخيا كمعارك رجعية. يقينا أن الاستعمار المباشر كان محكوما عليه بالوزال. بيد أن زواله لا يعني البتة تفكك النظام الإمبريالي العالمي. بل يستمر هذا النظام في الوجود، وإن في أشكال معدلة. فتبقى الغالبية العظمى من البلدان شبه المستعمرة محصورة في تصدير المواد الأولية. وتظل خاضعة لجميع النتائج المضرة للتبادل الاستغلالي غير المتساوي. ويستمر التباعد، بدل التقارب، بين درجة تطور هذه البلدان ودرجة تطور البلدان الإمبريالية. ويزداد بعد المسافة بين القسم « الشمالي » والقسم « الجنوبي » من الكرة الأرضية، من حيث الدخل الفردي ومستوى الرفاهية. هذا ويقتضي تحول السيطرة الإمبريالية المباشرة إلى سيطرة إمبريالية غير مباشرة على البلدان المتخلفة، إشراكا أوثق للبرجوازية الصناعية « القومية » في استغلال الجماهير الكادحة في هذه البلدان، ويستتبع أيضا إسراعا ما لسيرورة التصنيع في جملة من البلدان شبه المستعمرة. هذا ينجم في آن واحد عن تبدل موازين القوى السياسية (أي أنه يشكل تنازلا محتما للنظام تحت ضغط الجماهير المتعاظم) وعن تبدل المصالح الأساسية للمجموعات الإمبريالية الرئيسية بذاتها. إن طبيعة البضائع المصدرة من قبل البلدان الإمبريالية قد شهدت بالفعل تبدلا هاما. وأصبحت فئة « الآلات والسلع التجهيزية ووسائل النقل » تحتل فيها الصدارة بعد أن كانت تحتلها فئتا السلع الاستهلاكية والفولاذ. والحال أنه يستحيل أن تصدر التروستات الاحتكارية الرئيسية قدرا أكبر فأكبر من الآلات إلى البلدان التابعة دون أن تحفز فيها بعض أشكال التصنيع (المحصور إجمالا وبوجه خاص في صناعة السلع الاستهلاكية). ومن جهة أخرى، فإن الشركات متعددة القوميات تجد في إطار استراتيجيتها العالمية مصلحة في الانغراس في عدد من البلدان التابعة لتحتل فيها السوق منذ البدء تقريبا، نظرا لتوسع المبيعات اللاحق الذي تتوقعه. هكذا تتعمم صيغة المنشآت المشتركة (joint-ventures) بين الرأسمال الإمبريالي والرأسمال الصناعي « القومي » في تلك البلدان، أكان رأسمالا خاصا أو رأسمال دولة، حيث تشكل هذه الصيغة إحدى ميزات البنية شبه الاستعمارية. ويزداد بالتالي ثقل الطبقة العاملة في المجتمع. هذه البنية تظل منخرطة في منظومة إمبريالية قاسية واستغلالية. ويبقى التصنيع محدودا، حيث تكاد « سوقه الداخلية » لا تتعدى إجمالا ما بين 20% و25% من السكان: الطبقات الميسورة + التقنيون والكوادر، الخ + الفلاحون الأغنياء. ويضل بؤس الجماهير هائلا. فتتزايد التناقضات الاجتماعية بدل أن تتقلص: من هنا تبقى طاقة الانفجارات الثورية المتتالية في البلدان التابعة. في هذه الشروط، تكتسب شريحة اجتماعية جديدة أهمية: أنها بيروقراطية الدولة التي « تدير » إجمالا قطاعا مؤمما هاما وتنصب نفسها ممثلة للاهتمامات القومية تجاه الخارج، لكنها تستغل في الواقع احتكارها للإدارة لتجري تراكمها الخاص على نطاق واسع.
لينين، الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية. تروتسكي، الثورة الدائمة. تروتسكي، الأممية الثالثة بعد لينين. ر. لكسمبورغ، تراكم الرأسمال (الفصول الستة الأخيرة). ن. بوخارين، الإمبريالية والاقتصاد العالمي. جاليه، الإمبريالية عام 1970. ب.سلامة، سيرورة التخلف. ب. باران، الاقتصاد السياسي للتنمية. هوبت-لوفي-فايل، الماركسيون والمسألة القومية (نصوص مختارة). ميخايل برات-براون، بعد الإمبريالية. |
|||