الأحزاب السياسية في روسيا |
صدرة للمرة الاولى في 10 ماي 1912 |
تجبر الانتخابات إلى دوما الدولة كافة الأحزاب على رفع حدة تحريضها وعلى تجميع قواها لإنجاح أكبر عدد ممكن من مرشحيها. لهذه الغاية يجري عندنا، كما في كافة البلدان الأخرى، نشر إشهار انتخابي بالغ الوقاحة. تقوم كافة الأحزاب البرجوازية، أي تلك التي تحرس الامتيازات الاقتصادية للرأسماليين، بالإشهار لأحزابها بنفس الكيفية تماما التي يقوم بها الرأسماليون بالإشهار لبضائعهم. انظروا إلى الإعلانات التجارية المنشورة بالجرائد وسترون أن الرأسماليين يخترعون لبضائعهم أكثر الأسماء « إثارة » وأكثرها ضجيجا ومطابقة للموضة، وأنهم يمدحونها دون أي حرج ودون امتناع عن أي كذب ولا أي خديعة. وقد اعتاد الجمهور، في المدن الكبرى ومراكز التجارة بالأقل، على الإشهار التجاري منذ أمد بعيد، ويدرك قيمته. لكن الإشهار السياسي يخدع للأسف عددا من الناس أكبر بما لا يقاس، وثمة صعوبة أكبر في إسقاط القناع عنه، إذ أن الكذب يرسخ هنا على نحو أشد صلابة. ويجري أحيانا اختيار أسماء الأحزاب عندنا – كما في أوربا – لأجل استعمالها للإشهار بشكل جلي، وعادة ما تـُصاغ « برامج » الأحزاب لغاية وحيدة هي خداع الجمهور. وفي الغالب بقدر وجود حرية سياسية في بلد رأسمالي، بقدر وجود ديمقراطية، أي سلطة شعبية وممثلين للشعب، بقدر ما يكون إشهار الأحزاب وقحا. لكن والحالة هذه، كيف يمكن للمرء أن يوجه نفسه في صراع الأحزاب ؟ ألا يدل هذا الصراع بأكاذيبه وإشهاره على أن المؤسسات التمثيلية والبرلمانات وجمعيات ممثلي الشعب هي بوجه عام غير مفيدة، لا بل ضارة كما يدعي غلاة الرجعية أعداء البرلمانية ؟ لا أبدا. ففي غياب مؤسسات تمثيلية يكون ثمة قدر أكبر بكثير من الأكاذيب والنفاق السياسي وكل أشكال الخداع وتكون الموارد المتاحة للشعب لفضح الكذب واكتشاف الحقيقة أقل بكثير. يجب على المرء، كي يكون على بصيرة في صراع الأحزاب، ألا يثق بها وفق أقوالها بل عليه أن يدرس تاريخها الفعلي، أي أن ينظر إلى طريقتها في حل مختلف المسائل السياسية وإلى سلوكها في مختلف القضايا المتعلقة بالمصالح الحيوية لمختلف الطبقات الاجتماعية: مالكون عقاريون، رأسماليون، فلاحون، عمال، الخ. بقدر توفر بلد ما على الحرية السياسية واستقرار مؤسساته التمثيلية وديمقراطيتها، بقدر ما يسهل على الجماهير أن توجه نفسها في صراع الأحزاب وأن تبدأ في تعلم السياسة أي تعلم فضح الكذب واكتشاف الحقيقة. يبرز بجلاء تام انقسام كل مجتمع إلى أحزاب سياسية بوجه خاص في مرحلة أزمات عميقة تهز البلد. آنذاك تكون الحكومات مجبرة على البحث عن سند في مختلف طبقات المجتمع. ويستبعد الصراع المحتدم الجمل وكل ما هو حقير وسطحي وتشد الأحزاب كل قواها وتنادي على الجماهير الشعبية، التي تتبع، مقتادة بغريزتها السليمة ومستنيرة بخبرتها في النضال المكشوف، الأحزاب الممثلة لمصالح هذه الطبقة أو تلك. دوما تحدد فترات الأزمة هذه لسنوات عديدة، وحتى لعقود عديدة، الخريطة السياسية للقوى الاجتماعية لبلد ما. ففي ألمانيا مثلا مثلت حروب 1866-1870 (1) تلك الأزمة وفي روسيا مثلتها أحداث 1905. ويستحيل فهم طبيعة أحزابنا السياسية كما يستحيل كشف أي طبقات يمثل هذا الحزب أو ذاك في روسيا دون العودة إلى احداث تلك السنة. سنبدأ لمحتنا عن الأحزاب السياسية في روسيا بأحزاب أقصى اليمين. ففي أقصى اليمين نجد « اتحاد الشعب الروسي ». إن برنامج هذا الحزب معروض كما يلي في جريدته روسكويي زناميا التي يصدرها. دوبروفين: « إن اتحاد الشعب الروسي، الذي شرفه القيصر يوم 3 يونيو 1907 بنداء موجه من أعلى العرش، طالبا منه أن يكون سنده الوفي، وأن يعطي للجميع وفي كل المناسبات مثال الشرعية والنظام، يعلن أن إرادة القيصر لا يمكن إنجازها الا بالشروط التالية: 1) التجلي الكامل لقوة الاتوقراطية القيصرية المرتبطة عضويا ودائما بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية المنظمة طبقا للشرائع. 2) ألا تقتصر سيادة القومية الروسية على الأقاليم الداخلية بل أيضا الطرفية. 3) عندما تصبح دوما الدولة، المكونة حصرا من الروس، المساعد الرئيسي للاوتوقراطي في عمله السياسي. 4) تطبيق صارم للمبادئ الأساسية لاتحاد الشعب الروسي المتعلقة باليهود. 5) طرد الموظفين أعداء السلطة القيصرية الاتوقراطية. » أعدنا هنا حرفيا هذا التصريح الرسمي لليمين قصد اطلاع القارئ على النص الأصلي أولا، ثم لأن البواعث الأساسية المعروضة هنا صالحة بالنسبة لكافة أحزاب الأغلبية بالدوما الثالثة، أي « القوميين » والاكتوبريين على حد سواء. وهذا ما سنراه لاحقا. إن برنامج اتحاد الشعب الروسي يستعيد في الجوهر شعار عصر القنانة القديم: الأرثوذكسية، الاتوقراطية، القومية. أما عن الاعتراف بالمبادئ « الدستورية » في النظام السياسي الروسي، وهي المسألة التي عادة ما يتميز بها اتحاد الشعب الروسي عن باقي الأحزاب التي تيله، فتجدر الإشارة إلى أن هذا الاتحاد ليس بأي وجه ضد المؤسسات التمثيلية بصفة عامة. ويبرز البرنامج الذي أوردناه أن اتحاد الشعب الروسي من أنصار دوما دولة تقوم بدور« مساعد ». خصوصية الدستور الروسي – إن صحت تسميته دستورا – حددتها جريدة دوبروفين على نحو صائب، أي طبقا للوضع الفعلي. ويتمسك القوميون والاكتوبريون، في سياستهم الفعلية، بهذا الموقف بالضبط. وليس النقاش بين هذه الأحزاب حول« الدستور » إجمالا غير نقاش حول ألفاظ: ليس« اليمين » ضد الدوما لكنه يتمسك بالتأكيد على وجوب أن تكون الدوما « مساعدا » دون أي تحديد لحقوقها، ومن جهتهم لا يفكر القوميون والاكتوبريون نهائيا في المطالبة بحقوق دقيقة للدوما ولا حتى بضمانات فعلية لسلطتها. ويتواطؤ « دستوريو » الاكتوبرية جيدا مع « خصوم الدستور » بالتكيف مع دستور 3 يونيو. ويندرج الحقد ضد السكان غير الأصليين واليهود منهم بوجه خاص في برنامج المئات السود(2) بصراحة ووضوح ودقة. وكالعادة فإنهم بذلك إنما يعبرون بفظاظة أكثر وبغير مراعاة وبوقاحة عما تخفيه الأحزاب الأخرى بهذا القدر أو ذاك من « الحشمة » والديبلوماسية. والواقع أن من يعرف قليلا نشاط الدوما وكذا الصحف من قبيل نوفويي فريميا وسفيت(3) وغولوس وموسكفي، إلخ. يعرف أن القوميين والاكتوبريين يشاركون هم أيضا في حملة التحريض ضد السكان غير الأصليين. ينطرح السؤال: ما هي القاعدة الاجتماعية لحزب اليمينيين ؟ وما هي الطبقة التي يمثلها ويخدمها ؟ عاد هذا الحزب إلى شعارات القنانة ويدافع عن كل ما هو عتيق قروسطي في الحياة الروسية وهو راض تمام الرضا على دستور 3 يونيو – دستور الملاكين العقاريين – ويسعى إلى الحفاظ على امتيازات النبلاء والموظفين، وهذا ما يجيب بوضوح عن سؤالنا. اليمين هو حزب المدافعين عن القنانة، حزب مجلس النبلاء الموحدين(4). وليس عبثا أن هذا المجلس قام بدور كبير، لا بل بدور قائد، في حل الدوما الثانية وفي تعديل القانون الانتخابي وفي انقلاب 3 يونيو(5). وتكفي لإبراز القوة الاقتصادية لهذه الطبقة في روسيا الإشارة إلى واقع جوهري تدل عليه أرقام الإحصاء الزراعي الحكومي لسنة 1905 الذي نشرته وزارة الداخلية. ففي روسيا الأوربية يملك اقل من 30 ألف مالك عقاري 70 مليون ديسياتين، أي قدر ما تملك 10 ملايين أسرة فلاحية من بين المالكة لأصغر قطع ارض. يعني ذلك ان متوسط ما لدى مالك عقاري هو 2300 ديسياتين، بينما ليس للفلاح فقير وأسرته سوى 7 ديسياتين. ومن الطبيعي والأكيد ان الفلاح لن يعيش من هذه « القطعة » وأنه محكوم بموت بطيء ! فمجاعات متكررة – كمجاعة السنة الجارية – تضرب ملايين الناس وتواصل مع كل محصول سيء تدمير اقتصاد روسيا الفلاحي. ويضطر الفلاحون إلى اكتراء أرض الملاكين العقاريين مقابل خدمات عمل. ولأجل الوفاء بإيجار الأرض يتعين على الفلاح أن يعمل لصالح المالك العقاري بحصانه وبأدواته. إنها القنانة عينها لا ينقصها سوى الاسم. إن الملاكين العقاريين إذ يملكون 2300 ديسياتين عاجزون، في اغلب الأحيان، عن استغلال أرضهم سوى بنظام العبودية أي نظام الإتاوات والسخرة. ولا يزرعون سوى قسم من أملاكهم الواسعة بواسطة عمال زراعيين. ثم إن نفس طبقة أسياد الأراضي هي التي تمد دوما الدولة بالغالبية العظمى من كبار ومتوسطي الموظفين. وتمثل امتيازات الموظفين في روسيا الوجه الآخر لامتيازات وسلطة الأرض لدى الأسياد. ندرك إذن ان مجلس النبلاء الموحدين وأحزاب « اليمين » المدافعين عن سياسة التقاليد الإقطاعية القديمة لا يفعلون ذلك صدفة بل حتما، وليس نتيجة « سوء إرادة » بعض الأشخاص بل بضغط من مصالح طبقة لا متناهية القوة. ان الطبقة الحاكمة القديمة – من مخلفات الإقطاعية – مع بقائها كما في السابق الطبقة الحاكمة خلقت لفائدتها حزبا ملائما: « اتحاد الشعب الروسي » أو « يمين » دوما الدولة ومجلس الدولة(6). لكن بما أن المؤسسات التمثيلية قائمة، وبما أنه سبق للجماهير ان نزلت إلى الميدان السياسي، كما فعلت عندنا سنة 1905، فانه يجب على كل حزب بالضرورة أن يرجع إلى الشعب بصدد هذا الإجراء أو ذاك. لكن باي حجج يمكن لاحزاب اليمين أن ترجع إلى الشعب ؟ ليس بوسعهم طبعا أن يدافعوا مباشرة عن مصالح كبار الملاكين العقاريين. انهم يتحدثون بوجه عام عن ضرورة الحفاظ على نظام الأشياء القديم، ويبذلون كامل جهودهم لتحريك الحذر إزاء كافة السكان غير الأصليين وإزاء اليهود بوجه خاص، ويدفعون الناس الأميين تماما والجاهلين تماما إلى اقتراف مذابح ضد اليهود والى مطاردة « اليوتر »(7) ويسعون إلى إخفاء امتيازات النبلاء والموظفين والملاكين العقاريين بالثرثرة حول « اضطهاد » الروس من قبل السكان غيرالأصليين. هكذا هو حزب « اليمين ». وقد قام أحد أعضائه، بوريشكفيتش، المع خطباء « اليمين » في الدوما الثالثة، بعمل كثير وناجح ليبرز للشعب ما يريد اليمين وكيف يتصرف ومن يخدم. إن بوريشكفيتش محرض موهوب. وإلى جانب اليمين، ذي 46 مقعدا في الدوما الثالثة، يوجد« القوميون » الذين لهم 91 نائبا. ولا مدلول بتاتا للفرق الطفيف الذي يميزهم عن اليمين: ليسا في الجوهر حزبين: انهما حزب وحيد قسم بين أعضائه « عمل » التهييج ضد السكان غير الأصليين وضد « الكاديت » (الليبراليين) والديمقراطيين، الخ. انهم يقومون بنفس العمل، بعضٌ بعنف أشد وبعضٌ آخر بلباقة أكبر. ومن الأفضل للحكومة من جهة أخرى ان يقوم أناس « أقصى » اليمين،القادرون على كل الفضائح، وكل المذابح، وباغتيال أناس مثل هيرزنشتاين ويولوس وكارافاييف، ان يتنحوا جانيا ويتظاهروا، هم، بـ« انتقاد » الحكومة من اليمين. ليس لما يميز اليمين عن القوميين أي أهمية جدية. للاكتوبريين في الدوما الثالثة 131 مقعدا، ومنهم بالطبع « أكتوبريو اليمين ». لا يتميز الاكتوبريون عن اليمين في السياسة الراهنة، لكنهم يتميزون عنهم في كون هذا الحزب يخدم، علاوة على المالك العقاري، الرأسمالي الكبير، والتاجر التقليدي، والبرجوازية التي خافت خوفا عظيما من نهوض العمال وبعدهم الفلاحين إلى حياة مستقلة، والتي اتجهت نحو الدفاع عن النظام القديم. يوجد بروسيا رأسماليون –وبعدد كبير- يعاملون العمال تماما مثل ما يعامل الأسياد اقنانهم القدامى، ليس العامل والمستخدم بنظرهم غير خدم البيت. لن يستطيع أحد خدمة النظام القديم على نحو افضل من أحزاب اليمين، القوميين والاكتوبريين. وثمة أيضا رأسماليون طالبوا بـ« دستور » سنة 1904 و1905، في مؤتمرات الزيمستفو(8) والبلديات، لكنهم مستعدون، لأجل محاربة العمال، لقبول دستور 3 يونيو. إن حزب الاكتوبريين هو الحزب الرئيسي من أحزاب كبار الملاكين العقاريين والرأسماليين المضادة للثورة. أنه الحزب القائد للدوما الثالثة: فالنواب الاكتوبريون(131) ونواب اليمين(137) والقوميون يشكلون بها أغلبية صلبة. لقد ضمن قانون يونيو 1907 الانتخابي الأغلبية للملاكين العقاريين وكبار الرأسماليين: ففي كل الهيئات الانتخابية الإقليمية التي بعثت نوابا إلى الدوما تتكون الأغلبية من الملاكين العقاريين ومن كبار الناخبين في المجلس الحضري الأول (أي مجلس كبار الرأسماليين ). وفي 28 هيئة انتخابية إقليمية تتكون الأغلبية من الملاكين العقاريين وحدهم. لقد تم تحقيق كامل سياسة حكومة 3 يونيو بمساعدة الحزب الاكتوبري المسؤول بذلك عن كل ذنوب الدوما الثالثة وجرائمها. يدافع الاكتوبريون بالقول، في برنامجهم، عن « الدستور » وحتى عن … الحريات ! وفي الواقع ساند هذا الحزب كل الإجراءات المتخذة ضد العمال ( بخصوص مشروع القانون حول التأمينات مثلا تذكروا رئيس اللجنة البرلمانية حول المسألة العمالية البارون تيزنهاوزن !) وضد الفلاحين وضد الحد من التعسف والاستعباد. ان الاكتوبريين حزب حكومي مثل القوميين. وهذا لا يغير شيئا من كون الاكتوبريين يعتمدون بين الفينة والأخرى، لاسيما قبيل الانتخابات، خطابات « معارضة ». فأينما وُجدت برلمانات يلاحظ منذ أمد طويل ويلاحظ دوما أن الأحزاب البرجوازية تلعب لعبة المعارضة: هذه اللعبة غير مؤذية لها لانه ليس ثمة حكومة تأخذهم مأخذ جد: إنها مفيدة لها احيانا ازاء الناخب الذي يفيد« تملقه » بخطب معارضة. لكن المختصين والخبراء الماهرين في لعبة المعارضة هم الدستوريون « الديمقراطيون » أي حزب الكاديت، حزب المعارضة الرئيسي بالدوما الثالثة، حزب « حرية الشعب ». يا له من مكر اسم هذا الحزب الذي ليس بأي وجه حزبا ديمقراطيا، ولا حزبا شعبيا، أنه ليس حزبا للحرية بل نصف حرية ان لم يكن ربع حرية. في الواقع هو حزب البرجوازية الملكية الليبرالية التي تخشى الحركة الشعبية اكثر مما تخشى الرجعية. إن الديمقراطي يثق في الشعب، ويثق في حركة الجماهير، ويساهم فيها بكافة السبل رغم أنه غالبا ما تكون لديه (مثل الديمقراطيين البرجوازيين، الترودوفيك) فكرة خاطئة عن أهمية تلك الحركة في إطار النظام الرأسمالي. ويطمح الديمقراطي بصدق اكبر إلى القضاء على كل الماضي القروسطي. إن الليبرالي يخشى حركة الجماهير: يعرقلها ويدافع بوعي عن بعض المؤسسات القروسطية – بل أهمها- كي يؤمن لنفسه سندا ضد الجماهير، لا سيما ضد العمال. ان ما يسعى اليه الليبراليون هو تقاسم السلطة مع أمثال بوريشكيفيتش وليس تدمير كل أسس سلطتهم. كل شيء للشعب وكل شيء من طرف الشعب، هكذا يقول البرجوازي الصغير الديمقراطي (الفلاح بما فيه الترودوفيك)، الذي يريد بصدق تدمير كل أسس نظام أمثال بوريشكفيتش، والذي لا يفهم أهمية نضال العمال الأجراء ضد الرأسمال. وبالعكس يتمثل الهدف الحقيقي للبرجوازية الملكية الليبرالية في تقاسم السلطة على العمال وعلى صغار المزارعين مع أمثال بوريشكفيتش. كان لدى الكاديت في الدوما الأولى والثانية أغلبية أو وضع رجحان. واستعملوا ذلك للعب كوميديا عبثية وغير مجيدة: يمينا لعبوا الولاء والاستوزار (لأننا نستطيع في الأخير تسوية سلمية لكل التناحرات: عدم تدليل الفلاح وعدم إغضاب بوريشكفيتش ) ويسارا لعبوا النزعة الديمقراطية. يمينا حصل الكاديت في الأخير، في متم تلك الكوميديا، على ضربة بالحذاء. ويسارا كسبوا سمعة مستحقة بما هم خونة لحرية الشعب. ولم يناضلوا باستمرار في الدوما الاولى والثانية ضد الديمقراطية العمالية وحسب، بل حتى ضد الترودوفيك. ويكفي التذكير بأن مشروع الترودوفيك المتعلق باللجان الزراعية المحلية (الدوما الاولى)، هذا المشروع الديمقراطي الأولى، المشروع الديمقراطي البدائي، أسقطه الكاديت بدفاعهم عن رجحان المالك العقاري الكبير والموظف على الفلاح في لجان القانون الزراعي ! وفي الدوما الثالثة لعب الكاديت لعبة « المعارضة المسؤولة » ،« معارضة جلالة الملك »(9). وهذا ما جعلهم يصوتون مرارا على ميزانيات الحكومة (الـ« ديمقراطيون » !) وافهموا الاكتوبريين أن مبدأهم حول الاسترداد « القسري » (يقسر الفلاحي) عديم الخطر وغير مؤذ – تذكروا خطاب بيريزوفسكي – وارسلوا كاراولوف إلى المنبر لالقاء خطب « تقية »، وتنكروا لحركة الجماهير، ونادوا « القمم » ومنعوا من الكلام المستويات الدنيا (صراع الكاديت ضد النواب العمال في مسالة التأمينات)الخ ،الخ. الكاديت هم حزب الليبرالية المضادة للثورة. وبادعائهم القيام بدور « المعارضة المسؤولة » اي المعترف بها، الشرعية، المقبولة لمنافسة الاكتوبريين، ليس معارضة ضد نظام 3 يونيو بل معارضة نظام 3 يونيو، بهذا الادعاء تشوه الكاديت نهائيا بصفتهم « ديمقراطيين ». ان الدعاوة الوقحة المفعمة بروح فييخي(10) التي قام بها ايديولوجيو الكاديت من امثال ستروفيه وازغوييف وشركائهم المفضوحين من قبل روزانوف وانتوني دو فولهيني، ودور « المعارضة المسؤولة » بالدوما الثالثة هما وجها نفس العملة. تريد البرجوازية الملكية الليبرالية المسموح بها من البوريشكفيتش الجلوس إلى جانب بوريشكفيتش. لقد أكد اليوم لمرة إضافية تكتلُ الكاديت مع « التقدميين »، لأجل انتخابات الدوما الرابعة ان الكاديت مضادون للثورة بعمق. ليس لدى التقدميين أي ادعاء لنزعة ديمقراطية ما: لا ينبسون ببنة شفة حول ضرورة محاربة نظام 3 يونيو بمجمله، ولا يحلمون بأي « اقتراع عام ». انهم ليبراليون معتدلون لا يخفون قرابتهم مع الاكتوبريين. يجب ان يفتح تحالف الكاديت والاكتوبريين أعين حتى العمي ضمن « المرؤوسين المعاونين الكاديت » حول الطبيعة الحقيقية لحزب الكاديت. الديمقراطية البرجوازية في روسيا يمثلها الشعبويون من كل التنويعات من الاشتراكيين-الثوريين الأكثر راديكالية حتى الاشتراكيين-الشعبويين والترودوفيك. كلهم يستعملون كلمات « اشتراكية » لكنه غير مسموح لعامل واع بأن يخطأ حول دلالتها. في الواقع لا توجد قطرة واحدة من الاشتراكية في « الحق في الارض » وكذا في « التوزيع المتساوي » وفي « تشريك الارض ». هذا ما يتعين أن يفهمه كل من يعرف ان إلغاء الملكية الخاصة للأرض وتوزيعها الجديد، مهما بلغ من « العدل »، لا يمس الانتاج السلعي وسلطة السوق والمال والرأسمال، بل على العكس يزيد تطويرها على نحو أوسع. لكن الجمل حول « مبدأ العمل » وحول « الاشتراكية الشعبوية » تعبر عن الإيمان العميق (والرغبة الصادقة) لدى الديمقراطي في إمكانية وضرورة إلغاء كافة الأشكال القروسطية لملكية الأرض وللنظام السياسي.ان كان الليبراليون (الكاديت) يرغبون في تقاسم السلطة السياسية والامتيازات السياسية مع البوريشكفيتشيين فان الشعبويين ديمقراطيون لانهم بالضبط يرغبون،وعليهم ان يرغبوا، في اللحظة الراهنة، في إلغاء كافة الامتيازات المرتبطة بملكية الأرض وكافة الامتيازات السياسية. إن وضع الفلاحين الروس، في سوادهم الأعظم، لا يتيح التفكير في مساومة (ممكنة تماما وعزيزة على الليبراليين) مع البوريشكيفيتشيين. هذا ما يجعل النزعة الديمقراطية لدى البرجوازية الصغيرة لها في روسيا، لأمد طويل، جذور في الجماهير، ولم يخلق الاصلاح الزراعي لستوليبين(11)، هذه االسياسة البرجوازية للبوريشكفيتشيين الموجهة ضد الموجيك، أي شيء متين ان لم يكن … المجاعة التي ضربت 30 مليون انسان ! لا يمكن لملايين المزارعين الصغار ضحايا المجاعة الا ان يطمحوا إلى اصلاح زراعي آخر، اصلاح ديمقراطي من شأنه، دون الخروج عن اطار النظام الرأسمالي، دون الغاء عبودية الأجرة، ان يكنس من وجه الأرض الروسية الأشكال القروسطية. الترودوفيك ضعاف جدا في الدوما الثالثة، لكنهم يمثلون الجماهير. وحتما ينبع تأرجح الترودوفيك بين الكاديت والديمقراطية العمالية من الموقع الطبقي لصغار المالكين، وتؤدي الصعوبة القصوى في تجميعهم وتنظيمهم وتربيتهم إلى اضفاء طابع غير دقيق ولا شكلي للغاية على الترودوفيك بصفتهم حزبا. هذا ما يجعل الترودوفيك المساعدين بـ« الاوتزوفية » البليدة لشعبويي اليسار يبدون في صورة يرثى لها لحزب عرضة للتصفية. الفرق بين التنرودوفيك وتصفويينا شبه الماركسيين هو أن الأولين تصفويون بالضعف بينما هؤلاء تصفويون بسوء نية. مساعدة الديمقراطيين البرجوازيين الصغار الضعاف وانتزاعهم من تأثير الليبراليين وتشكيل معكسر للديمقراطية ضد الكاديت المضادين للثورة وليس فقط ضد اليمينيين: تلك هي مهمة الديمقراطية العمالية. أما بشأن هذه الاخيرة التي كانت لها مجموعتها في الدوما الثالثة فليس بوسعنا أن نقول سوى القليل. في كل مكان بأوربا تشكلت أحزاب الطبقة العاملة بانتزاع نفسها من تأثير الأيديولوجيا الديمقراطية العامة، وبتعلم القيام بالتمييز بين نضال العمال الأجراء ضد الرأسمال والنضال ضد الإقطاعية، وذلك بوجه خاص لاجل تأجيج هذا النضال الأخير قصد التخلص من كل عنصر تردد وتقلب. في روسيا انفصلت الديمقراطية العمالية بوضوح سواء عن الليبرالية أو عن الديمقراطية البرجوازية (من الاتجاه الترودوفيكي) لأجل مصلحة الديمقراطية بوجه عام. يتقاسم التيار التصفوي في الديمقراطية العمالية (ناشا زاريا وجيفويي دييلو) ضعف الترودوفيك ويمجد انعدام الشكل ويطمح إلى دور معارضة « مسموح بها »، ويرفض هيمنة العمال ويكتفي بالحديث عن تنظيم « شرعي » (مع اذلال ذلك الذي ليس شرعيا) ويدعو إلى سياسة عمالية ليبرالية. وجلي ان هذا التيار ناتج عن الانحطاط والاحباط الخاصين بحقبة الثورة المضادة. ويغدو جليا أن ينفصل عن الديمقراطية العمالية. ان العمال الواعين إذ يتحدون، دون تصفية أي شيء، لمحاربة التأثيرات الليبرالية وينظمون صفوفهم بما هم طبقة، ويطورون كل إمكانات التجميع النقابي، الخ. يعملون في نفس الوقت كمثلين للاجراء ضد الرأسمال وكممثلين للديمقراطية الحازمة ضد مجموع النظام البائد في روسيا وضد كل ميل إلى تقديم تنازلات لهذا النظام. على سبيل التوضيح ننشر المعلومات المتعلقة بالتركيب السياسي للدوما
الثالثة اقتبسناها من الحولية الرسمية للدوما سنة 1912. الأحزاب في الدوما الثالثة كبار الملاكين العقاريين البرجوازية الديمقراطية البرجوازية كانت الدوما الثالثة تضم أغلبيتين:1) اليمين والأكتوبريون = 437268 من، الأكتوبريون والليبراليون = 120 + 115 = 235 من 437 وكانت الأغلبيتان مضادتين
للثورة .
(2) المئات السود: عصابات
ملكية تجندها الشرطة لمحاربة الحركة الثورية. تقوم باغتيال الثوريين
ومهاجمة المثقفين التقدميين وتنظم مذابح لليهود . (3) « سفيت » [النور] جريدة
يومية قومية بورجوازية صدرت في بطرسبورغ من 1882 إلى 1917. « غولوس
موسكفي » [صوت موسكو] جريدة يومية لسان الاكتوبريين، حزب البرجوازية
الكبيرة الصناعية وكبار المالكين العقارين، المضاد للثورة، صدرت في
موسكو من 1906 إلى 1915. (4) مجلس النبلاء الموحدين:
منظمة للمالكين العقاريين الاقطاعيين مضادة للثورة أُسست سنة 1906 خلال
مؤتمر منتدبي الجمعيات الاقليمية للنبلاء. دام وجودها إلى اكتوبر 1917.
كان هدفها الاساسي الدفاع عن النظام الاتوقراطي وعن الملكية العقارية
الكبيرة وعن امتيازات النبلاء. سماها لينين مجلس الاقطاعيين الموحدين.
تحولت هذه المنظمة عمليا إلى هيأة شبه حكومية تملي على الحكومة
الاجراءات التشريعية الرامية إلى الدفاع عن مصالح الاقطاعيين. وكان عدد
كبير من عناصرها اعضاء بمجلس الدولة وبالهيئات القيادية لمنظمات المئات
السود. (5) المقصود بيان القيصر يوم 3
يونيو 1907 القاضي بحل الدوما الثانية وتغيير القانون الانتخابي على
نحو يزيد تمثيلية المالكين العقاريين والبرجوازية التجارية والصناعية
بالدوما ويقلص تمثيلية الفلاحين الضعيفة اصلا. وكان ذلك خرقا سافرا
لبيان 17 اكتوبر 1905 والقانون الاساسي لـ1906 القاضيان بعدم اصدار
الحكومة لأي قانون دون موافقة الدوما. كان انقلاب 3يونيو فاتحة لحقبة
الرجعية الستوليبينية. (6) مجلس الدولة: إحدى اعلى
الهيئات الحكومية في روسيا قبل الثورة. تأسس سنة 1810 ليكون هيئة
استشارية يعين اعضاؤها من طرف القيصر. أعيد تنظيمه سنة 1906 واسند اليه
حق المصادقة على مشاريبع القوانين أو رفضها بعد مناقشتها في دوما
الدولة لكن حق تغيير القوانين الأساسية واصدار قوانين بالغة الاهمية
يظل بيد القيصر. ابتداء من 1906 تشكل نصف مجلس الدولة من من منتخبين عن
النبلاء ورجال الدين والبرجوازية الكبيرة والنصف الاخر من كبار موظفين
يعينهم القيصر. وبفضل هذا كان مجلس الدولة مؤسسة رجعية حصرا يرفض حتى
مشاريع القوانين المعتدلة التي تقبلها دوما الدولة. (7) شتيمة عنصرية ينعث بها اليهودي (8) الزيمستفو: الادارة
المحلية المستقلة، اسست سنة 1864 في الاقاليم الوسطى لروسيا القيصرية
ويسيرها النبلاء. كانت سلطات الزيمستفو محدودة في الشؤون المحلية (بناء
المستشفيات والطرق والاحصاء والـتأمينات ،الخ ) كانت انشطتها مراقبة من
حكام الاقاليم ووزارة الداخلية الذي كان بامكانهما الغاء الاجراءات
التي لا تروق الحكومة. (9) يلمح لينين إلى خطاب القاه
ميليوكوف في يونيو 1909 في غذاء عند اللورد عمدة لندن خلال زيارة وفد
من دوما الدولة الثالثة ومجلس الدولة لانجلترا. كان ميليوكوف قد اكد
وفاء الكاديت للحكم المطلق القيصري مؤكدا على انه طالما بقيت دوما في
روسيا " ستظل المعارضة الروسية معارضة جلالة الملك وليس معارضة ضد
جلالة الملك". (10) فييخى (المعالم) كتاب نشره
الكاديت في موسكو في ربيع 1909 ضم مقالات لممثلي البرجوازية الليبرالية
المضادة للثورة. حاول مؤلفوه في المقالات المخصصة للمثفين الروس افقاد
الاعتبار للتقاليد الديمقراطية الثورية لدى افضل ممثلي الشعب الروسي
وبوجه خاص بيلينسكي وتشيرنيشيفسكي وشتموا الحركة الثورية لعام 1905
وشكروا الحكومة القيصرية على انقاذها للبرجوازية من « هيجان الشعب »« بفضل
بنادقها وسجونها ». وكان الكتاب يدعو المثقفين إلى خدمة القيصرية. وصف
لينين الكتاب ب« موسوعة الارتداد الليبرالي » وب« سيل الوحل الرجعي
المنسكب على الديمقراطية ». (11) يقصد لينين القوانين الزراعية
التي سنها ستوليبين واصدرتها الحكومة القيصرية في نوفمبر 1906. كان
هدفها خلق طبقة كولاك مساندة للاوتوقراطية القيصرية في القرى والحفاظ
على الملكية العقارية الكبيرة وتدمير الجماعة الفلاحية. سرعت السياسة
الزراعية لستوليبين تطور الرأسمالية في الزراعة وفق « الطريق البروسي »
الاكثر ايلاما وحافظ الملاكون العقاريون الكبار على ملكياتهم وسلطاتهم
وامتيازاتهم بينما صودرت ملكية الجماهير الفلاحية وتطورت برجوازية
قروية قادرة على استرداد قطع ارض الفلاحين الفقراء مقابل لقمة خبز. يرى
لينين في التشريع الزراعي لستوليبين سنة 1906 ( وكذلك الصادر في 1910)
الاجراء الثاني (يتمثل الاول في اصلاح 1861) الرامي إلى تحويل
الاوتوقراطية الاقطاعية إلى ملكية بورجوازية. أدت السياسة الزراعية
لستوليبين، التي لم تلغ التعارض الأساسي بين الفلاحين وكبار الملاكين
العقاريين، إلى خراب الجماهير الفلاحية واحتداد التناقضات الطبقية بين
الكولاك والفلاحين الفقراء. [*] كولو البولوني:
اتحاد النواب البولونيين في دوما الدولة في مجلسي الدوما الأول والثاني كانت النواة القيادية لهذا الاتحاد تنتمي إلى القوميين-الديمقراطيين أعضاء الحزب القومي الرجعي للمالكين العقاريين والبرجوازية في بولونيا. وفي كل المسائل التكتيكية الأساسية ساند كولو
البولوني الأكتوبريين. |