كتبتها أليكساندرا كولنتاي عام 1921
ترجمة ضي
رحمي (2014)
التحويل الرقمي: علي بطحة (ديسمبر 2022)
مقدمة
من بين عدة قضايا تتطلب بحث واهتمام البشرية المعاصرة، تعد مسألة العلاقات الجنسية واحدة
من أكثرهم أهمية. فلا يوجد مجتمع أو أمة بمنأى عن الإنكار الأسطوري الذي يدّعي أنها ليست قضية آنية ولا ملحة.
تحيا البشرية اليوم أزمة جنسية حادة أعمق كثيرًا من مجرد أن تكون غير صحية أو ضارة وذلك كونها قديمة جدًا وعالقة. وعبر رحلة التاريخ البشري الطويلة لن تجد،على الأرجح، وقتًا أصبحت فيه مشكلة الجنس مشكلة محورية في حياة المجتمعات؛ حيث أصبحت قضية العلاقات بين الجنسين بمثابة الساحر الذي يجذب انتباه الملايين المهتمين، وحيث سيقت الحالة الجنسية على أنها معين لا ينضب لإلهام أنواع شتى من الفنون.
ومع استمرارالأزمة وتنامي خطورتها، يزداد وضع الناس كارثية وتأزمًا، ويبذلون محاولات مضنية ويائسة لتسوية “مشكلة غير قابلة للحل”. ومع كل محاولة جديدة، تزداد عقدة العلاقات الشخصية تشابكًا. ويبدو الأمر وكأننا لم نتمكن بعد من التعرف على طرف الخيط الوحيد الذي سيمكننا في النهاية من النجاح في فك تشابك العقدة المستعصية. فالمشكلة الجنسية مثل الحلقة المفرغة، كلما ازاداد تهيب وخوف الناس منها، كلما ازدادوا تخبطًا وتشتتًا وعجزوا عن الفكاك من الدوران اللانهائي في الفراغ.
الكتلة المحافظة من البشرية ترى أننا يجدر بنا العودة إلى زمن الماضي السعيد، وأن علينا إعادة إرساء الأسس القديمة للأسرة وتعزيز المعايير الحسنة للأخلاق الجنسية. أما أنصار البرجوازية الفردية فيرون أن علينا تدمير والتخلص من كل الضوابط المنافقة البالية التي تقيد وتحد السلوك الجنسي، هذه “الخرق البالية” القمعية التي لا لزوم، لابد أن تُدفن للأبد، فقط الضمير الفردي، والإرادة الفردية لكل شخص هي التي تفصل في هذه المسائل الحميمة.
على الجانب الآخر، يؤكد الاشتراكيون أن تسوية المشاكل الجنسية ومعالجتها لن يكون إلا بإعادة تنظيم الأساس الاجتماعي والاقتصادي لهيكل المجتمع. لكن، أليس “تأجيل المشكلة إلى الغد” هذا دليل على أننا لم نجد “طرف الخيط السحري” الوحيد بعد؟ ألا يجدر بنا أن نجده أو على الأقل أن نحدده لأنه أملنا في حل التشابك؟ وألا ينبغي علينا أن نعثر عليه الآن، خاصة في هذه اللحظة تحديدًا؟
الأزمة عبر التاريخ
يمنحنا تاريخ المجتمع البشري، تاريخ المعركة المستمرة بين مختلف الفئات
والطبقات الاجتماعية المتعارضة الأهداف والمصالح، فكرة عن كيفية إيجاد طرف “الخيط”، فهذه ليست المرة
الأولى التي تمر فيها البشرية بأزمة جنسية. وليست هذه المرة الأولى أيضًا التي يتوارى فيها المعنى الواضح والمحدد
للوصايا الأخلاقية للعلاقات الجنسية تحت ضغط اندفاع تيار من القيم والمثل الجديدة. فقد اشتدت حدة “الأزمة
الجنسية” في عصر النهضة والإصلاح، عندما دفع التطور الاجتماعي الكبير بالأبوية الإقطاعية التي لطالما أحكمت
سيطرتها إلى الخلفية، مفسحًا الطريق لتطوير وتأسيس قوة اجتماعية جديدة – البرجوازية.
انبثقت الأخلاق الجنسية في العالم الإقطاعي من أعماق – طريقة الحياة القبلية – الاقتصاد الجماعي والقيادة الاستبدادية القبلية التي تخنق الإرادة الفردية. اصطدم هذا مع النظام الأخلاقي الجديد والغريب للبرجوازية الصاعدة، حيث تقوم الأخلاق الجنسية البرجوازية على مبادئ تتناقض تناقضًا حادًا مع أساسيات الأخلاق الإقطاعية. حلت “العائلة النووية” بنزعتها الفردية الصارمة واستئثارها وعزلتها محل التركيز على العمل الجماعي الذي كان سمة من سمات الهيكل الاقتصادي المحلي والإقليمي للحياة القبلية.
وفي ظل الرأسمالية نمت أخلاقيات المنافسة، وغلبت مبادئ الفردية والملكية الخاصة الحصرية ودمرت كل ما تبقى من فكرة المجتمع، الذي كان إلى حد ما مشتركًا بين جميع أشكال الحياة القبلية. ولقرن كامل، بينما كان مختبر الحياة المعقد يحول القواعد القديمة إلى صيغ جديدة محقِقًا الانسجام الظاهري للأفكار الأخلاقية، تنقل الإنسان بارتباكٍ بين اثنين من النظم الجنسية شديدة الاختلاف مع محاولاتٍ لتطويع نفسه للنظامين معًا في آنٍ واحد.
لكن حتى أثناء أيام التغيير المشرقة المبهجة تلك، ظلت الأزمة الجنسية مستعصية وعميقة كما هي، لكنها لم تأخذ الشكل التهديدي المُفترض في عصرنا الحالي. والسبب في ذلك أنه في “الأيام العظيمة” لعصر النهضة، في “العصر الجديد”، عندما غمر الضوء المشرق للثقافة الروحية الجديدة بألوانه الناصعة العالم الميت، مغرقًا رتابة وملل حياة العصور الوسطى، لم تؤثر الأزمة الجنسية إلا على جزء صغير نسبيًا من البشرية. بينما تأثر الجزء الأكبر من البشرية، الفلاحون، بشكل غير مباشر، وبطيء، على مدى قرون، في صورة تغيير في القاعدة والعلاقات الاقتصادية الريفية. أما في أعلى السلم الاجتماعي فدارت معركة شرسة بين عالمين اجتماعيين متعارضين، وأنطوى ذلك أيضًا على صراعٍ بين مثلهم وقيمهم ووجهة نظرهم للأمور المختلفتان تمامًا.
وللمفارقة فالذين تعرضوا للمعاناة والتهديد بفعل الأزمة الجنسية المتفاقمة هم من تطوروا. أما الفلاحون، فقد ظلوا حذرين من كل ما هو جديد، مواصلين التمسك بحزم التقاليد القبلية الموروثة عن أجدادهم. وفقط تحت ضغط الضرورة الملحة عدلوا وكيفوا تلك التقاليد مع الظروف المتغيرة للبيئة الاقتصادية.
حتى في ذروة الصراع بين البرجوازية والعالم الإقطاعي تجاوزت الأزمة الجنسية “طبقة دافعي الضرائب”؛ أي الطبقات الدنيا في المجتمعات. وفي حين تماشت الطبقات العليا من المجتمع مع تفكيك القيم القديمة، بدا الفلاحون أكثر عزمًا على التشبث بتقالديهم. وعلى الرغم من الزوابع المستمرة التي ضربت رؤوسهم وهزت الأرض من تحت أقدامهم، إلا أن الفلاحين، خاصة الروس منهم، تمكنوا من الحفاظ على أسس نظامهم الجنسي دون تغيير أو تزعزع لقرون عديدة.
أما اليوم، فالأمر مختلفٌ للغاية، فالأزمة الجنسية لا تتجاوز أحد، حتى الفلاحين. مثلها مثل الأمراض المعدية “لا تفرّق بين ساكني القصور والوضعاء”، وتنتشر في القصور وفي أحياء الطبقة العاملة المزدحمة، كما تظهر في الأحياء السكنية الهادئة للبرجوازية الصغيرة، وتشق طريقها نحو أعماق الريف، وتهاجم ضحاياها داخل فيلات البرجوازية الأوروبية وداخل أقبية العمال العفنة، وأكواخ الفلاحين. لا توجد “حماية أو تأمين” ضد الصراع الجنسي، والقول بأن وحدهم سليلي القطاعات الرغدة من المجتمع هم المتخبطون الغارقون في خضم هذه المشكلات خطأٌ فادح.
ضربت أمواج الأزمة الجنسية عتبات منازل العمال، لتخلق حالة من الصراع الداخلي الحاد مساوٍ تمامًا للمعاناة النفسية لـ “العالم البرجوازي المرهف”، فلم تعد الأزمة الجنسية محل اهتمام “ذوي الأملاك” وحسب، حيث أقلقت المشاكل الجنسية أكبر قطاع في المجتمع – أصبحت من مشاكل الحياة اليومية للعمال. ولذلك من الصعب أن نفهم لماذا نتعامل مع هذه القضية الحيوية العاجلة بهذا القدر من اللامبالاة التي لا تغتفر، وذلك لأن مهمة خلق علاقات مبهجة وأكثر صحة بين الجنسين هي واحدة من المهام التي على الطبقة العاملة إنجازها أثناء هجومها على “قلعة المستقبل المحاصرة”.
ما هي جذور عدم الاكتراث غير المغتفر هذا فيما يتعلق بواحدة من المهام الأساسية للطبقة العاملة؟ كيف نفسر لأنفسنا الطريقة المنافقة الذي نحول بها “المشاكل الجنسية” إلى كونها “مسائل خاصة” لا تستحق عناء الجهد أو الاهتمام الجماعي؟ لماذا تجاهلنا حقيقة أنه وعلى مر التاريخ كانت قضية تغيير شكل العلاقات بين الجنسين واحدة من السمات المشتركة والممتدة للنضال الاجتماعي، وأن نسق القواعد الأخلاقية هو الذي يحدد طبيعة العلاقات، وأن طريقة تنظيم العلاقات الشخصية داخل المجموعات الاجتماعية كانت ذات تأثير محوري على نتيجة الصراع بين الطبقات الاجتماعية المتعادية؟
مأساة مجتمعنا ليست مجرد تهاوي أشكال السلوك المعتادة والمبادئ المنظمة لها، لكنها تكمن في أننا لم نلاحظ حتى الآن أية دلالات على إمكانية ظهور موجة تغيير عفوية من داخل النسيج الاجتماعي، تلك المحاولات التي من شأنها منح الإنسان الأمل.
عواطف فاسدة
نحن نعيش في عالم العلاقات الملكية، عالم الأخلاق الفردية والتناقضات الطبقية
الحادة. نحن لانزال نعيش ونفكر تحت وطأة عزلة شعورية ووحدة شخصية لا مفر منها. ويشعر الإنسان بهذه
“الوحدة” داخل المدن التي تعج ضوضاءًا وبشر، يشعر بها حتى بين أصدقائه المقربين وبين زملائه في العمل.
وهذا الشعور بالعزلة والوحدة هو السبب في ميل الإنسان للتشبث السلبي المرضيّ بوهم العثور على “توأم
الروح” من بين أبناء الجنس الآخر. فهم يرون أن المشاعر الخادعة هي الوسيلة الوحيدة للابتعاد، ولو لبعض الوقت،
عن كآبة الوحدة التي لا فكاك منها.
ربما لم يشعر البشر في أي عصر من العصور بهذا القدر العميق والمستمر من الوحدة الروحية كما في الوقت الحالي، وعلى الأرجح لم يكونوا على هذه الدرجة من الاكتئاب ولا هذا الاستسلام التام للشعور بالوحدة مثلما هو الوضع الآن. لكن، نأمل أن يكون الأمر بخلاف ذلك، فأشد ساعات الليل سوادًا هي الساعة التي تسبق بزوغ الفجر. أما الفرديين، ذوي الصلات الضعيفة بالجماعات وبالأفراد الآخرين، فلديهم الآن الفرصة لتغيير طبيعة علاقاتهم الجنسية بحيث تقوم على الجوهر الخلاق للصداقة والزمالة بدلًا من الفسيولوجية العمياء، خاصة وأن في وقتنا الحاضر، يظهر بوضوح شديد عجز وظلم أخلاق الملكية الفردية.
في نقد نوعية العلاقات الجنسية يفعل الإنسان المعاصر ما هو أكثر بكثير من مجرد رفض أنماط السلوك التي عفا عليها الزمن من قوانين الأخلاق الحالية. وتسعى روحه الوحيدة لتجديد جوهر تلك العلاقات، إنه يشتكي ويتوق لـ “الحب الكبير”، لحالة الدفء والإبداع التي تملك وحدها القدرة على تبديد الشعور البارد بالوحدة الذي يعاني منه الفرديين حاليًا.
وإذا كانت ثلاثة أرباع الأزمة الجنسية نتيجة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية الخارجية، فإن الربع الآخر يتوقف على موقعنا من “النفس الفردية المرهفة”، التي ترعاها أيديولوجية البرجوازية الحاكمة. إن “طاقة الحب” عند الناس اليوم، كما تقول الكاتبة الألمانية مايزيل – هيس، في أدنى مستوياتها، حيث يسعى الرجال والنساء لبعضهم البعض أملاً في إيجاد، من خلال الشخصٍ الآخر، وسيلة لحصة أكبر من المتعة الروحية والجسدية لأنفسهم. ولا فرق هنا بين كونهم متزوجين من شركائهم أم لا، فهم بالكاد يفكرون فيما يعتمل داخل الطرف الآخر، وفيما يحدث لعواطفه وتحولاته النفسية.
والنزعة “الفردية الخالصة” التي تميز عصرنا ربما لا تظهر بشكل سافر وصارح مثلما تظهر في تنظيم العلاقات الجنسية. شخصٌ يريد الهروب من وحدته وبسذاجة يتخيل أن كونه “يحب” فإن هذا يعطيه الحق في تملك روح الشخص الآخر – يعطيه الحق في إسعاد نفسه بتلك النعمة النادرة من التفاهم والتقارب العاطفي. نحن الفرديون أفسدنا عواطفنا بالعبادة المستمرة للـ “الأنا”، لأننا نتصور أن بإمكاننا الحصول على السعادة بمجرد أن نكون في حالة من “الحب الشديد” مع المقربين لنا، دون الاضطرار لـ “منحهم” أي شيء. إن مطالبنا التي نلقيها على عاتق “شريكنا” هي دائمًا مطالب مطلقة، لا تتجزأ، ونحن غير قادرين على اتباع أبسط قواعد الحب – أن شخصًا آخر علينا معاملته بكامل الاعتبار والتقدير.
ويجري بالفعل صياغة المفاهيم الجديدة للعلاقات بين الجنسين، تلك المفاهيم الجديدة ستعلمنا كيف نصل لعلاقات قائمة على الحرية الكاملة والمساواة والصداقة الحقيقية. لكن إلى حين أن يحدث هذا ستبقى البشرية قابعة في البرد مع مشاعر الوحدة الروحية، ويمكنها فقط أن تحلم بـ “عصر أفضل” تُدفئ فيه آشعة “إله الشمس” العلاقات الإنسانية، ويختبروا فيه الحس الجماعي، ويتعلموا وفقًا لظروف معيشية جديدة.
أزمة رغم التنوع الكبير
الأزمة الجنسية لا يمكن أن تحل إلا بالإصلاح الجذري للنفس البشرية، وما
لم تزداد قدرة الإنسان على الحب. وهذا التحول الأساسي للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية على أسس شيوعية، ضروري لإعادة
تشكيل النفس البشرية، ورغم أنها “حقيقة قديمة” إلا أنه، حتى الآن، لا يوجد مخرج آخر. وبأي حال من
الأحوال لن تتراجع حدة الأزمة الجنسية، بغض النظر عن نمط الزواج أو العلاقات الشخصية التي يحرص الناس على تجربتها.
ولم يشهد التاريخ هذا القدر من تنوع العلاقات الشخصية مثلما يحدث الآن – فنجد الزواج الأبدي بما فيه من “أسرة مستقرة”، و”الاتحاد الحر”، والزنا السري، وفتاة تعيش علنًا مع شريكها؛ والزواج الثنائي، والثلاثي وحتى الزواج المعقد المكون من أربعة أشخاص – ولن نتحدث هنا عن مختلف أنماط الجنس التجاري (الدعارة). كذلك يمكن أن نشهد نمطين أخلاقيين مختلفين قائمين جنبًا إلى جنب في الريف – مزيج من الطريقة القبلية القديمة للحياة، والأسرة البرجوازية النامية. ويُنظر لإباحية بيوت الفتيات(1) ، بالإضافة إلى الزنا، والرجال الذين يضاجعون زوجات ابنائهم، كوصمة عار.
والمدهش أن رغم الأشكال المتناقضة والمتشابكة للعلاقات الشخصية في الوقت الحاضر، لايزال الناس قادرون على الثقة في السلطة الأخلاقية، كما أنهم يمنحون هذه التناقضات معنًا، ويشقون طريقهم عبر هذه القوانين الأخلاقية المتنافرة. لكن، حتى التبرير المعتاد “أنا أحيا وفقًا لمعايير أخلاقية جديدة” لن يساعد أحد، طالما بقيت الأخلاق الجديدة في طور التشكيل وحسب. ومهمتنا هي استخلاص الشكل الجديد من بين فوضى المعايير الجنسية المتناقضة في الوقت الحاضر، وتوضيح المبادئ الأخلاقية التي تتوافق مع نفسية وروح الطبقة التقدمية الثورية.
التملك روح البرجوازية
إلى جانب أوجه القصور السابق ذكرها للنفس المعاصرة – الفردانية
المتطرفة، والنرجسية (الأنا) التي أصبحت عبادة – ازدادت “الأزمة الجنسية” حدة بفعل اثنين من
الخصائص السيكولوجية للإنسان الحديث:
1- فكرة امتلاك الشريك في الزواج.
2- الاعتقاد بعدم تكافؤ الجنسين، واختلاف قيمتهما في كل شيء، وفي كل المجالات،
بما في ذلك المجال الجنسي.
الأخلاق البرجوازية، بنمطها الأسري الفردي الانطوائي القائم كليًا على الملكية الخاصة، رسخت بعناية لفكرة أن أحد الشريكين يجب أن “يمتلك” الآخر تمامًا، ولطالما نجحت في ذلك. إن فكرة “الامتلاك” تنتشر الآن أكثر مما كانت عليه في ظل النظام القبلي لعلاقات الزواج. وخلال فترة تاريخية طويلة في ظل رعاية “القبيلة”، لم تذهب فكرة امتلاك الرجل لزوجته (رغم أنه لم يكن هناك شكٌ في أن الزوجة من ممتلكات الزوج) إلى ما هو أبعد من مجرد الحيازة المادية البحتة. كانت الزوجة ملزمة بالإخلاص الجسدي للزوج – لكن روحها كانت ملكًا لها. حتى أن الفرسان اعترفوا بحق الزوجة في أن يكون لها معجبين وأصدقاء أفلاطونيين وبحقها في تلقي كلمات الإطراء و”الغزل” من الشعراء، ومن فرسانٍ آخرين.
والبرجوازية هي التي رسخت وعززت مفهوم الملكية المطلقة لـ “الشريك” امتلاكًا عاطفيًا فضلًا عن امتلاكه المادي، وبالتالي اتسع مفهوم حق الملكية ليشمل الحق في امتلاك كامل لعالم الطرف الآخر الروحي والوجداني. ولهذا عُزز هيكل الأسرة وحُرص على ضمان استقراره في الفترة التي كانت تكافح فيها البرجوازية للهيمنة، وهو المفهوم الذي سلمنا به بوصفه موروثًا أُعد للتعامل معه باعتباره من الثوابت الأخلاقية المطلقة التي لا تتغير! لقد ذهبت فكرة “الملكية” إلى ما هو أبعد من حدود “الزواج الشرعي”، فمفهوم الأسرة يصدّر نفسه كمقوم حتمي من بين معظم أشكال الحب “الحر”.
والعشاق المعاصرين مع كامل احترامهم للحرية، غير مقتنعين بفكرة الإخلاص الجسدي وحده لشريكهم في الحب. وللتخلص من التهديد الحالي بالوحدة وللأبد، نشن بمنتهى القسوة والفظاظة “هجومًا” على عواطف من نحب بشكل لن تستوعبه الأجيال القادمة. ونتمسك بحقنا في معرفة كل الأسرار المتعلقة بوجود الشريك، فالعاشق العصري قد يغفر الخيانة الجسدية بشكل أسهل من الخيانة “الروحية”، فهو ينظر للشعور بأي عاطفة خارج حدود العلاقة “الحرة” على أنها انتقاصٌ من سعادته الشخصية، فالمحبين في علاقاتهم دائمًا ما يكونوا مفرطي الحساسية تجاه طرف ثالث.
ولابد أننا جميعًا قد لاحظنا هذا الوضع الغريب لاثنين وقعا في الحب حديثًا ومتعجلين، قبل أن يتعرفا على بعضهما البعض بشكل صحيح، لممارسة حقهم في معرفة كل العلاقات التي مر بها الطرف الآخر حتى الآن، متعجلين للتفتيش في أعمق زوايا حياة شريكهم. اثنان لم يعرفا بعض بالأمس، وفي لحظة ما من الإثارة الحسية المتبادلة، يتعجلون لتملك قلب أحدهما الآخر. يريدان أن يشعرا أن هذه النفس الغريبة الغامضة، بخبراتها السابقة التي لا يمكن محوها، هي امتدادٍ لذواتهم.
لكن، فكرة أن الزوجان ملكية خاصة لبعضهما البعض مقبولة تمامًا، لدرجة أن باستطاعه زوجين شابين، كان لكل منهما بالأمس حياته الخاصة المنفصلة، أن يفتحا اليوم رسائلهم أحدهم الآخر دون استحياء، ليجعلا من كلمات شخص ثالث هو صديق لأحدهما فقط ملكية مشتركة، ونادرًا ما يعد ذلك أمرًا غير مشروع. لكن هذا النوع من “الألفة” يمكن أن ينشأ بين المحبين فقط بعد قضائهم فترة طويلة من حياتهم معًا. وعادة ما يحل نوع خادع من التقارب بديلًا عن الشعور الصادق، وهذا الخداع ينشأ عن الفكرة الخاطئة القائلة بأن العلاقة الجسدية بين شخصين هي أساس كافي لتأصيل حقوق ملكية أحدهما الآخر عاطفيًا.
معايير مزدوجة
“التفاوت” بين الجنسين – عدم المساواة في حقوقهم، التقييم غير
المتكافئ لخبراتهم الجسدية والعاطفية – هي الخاصية الأخرى الخطيرة التي تشوه نفسية الإنسان المعاصر، وهي السبب
في تعميق “الأزمة الجنسية”.
ازدواجية الأخلاق الكامنة في كل من المجتمع القبلي والبرجوازي، سممت على مدى قرون نفسية الرجال والنساء. وهذه الممارسات جزءٌ لا يتجزأ منا والتخلص منها أكثر صعوبة من التخلص من الأفكار المتعلقة بتملك الأشخاص التي ورثناها عن الأيديولوجيا البرجوازية فقط.
فكرة عدم تكافؤ الجنسين، حتى في مجال الخبرة الجسدية والعاطفية، يعني أن نفس السلوك سوف يُنظر له بشكل مختلف وفقًا لفاعله، رجلٌ كان أم امرأة. وحتى أكثر البرجوازيين “تقدمًا”، الذي يرفض نظام الأخلاق الحالي برمته، بسهولة سيجد نفسه متلبسًا بإصدار أحكام مختلفة حول سلوك واحد على حسب جنس فاعله.
مثال واحد بسيط يكفي، فلنتخيل رجل متعلم من مثقفي الطبقة الوسطى، ناشط في الحياة السياسية والاجتماعية – باختصار “شخص مميز”، أو ربما يكون “شخصية عامة” – يشرع في مضاجعة طاهيته (وهو ليس بأمرٍ نادر الحدوث)، وربما قد يتزوجها زواجًا شرعيًا. هل يغير المجتمع البرجوازي موقفه ونظرته حيال هذا الرجل؟ هل يلقي الحدث بظلال شك، ولو بقدر ضئيل، على مزاياه الأخلاقية؟ بالطبع لا. الآن نتخيل حالة أخرى، امرأة محترمة من المجتمع البرجوازي –شخصية اجتماعية، باحثة، أو طبيبة، أو ربما كاتبة، كلهن سواء – توددت إلى خادمها، واستكمالا للفضيحة تزوجته. كيف سيتجاوب المجتمع البرجوازي مع سلوك المرأة “المحترمة” حتى الآن؟ سوف يُنظر لها بمنتهى “الازدراء”، بالتأكيد!
ولنتذكر، سيصبح وضعها أسوأ كثيرًا لو أن زوجها، الخادم، وسيم، حسن المظر، أو يمتلك “صفات بدنية” أخرى مميزة. “واضح تمامًا لماذا سقطت” هكذا سيتشدقون، وهكذا ستصبح هدفًا لسخرية البرجوازية المنافقة.
إذا كان اختيار المرأة يتسم بـ “طابع فردي” فلن يغفر لها المجتمع البرجوازي، وهذا الموقف هو نوع من أنواع الردة لتقاليد زمن القبيلة. المجتمع لايزال يريد أن تضع المرأة في اعتبارها عند اتخاذها قرارٍا ما، طبقتها ومكانتها والتوجيهات المجتمعية، وبالطبع مصالح عائلتها. لا يستطيع المجتمع البرجوازي أن يرى المرأة كشخص مستقل بمعزل عن أسرتها، أو خارج الدائرة المغلقة للواجبات المنزلية. والمجتمع المعاصر بقيامه بدور الوصيّ على المرأة يذهب إلى ما هو أبعد من المجتمع القبليّ القديم، فالتعليمات لا تتوقف عند الزواج وحسب، ولكن إلى الحرص ألا تقع في الحب إلا مع هؤلاء الذين “يستحقونها” فقط.
نلتقي باستمرار برجال يتمتعون بصفات روحية وفكرية عظيمة، ومع ذلك نجدهم قد ارتبطوا بامرأة فارغة لا قيمة لها كشريكة لحياتهم، لا تتماشى قيمتها الروحية، بأي حال من الأحوال، مع قيمة زوجها. ونتقبل هذا على أنه أمرًا طبيعيًا ولا نعيد التفكير فيه. أكثر الأصدقاء إثارة للشفقة هو إيفان إيفانوفيتش الذي ورّط نفسه مع مثل هذه الزوجة التي لا تطاق. لكن، لو حدث العكس، سنضرب كفًا على كف ونصيح بقلق: “كيف لامراة مرموقة مثل ماريا بتروفنا أن تقع في حب هذا النكرة التافه؟ لقد بدأت أشك في قيمة ماريا بتروفنا الحقيقية”.
من أين أتينا بهذه المعايير المزدوجة؟ وما هو سببها؟ السبب بلا شك هو فكرة أن “قيمة الجنسين مختلفة” قد أصبحت عبر قرون جزءًا من تكوين البنية النفسية للرجل. لقد تعوّدنا أن نقيّم المرأة لا باعتبارها شخصية ذات صفات خاصة، ونتجاهل تجربتها الجسدية والعاطفية، وننظر لها فقط باعتبارها تابعًا للرجل. وهذا الرجل، زوجًا كان أم حبيبًا، يُلقى عليها بضياء شخصيته، وما نعتبره تعريفًا حقيقيًا لبنيتها العاطفية والمعنوية هو مجرد انعكاسًا له.
في نظر المجتمع يسهل الفصل بين شخصية الرجل وبين تصرفاته الجنسية، لكن الحكم على شخصية المرأة وبشكل حصري تقريبًا مبني فقط على حياتها الجنسية. وهذه السلوكيات تنبع من الدور الذي لعبته المرأة في المجتمع على مدار قرون، والآن يُعاد تقييم هذه السلوكيات لكن ببطء شديد، على الأقل فيما يتعلق بأطرها العريضة. فقط تغيير دور المرأة الاقتصادي، ومشاركتها المستقلة في الإنتاج هي التي ستضعف هذه الأفكار المنافقة الخاطئة.
بداية جديدة.. أخلاق جديدة
علينا أن نواجه العوامل الثلاثة التي تشوّه نفسية الإنسان المعاصر
– الأنانية المفرطة، فكرة تملك أحد الشريكين للآخر، والقبول بفكرة تفوق جنس عن الآخر من حيث الخبرة الجسدية
والعاطفية – إذا أردنا حلاً للأزمة الجنسية. سيعثر الناس على “المفتاح السحري” الذي يطلق سراحهم
ويغير وضعهم الحالي، حين تمتلك نفوسهم المخزون الكافي من “مشاعر الاعتبار والاحترام”، حين تزداد قدرتهم
على الحب، حين تصبح فكرة الحرية في العلاقات الشخصية حقيقة، حين ينتصر مبدأ “الرفاقية” على فكرة التبعية
وعدم المساواة، لا يمكن أن تحل المشاكل الجنسية دون إعادة تثقيف ذواتنا جذريًا.
لكن، ألا يتطلب هذا الكثير؟ ألا يعد هذا اقتراح طوباوي دون أساس واقعي، مجرد فكرة ساذجة لمثالي يحلم؟ كيف، بصدق، سنزيد من “طاقة الحب” البشرية؟ ألم ينشغل الحكماء، من جميع الأمم، بهذه الفكرة، ومنذ زمن سحيق بدءًا من بوذا وكونفوشيوس وصولًا إلى المسيح؟ ومن الذي سيحدد ازدياد “طاقة الحب” تلك؟ ألا تعد تلك الرغبة بمثابة أحلام يقظة حول إيجاد حل للأزمة الجنسية، وببساطة هي مجرد اعتراف بالضعف ورفض المضي قدمًا للبحث عن “المفتاح السحري”؟
هل هذا هو وضعنا؟ هل عملية إعادة تثقيف ذواتنا ونهجنا في العلاقات الجنسية بشكل جذري أمرٌ مستبعدٌ، ومنفصلٌ جدًا عن الواقع؟ ألا يمكننا القول، على العكس من ذلك، أن أثناء التحولات الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة، تُخلق الشروط التي تؤدي لنشأة أساس جديد للتجربة النفسية التي ستتماشى مع ما نتحدث عنه؟ ستنشأ طبقة جديدة، مجموعة اجتماعية جديدة، لتحل محل البرجوازية، بأيديولوجيتها وأخلاقها الجنسية ذات الطابع الفردي. وتلك الطبقة التقدمية، كلما ازدادت قوة، لن تعجز عن الكشف عن أفكار جديدة حول العلاقات بين الجنسين ترتبط ارتباطًا وثيقًا مع مشاكلها الاجتماعية.
لكن، التطورالمعقد للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية الذي يحدث أمام أعيننا، ويغير كل أفكارنا حول دور المرأة الاجتماعي ويقوّض الأخلاق الجنسية للبرجوازية، له نتيجتان متناقضتان. فمن ناحية نرى جهود البشرية الدؤوبة للتكيف مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة الجديدة، وهذا يتضح في محاولة الحفاظ على “الأنماط القديمة” مع تزويدها بمحتوى جديد (التقيد بالشكل الخارجي للزواج الأبدي والزواج بواحدة فقط، مع القبول بمبدأ حرية الشركاء في الممارسة العملية)، أو في القبول بالأنماط الجديدة التي تتضمن كافة مبادئ القوانين الأخلاقية للزواج البرجوازي (الارتباط “الحر” حيث التملك القهري للشريكين أقوى من الزواج الشرعي).
ومن ناحية أخرى نشهد، ببطء ولكن بثبات، ظهور أشكال جديدة من العلاقات بين الجنسين تختلف عن القواعد القديمة شكلًا وموضوعًا. وفي تلمسها لطريقها نحو هذه الأفكار الجديدة تفتقد البشرية للثقة، لكننا بحاجة إلى الاهتمام بتلك المحاولات مهما بدت غامضة الآن، لأنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا مع مهام البروليتاريا كطبقة، مهامها التي تهدف للاستيلاء على قلعة المستقبل المحاصرة.
ولكن، إذا أردت أن تجد، داخل متاهة القواعد الجنسية المتناقضة والمتشابكة، بدايات لعلاقات أكثر صحة بين الجنسين – علاقات تعد بالسير بالإنسانية نحو الخروج من الأزمة الجنسية – عليك ترك “أرباع المثقفين” من البرجوازيين مع ذواتهم الفردية المرهفة، وأن تلقي نظرة على التجمعات السكنية للطبقة العاملة. هناك، بين هول وقذارة الرأسمالية، ووسط الدموع والشقاء، تتفجر ينابيع الحياة.
هناك ستختبر على أرض الواقع العملية المزدوجة السابق ذكرها تتحقق في حياة البروليتاريا، المضطرين للعيش تحت ضغط ظروف اقتصادية صعبة، حيث تستغلهم الرأسمالية بقسوة. يمكنك رصد عملية “التكيف السلبي” ومحاولات مقاومة الواقع القائم. فالتأثير الهدّام للرأسمالية يدمر أساس أسرة العامل ويجبره دون وعي منه على “التأقلم” مع الظروف القائمة. هذا بدوره يؤدي إلى سلسلة طويلة من نماذج للعلاقات بين الجنسين مماثلة لتلك الموجودة في الطبقات الاجتماعية الأخرى.
فتحت ضغط الأجور المنخفضة يميل العامل حتمًا للزواج في سن متأخرة. ولو أن منذ عشرين عامًا كان العامل يتزوج بين سن العشرين والخمسة وعشرين، فاليوم لا يؤسس أسرة قبل بلوغ الثلاثين. وإذا كان ذو مطالب ثقافية عليا – أي كلما كان حريص على الفرص التي تجعله على اتصال مع الحياة الثقافية، من زيارة للمتاحف والمشاركة في الندوات الثقافية، أومطالعة الصحف والمجلات، وتكريس وقت فراغه للنضال والسياسة، أو لمتابعة بعض الأنشطة المحببة كالفن أو القراءة، إلخ – كلما رغب في تأجيل الزواج.
لكن لن تنظر الاحتياجات الجسدية للوضع المالي بعين الاعتبار؛ إنها تلح باستمرار وتعلن عن نفسها. والعامل العازب، تمامًا مثل عازب الطبقة الوسطى، يلجأ لممارسة الجنس التجاري (الدعارة) بحثًا عن مخرج، وهذا مثال على التكيف السلبي مع الظروف الصعبة المحيطة بالطبقة العاملة. نأخذ مثالًا آخر – عندما يتزوج العامل، يجبر ضعف الأجور أسرته على “تنظيم” الإنجاب تمامًا كما تفعل الأسرة البرجوازية، وكذلك ظاهرة وأد الأطفال المتكررة، وانتشار البغاء – كلها تعبيرات مختلفة لنفس العملية، وجميعها أمثلة على التكيف السلبي للطبقة العاملة مع الواقع المحيط بها. لكنها ليست سمة قاصرة على البروليتاريا وحدها، فكل الطبقات والقطاعات الأخرى المنسحقة في ظل عملية التطور الرأسمالي تتفاعل بنفس الطريقة.
الرفاقية هي الحل
نلاحظ الفرق فقط حين نشرع في الحديث عن القوى الفعالة الخلاقة، التي تقاوم
وتعارض بدلًا من التكيف مع الواقع القمعي، كذلك يظهر عند الحديث عن المحاولات والمُثل الحديثة للعلاقات العصرية بين
الجنسين. وهذه المعارضة الفعالة لا تتشكل إلا في إطار الطبقة العاملة فقط. لكن، هذا لا يعني أن الطبقات والقطاعات
الشعبية الأخرى (خاصة مثقفي الطبقة الوسطى الذين، وبسبب ظروفهم الاجتماعية، هم أقرب الشرائح للطبقة العاملة) لا
يتكيفون مع الأنماط “الجديدة” التي تستحدثها الطبقة العاملة التقدمية.
حتى البرجوازية، بدافع من رغبة غريزية لبثّ حياة جديدة في أشكال الزواج الواهنة الميتة، تستولي على أفكار الطبقة العاملة “الجديدة”. لكن المُثل العليا والقواعد الأخلاقية التي طورتها الطبقة العاملة لا تلبي الاحتياجات الطبقية للبرجوازية، إنها تعكس احتياجات الطبقة العاملة ولهذا تستخدمها كسلاح جديد في صراعها الاجتماعي، إنها تساعد على تحطيم أسس الهيمنة الاجتماعية للبرجوازية.
دعونا نوضح هذه النقطة بمثال، إن محاولة مثقفي الطبقة الوسطى لإحلال الزواج المدني الأكثر حرية والسهل إنهاءه كبديلٍ عن الزواج الأبدي، الذي لا تنفصم عُراه، تدمر الأساس الجوهري للاستقرار الاجتماعي للبرجوازية. تدمر فكرة الزواج الأحادي، والأسرة الأحادية المالكة. من ناحية أخرى، يتزامن هذا مع سيولة أكبر في العلاقات بين الجنسين، وهي نتيجة غير مباشرة لإحدى مهام الطبقة العاملة. أن رفض مبدأ “الخضوع” في الزواج يؤدي لتدمير الروابط المصطنعة الأخيرة للأسرة البرجوازية.
وفعل “الخضوع” هذا، من جانب مكوّن من مكونيّ الطبقة العاملة نحو الآخر، مثله مثل التملك في العلاقات، له تأثيره الضار على الذات البروليتارية. وليس في مصلحة هذه الطبقة الثورية انتخاب ممثليها من عناصر بعينها، وهم المكلفين بخدمة مصالح الطبقة قبل مصالح الأسرة الصغيرة المعزولة. والتضارب بين مصالح الأسرة ومصالح الطبقة الذي يظهر في أوقات الإضرابات أو النضالات الملتهبة، والمعيار الأخلاقي الذي تتعامل به البروليتاريا مع مثل هذه الأحداث، دليل واضح بما فيه الكفاية على الأساس الأيديولوجي الجديد للبروليتاريا.
لنفترض أن أزمة عائلية قضت بأن يسحب رجل أعمال رأس ماله من شركته في نفس الوقت الذي تعاني فيه الشركة من صعوبات مالية. الأخلاق البرجوازية واضحة في تقديراتها لهذا الفعل: “مصالح الأسرة تأتي أولاً”. وبمقارنة هذا مع موقف العمال من مفسد الإضراب الذي يتحدى رفاقه ويواصل العمل أثناء الإضراب لإنقاذ عائلته من الجوع: “مصالح الطبقة تأتي أولاً”.
مثال آخر، زوج من الطبقة الوسطى وبفضل حبه وإخلاصه لأسرته نجح في صرف زوجته عن اهتماماتها خارج المنزل لتتفرغ في النهاية لحضانة الأطفال وأعمال المطبخ. “زوج مثالي يكوّن أسرة مثالية” هذه هي طريقة البرجوازية فيما يتعلق بهذا الأمر. لكن كيف ينظر العمال لرفيقهم الـ”واعي” الذي يمنع زوجته أو صديقته من المشاركة في النضال الاجتماعي، من أجل السعادة الفردية، ومن أجل الأسرة؟ إن مبادئ الطبقة العاملة تطالب بمشاركة النساء في الحياة خارج عتبات المنازل.
إن “استعباد” المرأة في المنزل، وتقديم مصالح الأسرة قبل كل شيء، وممارسة أقصى حقوق الملكية المطلقة للزوج على زوجته – كل هذه الأمور تتحطم الآن بفعل المبدأ الأساسي لأيديولوجية الطبقة العاملة “التكافل الرفاقي”. فكرة عدم تكافؤ مكونيّ الطبقة الواحدة وتبعية أحدهم للآخر تتناقض مع المبدأ البروليتاري الأصيل: الرفاقية، ومبدأ الرفاقية مبدأ أساسي في أيديولوجية الطبقة العاملة. حيث أنه يصبغ ويحدد كامل الأخلاق البروليتارية، الأخلاق التي ستساعد على إعادة تثقيف شخصية الرجل، مما يجعله مؤهل للإحساس، مؤهل للشعور بالحرية بدلًا من التقيد بشعور الملكية، مؤهل للرفاقية بدلاً من اللامساواة والتبعية.
إنها حقيقة قديمة أن كل طبقة جديدة، تتطور كنتيجة لتقدم في النمو الاقتصادي والثقافي، تمنح البشرية فرصة لصياغة أيديولوجية جديدة متوائمة مع الوضع الجديد، وبالطبع، قواعد السلوك الجنسي جزءٌ منها. لكن، يجدر بنا هنا التحدث عن “الأخلاق البروليتارية” أو “الآداب الجنسية البروليتارية” بهدف انتقاد الفكرة البالية القائلة بأن الأخلاق الجنسية البروليتارية ليست أكثر من مجرد “بنى فوقية” وأنه لا مجال لأي تغيير إلا بتغيير القاعدة الاقتصادية للمجتمع (البنى التحتية للمجتمع). كما لو أن أيديولوجية طبقة معينة لا تتشكل إلا فقط عندما تنهار العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بشكل كامل يضمن هيمنة هذه الطبقة! كل دروس التاريخ تعلمنا أن المجموعات الاجتماعية تطور أيديولوجيتها الخاصة، وبالتالي أخلاقها الجنسية، أثناء نضالها ضد القوى الاجتماعية المعادية.
فقط بمساعدة قيم روحية جديدة، تتشكل لتلبي احتياجات الطبقة، ستتمكن تلك الطبقة من تعزيز وضعها الاجتماعي، وستنجح في انتزاع السلطة من براثن المجموعات المعادية لها في المجتمع فقط بالتمسك بهذه المعايير والمُثل العليا الجديدة. وعملية البحث عن المعايير الأساسية للأخلاق المعبرة عن مصالح الطبقة العاملة، وضمان أن القواعد الجنسية المطورة متوافقة معها – تلك هي المهمة الملقاة على عاتق منظري الطبقة العاملة.
علينا أن نفهم أنه فقط بإدراك العملية الإبداعية الجارية داخل المجتمع، وبتشكل المطالب والمعايير والمُثل الأخلاقية الجديدة، وفقط بفهمنا أسس الأخلاق الجنسية للطبقة التقدمية، ربما نتمكن من الاستفادة من فوضى وتناقضات العلاقات الجنسية، واكتشاف طرف الخيط الذي سيمكنا من فك تشابك عقدة المشاكل الجنسية.
علينا تذكّر أن فقط قواعد الأخلاق الجنسية المنسجمة مع مشاكل الطبقة العاملة يمكن أن تكون سلاحًا فعالًا لتعزيز وضعها النضالي. إن تجارب التاريخ تعلمنا الكثير، فما الذي يمنعنا من استخدام هذا السلاح لمصلحة الطبقة العاملة، نحن الذين نناضل من أجل نظام شيوعي، من أجل علاقات جديدة أعمق وأكثر بهجة بين الجنسين؟
(1). بيوت الفتيات: من التقاليد القديمة للريف الروسي، استئجار بعض الشابات لكوخ قديم أو حجرة بأحد المنازل. وعادة ما يتجمعون ليلًا للتسامر، وممارسة أشغال الإبرة والغناء. وليس مستبعدًا انضمام الشباب من الذكور لهذه اللهو الصاخب، الذي أحيانًا ما كان يتحول لشكل من أشكال العربدة، مما أدى لظهور مثل هذه الأفكار الملتبسة حول هذا الطقس.
العلاقات الجنسية: المقصود بالعلاقات الجنسية في هذا المقال، هي العلاقات الجندرية أو المشكلات المتعلقة
بالنوع الاجتماعي. جندرهو علم الجنس السوسيولوجي/الاجتماعي ويعني دراسة المتغيرات حول مكانة كل من المرأة
والرجل في المجتمع بغض النظر عن الاختلافات البيولوجية بينهما. ومصطلح الجندر هو ترجمة اجتماعية –
حضارية للجنس البيولوجي الذي يسعى نحو توسيع المفهوم العام حول السؤال الاجتماعي “كيف يتلائم النساء
والرجال في المجتمع الذين هم مُكونيه؟”.
لكن نظرًا لأنه مصطلح حديث، ظهر فقط في ثمانينيات القرن
العشرين، فلم نستخدمه وفضلنا أن نبقي النص الأصلي كما هو دون تدخل منا. (المترجمة)